سورة المؤمنون 023 - الدرس (4): تفسير الآيات (023 – 033)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة المؤمنون 023 - الدرس (4): تفسير الآيات (023 – 033)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة المؤمنون

New Page 1

تفسـير القرآن الكريم ـ سـورة المؤمنون- (الآيات: 023 - 033)

28/06/2011 14:42:00

 

تفسير سورة المؤمنون (023)
الدرس (4)
تفسير الآيات (23 – 33)
لفضيلة الدكتور

محمد راتب النابلسي

 
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الرابع من سورة المؤمنون ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
إرسال الرسل من رحمة الله بعباده :
ربنا سبحانه وتعالى رحمةً بعباده ، وإكراماً لهم أرسل إليهم الأنبياء والرسل ، كما لو أنَّ أباً أعطى ابنه حرية الاختيار ، ومع ذلك نصحه ، وبيَّن له ، ووجَّهه ، فالله سبحانه وتعالى إذا أعطانا حرية الاختيار ، لقول الله عزَّ وجل :
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
( سورة الكهف : آية " 29 " )
وقال :
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾
( سورة الإنسان )
وقال :
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
( سورة البقرة : آية " 148 " )
مع أن الله سبحانه وتعالى أودع فينا حرية الاختيار ، لكنه منَّ علينا بأن بعث فينا نبياً رسولاً يعلمنا الكتاب ، والحكمة ، ويزكينا ، ويعلمُنا ما لم نكن نعلم ، فالأنبياء وما جاؤوا به من كتبٍ سماوية إنما هم رحمةٌ مهداة للبشرية، لذلك :
 
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 23 " )
فربنا عزَّ وجل عرض علينا الأمانة ، وحملها الإنسان ، بينما السماوات والأرض أشفقن من حملها ، فلما حملها الإنسانُ سخر له ما في السماوات والأرض تسخير تعريفٍ ، وتسخير إكرام ، فالسماوات والأرض من جهةٍ تتعرَّف بها إلى الله سبحانه وتعالى لأنها تجَسِّد أسماءه الحُسنى ، وصفاته الفُضلى ، ومن جهةٍ هي إكرامٌ كبيرٌ لهذا الإنسان ، فالإنسان حينما حمل الأمانة سخر الله له ما في السماوات والأرض تسخير تعريفٍ ، وتسخير تكريم ، لذلك رد الفعل يجب أن يكون هو الإيمان والشكر ، تسخير التعريف يجب أن تؤمن به ، وتسخير التكريم يجب أن تشكره ، فلذلك يقول سبحانه وتعالى :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
( سورة النساء : آية " 147 " )
لماذا إن شكرتم وآمنتم ؟ لأن الله سبحانه وتعالى سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض تسخير تعريفٍ من أجل أن نؤمن ، وتسخير تكريمٍ من أجل أن نشكُر ، وبعد أن سخَّر لنا ما في السماوات والأرض منحنا العقل ، العقل قوةٌ إدراكيةٌ كبيرة ز
﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾
( سورة الرحمن )
ما قيمة السماوات والأرض دون هذا العقل ؟ لا نعرف الله إلا من خلاله ، وما قيمة هذا العقل دون السماوات والأرض ؟ إذاً وتفضَّل علينا أيضاً بأن منحنا تلك الجوهرة الثمينة التي هي العقل ، ولولاها لما ارتقينا إلى الله ، سخَّر لنا السماوات والأرض ، ومنحنا قوةً إدراكيةً هي نعمة العقل ، وأودع فينا الشهوات من أجل أن نرقى بها إلى ربِّ الأرض والسماوات .
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ ﴾
( سورة آل عمران : آية " 14 " )
هذه الشهوات نرقى بها إلى الله على حدَّيها ، على حدِّ الشكر وعلى حدِّ الصبر ، فمن غضَّ بصره عن محارم الله ، وقد أودع الله فيه حب النساء ارتقى صابراً ، ومن سلك الطريق التي رسمها الله عزَّ وجل الشرعية ارتقى إلى الله شاكراً ، من كَسِبَ المال الحلال فتنعَّم به في الدنيا ارتقى ، هذا الإنسان بسبب حبه للمال ارتقى إلى الله شاكراً ، ومن ترك المال الحرام ، وهو في أمسِّ الحاجة إليه ارتقى إلى الله صابراً ، إذاً منحنا الكون ، ومنحنا العقل ، ومنحنا الشهوات ، كلُّ هذا من أجل أن نرقى به ، وتفضَّل علينا بأن أرسل إلينا الأنبياء والمرسلين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، إذاً الكون ، والعقل ، والشهوة ، وحرية الاختيار ، لولا أن الإنسان مخيَّر لما ارتقى إلى الله عزَّ وجل ، لو أنَّه مُكْرَه لا يرتقي إلى الله ، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، إنما خيرهم ، إذاً مقومات التكليف ، المقومات تسخير الكون ، ومنحة العقل ، وإيداع الشهوة ، والتخيير ، والرُسل والأنبياء ، والشرع ، هذه الكتب التي أنزلها على أنبيائه ورسله، لذلك ربنا عزَّ وجل في هذه الآية يَذْكُر لنا بعضاً من مِنَنه على عباده :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾
والله هو المرسِل ، ومن لوازم الحكيم أن أفعاله كلَّها حكيمة ، وهذا الذي أرسله صفوة الخلق ، لأن الله عزَّ وجل قال :
﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحاً وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾
( سورة آل عمران )
وصفوة الصفوة سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء الأنبياء مُصْطَفَوْن ، أخيار ، عبادٌ مكرمون ، مُثل عُليا ، نماذج بشرية كاملة ، فكأن هؤلاء الأنبياء قد حققوا الهدف الذي من أجله خُلِق الإنسان ، خُلِقَ الإنسان ليعرف الواحد الديَّان ، خُلق الإنسان ليتَّصف بالأخلاق الحِسَان ، فإذا اكتفى بالطعام والشراب فهو ما ارتقى عن مستوى الحيوان ، إذا كانت حياة الإنسان طعاماً وشراباً ، وعملاً ورفاهيةً ، ومُتعاً رخيصةً فإن هذه الحياة على غناها ، وعلى تنوعها ، وعلى ما تحتاج إليه من أموالٍ طائلة فإنها لا ترتقي فوق مستوى الحيوان أبداً ، لن يكون الإنسان إنساناً إلا إذا كان قد عرف الله عزَّ وجل ، واصطبغ بالكمالات الإلهية حتى ينعَم بقرب الله عزَّ وجل :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ﴾
نوح عليه السلام أولُ رسلِ اللهِ :
سيدنا نوح أوَّل الرسل الذين هم من أولي العزم ، الأنبياء كثيرون ، والرسل أقل منهم ، وأولي العزم بعض الرسل ، وهذا أول رسولٍ من رسل الله عزَّ وجل الذين وصفوا بأنهم من أولي العزم ..
﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 23 " )
والرسول معه رسالة ، وهذه الرسالة موجَّهة إلى أمته ، وإلى قومه ، وإلى كل من عاصره ..
﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾
دعوة الأنبياء : التوحيد في عبادة الله :
علماء التوحيد قالوا : لا تسمَّى عبادة الله عبادةً إلا إذا كانت عبادةً قاصرةً على الله عزَّ وجل ، فمن عبد الله ، وعبد غيره لا يسمى عابداً لله ، يسمى مشركًا ، فمن لوازم العبادة ألاَّ تعبد إلا الله ، والدليل في سورة الفاتحة قوله تعالى :
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
( سورة الفاتحة )
لم يقل الله عزَّ وجل : نعبد إياك ، بل قال :
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾
ومعنى : ] [ .إِيَّاكَ نَعْبُدُ
حينما يتقدم المفعول به على الفعل فهذا من أجل القصر ، والقصر يعني أن تَقْصُرَ شيئاً على شيء :
 
﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾
والعبادة في أدقِّ مفاهيمها التوجُّه إلى الله بعد طاعته ، تطيعه وتتوجَّه إليه ، ولن تطيعه إلا إذا عرفته ، ولن تعرفه إلا إذا فكَّرت في ملكوت السماوات والأرض ، إذا فكَّرت في آياته الدالة على عظمته تعرفه ، فإذا عرفته تطيعه ، فإذا أطعته توجَّهت إليه ، فإذا توجَّهت إليه سعدت بقربه في الدنيا والآخرة :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
( سورة الذاريات )
عِلَّة الخلق أن تعبد الحق :
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾
( سورة الحجر )
فلذلك يقول ربنا سبحانه وتعالى :
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 32 " )
لا إله إلا الله لا مسيَّرَ بحقٍ إلا الله ، لا معبودَ بحقٍ إلا الله ، هذا الذي خلق السماوات والأرض، هذا الذي يُربِّي مخلوقاته بأن يمدهم بكل ما يحتاجونه ، رب العالمين ، هذا الذي يسيِّر كل شيء هو الإله ، فلا بدَّ أن تؤمن بالإله خالقاً ، ولا بدَّ أن تؤمن به مربياً ، ولا بدَّ أن تؤمن به مسيراً ، إذا آمنت به خالقاً ، وآمنت به مربياً ، وآمنت به مسيراً ، فلا بدَّ أن تعبده ، أمرك كله معه .
أنت كموظف في دائرة إذا أيقنت أن الحل والربط ، والمنع ، والسماح ، والموافقة ، والرفض ، وكلها مجمَّعة بيد إنسانٍ واحد ، عندئذٍ لا تتجه إلى غيره ، لا تُرضي غيره ، لا تكسب ود غيره ، تجعل علاقتك كلها مع هذا الإنسان ، وهذا في المنطق الاجتماعي اليومي ، فإذا أيقنت أنه لا إله إلا الله ، إذا أيقنت أنه إليه يرجع الأمر كله ، إذا أيقنت أن الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيءٍ وكيل ، إذا أيقنت أنه بيده ملكوت السماوات والأرض ، إذا أيقنت أنه :
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
( سورة فاطر )
إذا أيقنت أنه لا حركة ، ولا سكنة ، ولا رفع ، ولا خفض ، ولا عزَّ ، ولا ذُلَّ إلا بيد الله عزَّ وجل ، جمعت كل طاقاتك ، وتوجهت بها إلى الله وحده ، علاقتك مع الله عزَّ وجل ، أمر جسدك ، وأمر أسرتك ، وأمر عملك ، وأمر تجارتك ، وأمر دراستك ، وأمر معملك ، وأمر جيرانك كلها بيد الله عزَّ وجل ، فَعَلامَ التشتُّت ؟ علامَ التبعثر ؟ ربنا سبحانه وتعالى يقول :
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ﴾
( سورة الشعراء )
تعذِّب نفسك عندما ترى أن أمرك بغير يد الله ، وأن هذا الإنسان لا يحبك ، يكيد لك ، يتمنَّى زوالك ، وأمرك بيده ، فإن هذا شيءٌ لا يحتمل ، فسيدنا عليٌّ كرم الله وجهه يقول : << والله واللهِ ، مرتين ، لحفر بئرين بإبرتين ، وكنس أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين ، ونقل بحرين زاخرين إلى أرض الصعيد بمنخلين ، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين ، أهون عليَّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين >> .
هذا الإمام الكريم سُئل : ما هو الذل ؟ فقال : << أن يقف الكريم بباب اللئيم ثم يردُّه >> .
لما يتوهَّم الإنسان أن أمره ، ورزقه ، ورفعته بيد فلان ، وأن زيداً من الناس بإمكانه أن يوقع به الأذى ، وأن عمراً بإمكانه أن ينفعه ، هذا هو الشرك ، يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ : يَعْبُدُونَ شَمْسًا ، وَلا قَمَرًا ، وَلا وَثَنًا ، وَلَكِنْ أَعْمَالا لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً )) .
( سنن ابن ماجة عن شداد بن أوس )
أن اعبدوا الله ، يجب أن تعرفوه أولاً ، فإذا عرفتموه أطعتموه ، وإذا أطعتموه توجَّهتم إليه ، وإذا توجهتم إليه سعدتم بقربه في الدنيا والآخرة ..
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
( سورة الذاريات )
علَّة الخلق أن تعبده ، فإذا عبدته فقد فعلت كل شيء ، وإن لم تَعْبُده لم تفعل شيئاً ، وخسرت الدنيا والآخرة ، وخسرت نفسك ، لذلك ربنا عزَّ وجل في آيات أخرى يُلَخِّص دعوى الأنبياء جميعاً ، في آيات أخرى يلخِّص الله سبحانه وتعالى رسالات الأنبياء جميعاً إذ يقول :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾
( سورة الأنبياء )
في سوَرٍ أخرى يجعل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ترِد على لسان جميع الأنبياء والمرسلين :
 
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 32 " )
أن تعرف أنه لا إله إلا الله هذه هي العقيدة ، وأن تعبده هذا هو العمل ، ولا بدَّ من عقيدةٍ وعمل ، لا بدَّ أن تعرفه ، ولا بدَّ أن تطيعه .
 
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
إذا عرفت اللهَ فكيف تعصيه وتطيع غيرَه ؟!!
إذا كان الله هو الذي لا إله إلا هو ولا إله سواه ، فكيف تطيع غيره ، وتعصيه ؟ كيف تتقي غضبه ؟ كيف تتقي عذابه ؟ كيف تتقي ناره ؟ قال أحد العلماء : قرأت أربعمئة ألف حديث " ، بعض كتب الحديث فيها ستمئة ألف " ، لكن بعض العلماء كالإمام الإشبيلي رحمه الله تعالى قال : "قرأت أربعمئة ألف حديث ، وقرأت حديثاً واحداً فوجدت أنه يغني عن كل هذه الأحاديث " ، حديث واحد ، هذا الحديث :
(( اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها ، واعمل للآخرة بقدر مُقامك فيها )) .
( ورد في الأثر )
إذا الحياة ستون أو سبعون سنة ، والآخرة للأبد ، فيجب أن تعمل للآخرة أضعاف أضعافَ ما تعمل للدنيا ..
(( .. واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واتقي النار بقدر صبرك عليها )) .
( ورد في الأثر )
حاجة العبد إلى الله في كل حياته :
أنت محتاج لله عزَّ وجل في ضربات قلبك ، في الدَسَّام ، في الشرايين ، في الأوردة ، في العضلات ، بأن تكون شرايين الدماغ كلها سالكة ، لأنّ نقطة دمٍ إذا تجمدت في شريان أصيب المكان بالشلل ، في مكان آخر أصيب بالعمى ، مكان غيره أصيب بالجنون أو بالصمم ، فنحن بحاجةٍ إلى الله عزَّ وجل في كل ثانية ، يد من تدخل إلى الدماغ ؟ فتح الدماغ عملية معقدة جداً ، والقلب كذلك ، والرئتين مثلها ، المعدة ، الأمعاء أجهزة الإنسان معقدة جداً ، فربنا عزَّ وجل كل هذه الأجهزة بيده .
أضرب مثالاً : توقف فجائي في الكليتين ، هبوط مفاجئ في وظيفة الكليتين ، معنى ذلك أن الإنسان يتسمم دمه ، ولابدَّ من غسلهما كل أسبوع مرتين ، ومع الغسيل يبقى في الدم رواسب من السموم تجعل الحياة كالجحيم ، فالإنسان بحاجة إلى الله عزَّ وجل ، وهو معكم أينما كنتم :
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
أشخاصٌ كثيرون ناموا أصحِّاء ثم استيقظوا مرضى ، نام سليمًا معافى ، فاستيقظ فاقد البصر .
﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
كيف تعصونه ، وتتقون غضبه ؟ كيف تتقون عذابه ؟ كيف تتقون المصائب ؟
((ما من عثرةٍ ، ولا اختلاج عرقٍ ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدَّمت أيديكم ، وما يعفو الله أكثر)) .
( الجامع الصغير عن البراء بسند فيه ضعف )
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 24 " )
عادة الكفار ردّ دعوةِ الأنبياء لكونه بشَرًا :
دائماً الذين كفروا يصدُّون عن سبيل الله ، ويبغونها عوجاً ، يصدون الناس عن سماع الحق .
 
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
هذا إنسان عادي مثلكم ، ولكنه يحب الزعامة .
﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
لو أن الله سبحانه وتعالى أنزل مكان هذا النبي الكريم ملكاً ، وأمرهم بغض البصر ماذا يقولون له ؟ يقولون : أنت ملك ، نحن عندنا شهوة ، نحن بشر، أنت ملك ونحن بشر ، لا .. لا بدَّ أن يكون النبي من بني البشر ليكون هو بذاته حجة على قومه ، الله سبحانه وتعالى أودع في نفس النبي عليه الصلاة والسلام من الشهوات ما أودع في كل إنسان ، لماذا هذا ضبطها ، وارتقى بها إلى الله ؟ ولماذا فلان انساق معها فألقته في الهاوية ؟ هو الاختيار ، فلذلك لا يمكن أن يكون الرسول ملكاً ، ولو أنه ملك لاحتجَّ الناس بأن هذه الدعوة دعوة مثالية غير واقعية ، لأن الذي يدعو بها ملك ليس فيه هذه الشهوات التي أودعت في الإنسان .
﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ ﴾
هذا شيء افتراء ، هذا شيء مختلق ، هل يعدُّ العدم السابق دليلاً على العدم الطارئ ؟ هذه حجة واهية ، وهذه حجة فيها مفارقة ، وفيها أغلوطة .
﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾
( سورة المؤمنون )
اتهام الكفار للأنبياء بالجنون :
كان النبيُّ عليه الصلاة و السلام في الطريق يمشي مع أصحابه الكرام فمر مجنون أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يلقِّن أصحابه درساً بليغاً، فقال: من هذا ؟ .. متجاهلاً .. فقالوا : هو مجنون ؟ قال :
((لا ، هذا مصاب ، المجنون من عصى الله)) .
لذلك :
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾
( سورة القلم )
إذا أنت عرفت الله عزَّ وجل ، واستقمت على أمره ، ونفَّذت أوامره بحذافيرها ، ووجدت بعض الأشخاص الذين حولك من أقربائك ، من جيرانك ، من زملائك يسخروا منك ، اقرأ هذه الآية :
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون * إِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ*فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ*بِأَيِّيكُمْ الْمَفْتُونُ﴾
( سورة القلم : 2 – 6)
" ابن آدم أطع ربك تسمَّ عاقلاً " .. " كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ، وكفى به جهلاً أن يعصيه " .
أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحـبـنـا
ولُذ بحـمانا ، واحتم بجنابنا لـنحميك مما فيه أشـرار خلقـنا
وعن ذكرنا لا يشغلنَّك شاغلٌ وأخلص لنا تلقَ المسـرة والـهنا
* * *
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾
( سورة المؤمنون )
أي أنه مجنون بنظر المجانين ، أما بنظر العقلاء هو أعقل العقلاء ، يقول عليه الصلاة والسلام :
((من لا عقل له لا دين له ، ومن لا دين له لا عقل له)) .
وعندما أسلم سيدنا خالد رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام :
((عجبت لك يا خالد أرى لك فكراً)) .
أنت مفَكِّر ، أنت ذكي ، كيف لم يهدك ذكاؤك إلى الإيمان ، لماذا أنت متأخر في الإيمان ؟ هناك لوازم فمن علامات العقل الراجح الإيمان وطاعة الله عزَّ وجل ، ومن علامات الحمق الزيغ ، والضلال ، والمعصية ، قلت البارحة لإنسان : إذا رأيت إنساناً له عملٌ طيِّب فأغلب الظن أن اعتقاده بالله جيد ، وإذا رأيت إنساناً زائغ العقيدة فأغلب الظن أن له عملا سيِّئًا :
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾
( سورة الماعون )
هو نفسه :
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾
( سورة القصص : آية " 50 " )
التلازم بين صحة الاعتقاد وصحة السلوك :
هناك تلازم بين صحَّة العقيدة وبين صحة العمل ، عقيدةٌ سليمة عملٌ صالح ، عقيدةٌ زائغة عملٌ سيئ :
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾
أي به جنون ، وقال بعض المفسرين : دخل فيه جِنِّي ، إما أنه به جنون ، أي مصدر جَنَّة ، أو به جِنَّة أي جِنِّي مفرد جِنة ..
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾
فغداً سيموت ، وسوف ترتاحون منه ، يموت وتنحل المشكلة ، أي تربصوا موته ، انتظروا موته حتى حين ..
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾
( سورة المؤمنون )
استعانة الأنبياء بالله تعالى لنصرتهم :
هؤلاء كذبوني يا رب ، هؤلاء سخروا مني ، هؤلاء ردُّوا دعوتي، هؤلاء لم يستجيبوا لي ، لم يؤمنوا بي ، أعرضوا عن دعوتي ، انصرني عليهم ، بين لهم صدق دعوتي يا رب :
﴿قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾
أي أنت بأعين الله ، أنت مُراقب من قبل الله عزَّ وجل ..
﴿اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا﴾
أمْرُ الله تعالى نوحًا بصنع السفينة :
الوحي هنا الأمر ، الله سبحانه وتعالى أمر هذا النبي الكريم أن يصنع سفينةً ، أمره أن يصنعها والله سبحانه وتعالى رقيبٌ عليه ، أحياناً الإنسان يصدر أمراً ، ولكن لا يوجد عنده إمكانية أن يتابعه ، يصدر أمراً بمنع زراعة هذه المادة بالمنطقة الفلانية وزير الزراعة ، ولكن يحتاج هذا الوزير إلى جهاز يتابع هذا الأمر ، فإذا هذا الجهاز قصَّر في المتابعة قد يخالف هذا الأمر ، ولا يُطاع ، لكن الله سبحانه وتعالى مع كل مخلوق :
﴿ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾
( سورة الحج )
﴿ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾
( سورة طه )
فإذا أمر أمراً فهو يراقب هذا الإنسان ..
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
أمر الهلاك ، هلاك هؤلاء القوم ..
 
﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
من علامات بدء هلاك الكفار من قوم نوح : فوران التنور :
كانت علامة بدء الهلاك أنَّ التنور الذي هو موقد الخبز يفور بالماء ، ينبع من قعره الماء ، فيفور من التنور ..
 
﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
أي في السفينة ..
﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾
من مبادئ الحفاظ على النوع والنسل :
أي من كل حيوانٍ أليفٍ تحتاجه ، بعضهم فهم هذه الآية فهماً مغلوطاً فجمع الحيوان فقال : إن هذه السفينة يجب أن يكون طولها عشرة كيلو مترات ، وهذا شيء مستحيل ، فالقصة غير صحيحة ، فربنا عزَّ وجل لم يقل: من كُلِّ زوجين اثنين .
﴿مِنْ كُلٍّ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
مقطوعةٌ عن الإضافة ..
﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
أي من كل حيوان أنتم بحاجةٍ إليه اسلكْ فيها زوجين اثنين .
﴿وَأَهْلَكَ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
هناك آية أخرى تقول في سورة هود ، سيدنا نوح ركب في السفينة قال : أهله ومن كان معه من المؤمنين ، هنا أهله فقط ، هذه إشارةٌ إلى أن المؤمنين هم أهله ، حينما اكتفى ربنا عزَّ وجل في هذه الآية بكلمة وأهلك ، أي أهلك هم المؤمنون ، والمؤمنون هم أهلك ، وفي بعض الأحاديث الشريفة :
((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته )) .
( الجامع الصغير عن علي بسند صحيح )
﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
مغزى الآية : بيان سبيل النجاة وسبيل الهلاك :
معنى هذه الآية : أن الإنسان الذي أعرض عن الله إعراضاً كلياً ، ورفض الحق ، رفض هذه الدعوة ، رفض هذه الرسالة ، وأَكَبَّ على الدنيا فإن هذا اختار الهلاك ، عندئذِ سبق عليه القول ، كالطالب الذي لم يقدم امتحاناً .. رفض تقديم الامتحان .. ففي أثناء إعلان النتائج يُذكر أسماء الناجحين ، أما الذين سبق عليهم القول بأن لم يتقدموا إلى الامتحان إطلاقاً هؤلاء لم ينجحوا ، طبعاً لم ينجحوا ، لأنهم رفضوا تقديم الامتحان كلياً ، فهؤلاء الذين سينْجون هم أهل سيدنا نوح ؛ أقرباؤه ، والمؤمنون :
 
﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 27 " )
﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ﴾
( سورة الرعد : آية " 11 " )
الإهلاك بعد الإنذار وإقامة الحجة :
لأن ربنا رحيم ، وربنا حليم ، فحينما يأمر الله عزّ وجل بإهلاك قومٍ فمعنى ذلك أنه قد نبَّههم ، وذكَّرهم ما فيه الكفاية ، فلا خير من تذكيرهم :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
( سورة الأنعام )
المؤمن الله يتلطَّف فيه ، كل غلطة صغيرة وراءها عقاب صغير:
(( إذا أحب الله عبداً عجَّل له بالعقوبة )) .
( ورد في الأثر )
(( إذا أحب الله عبداً عاتبه في منامه )) .
( الجامع الصغير عن أنس بسند ضعيف )
(( إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه يأمره وينهاه )) .
( الجامع الصغير عن أم سلمة بسند ضعيف )
أما المؤمن فيحِسُّ أنه قد أذنب ، فيأتي العِتابُ سريعاً ، بل إن بعض المؤمنين دون أن تأتيهم العقوبة يشعرون أنهم مقصرون ، مؤمنٌ أذنب ، وهو ينتظر عقاب الله عزّ وجل ، وعقاب الله لم يأتِ ، وهو بانتظاره ، إلى أن صلى ، وناجى ربه وقال : " يا رب ، لقد أذنبت ، لقد عصيتك فلم تعاقبني ، فوقع في قلبه أن يا عبدي لقد عاقبتك ولم تدرِ ، ألم أحرمك لذَّة مناجاتي ؟"
فبعض المؤمنين يختلف عليه حاله مع الله عزّ وجل ، كان مُقْبِلاً فشعر بالجفوة ، شعر بالحجاب ، كأن حجاباً بينه وبين الله ، هذا الحجاب وحده عقوبة ، الابن الصالح لو أن أباه نظر إليه نظرةً غاضبة فإن هذه النظرة تجعله يبكي ، ولكن الوقح إلى أن يضربه ، أما الذي رُبِّي تربيةً عالية ربما كان إعراضُ الأب عنه كافيًا لأن يوقِعَه في شقاءٍ كبير :
 
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
الظلم سببٌ للهلاك :
كالطبيب فَتَحَ البطن فرأى أن المرض الخبيث منتشر في كل أنحاء البطن ، يقول لك : لا يوجد أمل ، ولا تخاطبني في هذا الموضوع ، أحياناً يكون مرض الموات .. الغرغرين .. وصل إلى الركبة ، يقول الطبيب : لا يوجد علاج والموت حتم ..
 
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾
أو لابدّ من بتر الساقين .. صاحب معمل حلويات دخل إلى المعمل ، ولم تعجبه طريقة عجن العجينة ، فأمسك قطعة العجين المعدة للمعمول ، ووضعها على الأرض ، وعركها بقدميه ، بحذائه ليعَلِّم بعض الموظفين كيف يتم عرك هذا العجين تجبراً وتكبراً ، فقال بعضهم : يا سيدي إنك تعرك هذا العجين بقدميك ، فقال : الناس يأكلون من تحت قدمي .. لم يمضِ عليه شهران حتى بُتِرَت رجلاه من فوق ركبتيه ، وهو الآن في لندن :
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
إذا ارتكب الرجلُ جريمة ، وحكم عليه بالإعدام ، وصدِّق القرار ، وسيق إلى المشنقة ، فسواءٌ بكاؤه ، أو رجاؤه ، أو توسُّله ، فقد انتهى الأمر ، لأن الحكم صدق والآن التنفيذ ، فالإنسان لا يحوج نفسه أن يصل إلى طريق مسدود ، طريق اللاعودة ، فاجعل مع الله طرقاً مفتوحة ، اجعل لله واعظاً من نفسك ، يوجد إنسان ينسى ، وينغمس بالشهوات ، والمحرَّمات ، فيأتيه مرض عُضال يجعله يصيح من شدة الآلام ..
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
الإنسان الآن في أمان :
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾
( سورة الأنفال : آية " 33 " )
ما دامت محبتك في نفوسهم فالله لن يعذبهم ، وما دامت سنتك قائمةٌ في حياتهم فلن يُعَذَّبوا ، أما عندما يهجر الإنسان هذا الدين ، ويدير ظهره للقرآن ، ويلتفت للدنيا ليأكل من مالها حلالها أو حرامها ، وليؤذي عباد الله ، وليبني مجده على أنقاض الناس ، وليبني غِناه على فقرهم ، عندئذٍ تأتيه ساعةٌ لا ينفع فيها الندم :
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
يا لطيف ، عندما يقرر ربنا عزَّ وجل إهلاك إنسان ، تزلزل من تحته الأرض ، ربنا يمهل ، يُرخي الحبل ، فإذا جاء الأجل ، واستحق العقاب شدَّ من تحت أرجله البساط ، أنا أقول : إن الناس الفسقة والفجَّار يتوهَّمون أنه لا رقيب عليهم ، ولكنهم مربوطون بحبلٍ متين ، فإذا آن الأوان شُدَّ الحبل فوقعوا ضحية أعمالهم الخسيسة ، فالإنسان لا يسترسل في المعصية ، لا يسترسل في الفجور ، لا يعتدي على أموال الناس ولا على أعراضهم ، لا يتكلَّم كلمة كبيرة ، لا يسخر من شرع الله ، لا يسخر من دين الله ، عندئذِ يأتيه العلاج المُر :
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
انتهى الأمر ، ربنا عزّ وجل يرسل الأنبياء ، والرسل ، والدعاة ، ويحذر وينذر ، ويسوق بعض المصائب :
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾
( سورة فاطر : آية " 37 " )
الشيب نذير ، سن الأربعين نذير ، موت الأقارب نذير ، سن الستين نذير ، المصائب نذير ، القرآن نذير ، النبي الكريم نذير :
﴿ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ ﴾
( سورة فاطر : آية " 37 " )
فأنا أريد من هذه الآية أن الإنسان لا يوصل علاقته بالله إلى درجة أن يُقال لمن يرجو ربَّه به :
 
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
ربنا عزّ وجل ضربته شديدة :
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾
( سورة البروج )
الإنسان دائماً ينتبه إلى قلبه ، إذا شعر أنه أصيب بالذباب الطائر ، وهو مرض يصيب عينه .. نقطة سوداء تمشي في أثناء النظر .. تراه يهتم ، ويذهب ، فوراً إلى الطبيب لحرصه على بصره ، يجب أن تكون النفس أغلى عليك من أي شيءٍ آخر فاحرص عليها ، فالنفس فيها انحراف ، فيها علو ، فيها أثرة ، فيها حب للذات ، فلا تجعلها تصل لهذا الموقف الصعب :
﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾
يروَى مِن القصص ، ولا ندري مبلغ صحتها أنّ امرأة جاءت إلى سيدنا نوح وقالت له : يا نوح متى الطوفان ؟ قال لها سيدنا نوح : حينما يكون الطوفان سأبعث إليكِ بخبر ، يبدو أن هذا النبي نسيها ، وهو في السفينة ، والسفينة تمخر عباب الأمواج ، وقد هلك كل الناس دون استثناء ، ولم ينج إلا هذا النبي وقومه ، تذكر هذه المرأة ، وتألم لنسيانه إياها ألماً شديداً ، فلما استوت السفينة على الجودي ، واستقر كلُّ شيء جاءته هذه المرأة العجوز ، وقالت له : يا نوح متى الطوفان ؟ إن الله لا ينسى ، أنت كن مع الله ولا تبالي .. " كن مع الله ترَ الله معك " .
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
قانون : وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ :
وهذه النجاة أيها الإخوة ليست خاصةً بأُناسٍ دون آخرين ، إنها عامةٌ لكل المؤمنين ، لقول الله عزّ وجل :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الأنبياء )
عندما دخل سيدنا يونس إلى بطن الحوت :
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ*فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
( سورة الأنبياء )
في كل زمانٍ ومكان ، وفي كل عصرٍ ومصر ، الله سبحانه وتعالى يتفضَّل ، وينجي المؤمنين من كل كَربٍ عظيم :
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾
( سورة المؤمنون )
وَأَنْتَ خَيْرُ المُنْزِلِينَ
إذا دخل الإنسان بيته ، ووجده مريحا ، زوجته في البيت ، وأولاده ، والصحة جيدة ، ويوجد طعام ليأكله ، والبيت دافئ في الشتاء ، وعنده ثمن وقود ، وثيابه يستر بها عورته ، فإن هذه نعم كبيرة جداً ، نعمة الصحة ، ونعمة الأمن ، ونعمة الاستقرار ، ونعمة الطعام ، ونعمة الشراب ، ونعمة الماء البارد ، بعض العلماء قال في تفسير قوله تعالى :
﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ﴾
( سورة التكاثر )
قال : " الماء البارد من النعيم " .
الذي عنده برَّاد فشرب كأس ماء بارد في هذا الصيف هذا من النعيم الذي سوف يسأل عنه يوم القيامة ، أشكرنا هذه النعمة ؟
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
( سورة المؤمنون )
الحياة كلها ابتلاء ، جوهر الحياة في الابتلاء ، سيدنا نوح والذين آمنوا معه ابتلوا ، فآمنوا ، واستقاموا ، فنجوا ، والذين عاصروه من الكفار ابتلوا ، فكفروا ، وأعرضوا ، وكذبوا ، فخسروا الدنيا والآخرة :
﴿وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ * ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آَخَرِينَ *فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾
( سورة المؤمنون )
فحوى دعوة الأنبياء :
الدعوة واحدة ، هذه فحوى دعوات الأنبياء جميعهم :
﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾
الذي يلفت النظر أن هذه القصة الثانية لم يُذكر فيها اسم القوم ، ولا اسم النبي الذي أُرسل إليهم ، وقد يستنبط من هذا أن الأسماء لا قيمة لها ، بل إن العبرة المغزى ، فهناك قومٌ جاؤوا بعد هذا النبي الكريم ، وأرسل الله لهم رسولاً فكذبوه :
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ﴾
( سورة المؤمنون : آية " 33 " )
دققوا جيداً :
﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
( سورة المؤمنون : آية " 33 " )
ورود الترف في ثمانية مواضع في القرآن :
أحصيت كلمة أترفناهم في القرآن الكريم فوجدتها أتت حصراً في ثمانية مواضع ، سبحان الله ، المترفون في المواضع السبعة كُفَّار ، فالإنسان لا يتباهى بالترف ، ويظنه مكرماً عند الله ، الشيء المكرَّم أن تكون مقتصداً ، وأن تكون متواضعاً ، وأن تحفظ هذا المال ، فتأخذ منه حاجتك ، وتنفق الباقي في سبيل الله ، في سبيل نصرة الضعيف ، وعون المحتاج ، وإطعام الجائع ، وإكساء العاري ، وتأمين حاجات الناس ، فالمترف في ثماني آياتٍ حصراً ، في القرآن الكريم كلها تربط بين الترف وبين الكفر ، فلا أحد يفتخر بالترف إنه من صفات الكفَّار .
المؤمن وسطٌ بين الإسراف والبخل :
أما المؤمن ليس مترفاً بل ينفق باعتدال :
﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾
( سورة الإسراء )
كما أن الله سبحانه وتعالى ذم الشُحَّ والبُخل فقال :
﴿ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾
( سورة التغابن )
وقال عليه الصلاة والسلام :
((ليس منا من وسَّع الله عليه ثم قتَّر على عياله)) .
وفي الوقت نفسه ذم الإسراف فقال :
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾
( سورة الإسراء : آية " 27 " )
لا تحاول إظهار ما عندك للناس من أجل أن تستعلي عليهم ، فتقول : أخي هذا عقد نكاح كلفني مليون ونصف ، مليون ونصف يزوِّج مئة شاب ..
 
 
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾
( سورة المؤمنون )
ملحوظة هامة :
﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
أولاً كفروا بالله بمعنى أنهم كذَّبوا ، وأعرضوا ، من معاني الكفر الدقيقة التكذيب والإعراض ، التكذيب باللسان ، والإعراض بالقلب .
﴿وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ﴾
من لوازم الكافر أنه يُكَذِّب بالآخرة ، لو آمن بها لانضبط سلوكه ، ومن لوازم المؤمن أنه يؤمن بالآخرة .
﴿وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
ما دام قد كفر بالآخرة بقيت الدنيا هي كلُّ شيء ، لا شيء إلا الدنيا، لذلك يُقْبِلُ عليها إقبال النَهِم .
﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾
استنكار الكفار بشريةَ الأنبياء :
طبعاً هم وجدوا أن النبي رجل كالرجال ؛ له عينان ، له أذنان ، له يدان ، يأكل ويشرب ، وعندهم أن الحياة طعامٌ وشراب ، وأن الإنسان حيوان يتكلَّم ، ويأكل ، ويشرب ، فما دام هذا النبي يأكل ويشرب إذاً هو إنسان ، وغَفَلوا عن أن هناك حياةً نفسيةً عاليةً جداً ، حياة عقلية ، إذا واحد التقى مع أعلى طبيب في العالم ، التقى مع أعلم علماء الأرض ، التقى مع أعظم إنسان في الأرض ، يراه يأكل ويشرب كغيره من الناس ، كن عنده معلومات وعنده آفاق فكرية ، وعنده مشاعر نفسية فوق التصور ، فمن ظنَّ أن الإنسان يسمَّى إنساناً لأنه يأكل ويشرب ، فقد كان في ضلالٍ مبين ، فهؤلاء ظنوا أن هذا النبي بشرٌ مثلنا..
﴿يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾
لذلك قالوا :
محمدٌ بشرٌ وليس كالبشر بل هو ياقوتة والناس كالحجر
إذا كنت تريد أن تميز المؤمن عن البشر فهو مثل الجوهرة ، وغير المؤمن مثل الحجر ، والجوهر أساسه حجر ، والحجر حجر .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب