سورة الفرقان 025 - الدرس (01): تفسير الأيات (001 – 001)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الفرقان 025 - الدرس (01): تفسير الأيات (001 – 001)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الفرقان

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة الفرقان- (الآيات: 001 - 001)

25/08/2011 16:05:00

تفسير سورة الفرقان (025)
الدرس (1)
تفسير الآية : (01 – 01)
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الأول من سورة الفُرقان .
     
تكرار كلمة " تبارك " كثيراً في القرآن الكريم :       
 
هذه السورة تبدأ بقوله تعالى :
 
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
( سورة الفرقان )
كلمة تبارك تأتي كثيراً في القرآن الكريم :
 
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ (1) ﴾
 ( سورة الملك)
وقال أيضاً :
 
﴿ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85 ) ﴾
 ( سورة الزخرف )
وقال :
 
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ (1)
 
( سورة الفرقان )
المعاني المتعددة لكلمة " تبارك " :       
 
وكلمة مبارك ، وتباركنا ، هذه نستخدمها نحن كثيراً في علاقاتنا الاجتماعيَّة ، فماذا تعني كلمة تبارك ؟ بعضهم قال : تبارك تعني تقدَّس ، وتقدَّس وتبارك بمعنى واحد ، كلمتان تُستعملان للتعظيم ، وبعضهم قال : تبارك من البركة ، والبركة الكثرة من كل خير ، بيتٌ مبارك أيْ كثير الخير ، إنسان مبارك أيْ كثير الخير ، امرأة مباركة أيْ كثيرة العطاء لزوجها ، شهرٌ مبارك ، سنةٌ مباركة أيْ كثيرة الأمطار ، فمعنى المبارك أي الكثير من كل خير ، هذا المعنى الثاني .
وإذا قلنا تبارك بمعنى تعالى :
 
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
أي تعالى عن أن يشبهه شيء ، تعالى عن أن يكون له شريكٌ في المُلك ، تعالى أن يتصف بصفات المخلوق ، تبارك وتعالى ، أيضاً تبارك عطاؤه بمعنى زاد وكَثُر .
هناك معنى جديد ، تبارك العطاء أيْ زاد وكثر ، وهناك معنىً آخر دام وثبت ، هنا بيت القصيد ، العطاء الذي ينقضي في وقتٍ ما ولو بعد مئة عام لا يُسَمَّى عطاء مبارك ، مهما أوتيت من الدنيا فلا بدَّ من تركها ، كل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت .
الليل مهمـا طال           فلابدَّ من طلـوع الفجر
والعمر مهما طال           فلابدَّ من نزول القبـر
*  *  *
(( عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك مجزي به)) .
[ أخرجه الشيرازي عن سهل بن سعد و البيهقي عن جابر ]
 
البركة بالمعنى الدقيق هي العطاء المستمر الذي لا ينقطع :
 
إذاً البركة بالمعنى الدقيق هي العطاء المستمر الذي لا ينقطع ، أيُّ عطاءٍ في الدنيا ينقطع عند الموت ، أيُّ عطاءٍ تأخذه من بشر ينتهي عند الموت ، ولكن عطاء الله سبحانه وتعالى من خصائصه أنه يستمرُّ إلى أبدِ الآبدين ، لذلك إذا قلنا : تبارك عطاء الله عزَّ وجل أيْ أَنَّ هذا العطاء زاد وكثُر ، ودامَ وثبت ، إذاً أردت عطاءً لا ينقضي بالموت ، إذا أردت عطاءً أبدياً سرمدياً فاطلب ما عند الله ، أما إذا أردت الدنيا فالدنيا زائلة ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ )) .
[ من سنن الترمذي عن شداد بن أوس ]
لذلك ضع هذا المقياس في كل عملٍ تقوم به ، هذا العمل الذي أنا مَعْنيٌّ به ، الذي أنا مُنهمكٌ فيه ، الذي أضيّع وقتي من أجله ، الذي أضيّع مالي من أجله ، الذي أبدِّد شبابي من أجله ، هل يستمرُّ أثره إلى ما بعد الموت ؟ إذا كان كذلك فأنعِم بهذا العمل ، وإن كان هذا العمل ينتهي مع الموت ولا أدري متى أموت ، فهذا العمل نوعٌ من المقامرة ، أو نوعٌ من المغامرة .
الذي أريده من قول الله عزّ وجل :
 
﴿ تَبَارَكَ (54) ﴾
( سورة الأعراف)
أي زاد عطاؤه وكثر ، ودام وثبت ، لكن لا يقال : الله عزَّ وجل مبارك بل يقال العطاء مبارك ، يقال اليوم مبارك ، العمر مبارك ، الشهر مبارك ، السنة مباركة ، الزوجة مباركة ، هذا العمل مبارك  ، هذه التضحية مباركة ، هذا العلم مبارك ، لا يقال لله : مبارك ، بل نقول :
 
﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14) ﴾
( سورة المؤمنين )
 
خَلْقُ السماوات والأرض نوعٌ من البركة التي بارك الله بها:
 
إنَّ ما سوى الله يُقال له : مبارك ، بينما الله سبحانه وتعالى تقول عنه :
 
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(78) ﴾
( سورة الرحمن )
لكن هذا العطاء الأبدي السرمدي كيف أتعرَّف إليه ؟ هنا مشكلة كبيرة ، أولاً الله سبحانه وتعالى كما ورد في بعض الأحاديث " كان الله ولم يكن معه شيء " ، وأراد الله أن يخلق خلقاً ليسعدهم ، " فخلقت الخلق فعرَّفتهم بي فبي عرفوني " ، أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق الخَلْق ، إذاً هذا الوجود الذي أمامك إنما أُوجِد ليسعد أو ليُسعده الله عزَّ وجل ، إذاً تبارك الله الذي خلق الكون ، هذه نعمة الإيجاد ، لولا أن مشيئة الله شاءت أن نكون لما كنا لنكون .
لولا أن مشيئة الله عزَّ وجل شاءت أن نكون نحن ، وأن يكون بنو البشر ، وأن يكون الإنس والجن ، وأن تكون كل هذه المخلوقات ، لولا أن الله شاء لنا أن نكون لمَا كان لنا أن نكون ، إذاً لأننا موجودون فهذه نعمةٌ كبرى ، هذه بركةٌ ، وُجِدْنا لنتعرَّف إليه ، وجِدنا لنقترب منه ، وجدنا لنعبده ، وجدنا لنسعد بقربه ، إذاً خَلْقُ السماوات والأرض نوعٌ من البركة التي بارك الله بها .
انظر إلى الكون لتعرف مدى قدرة الله ، وأنه تبارك حقاً ، ففي الكون حسبَ أحدث رقم قرأته مليون مَليون مجرَّة ، في كل مجرَّة مليون مَليون كوكب أو نجم ، لو أخذنا مجرَّة متوسِّطة كدرب التبَّانة فإن المجموعة الشمسيَّة بكاملها نسبياً لا يزيد حجمها عن نقطة ، لو تركنا المجموعة الشمسيَّة وأخذنا الأرض التي نحن عليها ، أين بركة الله فيها ؟ الله سبحانه وتعالى خلقها وبرَّدها وهَيَّأها للإنسان منذ أكثر من خمسة آلاف مليون عام ، تقديراتٌ دقيقة مضى على خلق الأرض أو على إيجادها أكثر من خمسة آلاف مليون عام ، وفي هذه الأعوام كلِّها كانت تتهيَّأُ لأن يسكنها الإنسان ، مَرَّت عليها العصور الجيولوجيَّة ، ومرَّت عليها الأحقاب ، العصور المَطيرة ، النباتات العملاقة ، الحيوانات العملاقة ، تشكَّل البر والبحر ، تشكَّل الغلاف الجوي .
 
الأرض بحجمها التي هي عليه متناسبة مع الإنسان وهي أثر من آثار كلمة تبارك : 
  
البر ، والبحر ، والغلاف الجوي ، والعصور المطيرة ، والحيوانات العملاقة ، والعصور الجيولوجيَّة ، وتكوَّنتْ التربة بعد أن كان كل ما عليها صَخْرٌ متين قاسٍ ، هذه التهيئة من قول الله تعالى :
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي (1)
( سورة الفرقان )
أي تبارك الله ، شيءٌ آخر : هذه الأرض بحجمها الذي هي عليه متناسبٌ مع الإنسان ، لو أن هذا الحجم كان أصغر لقلَّت جاذبيَّة الأرض لِلإنسان ، وأصبحت حركته خطرة ، ولو أن حجم الأرض كان أكبر لازداد وزنه ، ولزادت جاذبيته على الأرض فكانت الحياة على سطح الأرض حياةً مستحيلة ، هناك بعض الكواكب لو أن الإنسان انتقل إليها لكان وزنه آلاف الأطنان .
ولمّا انتقل الإنسان إلى القمر صار وزنه السُدس ، فالذي وزنه ستين كيلو وزنه على القمر عشرة كيلو ، لذلك روَّاد القمر كان معهم أثقال من أجل أن تسهل عليهم الحركة ، وكُلُّ هذه الأثقال ليعود وزنهم إلى ما هم عليه وهم على سطح الأرض ، إذاً حجم الأرض بعد أن هيَّأ الله الأرض بعصورها المديدة ، بهذه الخمسة آلاف مليون سنة على تقدير بعض العلماء ، بعد أن مرّت عليها العصور الجيولوجيَّة ، والعصور المطيرة ، والعصور التي تشكَّل فيها البحر المالح ، والعذب الفرات ، وهذا الغلاف الجوي بعد أن أصبح الجو على الأرض مناسباً للإنسان ، بعد هذه التُربة التي فُتِّتَت بفعل عوامل الماء والهواء والتعرية ، أصبحت الأرض مؤهَّلةً لكي يسكنها الإنسان ، هذه كلها أثر مِن آثار قوله تعالى :
 
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي (1)
( سورة الفرقان )
هذه الأرض بحجمها الذي يناسب الإنسان ، بدورتها حول نفسها ، بدورتها حول الشمس ، بمحورها المائل ، من دورتها حول نفسها تشكَّل الليل والنهار ، من دورتها حول الشمس تَشَكَّلت الفصول ، ومن ميل محورها تبدَّلت الفصول من منطقةٍ إلى منطقة ، فكل منطقةٍ على سطح الأرض يأتيها الشتاء والخريف والربيع والصيف ، إذاً تبارك الله سبحانه وتعالى :
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
 
الدماغ آيةٌ كبرى من آيات الله كرمه الله به :
 
شيءٌ آخر : الله سبحانه وتعالى خَلَقَ الإنسان ـ تبارك الله خالق الإنسان ـ خلق الإنسان في أحسن تقويم ، زوَّده بجسمٍ غايةٍ في الدِقَّة ، ما من كائنٍ على وجه الأرض أعقد وأرقى منه ، جملته العصبيَّة تأخذ بالألباب ، فمئة وأربعون مليار خليَّة سمراء في الدماغ لم تُعْرَف وظيفتها بعد ، أربعة عَشَرَ مليار خليَّة قشريَّة في الدماغ وظيفتها التخيُّل ، والمحاكمة ، والتذكُّر ، والفهم ، والإدراك ، واليقين ، النشاط الفكري يعجز عن فهم ذاته ، الدماغ آيةٌ كبرى من آيات الله .
هذه الطائرة التي تطير في السماء تحمل ثلاثمئة وخمسين طناً ، ثلاثمئة راكب بحاجاتهم تطير ، هذا أثر من آثار الدماغ البشري ، هذه الحواسب الإلكترونيَّة التي يعجز الدماغ عن فهمها إنها أثر من آثار هذا الدماغ الذي وهبنا الله إيَّاه ، إن ما تعيشونه من مخترعاتٍ حديثة إنما هي من آثار هذه الجوهرة التي مَنَّ الله بها علينا .
إذاً لمَّا خلق ربنا عزَّ وجل الإنسان خلقه في أحسن تقويم ، أعطاه فكر ، بهذا الفكر طار في الهواء ، بهذا الفكر وصل إلى القمر ، بهذا الفكر نقل الصوت ، بهذا الفكر نقل الصورة ، بهذا الفكر غاص في أعماق المحيطات ، بهذا الفكر صنع الأجهزة ، بهذا الفكر أقام المجتمعات ، بهذا الفكر رفع مستوى لِباسه ، بهذا الفكر رفع مستوى منزله ، بهذا الفكر سخَّر كل ما في الطبيعة لمصلحته ، إذاً الإنسان مكرَّم بهذا الفكر الذي أعطاه الله إيَّاه ، فربنا عزَّ وجل :
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي (1)
( سورة الفرقان )
 
الله سبحانه وتعالى خلق النفس وجعل لها قوانين :       
 
أعطاك هذا الفكر ، أعطاك هذه الأعصاب ، بها يُنْقَل إليك كل ما في المحيط الخارجي ؛ من أصوات ، من روائح ، من أحاسيس ، من حرارة ، من برودة ، أنت مع العالم الخارجي بحواسِّك الخَمس ، بأعصابك ، بعينك ، بسمعك ، ببصرك ، هذه الحواس الخمس تدخل تحت قول الله عزَّ وجل :
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
شيءٌ آخر : هذا الإنسان الذي خلقه الله من خلايا لا يعلم عددها إلا الله ، وكل خليَّةٍ وحدةٌ وظيفيَّة ، بل إن هناك وحدةً بنائيَّة أصغر من الخليَّة ، إنَّ الخلية وحدة وظيفيَّة ، كل مجموعة من الخلايا تشكل نسيجاً ، كل مجموعةٍ من الأنسجة تشكِّل عضواً ، كل مجموعة من الأعضاء تشكل جهازاً ، كل مجموعةٍ من الأجهزة تشكِّل هذا الكائن الفَذ الذي خلقه الله عزَّ وجل ليُسْعِدَهُ ، لذلك :
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
الله سبحانه وتعالى خلق النفس وجعل لها قوانين ، خلق الإنسان ضعيفاً ، خلق الإنسان عجولاً ، خلق الإنسان في أحسن تقويم ، خلقه عجولاً ، وخلقه ضعيفاً ، وخلقه هلوعاً إذاً هذه فطرته ، فَطَرَهَ على حبِّ الكمال :
 
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ(7) ﴾
( سورة الحجرات )
 
من آثار بركة الله تعالى خلق السماوات والأرض وما عليها :
 
إذاً بنية النفس ، طبيعة النفس ، هذا من بركة الله عزَّ وجل ، بنية الجسد ؛ الجهاز العصبي مع الجهاز الدموي ، مع الجهاز التَنفُّسي ، مع الجهاز الهضمي ، مع الجهاز البولي ، مع الأجهزة والأعضاء ، مع العضلات ، مع الشرايين ، مع الأوردة ، مع العظام ، مع الغُدَد الصُم ، هذا الكائن المعقَّد الذي تحار في بنيته العقول ، منذ أن تعلَّم الإنسان وحتى الآن ملايين الكتب التي تتحدَّث عن الإنسان .
فقلب الإنسان اختصاص ، وعين الإنسان اختصاص ، وأذن الإنسان اختصاص ، فلو درست ما قاله العلماء قبل خمسمئة عام ، كتبٌ لا يعلم عددها إلا الله كلُّها في العين ، هذه في القلب ، هذه في الكليتين ، هذه في الجلد ، هذه في العظام ، هذه في العضلات ، فإذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
فهذه من آثار بركته ، خلق السماوات والأرض ، خلق الأرض ، حجم الأرض ، دورة الأرض حول نفسها وحول الشمس ، ما عليها من بحار ، ما عليها من جبال ، ما عليها من أنهار ، من بحيرات ، من سهول ، من أغوار ، من مرتفعات ، ما عليها من تُرَب لَحْقِيَّة ، ترب كلسيَّة ، ترب رمليَّة ، أنواع الترب ، أنواع التضاريس ، أنواع المُناخات هذا كلُّه من خلق الله عزَّ وجل .
 
 حياة الإنسان من دون ذاكرة لا تُحتمل ولولاها لما كان للإنسان أن يتعلم :
 
الإنسان بُنيته الجسديَّة ، بنيته النفسية ، بنيته العقليَّة ، هذا العقل الذي أكرم الله به الإنسان ، مبدأ السببيَّة ، مبدأ الغائيَّة ، مبدأ عدم التناقض ، الإدراك ، الإحساس ، التَخَيُّل ، التذكُّر ، المحاكمة ، هذه كلُّها نشاطات رائعة جداً ، لولا أن الله عزَّ وجل بارك الإنسان ، كيف تكون حاله ؟ تصوَّر إنساناً بلا ذاكرة ، لا يتعلَّم شيئاً ، فأي شيءٍ يتعلَّمه ينساه لعدم وجود الذاكرة ، أما الإنسان بالذاكرة فتنمو خبراته ، وتوسَّع مجالات خبراته ، هذا خبرته في الأعمال الصناعيَّة ، هذا في الزراعة ، هذا في التجارة ، هذا في الطب ، هذا في الهندسة ، هذا في القانون ، هذا في التدريس ، هذا في اللغة ، هذا في الكيمياء ، في الفيزياء ، في الرياضيات ، في الفَلَك ، في الجيولوجية ، اختصاصات كلها بفضل هذه الذاكرة ، ولولا أن الله سبحانه وتعالى أودع فينا هذه الذاكرة لما كان للإنسان أن يتعلَّم .
شيءٌ أعمق من ذلك إنَّ محلِّك التجاري كلُّه في ذاكرتك ، بيتك كلُّه في ذاكرتك ، ادخل عند صيدلي وقل له : عندك الدواء الفلاني ؟ فأعْملَ بصره في الخزانة ، ثم توجَّه نحو الطبقة الثالثة على اليمين خلف الباب وقال : لدينا علبة واحدة ، إنه متذكِّرها ، معنى هذا أن الصيدليَّة موجودة في ذاكرته ، وأنت في بيتك تحتاج إلى شمعة ، تعلم أن لها مكاناً ، بالمكان الفلاني ، في المطبخ ، بالخزانة الفلانيَّة ، بالطبقة الثالثة على اليمين ، فحياة الإنسان من دون ذاكرة لا تُحتمل ، حياة الإنسان بلا إدراك ، بلا محاكمة ، بلا تفكُّر ، بلا تأثُّر ، بلا منعكسات هي حياة فارغة .
 
تسخير الكون للإنسان تسخير تكريم وتسخير تعريف :     
 
المنعكسات من فضل الله عزَّ وجل ، فإذا أصاب يدَ الإنسان شيءٌ حار يبعدها قبل أن يفكِّر ، قبل لمح البصر ، هذا من بركة الله عزَّ وجل ، إذاً عندما قال ربنا عزَّ وجل :
 
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
هذه تشمل الأكوان ، تشمل الأرض ، تشمل الإنسان ، تشمل بنيته الجسميَّة ، بنيته العقليَّة ، بنيته النفسيَّة ، بنيته الروحيَّة .
شيءٌ آخر : الله عزَّ وجل حينما جعلك إنساناً مكرَّماً ، ما معنى مكرَّماً ؟ أي أنه سخَّر لك الكون ، الكون كلُّه مسخَّرٌ لك ، حقيقة رهيبة جداً ، مَنْ أنا ؟ أنت المخلوق الأول ، أنت الذي سخَّر الله له الكون ، ما هو ردُّ فعلك ؟ سخَّر الله لك الكون تسخير تكريم ، وسخَّر الله لك الكون تسخير تعريف ، ما هو ردُّ الفعل عندك ؟ هل عرفته ، وهل شكرته ؟ يجب أن تعرفه كرَدّ فعل على تسخير الكون تسخير تعريف ، ويجب أن تشكُره كردِّ فعلٍ على تسخير الكون تسخير التكريم ، لهذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ (147) ﴾
 ( سورة النساء )
إذاً :
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
 
الكون كلُّه مسخر مِن أجل الإنسان  :
 
الذي سخَّر لك الكون ، وهذا الكون من عطائه ، الكون بمجرَّاته ، بمذنَّباته ، بكازاراته ، بكواكبه ، بنجومه ، بمجموعاته ، بشُهِبِهِ ، بفضائه اللانهائي ، يقول لك : هذه المجرَّة تبعد عنَّا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، رقم فكِّر فيه ، اضرب ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية هذا ما يقطعه الضوء ، اضرب الناتج بستين في الدقيقة ، ضرب ستين فالنتيجة تكون بساعة واحدة ، ثم ضربُ أربعة وعشرين فالنتيجة باليوم ، ثم ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين فالحاصل يكون بالسنة الواحدة ، أي ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربعة وعشرين ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين هذا ما يقطعه الضوء في السنة ، ضرب ستة عشر ألف مليون ، المجرَّة تبعد عنَّا ستة عشر ألف مليون ، أرقام فلكيَّة :
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
الكون كلُّه مِن أجلك ، وجعل لك الأرض مهاداً ، وفراشاً ، ولباساً ، ومعاشاً ، جعل فيها معايش ، جعل لك أنواع المعادن ، أشباه المعادن ، النباتات بأنواعها ، نباتَ كل شيء ، تحتاج إلى نباتٍ تستفيد من خشبه للأثاث ، نباتٍ تستفيد من خشبه للنوافذ ، نباتٍ تستفيد من خشبه للصناعة ، نباتٍ تستفيد من خشبه للمتعة الجماليَّة ، نباتٍ تستفيد من خشبه للسقف ،  نباتٍ تستفيد من رائحته العطريَّة ، أكثر أنواع العطور تُسْتَخْرَج من النباتات ، نبات تستخدمه دواء ، نبات تستخدمه لتنظيف الأسنان ، نباتٍ تستخدمه للتخليل بين الأسنان ، نباتٍ تستخدمه لتنظيف الجسم ، نباتٍ تستخدمه كوِعاء ، نباتٍ تستخدمه كحدود بينك وبين جارك ، نباتٍ تستخدمه لتأكل منه ، لتأكل جذره ، أو جذعه ، أو أوراقه ، أو ثماره .
 
أي وقتٍ يمضي من دون أن تعرف الله وتشكره وبال عليك :     
 
قوتٌ أساسي ينضج في يومٍ واحد ، الحبوب طعام تتفكَّه به ينضج على فترة معقولة في الصيف ، يستمرَّ بعضُ الفواكه إنتاجها شهرين أو ثلاثة ، وأنواع منوَّعة ، ظاهرة النبات وحده تكفي ليذوب الإنسان محبَّةً لله عزَّ وجل ، النبات وحدها ، ومع النبات الحيوان .
كم حيوان خلقَ ربنا عزَّ وجل ؟‍ هناك أسماك للزينة توضع في أحواض الأسماك، هذه خُلقت من أجلك ، من أجل أن تُنْعِم النظر إليها ؛ سوداء ، وصفراء ، وخضراء ، شفَّافة وغير شفَّافة ، كبيرة وصغيرة تراها في حوض السمك بشكلٍ يأخذ بالألباب ، هذه أسماك زينة مِن أجل أن تَنْعَم بها .
وهناك عصافير للزينة ، وأسماك لتأكل من لحمها الطري ، وفي الكون دواجن ، وفيه أنعامٌ ، وأبقارٌ ، وأغنامٌ ، وشياهٌ ، وجِمال ، وهناك وحوش لها فائدة مُرَكَّبة ، وديدان ، وبكتريات ، وفيروسات ، وما أكثر أنواع الحيوانات بدءاً من المتحول الزُحاري وحتى الديناصور ، أنواع لا يعلمها إلا الله عزَّ وجل خُلِقَت كلها من أجلك :
 
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
آية الحيوانات ، آية الأطيار ، آية الأسماك ، آية النباتات ، آية التضاريس ، المناخ ، الأمطار ، الثلوج ، الرياح ، البحار ، السهول ، الأغوار ، البحيرات ، هذا كلُّه مِن خَلقِ الله عزَّ وجل .
فربنا عزَّ وجل سخَّر الكون تسخير تعريف فهل عرفته ؟ وسخَّر الكون تسخير تكريم فهل شكرته ؟ لابدَّ من أن تعرفه ولابدَّ أن تشكره ، فأي وقتٍ يمضي من دون أن تعرفه ومن دون أن تشكره وبال عليك وخسارة . وهل علمت أن الشكر عمل ، اقرأ قوله تعالى :
 
﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13) ﴾
( سورة سبأ )
 
بالعلم تعرف الله وبالعمل الصالح تشكره :     
 
الشكر ليس قولاً فحسب ، لذا من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( لا بورك لي بطلوع شمس يوم لم أزدد فيه علماً يقربني إلى الله ))
[ ورد في الأثر]
بالعلم تعرفه ، بالعمل الصالح تشكره ، الكون مسخَّر لك تسخير تعريف وتكريم ، يجب أن تعرفه ، أَعْمِل هذا الفكر في هذا الكون ، ويجب أن تشكره بالعمل .
شيءٌ آخر : ربنا عزَّ وجل سَخَّر لك العَقل ، هكذا سمعت أن كبار العباقرة الذين تركوا انعطافات خطيرة في الحياة الاجتماعية والفكرية والعلمية ، هؤلاء الأفذاذ العباقرة ما استخدموا من أفكارهم ومن عقولهم إلا الجُزء اليسير ، فما هذه الطاقة الفكريَّة التي أودعها الله في الإنسان ؟ مسكين هذا الإنسان حينما لا يستخدم فكره في معرفة الله ، مسكينٌ هذا الإنسان حينما يستخدم فكره الثمين في القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ، مسكين هذا الإنسان حينما يمسخ فكره فيستخدمه للإيقاع بين الناس ، مسكين هذا الإنسان حينما يحتقر فكره فيجعله شيئاً تافهاً لا يُعملُه في الكون ، وربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾
 
( سورة آل عمران )
 
العقل والكون متكاملان فلا قيمة لأحدهما دون الآخر :
 
سخَّر لك الكون تسخير تعريف وتسخير تكريم ، وسخَّر لك العقل وكرَّمك به ، الجماد شيءٌ يشغل حيِّزاً ماديَّاً ؛ صخرة ، كرسي ، جدار ، حجر ، أما النبات شيءٌ يشغل حيِّزاً مادياً وينمو ، أما الحيوان شيءٌ يشغل حيزاً مادياً وينمو ويتحرَّك ، أما الإنسان فأنت مشتركٌ مع الجماد في أنَّك تشغل حيزاً مادياً ، الإنسان له وزن ، يحتاج لكرسي ، فالكرسي له حجم ، وتشترك مع النوع الثاني في أن الإنسان ينمو مع النبات ، والإنسان يشغل حيِّزاً مادياً فهو ينمو ويتحرَّك ويفكِّر ، فإن لم تفكِّر فلست بإنسان ، أما إذا فكَّر الإنسان تفكيراً سقيماً ، فقد انتهى إلى حالٍ سقيم :
 
﴿ قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) ﴾
( سورة عبس )
وقال :
 
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
(سورة المدثر)
إنَّ الله عزَّ وجل خلق الكون وسخَّره لك تسخير تعريف وتكريم ، وخلق العقل ، والعقل والكون متكاملان ، ما قيمة الكون بلا عقل ؟ وما قيمة العقل بلا كون ، العقل بلا كون لا معنى له ، والكون بلا عقل غير مُدْرَك ، أنت بالعقل تتعرَّف إلى الله عزَّ وجل ، لا يكفي العقل ، فالعقل ميزان ، لكن الله سبحانه وتعالى أنزل لك شرعاً كي تعبده به ، بعقلك تُفَكِّر في الكون فتعرفه ، وبالشرع تطبِّقه فتعبده ، هو خلقك من أجل أن تعرفه ، وأن تعبده ، إذاً تحتاج إلى كون وعقل لتتعرَّف بهما إليه ، وخلق لك شرعاً تطبِّقه فتعبده ، إذا عرفته وعبدَّته فقد حقَّقت الهدف من وجودك ، إذاً ربنا عزَّ وجل تفضَّل علينا بالشرع .
 
ربنا عزَّ وجل تفضَّل علينا بالشرع :    
 
فبالشرع جعل لك الحلال والحرام ، والمباح والواجب ، والفرض والمكروه ، أحكام الزواج ، أحكام الطلاق ، أحكام العدَّة ، أحكام المواريث ، أحكام البيع ، أحكام الشراء ، أحكام الإيجار ، أحكام الحوالة ، أحكام الكفالة ، أحوال السلم ، أحوال الحرب ، فهو شرع حنيف كامل :
﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا(3) ﴾
 ( سورة المائدة )
منهج دقيق ، يتدَخَّلُ في أدق التفصيلات ، رأيتم في سورة النور التي فُسِّرت من قبل كيف أن فيها نظاماً دقيقاً لكل حركةٍ وسكنةٍ في البيت ، كيف تنظر ، كيف تنطق ، كيف تسمع ، كيف تزور صديقك ، كيف تأكل ، كيف تشرب ، كيف تنام ، كيف تتصل ، كيف تنفصل ، هذا كُلُّه في شرع الله عزَّ وجل ، خلق الكون ، وخلق العقل ، وخلق الشرع .
هذا الذي ينبذ الشرع وراء ظهره ، ولا يعبأ به ، ويسير على هوى نفسه إنه ضالٌّ مُضل ، إنه جاهل ، إنه مخطئ ، إنه يسير في طريقٍ الهاوية ، فالشرع كأنه سكَّة وأنت القطار ، فما دمت على هذه السكَّة فأنت في سلام ، أما إذا خرجت عن السكَّة فلابدَّ من التدهور ، التدهور حتمي لأن الشرع نظامٌ دقيق رسمه الله عزَّ وجل لهذا الإنسان ، وكلَّما تقدَّم العلم اقترب من الدين .
 
وظيفة المرأة الأساسية تربية أطفالها لتقدم للمجتمع عناصر منتجة وفعالة :       
 
هناك صيحاتٌ في دولٍ متقدِّمةٌ جداً في مقياس العصر إلى أن تعود المرأة إلى المنزل ، إلى أن تختصَّ بتربية أطفالها ، المرأة مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيِّبَ الأعراق ، هذه الوظيفة المُقَدَّسة هي أٌقدس وظيفةٍ تفعلها المرأة ، أنها تقدِّم للمجتمع عناصر طَيِّبة ، عناصر قد رُبِيت تربيةً عالية ، عناصر منتجة ، عناصر منضبطة ، هذا كلُّه بفضل الأم .
امرأةٌ شكت أمرها إلى النبي عليه الصلاة والسلام قالت له : " يا رسول الله إن فلاناً تزوجني وأنا شابَّة ذات أهلٍ ومال وجمال ، فلمَّا كبرت سني ، ونثرت له بطني ، وتفرَّق أهلي ، وذهب مالي قال لي : أنتِ عليَّ كظهر أمي ، ولي منه أولاد إن تركتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا " . لاحظ توزيع الأدوار بين الزوجين قال تعالى :
 
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1)وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(3) ﴾
( سورة الليل )
كيف أن هناك بوناً شاسعاً بين الليل والنهار من حيث أن هذا الليل مظلم والنهار مضيء ، الليل بارد والنهار حار ، النهار معاش والليل سكنٌ وثبات :
 
﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(3) ﴾
( سورة الليل )
 
شهوة المال أودعها الله في الإنسان ليرقى بها إلى الله عزَّ وجل :
 
الذكر له وظيفة ، والأنثى لها وظيفة ، شيءٌ آخر : ربنا عزَّ وجل سخَّر الكون ، ووهبك العقل ، وأنزل على النبي الشرع لتعبده ، لو كان هناك عقل ، وهناك شرع ، وهناك كون ولكن لا توجد فيك شهوة ، فأنت لا تحبُّ النساء ، لا تحبُّ المال ، لا تحب شيئاً ، كتلة لحم ودم مُلقاة على الطريق ، لا تشتغل ، لا تعمل ، لا تنتج ، إذاً ماذا تفعل ؟ لولا أن الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات ، أودعها فينا لنرقى إليه ، جعلك تحب المال كي تحَصِّلَهُ وكي تنفقه ، إذا حصَّلته ابتليت بالتحصيل ، هل تأخذه من طريقٍ مشروع أم من طريق غير مشروع ؟ هل تحتال كي تأخذه بالكذب أم تأخذه بالصدق ؟ هل تأخذه بعملٍ شريف أم تأخذه بعملٍ وَضيع ؟ هل تأخذه بالحلال أم تأخذه بالحرام ؟ قال تعالى :
 
﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا(20) ﴾
( سورة الفجر )
الله سبحانه وتعالى هو الذي أودع فينا حُبَّ المال ، وما من أحد إلا ويحبُّ المال ، إلاَّ أن بعض الأشخاص يظهرون هذه المحبَّة وبعضهم يخفونها ، لكن ربنا عزَّ وجل أودع فينا حبَّ المال كي نرقى إليه ، لولا هذه الشهوة لا ترقى إليه ، فلن ترقى بإنفاق المال لو لم تكن تحبُّ المال ، لو لم تكن تحب المال فلن ترقى إلى الله بإنفاق المال ، لو لم تكن تحب المال لا ترقى إلى الله بكسبه من طريقٍ مشروعٍ مُتْعِب ، ولحكمةٍ بالغة جعل الله كسب المال بشكلٍ يرضى عنه متعباً ، وجعل كسب المال بطريقةٍ يَغْضَبُ منها مريحة ، إذاً فأنت ممتحن بكسب المال ، ممتحن بإنفاق المال ، إذاً هذه الشهوة أودعها الله في الإنسان ليرقى بها إلى الله عزَّ وجل .
 
حريَّة الاختيار منحها الله للإنسان ليجعل من عمله قيمة :       
 
ما قيمة الشهوة ، وما قيمة العقل ، وما قيمة الشرع ، وما قيمة الكون إذا لم تكن مختاراً ؟
ألقاه في اليمِّ مكتوفاً وقال له          إياك إياكَ أن تـبـتـلَّ بالـمـاءِ
*  *  *
منحك حريَّة الاختيار :
 
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ(148) ﴾
 ( سورة البقرة )
وقال :
 
﴿  فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ (29) ﴾ .
( سورة الكهف)
 وقال :
 
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) ﴾
( سورة الإنسان)
هذا الاختيار يجعل لعملك قيمةً ، لو أجبر الله عباده على الطاعة لأسقط الثواب ، لو أجبرهم على المعصية لأسقط العقاب ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ، ولم يكلِّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً .
 
حرية الاختيار ضرورية ليُثمّن عمل كل إنسان يوم القيامة :       
 
إذاً اجعل في ذهنك أن الكون مسخَّرٌ لك ، وأن العقل من متمِّمات هذا التسخير ، وأن الشرع من أجل أن تعرفه ، تعرف الله بعقلك كما تعرف الكون وتعبده بالشرع ، وأن الشرع ميزان العقل ، وأعطاك هذه الشهوات لترقى بها إلى ربِّ الأرض والسماوات ، وأعطاك حريَّة الاختيار كي يُثَمَّن عملك ، كي يأخذ هذا العمل قيمةً عالية ، لولا هذا الاختيار لما كان هناك أجرٌ ولا ثواب ، إذاً هذا معنى قول الله عزَّ وجل :
 
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
تبارك في خلق السماوات والأرض ، تبارك في خلق الأرض على ما هي عليه ، وتبارك بخلق الإنسان ، خَلَقَ الإنسان على أبدع نظام من حيث الجسم ، والنفس ، والروح ، والعقل .
هذه بعض المعاني التي يمكن أن نتحدَّث عنها حينما نقول :
 
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
أو :
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ (1)
( سورة الفرقان )
 
الله عزَّ وجل خلق الإنسان بطريقةٍ يتعلَّمُ بها :
 
شيءٌ آخر يتعلَّق ببركة الله عزَّ وجل أن الإنسان خُلق بطريقةٍ يتعلَّمُ بها ، لو خُلق الناس جميعاً على الأرض دفعةً واحدة ، ولِدوا جميعاً وماتوا جميعاً ، فكيف يتعلَّمون ؟ من يعلِّم الآخر ؟ كيف يتعظون بالموت ؟ خُلِق الناس دفعاتٍ تترى ، أجيالاً ، حِقَباً ، أعماراً ، أجناساً ، أشكالاً ، موزَّعين ، الأب يعلِّم الابن ، والأخ الأكبر يعلِّم الأخ الأصغر ، والجيل السابق يعلِّم الجيل اللاحق ، إذاً طبيعة خلق الإنسان بشكل تدريجي متفاوت ، وهذه تعلِّمُهُ الشيء الكثير ، توزيع الحظوظ في الأرض بين البشر هذه تعلِّم الشيء الكثير ، تربية الله سبحانه وتعالى للناس تربيةً نفسيةً ، مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء ، هذه تعلِّم الشيء الكثير.
إذاً طريقة حياتنا ، طريقة مجيئنا ، طريقة ذهابنا ، طريقة توالدنا ، طريقة تناسلنا ، طريقة الزواج ، أطوار التَقَدُّم في السن ، هذه الأطوار التي يمرُّ بها الإنسان ، لو أنه ينتهي أجله فجأةً من دون تمهيدات ؛ يشيب شعره ، وينحني ظهره ، ويضعف بصره ، وتضعف قِواه ، يقول الله عزَّ وجل لعبده المسلم المتقدِّم في السن :
((عبدي كبرت سنُّك ، وضعف بصرك ، وانحنى ظهرك فاستحْيِ مني فأنا أستحيي منك)) .
[ ورد في الأثر ]
تنبيهات لطيفة جداً ، ضعف البصر ، مع شيب الشعر ، مع ضعف القوَّة ، الإنسان يشعر بأعراض جديدة كلَّما تقدَّمت به السن ، هذا تنبيه لطيف جداً من قِبَل الله عزَّ وجل أن يا عبدي قد آن أوان المجيء إليّ ، اقتربَ اللقاء ، ماذا أعددت لهذا اللقاء ؟ ماذا هيَّأت له ؟ هذا أيضاً من بركة الله عزَّ وجل ، فنحن مخلوقين بطريقة نستفيد منها .
 
ربنا عزَّ وجل خلق الإنسان ضعيفاً كي يفتقر بضعفه فيسعد بافتقاره :       
 
ربنا عزَّ وجل خلق الإنسان ضعيفاً ، لو خَلَقه قوياً لاستغنى بقوَّته ، فشقي باستغنائه ، لكن خَلقَه ضعيفاً كي يفتقر بضعفه ، فيسعد بافتقاره ، خلقه هلوعاً :
ِ
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
( سورة المعارج )
ثمَّ المصائب ، وهذا من بركة الله عزَّ وجل ، آلاف مؤلَّفة بل معظم البشر يعودون إلى الله عزَّ وجل بالتوبة ، والإنابة ، والاستسلام ، والطاعة من خلال بعض المصائب ، فهذه المصائب لو نعلم ما لها من فضلٍ علينا ، شيء يصعب على الإنسان تصوَّره ، فهذا المرض سببُ الهداية ، هذا الضيقُ سببُ الهداية ، هذا الفقر ، فكلمة تبارك تعني الخير الكثير الثابت الدائم المستقر ، أي أنك إذا عرفت الله عزَّ وجل أصابك الخير الثابت ، خطُّك البياني في صعودٍ مستمر ولا يقف هذا الخط عن الصعود أبداً ، وما الموت إلا نقطةٌ على هذا الخط ويبقى الخطُّ صاعداً إلى ما بعد الموت ، هذا مِن فعل تبارك وأثر من آثاره :
 
﴿ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(54) ﴾  
( سورة الأعراف )
وقال :
 
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ (1)
( سورة الفرقان )
 
كلمة تبارك هي كثرة الخير واستمراره وثباته :       
 
كلمة تبارك تعني كثرة الخير واستمراره وثباته ، والكون كلُّه أثر من بركة الله عزَّ وجل ، الكون والمجرَّات ، الأرض حجمها ، وبنيتها ، ومحورها ، وفصولها ، ورياحها ، وسحابها ، وأمطارها ، وحيواناتها ، وخلق الإنسان ، وبنيته الجسمية والنفسية ، والعقلية والاجتماعيَّة ، وطريقة التعامل مع البشر ، وتأديب الله للبشر ، هذا كلُّه يدخل ضمن قوله تعالى :
 
﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
( سورة الفرقان )
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتحدَّث عن الفُرقان ، وما الذي تعنيه هذه الكلمة في القرآن الكريم .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب