سورة الشعراء 026 - الدرس (7): تفسير الأيات (105 – 122)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الشعراء 026 - الدرس (7): تفسير الأيات (105 – 122)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الشّعراء

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة الشّعراء - (الآيات: 105 - 122)

10/10/2011 14:07:00

سورة الشعراء (026 )
الدرس (7)
تفسير الآيات: (105 – 122)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السابع من سورة الشعراء ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ﴾
قصة نوح عليه السلام مع قومه :
      ربنا سبحانه وتعالى يبين في هذه السورة ؛ سورة الشعراء قصة أخرى من قصص الأنبياء ، إنها قصة سيدنا نوح مع قومه ، فهؤلاء القوم كذبوا نوحاً ، فلماذا قال الله عز وجل :
 
﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ
     لماذا جاءت الرسالة مجموعة جمعاً ؟ استنبط علماء التفسير من جمع المرسلين ، أن الذي يكذب رسولاً واحداً يكذب كل المرسلين ، لأن رسالات الأنبياء كلها واحدة ، من مشكاة واحدة ، من ينبوع واحد ، من مصدر واحد ، لها مبادئ واحدة ، وثابتة ، يؤكد هذا قول الله عز وجل في أكثر من موضع في كتاب الله .
 
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾
( سورة الأنبياء : 25 )
       رسالات الأنبياء كلها واحدة ، فحواها أن توحّد الله وأن تعبده ، التوحيد نهاية العلم ، والتقوى نهاية العمل .
 
﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ
 
 ( سورة البقرة : 136 ) .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِيَن مِنْ قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
( سورة البقرة : 183 ) .
     هكذا ينبغي أن يكون ، الدين كله واحد ، مصدره واحد ، مؤداه واحد ، مبادئه واحدة ، أما الذي طرأ على بعض الكتب التي أنزلت قبل القرآن من تحريف ، ومن تغير ، هذا الذي أبعدها الله عن كتابنا الكريم .
من تمام العقيدة الإيمان بجميع الرسل :
     شيءٌ آخر ، هو أن الله سبحانه وتعالى جعل من تمام عقيدتك وإيمانك أن تؤمن بجميع الرسل الذين من قبل النبي عليه الصلاة والسلام من تمام العقيدة أن تؤمن برسالة سيدنا عيسى ، وبرسالة سيدنا موسى  وبصحف إبراهيم ، وبكل الأنبياء والمرسلين ، فالذي يكذب رسولاً واحداً إنما يكذب كل المرسلين ، هذا الذي استنبطه العلماء من قول الله عز وجل :
 
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾
معنى الأخوّة في الآية :
     هنا بعضهم قال : إنّ الإخوة أخوّة نسب ، وبعضهم قال : أخوّة في المشابهة ، ربنا عز وجل قال :
 
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
( سورة إبراهيم : 4 )
      هذا الرسول إنسان ، من لحم ودم ، له مشاعر ، له عواطف له تفكير ، لكن الله عز وجل أنعم ، عليه ووهبه النبوة ، واصطفاه على العالمين ، لكنه هو في الأصل هو إنسان ، يشعر بما تشعر ، يؤلمه ما يؤلمك ، يفرحه ما يفرحك ، من هنا كانت بطولته ، لو أن الله سبحانه وتعالى أرسل ملكاً إلى الناس لاحتج الناس فقالوا : هذا ملك يا أخي ، هذا لا يحس بإحساسنا ، هذا ليس عنده شهوة كالتي عندنا ، هذا لا يحتاج إلى الطعام والشراب ، لكن الله سبحانه وتعالى لحكمة بالغة جعل الأنبياء من البشر ، وجعل المرسلين من البشر ، وجعلهم ينطقون بلسان قومهم ، وجعلهم من جلدة قومهم ، لو أنه إنسان غريب جاء قوماً فدعاهم إلى الله عز وجل لشكّوا فيه ، وتوجسوا منه خيفة ، لكنه منهم ، من بلدتهم ، من بيئتهم ، من قومهم ، عاش عاداتهم ، وتقاليدهم عاش محيطهم ، عاش معطيات حياتهم ، هذا معنى قول الله عز وجل  
 
﴿قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
    إما أنها أخّوة نسب ، وإما إنها أخّوة في المشابهة  يعني هو واحد منهم .
 
﴿قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ ﴾
تذكير نوح قومه بعذاب الله :     
     يعني ألا تتقون عذاب الله بطاعته ؟ وإن شاء الله تعالى في درس قادم سأفصل في التقوى بعض التفصيل ، ولكن بشكل موجز ، الله سبحانه وتعالى ذو عقاب أليم ، ذو عذاب شديد ، كيف تتقي عذابه ؟ كيف تتقي عقابه ؟ كيف تتقي بلاءه ؟ كيف تتقي المصائب ؟ تتقيها بطاعة الله عز وجل  لا ملجأ منه إلا إليه ، بطاعته تتقي ما عنده من عذاب ، والتقوى تكون بأن تستنير بنوره .
 
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
( سورة النور : 35 ) .
     الله سبحانه وتعالى خلق الكون ، ونوّره بالكتب ، نوره بالأنبياء ، نوره بالمرسلين ، نحن نشق الطريق ونضع اللافتات ، هنا منعطف خطر، وهنا منزلق خطر ، وهنا تقاطع خطر ، وهنا جسر ، وهنا فرع وهذا الطريق إلى هنا ، وهذا إلى هناك ، هذه اللوحات إنما هي إرشاد لسالكي هذا الطريق ، هذا تشبيه ، والله سبحانه وتعالى خلق الكون ونوره بالعلم، والعلم نور ، الكتاب نور ، إذاً التقوى كيف تتقي الحفر  كيف تتقي الوحوش ؟ كيف تتقي الحشرات المؤذية ؟ كيف تتقي المياه الوسخة ؟ لا بد من مصباح شديد ، بهذا المصباح الشديد ، ترى الخير خيراً ، والشر شراً ، ترى الخير فتأخذه ، وترى الشر فتبتعد عنه .
 
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾
الأمانة من صفات الأنبياء والمرسلين :
      هذه الكلمة لها وقع لطيف ، كلمة لها معانٍ كثيرة ، النبي عليه الصلاة والسلام قبل البعثة كان يلقب بالأمين ، في القرآن الكريم كلمات لها معانٍ كثيرة ، فمن السذاجة أن تظن كلمة في القرآن معنى واحد ، مثلاً ربنا سبحانه وتعالى قال :
 
﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾
( سورة النساء : 163 ) .
       وقال الله عز وجل :
 
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ
( سورة القصص : 7 ) .
 
 
﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
( سورة النحل : 68 ) .
     فهل الوحي إلى النحلة كالوحي إلى أم موسى ؟! كالوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، طبعاً كلمة الإيماء لها معانٍ متعددة في القرآن الكريم ، فمن ضيق الأفق ومن السذاجة أن تظن أن لكلمة واحدة في كتاب الله معنى واحداً ، وكلمة أمين هنا ذات مدلولات واسعة جداً ، وما من مفاهيم ومدلولات نحن كمسلمين أحوج إليها منا .
     قال الله سبحانه وتعالى :
 
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾
    والأمانة من صفات الأنبياء الثابتة ، الأنبياء لهم صفات ثابتة ، بل هي سمات عميقة  الصدق ، والأمانة ، والفطانة ، والعصمة ، فالأمانة أحد صفات الأنبياء الثابتة ، كلمة أمين ، لو عرضتها على إنسان لفهم منها شيئاً معيّناً ، إذا أودعت عند هذا الإنسان شيئاً ، ثم طالبته به يؤديه إليك بالوقت المناسب، وبالحالة الجيدة ، هذا مفهوم الأمانة عند بعض الناس ، ولكنك كإنسانٍ على وجه الأرض أنت قد حمّلت الأمانة فما الذي يميز الإنسان عن الحيوان ؟ ما الذي يميز الإنسان عن الملك ؟ لماذا سخر الله للإنسان السماوات والأرض  بنص القرآن الكريم ؟
 
﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
( سورة الجاثية : 13 ) .
     لماذا ؟ هذا الكون الذي لا يعلم نهايته إلا الله ، لا يعلم ما فيه من مجرات إلا الله ، إذا كان التقدير الأولي مليون مَليون مجرة ، إذا كان التقدير الأولي لما في المجرة من كواكب مليون مَليون ، إذا كان بعض النجوم يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما ، إذا كان بين أرضنا وبين بعض المجرات ما يزيد على ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية ، هذا الكون كله مسخر للإنسان ، لماذا ؟ لمَ لم يسخر للقرود هذا الكون لمَ لم يسخر للملائكة ؟ لمَ هذا الكون كله بسمائه ومجراته ، وأفلاكه وأرضه، وما فيه جميعاً ، مسخر لهذا الإنسان ؟ لأنه حمل الأمانة .
 
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
( سورة الأحزاب : 72 ) .
من مفهوم الأمانة : نفسك التي بين جنبيك :
     أيها الإنسان نفسك أودعها الله أمانة عندك ، فإما أن تزكيها ، وإما أن تدسيها .
 
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
( سورة الشمس : 9 ـ 10 ) .
     نفسك أمانة بين يديك ، إما أن تعرفها بالله عز وجل ، وإما أن تبقيها جاهلة ، إما أن تحملها على طاعة الله ، وإما أن تدلها على معصيته ، إما أن تجعلها تتعلق بالجنة وما فيها ، وإما أن تجعلها تتعلق بالدنيا وما فيها ، إما أن تجعلها صادقة ، أمينة ، مخلصة ، عفيفة ، صابرة  منصفة ، تقية ، نقية ، طاهرة ، وإما أن تجعلها لئيمة ، خسيسة، دنيئة  حقيرة ، دميمة ، بخيلة ، شحيحة ، أنانية .
 
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
( سورة الشمس : 9 ـ 10 ) .
    أخطر مفهوم الأمانة أنك حمّلت الأمانة فكنت إنساناً لولا أنك حملت الأمانة فحملتها وقبلت حملها ـ في حين أن السماوات والأرض أشفقن منها ـ لما كنت إنساناً ،
أتحسب أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر
***
     إنك قد حملت الأمانة ، ونفسك أمانة ، ولكن من أجل أن تهذب هذه النفس ، ومن أجل أن تعرفها بربها ، ومن أجل أن تحملها على طاعته ، ومن أجل أن تجعلها تقبل عليه ، من أجل أن تجعلها طاهرة  من أجل أن تصبغها بصبغة الله عز وجل ، أعطاك الله عز وجل مقومات الأمانة .
      أنا قد أكلف إنساناً بمهمة كبيرة ، أعطيه من الصلاحيات والمبالغ، والآليات ما يعينه على أداء هذه المهمة ، صحيح أن الإنسان قبل حمل الأمانة بنص قول الله تعالى :
 
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
( سورة الأحزاب : 72 )
     لكن الله سبحانه وتعالى في الوقت نفسه أعطى هذا الإنسان مقومات هذه الأمانة .
مقومات الأمانة :    
1 – الكون :
       أولى هذه المقومات : خلق الكون وسخره له ، ليكون هذا الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ، أتحب أن تعرف الله عز وجل ؟ هذا الكون بين يديك .
 
﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ
( سورة الذاريات : 20 ) .
       أتحب أن تعرف الله عز وجل ؟ انظر إلى طعامك ، انظر إلى شرابك ، انظر إلى الجبال ، انظر إلى السماوات والأرض ، انظر إلى البحار ، انظر إلى ابنك الذي كان نقطة من ماء مهين ، انظر إلى النباتات بأنواعها ، انظر إلى كل شيء تر الله وراءه ، تر الله من خلاله ، تر الله قبله ، تر الله بعده ، فمن مقومات الأمانة ما دام الهدف الكبير أن تزكي هذه النفس ، والتزكية تكون بتعريفها بربها أولاً ، وحملها على طاعته ثانياً ، وإقبالها عليه ثالثاً ، عندها تزكو ، من أجل هذا الهدف العظيم ، خلق الله الكون ، وسخره للإنسان ، وما قيمة هذا الكون لولا أن الله سبحانه وتعالى أودع فينا هذا العقل ، وميزنا فيه عن بقية خلقه ، لذلك جميع الكائنات أودع الله فيها غريزة ، الغرائز فيها آليات معقدة جداً ، ولكنها لا تنمو ، هذا الطائر يطير بآلية معقدة ، ولكنه لا يعرف غيرها ، أودع الله الغرائز ، وهي أعمال معقدة يقوم بها الحيوان من دون تعليم سابق ، ولا كسب  ولا فهم ، إنما هذه الغرائز تؤدي وظيفته في الحياة ، ولكن الله سبحانه وتعالى أكرم الإنسان بالعقل ، أو بالفكر ، فالفكر ينمو ، انظر إلى المسكن كيف بدأ الإنسان ، وكيف انتهى مسكنه ، انظر إلى كل هذا المنجزات التي أنجزها الإنسان بفكره وعقله .
 
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ
( سورة الرحمن : 7 )
    ما قيمة الكون من دون عقل ! وما قيمة العقل من دون كون ! إنك بالعقل تعرف الله عز وجل ، من خلال الكون ، ولكن لئلا يضل هذا العقل ، لئلا يختل ، لئلا يطغى ، لئلا يتجاوز ، الله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ، فجعل الكتاب ميزاناً على الميزان ، عقلك ميزان ، وإذا اختل هذا الميزان فهناك ميزان يضبطه ، ألا وهو الشرع .
الكون أحد مقومات حمل الأمانة ، والعقل أحد هذه المقومات  .
2 – الشرع :
     والشرع أحد هذه المقومات .
      كيف ترقى إلى الله ؟ لا بد من شهوة يودعها الله فيك ، من أجل أن تدفعك إلى الله إيجاباً أو سلباً ، أودع في الإنسان حب المرأة ، فإذا غض بصره عن محارم الله ارتقى عند الله ، وإذا فعل ما أباح الله له ارتقى عند الله ، في المرة الأولى ارتقى صابراً ، وفي المرة الثانية ارتقى شاكراً ، حب المال ، وحب النساء ، وحب العلو في الأرض ، وأية شهوة أودعها الله في الإنسان يرقى بها مرتين ، مرة إذا تركتها لله .
 
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى
(سورة النازعات : 40 ) .
ومرة ترقى بها إذا فعلت ما أمرك الله بها .
العقل والشهوة والشرع وحرية الإرادة :
    إذاً هذا الكون ، وهذا العقل ، وهذه الشهوة ، وهذا الشرع ومنحك حرية الإرادة ، لتكون أعمالك ثمينة ، ذات قيمة ، إنك تفعل هذا مختاراً ، هذا حرية الاختيار ، مع الشهوة ، مع العقل ، مع الشرع ، مع الكون ، هذه بعض مقومات حمل الأمانة ، فإذا زكيت نفسك ، يعني إذا فكرت في الكون فعرفت الله ، ودرست الشرع فعبدته من خلاله   بالكون تعرفه ، وبالشرع تعبده ، فكرت بالكون فعرفت الله .
 
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ*الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
( سورة آل عمران : 190 ـ 191 ) .
     بالكون تعرفه ، فإذا أردت أن تعبده فبالشرع الذي أنزله الله على النبي عليه الصلاة والسلام تعبده ، فكرت فيه فعرفته ، درست الشرع فعبدته ، أصبحت الآن في طاعته ، إذاً أصبح الطريق إليه سالكاً ، أقبلت عليه ، فتجلى عليك ، فسعدت بقربه ، المقومات جاهزة ، الكون ، والعقل والشرع ، والشهوة ، والحرية ، والإرادة ، هذا كله من مقومات حمل الأمانة ، فإذا قرأت بالقرآن الكريم قوله :
 
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
( سورة الأحزاب : 72 )
      فهذه اسمها أمانة التكليف .
أمانة التبليغ :   
  وإذا وقفت أمام النبي عليه الصلاة والسلام في زيارتك له تقول أشهد أنك أديت الأمانة ، هذا معنى آخر ؛ أمانة التبليغ ، قبل أن ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى قال كلمتين قال : جلال ربي الرفيع قد بلغت ، يعني يا رب لقد بلغت الأمانة ، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان أميناً على رسالة الله عز وجل ، ما زاد عليها ، ما أنقص منها ، ما كتم منها ، فلما أصحابه قالوا : إن الشمس قد كسفت لموت إبراهيم ، ماذا فعل النبي ؟ هذه لمصلحته ، هذه القصة ، وهذا الفهم يرفع من شأن النبي أمام الناس ، ماذا فعل النبي الكريم ؟ جمع أصحابه وقام فيهم خطيباً ، وقال :
(( أيها الناس ، إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنكسفان لموت أَحَدٍ ولا لحياته)) .
( البخاري )
      لا علاقة لهذا بموت إبراهيم ، فقوله هذا أمانة ، لأنه لو سكت لكان هذا دجلاً ، هي أمانة ، فهذه أمانة التبليغ ، قال تعالى :
 
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ
( سورة الحاقة : 44 ) .
       لو تكلم كلمة من عنده ، لو تكلم كلمة لصالحه ، لو تكلم كلمة ليس قانعاً بها ، لو تكلم كلمة ليكسب بها منفعة .
 
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ*لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ*ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ*فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ
( سورة الحاقة 44 ـ 47 ) .
 
﴿ إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا
( سورة الإسراء : 75 ) .
     أمانة التبليغ ، هي أمانة أخرى ، فالأنبياء أمناء الله في خلقه  لا ينطقون بكلمة إلا وفق الحق ، أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قال له : يا رسول الله إنك تغضب ، فهل أكتب عليك في ساعة الغضب والرضى ، فما كان من النبي عليه الصلاة والسلام إلا أن أمسك بفمه وقال : والذي بعثني بالحق هذا اللسان لا ينطق إلا بالحق ، في الغضب والرضى ، أكتب . يؤكد هذا قول الله عز وجل :
 
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى
( سورة النجم : 3 ـ 4 ) .
      لذلك قال علماء الأصول الوحي نوعان ، وحي متلو ، وهو هذا القرآن ، ووحي غير متلو ، وهو كلام النبي عليه الصلاة والسلام ، هذه أمانة التبليغ .
     الأمانة الأولى : أمانة التكليف :
     أما العلماء فقد ألقى الله على عاتقهم أمانة كبرى ، وهي أمانة التبيان الشرع مقنن ، وانتهى الأمر ، ما على العالم إلا أن يبين للناس ما نقله عن النبي عليه الصلاة والسلام ، لذلك ربنا عز وجل وصف الدعاة إلى الله فقال :
 
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
(سورة الأحزاب : 39 ) .
 
﴿ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ
    ليس من عندهم شيء ، ولا كلمة ، ولا حرف ، (( ابن عمر ، دينك دينَك ، إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا )) .
( علل بن أبي حاتم )
    قال سيدنا أبو بكر إنما : << أنا متبع قول ، ولست بمبتدع >> .
(( من كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت )) .
( البخاري )
    لا يستطيع العالِم أن يتكلم من عنده ولا كلمة ولا حرف ، إلا أن يأخذ عن كتاب الله ، ووفق ما ينبغي أن يفهمه من كتاب الله ، وإلا أن يأخذ عن رسول الله ، هذه أمانة أخرى ، أمانة التبيان .
 
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ
( سورة آل عمران : 187 ) .
     الله سبحانه وتعالى قال عنهم :
 
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا
( سورة الأحزاب : 39 )
     هؤلاء العلماء الذين يدعون إلى الله عز وجل من صفاتهم الأساسية ، وهذه الصفة مترابطة معهم ترابطاً وجودياً ، فإذا ألغيت ألغي وجودهم ، أنهم يخشون الله وحده ، ولا يخشون أحد إلا الله ، فلو أنهم خافوا من غير الله ، لسكتوا عن الحق ، وتكلموا بالباطل ، فإذا سكتوا عن الحق ، وتكلموا بالباطل فماذا بقي من تبليغ رسالات الله ؟ فهناك أمانة التكليف ، أي إنسان حملها :
 ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾
(الشمس : 9-10)
 
      نفسك أمانة بين يديك ، وأكبر خسارة أن تخسر نفسك ،
 ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
( سورة الزمر : 15 ) .
       خسر نفسه ، وضعها الله بين يديه أمانة فخسرها .
      الشيء الثاني أمانة التبليغ : وهي الأمانة التي ألقاها الله على عاتق الأنبياء والمرسلين .
والأمانة الثالثة : أمانة التبيان ، وهي التي ألقاها الله على عاتق كل داعية إلى يوم القيامة ، فإذا سكت عن شيء إرضاء لزيد ، أو عبيد فقد خان الأمانة ، إذا تكلم شيئاً ليس قانعاً به ، لجلب مصلحةً له ، فقد خان الأمانة ، إذا تكلم بما لا يعلم فقد خان الأمانة ، إذا أفتى بما لا يعلم فقد خان الأمانة ، إذا لم يتعمق بالعلم ، وأبقى أتباعه في جهل فقد خان الأمانة ، هي أمانة التبيان ، لذلك إما أن يرقى الإنسان إذا دعا إلى الله إلى أعلى عليين ، وإما أن يهبط إلى أسفل سافلين ـ إذا لم يدعُ ـ هذه أمانة ثالثة .
أمانة الولاية :     
      هناك أمانة الولاية : سيدنا عمر بن عبد العزيز ، دخلت عليه فاطمة بنت عبد الملك رأته يبكي ، وهو يصلي ، فقالت له : ما لك تبكي ؟ قال : دعيني وشأني ، فلما ألحت عليه ، قال يا فلانة : إني وليت أمر هذه الأمة ، فنظرت في اليتيم ، والفقير ، والأرملة ، والمسكين ، وذي العيال الكثير ، والرزق القليل ، وابن السبيل ، والمقطوع ، والأسير ، ( فكّر في آلاف الأشخاص ) فعلمت أن الله سيحاسبني عنهم جميعاً ، فلذلك أبكي  والله لو تعثرت بغلة في العراق لخشيت أن يحاسبني الله عنها ، لمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر ؟ هذه أمانة الولاية .
     سيدنا عمر لما قال لعبد الله بن عوف : انطلق بنا يا عبد الرحمن نحرس هذه القافلة ، قافلة من التجار جاءت المدينة ، وأقامت في المصلى ، سيدنا عمر سمع طفلاً يبكي فانطلق إلى أمه ، وقال : يا أمة الله اتقي الله ، وأحسني إلى صبيك ، ثم  رجع إلى مكانه ، فإذا به يبكي ثانية ، ثم قام إليها وقال : يا أمة الله اتقي الله ، وأحسني إلى صبيك ، فلما بكى المرة الثالثة قال : يا أمة السوء ، مالي أرى صبيك لا يقر له قرار هذه الليلة ، قالت يا عبد الله ـ لا تعرفه ـ لقد أضجرتني هذه الليلة دعني وشأني ، إنني أحمله على الفطام فيأبى ، قال : ولمَ تحملينه على الفطام ؟ قالت : لأن عمر لا يفرض لنا العطاء إلا بعد الفطام ، ( يعني التعويض العائلي ) فما كان من عمر إلا أن صاح ، والألم يعتصر قلبه ، ويحك يا بن الخطاب ، كم قتلت من أطفال المسلمين ، ثم نادى في الناس ، أرسل منادياً ينادي ، ألاّ تعجلوا على صبيانكم ، إن العطاء سيفرض لكم حين الولادة ، ووقف ليصلي الفجر ، فإذا أصحابه لا يسمعون قراءته من شدة بكائه ، هذه أمانة الولاية ، كان يقول : ليت أم عمر لم تلد عمر ، ليتها كانت عقيمًا ، لو أنزل الله أنه معذبٌ واحداً من خلقه لظننت أنه أنا ، هكذا كان يقول عمر رَضِي اللَّه عَنْه ، كان عمر يقول : أود أن أذهب من الدنيا لا لي ولا عليّ ، هذه أمانة الولاية ، وأنت أيها الأخ المؤمن .
      ستحاسب عنهم واحداً وَاحداً ، هل أديت لهم حقهم ؟
أمانة التولية :
     هناك أمانة أخرى هي أمانة التولية ، سيدنا عمر عيّن والياً ، وقال له اذهب إلى عملك ، واعلم أنك مصروف رأس سنتك ، وأنك تصير إلى أربع خلال ، فاختر لنفسك ، إن وجدناك أميناً ، ضعيفاً ، استبدلناك بضعفك ، وسلمتك من معرتنا أمانتك ، وإن وجدناك خائناً قوياً استهنا بقوة ، وأوجعنا ظهرك وأحسنا أدبك ، وإن جمعت الجرمين الضعف والخيانة ، جمعنا عليك المضرتين ، وإن وجدناك قوياً أميناً زدناك في عملك ، ورفعنا لك ذكرك ، وأوطأنا لك عقبك .
     ومرة عين والياً ، قال له : ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب ؟ قال : أقطع يده ، قال إذاً : إن جاءني من رعيتك من هو جائع  أو عار ، أو عاطل فسأقطع يدك ، إن الله قد استخلفنا عن خلقه ـ انظر إلى هذه الأمانة ـ لنسد جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم ، فإذا وفينا لهم ذلك ، تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً ، التمست في المعصية أعمالاً ، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية ،  هذه أمانة التولية .
      لذلك هناك حديث شريف يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من استعمل رجلاً على عصابة - أي على جماعة - وفيهم من هو أرضى لله منه ، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين )) .
( ورد في الأثر )
     حينما تولي ، ولو على مستوى معلم بالمدرسة إذا عين عريفاً على هؤلاء الطلاب يجب أن ينتقيه من ذوي الأخلاق الحسنة ، لو انتقاه لقرابته ، أو لسبب آخر ، أو لأن هذا الطالب يقدم له بعض الهدايا ، لو عينه عريفاً على هؤلاء الطلاب فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ، وعلى هذا فقس ، لذلك عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
(( بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ، قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا، قَالَ : إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ )) .
( أخرجه البخاري )
     هذه أمانة التولية .
أمانة الواجب :
     أما الأمانة الخطيرة فهي أمانة الواجب المعلم مؤتمن على هؤلاء الطلاب ، هل أعطاهم علماً صحيحاً ؟ هل ضيع الوقت عليهم ؟ هل أمضى الوقت من غير فائدة ؟ هل أعد دروسه إعداداً جيداً ؟ الطلاب أمانة في عنق المعلم ، والمرضى أمانة في عنق الطبيب ، والموكل أمانة في عنق المحامي ، هل نصحه بأن هذه الدعوى خاسرة وقال : ويا أخ الطريق مسدود ، واذهب ، وأعطه حقه ، ودع هذا الطريق ! أم قال له المحامي لا ، سوف تنتصر عليه ، أنا عندي خبرة في هذا الموضوع هات دفعة أولى ، يجعله يقف ، ويسأل ، وينتظر عدة سنوات ، وأخيراً يخسر الدعوى ، إن هذا الموكل أمانة في عنق المحامي ، وأي شيء أي مصلحة أية حرفة ، التاجر تأخذ ثمن هذه البضاعة ، هل أعطيته بضاعة مقابل هذا الثمن ؟ أم هي دون هذا الثمن ، لماذا أوهمته أن هذه البضاعة أجنبية ؟ لماذا أوهمته أن هذه البضاعة لا مثيل لها ؟ إن هذا الشاري أمانة في عنق البائع ، لذلك الواجب التاجر ، والصانع ، والموظف والعامل ، صاحب المصلحة ، صنعة ، هل نصحت له في هذه الصنعة ؟ إن إتقان العمل جزء من الدين ، إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً  أن يتقنه ، لماذا لم تتقن هذا العمل ؟ لذلك أي تقصير في العمل ، أي مضاعفات له تسجل على صاحب التقصير ، خيانة ، هذه أمانة أداء الواجب ، شيء كثير يتعلق بالأمانة ، يقول عليه الصلاة والسلام مخاطباً رجلاً ، سأله أن يستعمله على ولاية .
      عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قُلْتُ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلا تَسْتَعْمِلُنِي ؟ قَالَ : فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ : يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ ، إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا )) .
( أخرجه مسلم )
     هذه بعض النصوص المتعلقة بالأمانة ، هذا الحديث رواه الإمام البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
(( بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : مَتَى السَّاعَةُ ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ لَمْ يَسْمَعْ ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ : أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ ، قَالَ : هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ، قَالَ : كَيْفَ إِضَاعَتُهَا، قَالَ : إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ )) .
(أخرجه البخاري)
      إذا سلّمت إنساناً عملاً ، ليس أهلاً له ، ليس لديه خبرة غير مستقيم ، سلّمت له هذا العمل ، عندئذٍ فقد خنت الله ورسوله والمؤمنين ، حديث آخر عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لا تَسْأَلِ الإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ )) .
( أخرجه البخاري )
أمانة العلاقات الأسرية :
       شيء آخر العلاقات الأسرية ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِي اللَّهم عَنْهمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ فِي مَالِ أَبِيهِ رَاعٍ ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ )) .
(أخرجه البخاري)
النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إذا قعدت المرأة على بيت أولادها فهي معي في الجنة )) .
( ورد في الأثر )
    إذا استقرت المرأة في البيت ، أما إذا أمضت وقتها كله خارج البيت ، والأطفال ضاعوا ، وشردوا ، هذه امرأة لا يحبها الله ورسوله ، فإذا قبعت في بيتها ترعى أولادها ، فقد أدت ما عليها من أمانة تجاه الله عز وجل .
أمانة المجالس :  
     هناك أمانة المجالس : إنسان تكلم لك بحديث والتفت التفاته يعني هذا الحديث يجب أن يبقى بينك وبينه ، لأن المجالس بالأمانة ، إلا أن هناك حالات ثلاث لا تجب أن تراعى فيها الأمانة ، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ ، إِلا ثَلاثَةَ مَجَالِسَ ، سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ ، أَوْ فَرْجٌ حَرَامٌ ، أَوِ اقْتِطَاعُ مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ)) .
(أخرجه أبي داود )
      فلو كنت في مجلس ، اتفق الحاضرون على أن يفعلوا فعلاً مشينًا فهذا المجلس ليس بالأمانة ، اتفق الحاضرون على أن يسفكوا دماً ، هذا المجلس ليس بالأمانة ، اتفق الحاضرون على أن يقتطعوا مالاً حراماً ، هذا المجلس ليس بالأمانة ، إذا إنسان حدثك حديثًا فهو أمانة ، لا ينبغي أن يقول لك : هذا الحديث اجعله بيني وبينك ، لا ! يكفي أن يتلفت يمنة أو يسرة ، وهو يلقي عليك الحديث ، تلفته يمنة ويسرة يعني أن هذا الحديث أمانة ، وانتهى الأمر .
     عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ )) .
(أخرجه الترمذي)
     فالأمين سمي أميناً من مصدر الأمن ، يعني الناس يطمئنون إليك، يرتاحون لك ، لا يقلقون ، أنت مؤتمن على أموالهم ، وعلى أعراضهم ، وعلى دمائهم ، وعلى كل شيء يخافونه ، فالمؤمن والأمين من اشتقاق واحد ، هو أمين على أموال الناس ، معنى أمين على أموال الناس ، أحياناً يأخذ إنسان مبلغاً ، ويكتب على نفسه هذا المبلغ ، فإذا أنكر هذا المبلغ فهناك إيصال ، وهناك دعوى ، وهناك حجز على أمواله، التعريف الدقيق للأمانة ، أن تؤدي ما عليك من دون أن تكون مداناً أمام الناس .
     إنسان أودع عندك مبلغاً من المال ومات ، وليس معه وصل ، وأولاده لا يعلمون إطلاقاً ، فلو سكت على هذا المال لا أحد في الأرض يطالبك ، ومع ذلك ذهبت إلى الورثة وقلت لهم ، إن أباكم قد أودع عندي هذا المبلغ ، فكلوه هنيئا مريئا ، أن تؤدي ما عليك من دون إلزام ، ومن دون مسئولية ، ومن دون إدانة ، ومن دون مطالبة ، فأنت أمين ، أما إذا أديت ما عليك ، وهناك سند يحجز على أموالك ، هذه علاقة تجارية الأمين أن تعفَ عن أموال الناس ، وعن أعراضهم ، وعن كل شيء بحوزتك لهم من دون أن تكون مداناً عند الناس ، هذا معنى دقيق ، لذلك الأمين يخشى الله وحده ، ولا يخشى سواه ، يؤدي ما عليه .
     عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا قَالَ :
(( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ )) .
(أخرجه أحمد )
     لا إيمان ، ينفي النبي عليه الصلاة والسلام عن الرجل الإيمان كله إذا كان ليس مؤتمناً ،
(( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ )) .
     عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مِنْ عَلامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلاثَةٌ ، إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا أؤتُمِنَ خَانَ ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ )) .
(أخرجه مسلم)
    يقول عليه الصلاة والسلام :
(( من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت أخوته ، وحرمت غيبته )) .
( ورد في الأثر )
     الحقيقة أن الأمانة تشمل الأموال ، تشمل الأعراض ، تشمل الممتلكات ، تشمل الحقوق الأدبية ، مقالةٌ ليست لك ، مجلة قديمة بيضتها ، وقدمتها لمجلة لتنشر باسمك ، هذه خيانة ، أخذت فكرت من كتاب ، وعزوتها إلى نفسك ، أشر في الحاشية أن هذه الفكرة من الكتاب الفلاني ، المؤلف فلان ، هناك الأمانة العلمية ، هي أيضاً أمانة ، فالغش خيانة ، لأن التصريح عن البضاعة مخالف للواقع ، الغش يدخل في الخيانة ، عكس الأمانة ، التطفيف خيانة ، عكس الأمانة ، إذا أعطيته وزناً أقل من الوزن المتفق عليه ، هذه خيانة ، الغلو ، أيام تلاقي بالسحارة ثلثها ورق، ثلثها حشيش ، وأخذ على الوزن الكامل ، فوق نوع وتحت نوع ، والثلث حشيش ، والسحارة بالماء وضعت ، وزنها ستة كيلو حسبت 2 كيلو فقط، هذه دخلت بالخيانة ، الغلول ، أخذ الأموال العامة ، إبلاغ الرسالات، النصيحة ، الأمر بالمعروف النهي عن المنكر ، إعطاء الحقوق لأصحابها ، العدل ، أداء الودائع ، هذا كله من الأمانة ، لذلك الذي جعلنا نخرج عن كلمة أمانة ، نخرج عن سياق الآيات إلى موضوع الأمانة قول الله عز وجل :
 
﴿إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ :
      لم يقل الله عز وجل : وما أسألكم عليه أجراً ، بل قال : من أجر ، يعني مهما قلَّ هذا الأجر ، مهما كان طفيفاً فلا أسألكم عليه ، أشد أنواع النفي ، من لاستغراق أدق الجزئيات :
 
﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
حتى بعض الأجر ، حتى الأجر المعنوي :
 
﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
 
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾
    يبدو أن وجهاء قومه لا يستسيغون أن يجلسوا مع عامة الناس ومع الفقراء والمساكين .
    ﴿ الأَرْذَلُونَ هنا هم الفقراء .
 
﴿قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ﴾
صبر الأنبياء على من اتبعوهم من الفقراء :
     يعني أنا ما شأني وشأنهم ، أنا علاقتي معهم علاقة الهدى ، أما إن كانوا فقراء ، أو كانوا أغنياء ، إن كانوا وجهاء ، أو كانوا مغمورين ، هذا ليس من شأني أن أحاسبهم عليه .
 
﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
        عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ  مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ )) .
(أخرجه الترمذي)
     هذا الذي تظنه فقيرا ، ليس له شأن قد يكون له شأن عند الله لا ترقى إليه النفوس الكبيرة .
 
﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ * قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ ﴾
جواب قوم نوح بالتهديد ودعاء نوح ربه بالنصر :
يعني نقتلك .
 
﴿قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ * قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يعني احكم بيننا يا رب ، وانصرني عليهم .
 
﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ *إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾
كل قوم كذبوا نبيهم ، واستخفوا بدعوته أهلكهم الله سبحانه وتعالى عن آخرهم .
وفي درس قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قصة أخرى ، ولكن قصة قصيرة متعلقة بالأمانة غابت عن ذهني .
أبو لبابة صحابي جليل طلب أن يوفده النبي إلى بني قريظة ليستشيروه فيما هم صانعوا ، بعد أن خان بنو قريظة رسول الله ، يبدو أنه تكلم معهم ، ولكن أشار إليهم إشارة تنبئ بما سيفعل النبي معهم ، هذه الإشارة هكذا قال ، يبدو أنه شعر أنه خان الله ورسوله ، وعاد إلى المسجد ، وربط نفسه بسارية المسجد ، فكانت تأتيه زوجه فتفكه ليصلي ، ويأكل ، ثم يعود إلى وثاقه ، إلى أن تاب الله عليه بعد تسعة أيام ، وأنزل الله فيه قرآنا فقال الله عز وجل :
 
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
( سورة التوبة : 102 ) .
فلما نزلت هذه الآية أبى إلا أن يفك النبي عليه الصلاة والسلام وثاقه ، لما فك وثاقه ، عاهد الله عز وجل على أن ينزل عن ماله كله في سبيل الله ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ، أمره أن يوزع الثلث فقط فهو أشار إشارة فقط ، هذه الإشارة فيها خيانة عظمى .
سيدنا ابن رواحه حينما كان قائداً في مؤتة ، وجاء دوره في المعركة تردد ثلاثين ثانية ، قال :
يا نفس إلا تـقتلي تموتي    هذا حمام الموت قد صلـيت
إن تفعـل فعلهما رضيتِ    وإن تولـيت فـقد شــقيتِ
*  *  *
فقاتل حتى قتل ، فلما كلم النبي أصحابه قال أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل ، وإن لأرى مقامه في الجنة ، ثم سكت عليه الصلاة والسلام ، فلما سكت قلق أصحابه على أخيهم عبد الله بن رواحه فقالوا يا رسول ما فعل عبد الله ؟ قال : ثم أخذها عبد الله   فقاتل بها حتى قتل ، وإن لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه ، تردد في بذل روحه ، (ثلاثين ثانية) إنها لأمانة ، فأنت أمانة عند الله ، ونفسك أمانة بين يديك ، وأبناؤك أمانة ، وزوجتك أمانة ، وعملك أمانة ، وهذه الأمانة ربما شملت الدين كله ، وربما شملت الحياة كلها ، وربما شملت نشاطك كله ، كل شيء تفعله ، سوف تحاسب عليه ، هل أديت ما عليك هل عففت عن ما ليس لك ؟ هل أديت واجبك تماماً ؟ هل عرفت نفسك بالله ؟ وأخطر أنواع الأمانة أمانة التكليف .
 
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب