سـورة الحـج 022 - الدرس (3): تفسير الآيات (14– 23)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سـورة الحـج 022 - الدرس (3): تفسير الآيات (14– 23)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الحج

New Page 1

تفســير القـرآن الكريم ـ سـورة الحج (الآيات: 14- 23)

09/06/2011 17:57:00

تفسير سورة الحج (022)
الدرس (3)
تفسير الآيات (14 - 23)
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
وصف الله لأصناف من البشر :    
  أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثالث من سورة الحج ، ربنا سبحانه وتعالى يصف أصنافاً من بني البشر ؛ مُتَّبعون ضالّون ، ومَتْبُوعون ضالون ، وأناسٌ مذبذبون يعبدون الله على حرف :
 
 
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾
     الله سبحانه وتعالى يصف لنا نماذج من بني البشر ، ويتبِعُ ذلك بقوله سبحانه وتعالى :
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾              
وصفُ الله بالإرادة
      إرادة الله في الذين آمنوا أن يدخلهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً وقع ، وإذا رأيتم شيئاً قد وقع فقد أراده الله عزَّ وجل ، لأنه لا يقع شيءٌ في ملك الله إلا بإرادة الله، فإذا أراد شيئاً وقع ، وإذا وقع الشيء أراده الله ، من هنا يَعْتَقِدُ المؤمن أنَّ لكل شيءٍ حقيقة ، وحقيقة الإيمان أن تعتقد أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ : لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللَّهِ ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ )) .
( من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة " ) 
       كلمة " لو" ليست واردةً في قاموس المؤمن ، لو أني فعلت كذا وكذا، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقع شيءٌ في ملكه إلا بإرادته ، وكل شيءٍ أراده لابدَّ أن يقع لأن الله سبحانه وتعالى فعَّالٌ لما يُريد ..
       أما هذه الإرادة ، هذه الإرادة الإلهيَّة متعلِّقةٌ بالحكمة ، يعني أن الله عزَّ وجل يريد وإرادته ملابسةٌ للحكمة تماماً ، الإنسان أحياناً يريد تحت ضغطٍ ، يفعل شيئاً بضغطٍ ، ولكنَّه لا يريد أن يفعله ، أو يفعل شيئاً بجهلٍ فبعد أن ينكشف الأمر يتمنَّى لو لم يفعله ، هذا شأن الإنسان ، لكنَّ شأن الله سبحانه وتعالى أن إرادته متعلقةٌ بالحكمة ، وحكمته متعلِّقَةٌ بالخير المُطْلَق ، فكل شيءٍ وقع أراده الله ، وكل شيءٍ أراده الله وقع ، وإرادته متعلقةٌ بالحكمة ، وحكمته متعلقةٌ بالخير المطلق ، وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات إرادة الله فيهم أن يدخلهم الجنَّة إلى أبد الآبدين.
        لذلك ليس هناك تناسبٌ بين خلق السماوات والأرض وبين العمر القصير الذي يعيشه الإنسان ، هذه السماوات والأرض شيءٌ عظيم ، وهي كلُّها مسخَّرةٌ لهذا الإنسان ، أفيعقل أن تكون حياة الإنسان هذه الحياة القصيرة التي تنتهي بالموت ؟! الحقيقة أن حياة الإنسان تبدأ بالموت ، والله سبحانه وتعالى يقول على هذا الذي يأتيه الموت ولم يقدِّم العمل الصالح يقول :
يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي*فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحدٌ*وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾﴿
( سورة الفجر )
       الشيء الآخر في هذه الآية :
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
الإيمان مقرون بالعمل الصالح
      في أكثر من مئتي موضع في كتاب الله وردت الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، لأن الإيمان من دون عمل لا قيمة له ، اعتقاد ، لو أنَّك اعتقدت أن هذه المراوح تعمل بالكهرباء ، ماذا فعلت ؟ وهي كذلك ، ماذا قدَّمت ؟ لكنَّك إذا عملت عملاً صالحاً فيه ترقى إلى الله عزَّ وجل ، إذا اعتقدت اعتقاداً صحيحاً ولم يكن هناك عملٌ يؤكِّدُ اعتقادك أو يجسِّده فإن هذا الاعتقاد لا قيمة له ، لذلك : " الإيمان من دون عمل كالشجر بلا ثمر "، حيثما كان الإيمان وجب العمل ، وحيثما صَحَّ العمل صَحَّ الإيمان.
       هناك صِنفان من الناس : صنفٌ يدَّعي أن عمله صالح ولا حاجة إلى أن يعبد الله عزَّ وجل ، يقول لك : أخي القضية بالقلب ، وأنا قلبي أبيض ، لا أُكنًّ حقداً لأحد ، نقول : لو أن عملك صالح من دون إيمان هذا شرطٌ لازمٌ غير كافٍ ، وصنفٌ آخر يدَّعي أنه مؤمن ، وأن القضية بالقلب لا بالعمل ، أيضاً هذا مُخطئ والرد عليهما هذه الآية الكريمة ..
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ﴾
     والنبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن هو ما وقر في القلب وصدَّقه العمل )) .
( الجامع الصغير عن أنس بسند لا يصح )
       ما من مسلمٍ على وجه الأرض إلا ويتمنَّى أن يكون من أهل الإيمان، وما من مسلمٍ على وجه الأرض إلا ويتحلَّى ظاهراً بمظاهر أهل الإيمان ، ليس التحلي كافياً وليس التمني كافياً ، لابدَّ من إيمانٍ ومن عملٍ صالح ، مهما صحَّت عقيدتك إن لم يدعمها التطبيق والعمل فلا قيمة لها ، ومهما صحَّ عملك إن لم ينطلق من عقيدةٍ صحيحة فلا قيمة له ..
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾
الآن :
 
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾
معنى : ] مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ[
      أيْ ما يغيظه ، والكيد هو التدبير ، والسبب هو الوسيلة ، هذه الآية فسَّرها المفسِّرون في اتجاهاتٍ عديدة .
المعنى الأول :
      بعضهم قال : " لابدَّ أن ترجو الله عزَّ وجل ، لابدَّ أن تُحسن الظنَّ بالله عزَّ وجل ، لابدَّ أن تضع آمالك بالله عزَّ وجل ، لابدَّ أن ترجو ربَّك " ، أما اليأس والقنوط ، والسوداويَّة والتشاؤم ليس لها مكانٌ في الدين إطلاقاً ، عند الله ما ليس عند العبيد  ، إذا أعطى أدهش .
      وأنتم كما ترون كيف أن الله سبحانه وتعالى بعد أن يئسَ الناس من رحمة السماء ، لجهلهم بربِّ السماء ، جاءتهم الأمطار بشكلٍ لم يسبق له مثيل ، هذا نموذج ، فالذي ييأس من رحمة الله ، الذي يقنَطُ من نصر الله ، الذي يظنُّ أن الله سبحانه وتعالى ليس مع المؤمنين ، ولن ينصرهم ، ولن يأخذ بيدهم إلى ما يصبون إليه إنما هو إنسانٌ بعيدٌ كل البعد عن الإيمان ..
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾
      هذا ليس مؤمناً ، لا قيمة لحياته إطلاقاً ، موته خيرٌ من حياته ، هذا معنى .
المعنى الثاني :
     أن هذه الهاء لا تعود على الذي يظن ..
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾
     أيْ أن الشخص الذي يظن ذلك هو سوداوي يقطع أمامك كل الآمال، يسفِّه لك كل التفاؤلات ، يحبط لك كل الطُموحات ، يبيِّن لك أن الله لن ينصر أحداً من المؤمنين ، وأن الأمر مِن سيئ إلى أسوأ ، هكذا يصور لك ، هذا ليس مؤمناً لأنه لا يعرف الله عزَّ وجل ، إنه مشرك ليس موحِّداً ، هذا الإنسان ما عرف أن الأمر كلُّه بيد الله عزَّ وجل ، وان يد الله فوق أيدي كل الناس ، هكذا قال الله عزَّ وجل :
﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾
( سورة الفتح : من آية " 10 " )
       هذا الذي ينطلق من يأسٍ ، وقنوطٍ ، ومن سوداويةٍ ، ومن تشاؤمٍ ليس مؤمناً وحياته لا قيمة لها ، بل موته خيرٌ من حياته ، هذا المعنى الأول .
       إذاً المعنى الثاني : أن الهاء في ﴿ يَنْصُرُهُ  ﴾ تعود على النبي عليه الصلاة والسلام ، فكفَّار مكَّة ما كانوا يظنون أن الله سبحانه وتعالى سيرفع شأن النبي عليه الصلاة والسلام ، سينتقل إلى دار الهجرة ، فيؤمن به أصحابٌ مخلصون صادقون ، سينتصر على كفَّار قريش في بدر ، فتنشأ دولةٌ إسلاميَّة فتيَّة ، هالهم هذا النصر المُبين ، وهذا الفتح العظيم ، لذلك امتلأت قلوبهم حقداً لِمَا رفع الله به نبيه ، وبوّأهُ عاليَ المقام ، قال : من كان يظن أن الله عزَّ وجل لن ينصر نبيَّه ، ولن يرفع شأنه ، ولن ينصره على أعدائه ، ولن يُعلي ذكره ، ولن يرحمَ المؤمنين بدعوته ، هذا الذي يتمنَّى الشر أن يكون بالمسلمين ، هذا الذي يظنُّ أن الله يحبُّه على معصيته ، وأن الله لا يحبُّ المؤمنين على طاعتهم ..
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ﴾
سنة الله مع أنبيائه : النصر المبين     
      وقد نصر الله نبيَّه ، وامتلأ قلبه حقداً لهذا النصر ، هذا الذي يظنُّ كذلك ليس أمامه إلا أن يموت غيظاً ، الله سبحانه وتعالى تمَّت كلمته بنصر عباده المؤمنين .
﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾
( سورة غافر )
       وعداً عليه حقًّا ، هذا وعدٌ عظيم ..
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ﴾﴿
( سورة النور : من آية " 55 " )
        من كان يظن من مشركي قريش أن لن ينصره الله ، أي أن النبي عليه الصلاة والسلام لن ينصره الله في الدنيا والآخرة ، أمّا حينما نصره امتلؤوا غيظاً وحقداً ، هؤلاء ليموتوا غيظاً ، لن يغيِّر الله سنَّته في خلقه ، إنه ينصر رسله والمؤمنين .
        لذلك لو أن أخوين صديقين ، لو أن هناك جارين ، زميلين ، أحدهما مستقيم ، والثاني منحرف ، والمنحرف أُوتي ذكاءً ، وهو يظنُّ أنه أذكى من هذا المؤمن المستقيم ، وأن الأمور تجري لصالحه ، وأنه سيرتقي من مكان إلى مكان ، ومن مرتبة إلى مرتبة ، وأن ذكاءه يكفي ليجلب له المال ، حينما يفاجأ هذا المنحرف أن المؤمن رفعه الله ، ورفع اسمه ، ولمع نجمه ، وتوفَّق في حياته توفيقاً عجيباً ، لا ينبغي لهذا المنحرف أن يغتاظ وأن يحقد عليه لأن هذه سُنَّة الله في خلقه ..
وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾﴿
( سورة الأعراف )
      هذه الآية لها مفهوم واسع ، مفهومها التطبيقي على المؤمنين أنه إذا كان هناك رجلان ، جاران ، صديقان ، زميلان ، أخوان ، شريكان ، واحد مستقيم يخشى الله عزَّ وجل ، ويرجو رحمته ، والثاني منحرف لا يبالي بقِيَمِ الدين ، الشيء الذي لابدَّ من أن يقع أن هذا المؤمن سوف ينصره الله في الدنيا ، سوف يرزقه رزقاً حلالاً كافياً ، سوف تَقَرُّ عينه بأهله ، سوف يرتقي من حالٍ إلى حال ، من مرتبةٍ إلى مرتبة ، سوف يحبُّه الناس، سوف يلمع اسمه ، سوف يعلو ذِكْرُهُ ، هذا المنحرف لا ينبغي أن يحقد عليه ، ويقول : أنا أذكى منه ، فأنت منحرف ، فلا تقل : أنا لي معارف أكثر ، أنا أحمل شهادة أعلى ، لا ، هذه سُنَّة الله في خلقه ..
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾﴿
( سورة الأنفال )
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا
( سورة الحج : من آية " 38 " )
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا﴾
( سورة مريم )
     هذا المعنى الثاني ، فالذي غاظه ، وجعل قلبه يمتلئ حقداً عندما نصر الله نبيَّه ، وجعله وأصحابه أصحاب شأنٍ رفيع ، هذا الذي اغتاظ ليمُتْ غيظاً .
المعنى الفرعي لقوله : ] مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللّهُ[
      هناك معنى فرعي ، هذا الذي امتلأ قلبه غيظاً لمّا نصر الله نبيه عليه الصلاة والسلام إذا كان بإمكانه أن يمنع النصر ، إذاً فليفعل ما يشاء ، ليصل إلى السماء ، ليمدُد بسببٍ إلى السماء ، وفي السماء ليقطع هذا الوحي عن النبي ، وليقطع هذا النصر إن أمكنه ، إن أمكنه ذلك فليفعل ، وحتماً لن يستطيع ذلك ، هذا المعنى الذي يُضاف إلى المعنى الثاني ، فإذا كنت قد آلمك أن ينصر الله نبيَّه الكريم فامدد بسببٍ إلى السماء ، توصَّل إلى أن تصبح في السماء ، وعندها امنع عن النبي الوحي إذا أمكنك ذلك ، وهذا من باب المستحيل ، أي لن تستطيع أن تفعل شيئاً ، إذا سبقت إرادة الله أن يُكْرِمَ نبيه الكريم فلن تستطيع أن تفعل شيئاً ، لأن الله سبحانه وتعالى حينما يكرم النبي عليه الصلاة والسلام ، أو حينما يكرم المؤمنين لا ينتظر موافقة أحد ، إذا شاءت إرادة الله عزَّ وجل أن يرفع شأن المؤمن فلا ينتظر أن يوافق أحدٌ على هذا القرار ، هكذا ربنا سبحانه وتعالى فعَّالٌ لما يريد .
  
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾
   
الجواب : لا ، لو أنه وصل إلى ذلك هل بإمكانه أن يمنع نصر الله عن نبيِّه ؟ لا ، هل بإمكانه أن يقطع عنه الوحي ؟ لا .
المعنى الثالث :
       وهناك معنىً ثالث .. أتمنَّى عليكم أن تدقِّقوا في هذه المعاني ، هناك معنىً ثالث .. وهو من ظنَّ أن الأمور كلًّها مسدودةٌ في وجهه ، أُعلِنَ عن هذه المسابقة فلم ينجح ، رُشِّحَ لهذا العمل فلم يُقْبَل ، طرق هذا الباب فسُدَّ في وجهه ، فحينما يبدو لك أن الأمور مُعَسَّرة ، وأن الطرق كلَّها مغلقة ، وأن الأبواب كلُّها مسدودة ، حينما تظنُّ ذلك هناك علاجٌ لهذه الحالة ، الله سبحانه وتعالى ليس ضدَّك ، لا ينفعه أن يكون ضدَّك ، من أنت ؟ أنت عبدٌ..
((لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)) .
( من صحيح مسلم عن أبي ذر ) 
       أيْ أنَّ الله سبحانه وتعالى ليس له معك خصومة حتى يجعل الأمور كلَّها مسدودة في وجهك ، لا ، إنها معالجة ، إنها معالجةٌ لتقصيرٍ ، أو انحراف ، أو معصية ، فمن كان يظن أنْ لن ينصره الله في الدنيا ، لن يرزقه ، لن يصلح بالَه ، لن يريحه من المصائب ، مصيبةٌ تلو مصيبة ، مشكلةٌ تلو مشكلة ، ورطةٌ تلو ورطة ، ما هذه الحياة ؟ يقول في ساعة اليأس : أريد الموت ، لا ، الله غني ، الله كريم .
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾
معنى : ] فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [
    ليعمل عملاً صالحاً ، أيْ ليفعل سبباً يستدعي رِضوان الله عزَّ وجل ، ليعمل عملاً صالحاً يستلزِم أن يرضى الله عنه ..
 
﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾
     ليخدم إنساناً ، يتصدَّق ، يبر والديه ، يترفَّق بجيرانه ، يدل إنساناً ضالاً ، يكرم إنساناً معذَّباً ، يعين إنساناً مريضاً ، يميط الأذى عن الطريق ، يدفع من ماله الذي كسبه مِن حلال ..
 
﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾
        إذا ضاقت بالإنسان الدنيا ، الأمور معسَّرة ، الدخل قليل ، الأمراض كثيرة ، الهموم بعضها فوق بعض ، كما قال الشاعر :
رماني الدهـر بالأرزاء حتى    فؤادي في غـشــاءٍ من نبالِ
فـكـنت إذا أصابـتني سهامٌ    تكسَّرت النصالُ علـى النصالِ
*  *  *
       إذا اصطلحت على الإنسان الهموم  ، أحاطت به المصائب من كل جانب ، الأبواب كلُّها مغلقة ، الطرق كلُّها مسدودة ، مصيبةٌ تلو مصيبة ، مشكلةٌ تلو مشكلة ؛ في ماله ، وفي صحَّته ، وفي أهله ، وفي أولاده ، ومع من هم أعلى منه ، ومع مَن هم أدنى منه ، كل يوم مشكلة ، ما هذه الحياة يا رب ؟! ..
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾
فما عليه إلا أن يتصدَّق ، النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
((استمطروا الرزق بالصدقة)) .
( الجامع الصغير بسند فيه ضعف)
       تصدَّق ، اخدم إنسانًا ، اكفل يتيماً ، برّ والديك ، افعل صدقة ، عاون إنساناً ضعيفاً ، اعمل عملاً صالحاً ، تقرَّب إلى الله ، ابحث عن سبب يرضى الله عنك به ..
 
﴿ثُمَّ لِيَقْطَعْ
معنى : ] ثُمَّ لْيَقْطَعْ [  .
المعنى الأول :
      أي ليقطع دابر الشيطان ، ليتوقَّف عن كل معصية ، عن كل مخالفة ، هذه لا تجوز دعها .
المعنى الثاني :
       إذا كان الإنسان يائساً من نصر الله عزَّ وجل ، يائساً من أن يرزقه الله عزَّ وجل فعليه أن يعمل عملاً صالحاً مبنياً على استقامةٍ تامَّة .
المعنى الثالث :
       ثم لينظر كيف أن هذا التدبير يذهب ما في قلبه من الغيظ ، ومن الحقد ، ومن الشعور بالحرمان .
       القرآن كما قال الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه : " حمَّال أوجه " ، والقرآن ذو وجوه .
       لك أن تأخذ بالمعنى الأوَّل ، من لوازم الإيمان أن ترجو الله عزَّ وجل ، وأن تضع في الله كل ثقتك ، فإن لم تكن كذلك فلست مؤمناً ولا قيمة لحياتك .
المعنى الثاني : أنك إذا حقدت على أهل الإيمان إذا رفعهم الله عزَّ وجل فحقدك عليهم لن يغيِّر من معاملة الله لهم .
والمعنى الثالث : إذا ضاقت بك الدنيا أو ألمَّت بك الخطوب ، وجاء الشيطان وقال لك : إن الله يريد أن يعذِّبك ، إنه خلقك ليعذِّبك ، إنه سوف يحرمك كل شيء ، انظر هو مع الكفَّار يعطيهم القوَّة ، والمال ، والصحَّة ، و ، و .. وأنت يحرمك ، إزاء كل هذا الذي يوسوس به الشيطان ، فعلاجُه ودفعه يكون بالصدقة ، أو أيّ عمل صالح مع استقامة واضحة .
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾
      إخوةٌ كرام كُثُر حدَّثوني : حينما ضاقت بهم الدنيا تصدَّقوا ، فكانت هذه الصدقة مفتاحاً لرِزْقِهِم ، يعني اعمل عملاً صالحاً يرضى الله به عنك، لكن هذا العمل الصالح لا قيمة له إذا رافقته معصية ..
((ركعتان من ورع خيرٌ من ألف ركعة من مخلِّط )) .
( ورد في الأثر)
     اعمل عملاً صالحاً مبنياً على استقامةٍ تامَّة، وبعدها لابدَّ من أن ترى أن الله يغيِّر الأحوال ، إذا أعطى أدهش ، والله سبحانه وتعالى يقول :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلا﴾﴿
( سورة الكهف )
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
( سورة النحل : من آية " 97 " )
    هذا وعد قطعي ، فإذا أنت طبَّقت أمر الله عزَّ وجل فلابدَّ من أن تقطف ثمار وعد الله ، فهذه الآية تنفي كل أنواع اليأس ، كل أنواع القنوط ، كل أنواع الضجر ، كل أنواع الحرمان ، كل أنواع السوداويَّة ، كل أنواع التشاؤم ، هذه الآية تبُثُّ التفاؤل ، حتى إن الإنسان لو كان مريضًا ، وقد أكَّد له الأطبَّاء أن مرضه لا شفاء له ، مرضٌ عُضال ، واللهِ الذي لا إله إلا هو لو أنه أخلص لله عزَّ وجل ودعاه وعمل عملاً صالحاً يسترضي الله به فإنه لابدَّ من أن يشفيه الله عزَّ وجل ..
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾﴿
( سورة الشعراء )
      لا حدود لقدرته ، الأطبَّاء حينما يرون حالةً مستعصية تُشفىَ تلقائياً وذاتياً يقولون : هذا درسناه في الجامعة ، هو الشفاء الذاتي ، أي حينما تتدخَّل يد الله مباشرةً لتزيل هذا المرض     هو الشفاء الذاتي ، فالإنسان لا يقنط ، لا يقنط من شفاء ، ولا مِن رزق ، ولا من صحَّة ، ولا من إصلاح زوجة ، أحياناً إنسان يقول لك : هذه الزوجة لا سبيل إلى إصلاحها ، ومن يدريك ؟ ربَّما بين ليلةٍ أو ضحاها تصبح امرأةً أخرى ، من أدراك أنها لا تصلح ؟ ليس هناك يأس في الإسلام ، ليس هناك تشاؤم ، لا تقل : لن يكون هذا ، ما عند الله ليس كما تظن ، ما عند الله خير .
 
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾
أم لا يُذْهِبْ ؟ هنا الجواب يُذْهِب .
     أما في المعنيين الأولين الجواب لا يُذْهِب ، إذا حقدت على النبي الكريم ، لأن الله نصره فافعل ما تشاء ، هذا التدبير لن يفعل شيئاً ، تدبيرك لن يُذهب ما بك من غيظ .
في المعنى الأوَّل والثاني الجواب لن يُذْهِبْ ، وفي المعنى الثالث الجواب يُذْهِبْ ..
 
﴿هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ﴾
نعم ، بعضهم قال : هل يذهبن كيده ما يغيظه ، أو هل يذهبن كيده غيظه ، إما أن تكون (ما) مصدريَّة أو موصولة ، إن كانت مصدريَّة نقول : هل يذهبن كيده غيظه ، وإن كان موصولة نقول : هل يذهبن كيده الذي يغيظه ..
 
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴾
هداية الله لها ثمن
     يهدي طالب الهدى ، يهدي الذي دفع ثمن الهدى ، يهدي مَن أطاع الله عزَّ وجل ، هذه الجامعة تعلِّم مَن ؟ تعلِّم مَن قَبِلَ أن يكون طالباً فيها ، أما مَن رفض أن يكون فيها طالباً كيف تُعلِّمه ؟ ..
 
﴿وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴾
     أيْ أنَّكَ إذا أردت الهدى أراد الله لك الهدى ، وإذا أردت الضلال أراد الله لك الضلال ، لماذا ؟ لأن الله خيَّرك ، أنت مخيَّر ..
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾﴿
( سورة الإنسان )
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا ﴾﴿
( سورة البقرة : من آية " 148 " )
﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
( سورة الصف )
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾﴿
( سورة المنافقون )
﴿لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾
( سورة القصص )
      لا يهدي القوم الكاذبين ، فالهدى له أسباب ، والضلال له أسباب ، فمن فعل أسباب الضلال أضلَّه الله ، ومن فعل أسباب الهدى هداه الله ..
 
﴿اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ﴾
      والله سبحانه وتعالى جعل للهدى طريقاً فمن سلكه أراد له الهدى ، فالدولة جعلت لمهنة الطبِّ طريقاً ، تأخذ ثانويَّة بمجموع مرتفع ، تدخل كليَّة الطب ، وتتخرَّج ، فمن سلك هذا الطريق شاءت له الدولة أن يكون طبيباً ، ومن لم يسلك هذا الطريق منعته من مزاولة الطب وعاقبته بتهمة أنه دجَّال، أليس كذلك ؟ طريق هذه المهنة معروف ، من سلكه سُمح له أن يزاول هذه المهنة ، ومن لم يسلكه لم يُسْمَح له بمزاولة هذه المهنة ، فإرادة الجهات الصحيَّة منوطةٌ بأن تسلك الطريق القانوني لهذه المهنة ، هذا مثل بسيط ، وربنا عزَّ وجل رسم للهدى طريقاً ، من سلك هذا الطريق أراد الله له الهدى ، ومن لم يسلك هذا الطريق أراد الله له الضلال .
الهدى الابتدائي والهدى الجزائي :
       لذلك عندنا هدى ابتدائي وعندنا هدى جزائي ، وعندنا ضلال ابتدائي ، وعندنا ضلال جزائي ، فإذا عُزي الضلال إلى الله عزَّ وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري ، نعم أمر إذا عزي الهدى أو الضلال إلى الله مباشرةً ، فمعنى ذلك أنه هدىً أو ضلالٌ جزائي بني على هدىً أو ضلال اختياري ، هذا معنى :
 
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ﴾
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾﴿
( سورة الإنسان )
    وأن الله يهدي من أراد الهدى الله سبحانه وتعالى يهديه..
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾
المسلمون واليهود والصابئون والمجوس والمشركون
     هناك أناس ينتمون إلى أهل الإيمان ، وأناسٌ آخرون ينتمون إلى النصرانيَّة ، وأناسٌ آخرون ينتمون إلى اليهوديَّة ، وهناك أناسٌ آخرون صابئون ، هؤلاء بين النصرانيَّة واليهودية ، وأناسٌ آخرون مجوس عبدوا النار ، ورأوا أن الكون فيه خيرٌ وشر ، فيه نورٌ وظُلمة فعبدوا النار اتقاءً لشرِّها ، ومنهم مَن هو مشرك بالله عزَّ وجل ، كمشركي العرب ، وهؤلاء على اختلاف مللهم ، ونِحَلِهم ، ومشاربهم ، ومعتقداتهم ، وأفكارهم ، وقيمهم، وتشريعاتهم كلهم يقيمون على شركهم ، والحق واحد ولا يتعدد ، فهؤلاء ست ديانات .
1 -  ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾  هذه الأولى .
2 - ﴿ وَالَّذِينَ هَادُوا    هذه الثانية .
3 - ﴿ وَالصَّابِئِينَ ﴾     هذه الثالثة .
4 – ﴿ وَالنَّصَارَى ﴾   هذه الرابعة .
5 - ﴿ وَالمَجُوسَ ﴾   هذه الخامسة .
6 - ﴿ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾  هذه السادسة .
    هذه سِتُّة مذاهب ، أو ستُّ ديانات ، والحق واحد ، لابدَّ من أن يكون الحق مع أحدها فقط ، الباقون ليسوا على الحق ، فمن يفصل بينهم ؟ الله سبحانه وتعالى ، كل أناسٍ يزعمون أنهم على الحق والآخرون على الباطل ، كل حزبٍ بما لديهم فرحون ، هكذا في الدنيا ، كل جهةٍ تظنُّ أنها محور العالم ، وأنها على حق ، وأن ما سواها في ضلالٍ مبين ، هكذا يعتقد البوذيّون ، والسيخ في الهند هكذا يعتقدون ، وأصحاب المِلَل والنِحل هكذا يعتقدون ، والمسلمون يعتقدون هكذا ، والنصارى هكذا ، واليهود هكذا ، هذا اعتقاد كل فريقٍ منهم ، وكلٌ منهم يقول : نحن على حق والآخرون على الباطل ..
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾
فصل الله بين الناس بوم القيامة
    لكن الحق بيَّنَهُ الله عزَّ وجل في هذا الكتاب ، وهذا الكتاب أنزله الله سبحانه وتعالى وتولَّى حفظه ، فمن كان على هذا الكتاب فهو على حق، ومن خالف هذا الكتاب فهو على باطل ، فلذلك هذا الكتاب مقياس ، هو مقياسٌ لك .. فلو أن خمس قطع من الأقمشة ، أو ست قطع ، كل قطعة مكتوب عليها الطول ، هذه القطعة كُتِبَ عليها عشرة أمتار ، هذه خمسون مترا ، هذه خمسة عشر متراً ، نحن معنا متر ، وهذا المتر يحل كل مشاكلنا ، نقيسها يا أخي ، هذه ليست عشرة ، بل هي سبعة ، ثم نقيس الأخرى ، هذه ليست خمسين ، بل خمسة وعشرون ، فنحن معنا مقياس .. فالله عزَّ وجل لرحمته بنا أنزل على النبي عليه الصلاة والسلام هذا القرآن الذي :
لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ﴾﴿
( سورة فصلت : من آية " 43 " )
    لا ريب فيه ، فمن انطبقت عقائده وسلوكه على هذا القرآن فهو على الحق المبين .
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾﴿
( سورة النمل )
       أما الانتماء الشكلي ، يقول لك : أنا مسلم ، ماله حرام ، نساؤه كاسياتٌ عاريات ، مائلاتٌ مُميلات ، له علاقات حميمة جداً مع غير المسلمين ، هم أقرب إليه من إخوانه المؤمنين، أي إسلامٍ هذا ؟
(( من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً )) .
( الطبراني عن ابن عباس )
(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ )) .
( من صحيح البخاري عن أبي هريرة )
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ الأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا
( سورة البقرة : من آية " 264 " )
     إذا صلَّيت ، ولم تنهك صلاتك عن الفحشاء والمنكر فلست بفالح ، وإذا صمت ، ولم ينهك صيامك عن قول الزور والعمل به فلست بصائم ، وإذا أنفقت مالك ، ولم تكن هذه النفقة عن إيمانٍ بالله فليس بنافعٍ لك شيئاً ، إذاً هذه العبادات إن لم تكن صادرةً عن إيمانٍ وإخلاص ، وعن طهرٍ ورُقي إيماني فلا قيمة لها ..
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾
     تصوَّر ستَّة محلات تجاريَّة ، كل محل عليه لافتة برَّاقة جداً ، مع إضاءة صارخة ، ولكن لا توجد بضائع في الداخل ، فما قيمة بهرجة اللافتات مع أن كل هذه المحلات ليس فيها بضاعة إطلاقاً ؟ لا تجدُ في الحقيقة فرقاً بين مسلم وغير مسلم ، المسلم ماله حرام ، مُنحرف ، علاقاته الاجتماعيَّة كغيره من الناس ، صَلاته شكليَّة ، والنصراني كذلك ، يصلي في الكنيسة صلاة شكليَّة ، ويعطي نفسه ما تشتهي ، إذاً الخلاف صار شكلياً ، إلى أن يأتي الرجل الذي يؤمن بالله إيماناً صحيحاً ، ويلتزم أمره ، ويفعل الصالحات فهذا هو الذي يرفعه الله سبحانه وتعالى ، الانتماء الشكلي إلى الأديان لا قيمة له إطلاقاً ، البطولة في العمل ، هناك آيات أخرى تقول :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾﴿
( سورة البقرة )
      فمِن هؤلاء جميعاً فقط ..
مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾﴿
      فالعبرة أن تكون أنت وَفْقَ جوهر الدين ، لا وفق شكله الخارجي ..
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾
 
معنى : ] إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [      
    لأنه على كل شيءٍ شهيد يفصل بينهم ، لأنه يرى ما يعتقدون ، ويرى أعمالهم الصالحة والطالحة ، يرى صدقهم أو كذبهم ، يرى إخلاصهم أو خيانتهم ، يرى حبَّهم للدنيا أو زهدهم بها ، إنه على كل شيءٍ شهيد ، لأنه على كل شيءٍ شهيد ، إنه يفصل بينهم يوم القيامة .
       فلو فرضنا أن واحداً أحضر عُملة مزوَّرة ، والإنسان الآخر معه عُملة صحيحة ، الآن توجد أجهزة دقيقة تفحص هذه القطع الورقيَّة ، فيقال: أنت عُملتك مزوَّرة قف هنا ، وأنت عُملتك صحيحة قف هنا ، وكلٌ مجزيٌ على عمله ، وواقع أمره ، هناك أجهزة دقيقة جداً لفحص الأشياء ..
 
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾
 
 
أنواع السجود باعتبار المخلوقات    
السجود نوعان : سجود القهر ، وسجود العبادة
    قال العلماء : " السجود نوعان ، سجود القهر وسجود العبادة " ، فالكون كلُّه مقهورٌ بالله عزَّ وجل ، ليس في الكون شيءٌ إلا وهو مؤتَمِرٌ بأمر الله ؛ السماوات والأرض ، الشمس والقمر ، المجرَّات والنجوم ، الجبال ، والدواب ، فكل شيءٍ خلقه الله عزَّ وجل مفتقرٌ إليه ، خاضعٌ له ، كن فيكون زل فيزول ، هذا سجود الحاجة ، أيْ أنَّ هذه الشجرة مفتقرةٌ إلى الله عزَّ وجل ، لولا أن الله يمدُّها لماتت ، أي مخلوقٍ مفتقرٌ إلى الله ، إذاً هو ساجدُ له سجود الخُضوع ، سجود الحاجة ، سجود الافتقار ، إن وجود الأشياء متوقفٍ على الله عزَّ وجل .
اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴿
( سورة البقرة : من آية " 255 " )
      فهو سبحانه مصدر حياة الأشياء وقيامها ، لكن الإنسان إذا سجد فسجوده سجود العبادة ، فرقٌ كبير بين سجود القهر والحاجة والافتقار ؛ وبين سجود العبادة ، فالإنسان لأنه مكلَّف بمحض اختياره ، بمحض مشيئته الحُرَّة ، فحينما يطيع الله عزَّ وجل ويسجد له فهذا سجود العبادة ، والله سبحانه وتعالى يثيبه عليه أَيَّما إثابة ..
 
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ﴾
سجود الكون كله لله
    لماذا ذكر الله الشمس بالذَّات ؟ لأن هناك أناساً عبدوا الشمس ..
﴿لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾
( سورة فصلت )
 
﴿وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ﴾
هناك من عبد القمر والنجوم ..
 
﴿وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ﴾
       وهناك من يعبد البقر ، يضعون روث البقر في غُرَفِ الاستقبال ، يتعطَّرون ببول البقر ، وإذا وقفت بقرةٌ في الطريق قُطِعَ السير إلى أن يحلو لها أن تغادر هذا المكان ، هم يموتون جوعاً ، وأعداد البقر لا تُعَدُّ ولا تُحصى ، هناك مَن عبد البقر ، وهناك من عبد الشجر ، وهناك مَن عَبَدَ النجوم ، وهناك مَن عبد الشمس والقمر ، الله سبحانه وتعالى يريد من هذه الآية أن يبيِّن لمن أشرك بالله أن هذه الأشياء التي تعبدونها هي تسجد لله عزَّ وجل سجود الخضوع ، هذه البقرة كيف تتحرَّك ؟ بقدرة الله ، هذه الشجرة كيف تنمو ؟ بقدرة الله ، هذه الشمس من أعطاها هذا الوهج ؟ الله سبحانه وتعالى ، ثم يوم القيامة تنطفئ .
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾﴿
( سورة التكوير )
       هذه الشمس من أعطاها الحركة ؟ الله سبحانه وتعالى :
﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا
( سورة يس : من آية " 38 " )
       فإذا شاءت مشيئة الله وقفت عن الحركة ، إذاً :
 
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾
        الآن جهاز كهربائي قيمته بالكهرباء ، لو قطعت عنه الكهرباء توقَّف ، إذاً هو خاضعٌ للكهرباء ، مفتقرٌ إليها ، يتوقَّف عمله عليها ، بمعنى ساجدٌ لها ، أيْ أنَّ الله عزَّ وجل هو الذي يمد ، فكل مخلوقٍ لو قطع عنه الإمداد أصبح لا شيء ، انتهى وجوده ، إذاً كل الكون ساجدٌ لله سجود القهر والافتقار والحاجة ، هذا السجود ليس كسجود الإنسان ، الإنسان يسجد سجود العبادة ، أي أنه يعرف الله ، يعرف أنه ربُّ العالمين ، وأنه خالق كل شيء ، وأنه المسيِّر ، وأنه المنعم المتفضِّل فيصلي له ويسجد ، وهذا السجود أعلى سجودٍ بين المخلوقات ، فلهذا :
((عبدي المؤمن أحبُّ إليَّ من بعض ملائكتي )) .
( ورد في الأثر )
       ما من شيءٍ أكرم على الله من المؤمن :
(( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ )) .
( من صحيح البخاري عن عبد الله ) 
        زوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن ، الله سبحانه وتعالى يقول في بعض الأحاديث القدسيَّة :
(( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ )) .
( من صحيح البخاري عن أبي هريرة )
     فلذلك من بعض الأقوال التي وردت في الأحاديث القدسيَّة :
(( ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن )) .
( سلسلة الأحاديث الضعيفة )
 
﴿وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾
دليل الاختيار : ] وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ [ .
    لم يقل : والناس ، بل إنه قال :
 
 
﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾
 
    هنا الاختيار ، الإنسان مخيَّر وأمَّا هذه المخلوقات فليست مخيَّرة هي مسيَّرة ، رُكِّبَ الإنسان مِن عقلٍ وشهوة ، رُكِّب الملك مِن عقلٍ بلا شهوة ، رُكِّب الحيوان ِمن شهوةٍ بلا عقل ، وبما أنَّ الإنسان مِن عقلٍ وشهوة ، فهو إذاً له اختيار ، الإنسان مكلَّف لذلك جاء قوله تعالى :
 
﴿وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ﴾
الامتناع عن سجود العبادة جزاءه النار
     لأنه لم يسجد سجود عبادة ، فهذه الفقرة الأخيرة متعلِّقة بسجود العبادة ..
 
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾
وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَه مِنْ مُكْرِمٍ
      إنّ الله عزَّ وجل إذا أكرم إنساناً رأى المستحيل ، عدوُّه يكرمه ..                  
يُنادى له في الـكـون أنَّى نحـبُّه       فيسمع مَن في الكون أمر محبِّنا
*  *  *
       وإذا أراد الله عزَّ وجل أن يهين إنساناً يهينه أقرب الناس إليه ؛ ولده وزوجته ، حتى أنتِ يا فلانة ؟ نعم ، أقرب الناس إليه يُهينُهُ ، وربنا عزَّ وجل حينما يقضي أن يؤدِّب إنساناً فلا ينفعه ذكاؤه ، ولا تدبيره ، ولا حكمته في ردِّ قضاء الله عزَّ وجل .
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾﴿
( سورة الرعد )
       اسألوا الله السلامة ..
 
﴿وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ﴾
    لم يقل الله : فما له مكرم ، بل قال : ]فَمَا لَه مِنْ مُكْرِمٍ [ ، أيْ ولا إنسان يكرمه ، حتى خادمه لا يكرمه ، إنسان تحت يده يقسو عليه في الكلام ، فإذا أكرم الناس أحداً فلا يظن أن هذا بذكائه ، بل هو بفضل الله عزَّ وجل ، وإذا كانت أموره ميسَّرة ، فهذا بفضل الله ، إذا كان الناس يحبُّونه فبفضل الله ، فإذا ظنَّ أنه بذكائه وعمله وحكمته فقد ضلَّ سواء السبيل ..
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾
قال :
     
هنا في هذه الآية عددهم ست ديانات ..
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾   
الناس خصمان يوم القيامة باعتبار الجزاء
     فإذا هم خصمان اثنان في الآخرة ، الحق والباطل ، الإيمان والكفر، الإحسان والإساءة ، الاستقامة والتفلُّت ، قال :
 
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾
    قال : اختصموا ، لِمَ لَمْ يقل الله عزَّ وجل : هذان خصمان اختصما ؟ هكذا الأَوْلَى ، أو هؤلاء خصومٌ اختصموا ؟ هذه تسمَّى في البلاغة نكتة بلاغيَّة ..
 
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾
      أيْ أنَّ هؤلاء ، أصحاب المِلَلِ والنِحَل والمذاهب على كثرتهم هم في النهاية زمرتان ، أناسٌ على حق وأناسٌ على باطل ، أناسٌ خيِّرون وأناسٌ شريرون ، أناسٌ مهتدون ، وأناسٌ ضالون ، أناسٌ ملتزمون وأناسٌ متفلِّتون ، أيْ أنَّ كل هؤلاء في النهاية يرجعون إلى زمرتين اثنتين ..
 
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾
      في ربهم ، أي أن الجهة الأولى وصفت الله عزَّ وجل بما يليق به ، وصَفتْه بالعدل ، وصفته بالرحمة ، وصفته بالعِلم ، وصفته بالقُدرة ، بناءً على وصفهم الصحيح أطاعوه ، وعبدوه ، وتقرَّبوا إليه فرفعهم ، وأسعدهم ، والفريق الثاني لم يصف الله بما يستحق ، قالوا : له شريك ، اتخذ الملائكة بناتٍ .. كما يقولون .. فإذا لم تصف ربَّك الوصف الصحيح ، ولم تنزِّهه عما لا يليق به ، ونسبت إليه الظلم ، فأنت عندئذٍ لا تطيعه ، بل تتعلَّق بالأماني .
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾﴿
( سورة آل عمران : من آية " 24 " )
       عندما يكون وصف الإنسان لله غير صحيح يتكئ على الأمل ، وعلى معانٍ ما أنزل الله بها من سلطان ..
 
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ﴾
    الناسُ فريقان ؛ فريق عرف الله فاستقام على أمره ، وعمل صالحاً فسعد في الدنيا والآخرة ، وفريق آخر ما عرف الله ، ونسب إليه الظلم ، نسب إليه البنات ، نسب إليه الشُركاء ، أو قال : خلق الكون ، وترك الناس يفعلون ما يشاؤون ، أو أن الله أعطى الإنسان قوَّة كما يقول المعتزلة ، ثم هو يفعل بقوَّته ما يشاء ..
 
﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾
جزاء الكفار في النار : ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ، وماء من حميمٍ ، ومقامع من حديد
     قال بعضهم : " أيْ ثيابهم من نحاسٍ ملتهب " ..
 
﴿يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ﴾
ماءٌ يغلي ..
  
﴿يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾   
سياط من حديد ..
﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾
      هؤلاء الذين ما عرفوا الله ، ولم يستقيموا على أمره ، وفعلوا السيِّئات ، فذلك جزاؤهم ومآلهم ..
جزاء المؤمنين في الحنة : أساور من ذهب ولباس الحرير وطيبٌ مِن القول :
 
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ﴾
 
أيْ القرآن الكريم ، أو تسبيح الله وتنزيهُهُ ، ذلك هو الطيب من القول ..
 
﴿وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾
   وسبحان الله فإنَّ آياتِ الحَج جاء دورها ، ونحن على وشك أن يأتي موسم الحج ، فالدرس القادم إن شاء الله سيكون هناك تفسيرٌ دقيقٌ لآيات الحج .
 
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب