سورة التغابن 064 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 04)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة التغابن 064 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 04)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة التغابن

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة التغابن ـ الآيات: (01 - 04)

25/12/2013 16:34:00

سورة التغابن (064)

الدرس (1)

تفسير الآيات: (1-4)

 

لفضيلة الدكتور

محمد راتب النابلسي

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

معنى التسبيح :

 

أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة التغابن:

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

التسبيح أيها الأخوة هو التنزيه عن كل ما لا يليق بالله عز وجل، لذلك الذين يظنون بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء.

 

حسن الظن بالله ثمن الجنة :

 

أخواننا الكرام، الآية الكريمة قوله تعالى:

﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ ﴾

[ سورة فصلت:23 ]

إذا ظننتم بالله غير الحق ظنّ الجاهلية، هذا الظن قد يكون سبب الهلاك، إذا ظننت أن الله سبحانه وتعالى أجبر الإنسان على معاصيه، ثم سيحاسبه على هذه المعاصي فهذا ظنّ السوء، حسن الظن بالله ثمن الجنة.

فكلمة يسبح فيها تنزيه، يجب أن تنزّه الله عن كل ما لا يليق به، يجب أن تنزّهه عن الظلم، يجب أن تنزّهه عن الجهل، قال تعالى:

﴿ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ ﴾

[ سورة الأنعام: 3 ]

يجب أن تنزّهه عن المثلية، قال تعالى:

﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾

[ سورة الشورى: 11 ]

فأي صفة لا تليق بالله عز وجل يجب أن تنزّهه عنها، وهذا فحوى التسبيح، التسبيح هو التنزيه، كل ما خطر ببالك فالله خلاف ذلك.

من معاني التسبيح فضلاً عن التنزيه التمجيد، أن ترى رحمته، أن ترى قدرته، أن ترى غناه، أن ترى أسماءه الحسنى، أن تعرف الله من خلال أسمائه الحسنى، هذا من التسبيح.

 

التسبيح بالمعنى الحقيقي أن تنزّه الله وأن تمجده وأن تخضع له :

 

لماذا قال الله تعالى:

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾

[ سورة الكهف:46]

قال بعض المفسرين: الباقيات الصالحات هن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، التسبيح بالمعنى الحقيقي أن تنزّه الله، وأن تمجده، والمعنى اللازم أن تخضع له، أن تنزّهه، وأن تمجده، وأن تخضع له، إذا سبحته، وحمدته، ووحدته، وكبرته، فقد عرفته، وإذا عرفته عرفت كل شيء، وإذا عرفته وصلت إلى كل شيء، وإذا عرفته جمعت المجد من كل أطرافه، وإذا عرفته حققت الهدف من وجودك.

هذا الكلمات العظيمة أحياناً تفرغ من مضمونها.. سبحان الله.. هذا ذكر، لو عرفنا معنى التسبيح! التسبيح خير لك من الدنيا وما فيها، إنك إن عرفت الله عرفت كل شيء، لكن التسبيح جانب منه تنزيه.

أحياناً يتصور الإنسان أن الله عز وجل يمكن أن يضع إنساناً في النار بعد أن يفني عمره في طاعته، لماذا؟ لأنه لا يسأل عما يفعل، من قال هذا الكلام لم يسبح الله عز وجل، أن يفني الإنسان عمره في طاعة الله، أن يفني شبابه كله، ثم يضعه في النار، لا لشيء إلا أنه لا يسأل عما يفعل، من قال هذا الكلام ما سبح الله أبداً، ولا عرف الله أبداً.

 

العقائد الفاسدة التي تسربت إلى المسلمين تتناقض مع كلام الله ومع أسمائه الحسنى :

 

آلاف العقائد الفاسدة التي تسربت إلى المسلمين، وكل هذه العقائد تتناقض مع كلام الله، ومع أسمائه الحسنى، ومع صفاته الفضلى، لو فهمت الآية الكريمة وهي:

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

[ سورة الشمس الآيات: 8]

على أن الله خلق في الإنسان الفجور، أنت ما سبحت الله، ولا نزهته عما لا يليق به، لو توهمت أن على الإنسان أن يفعل كل المعاصي والآثام، ثم النبي عليه الصلاة والسلام يشفع له، بهذا المعنى الساذج معنى الوساطة لا معنى الرقي، هذا المعنى الساذج للشفاعة إذا ظننته وأيقنت به فأنت لا تعرف الله، قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ﴾

[ سورة الزمر: 19]

(( يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ))

[ مسلم، والترمذي عن أبي هريرة، واللفظ له]

إذا فهمت الحديث الشريف أنها قبضة في الجنة، ولا أبالي، وقبضة في النار، ولا أبالي، هكذا بشكل عشوائي، قبضة في النار، وقبضة في الجنة، فأنت لم تسبح الله عز وجل، ما سبحته ولا عرفته، أين قوله تعالى:

﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾

[ سورة غافر: 17]

 

الآيات التالية تبين عدالة الله المطلقة :

 

أين قوله تعالى:

﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾

[ سورة الزلزلة: 7-8]

أين قوله تعالى:

﴿وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[سورة النساء:77]

أين قوله تعالى:

﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾

[سورة الأنبياء:47]

كل هذه الآيات تبين عدالة مطلقة، تبين حساباً دقيقاً، فإذا توهمت غير ذلك فأنت لا تعرف الله، وأنت لم تسبح الله، ولم تنزّه الله عما لا يليق به، فلذلك حسن الظن بالله ثمن الجنة.

 

كل ذرة مخلوق يسبح الله عز وجل :

 

كلمة ( يسبح ) كلمة كبيرة جداً، تعني نزهته عما لا يليق به، ووصفته بكمالاته التي تليق به، ثم خضعت له.

ربنا عز وجل يخبرنا أن كل ما في السموات وما في الأرض-كلمة السموات والأرض مصطلح قرآني يعني الكون، والكون ما سوى الله- وكل ما سوى الله من خلائق كلها تسبح الله، يا ترى المخلوق على أي مستوى؟ في الأعم الأغلب على مستوى الذرة، السبب:

﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾

[ سورة الإسراء: 44]

إذاً الذرات تسبح بحمد الله، وقال تعالى:

﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾

[ سورة فصلت: 21]

فحوى هذه الآية يشير إلى أن الجلد كائنات، معنى هذا أن الجلد خلايا، وأن كل خلية كائن يسبح الله، وسوف يشهد على الإنسان جلده ] لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا [، معنى ذلك أنه على مستوى كل ذرة كائن يسبح الله عز وجل، رأس الدبوس كم ذرة فيه؟ ألوف الملايين من الذرات، الكون كم ذرة؟ كل ذرة مخلوق يسبح الله، إذاً معنى قول الله تعالى:

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

ينزهه، ويمجده، ويخضع له إلا الإنسان.

 

الإنسان الذي سخر له ما في السموات و الأرض هو وحده الغافل و الشارد :

 

هذا الإنسان المخلوق الأول الذي سخّر الله له ما في السموات والأرض، والذي كرّمه الله، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾

[ سورة الإسراء: 70 ]

المخلوق الأول المكلف والمكرم، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات: 56 ]

هذا المخلوق الذي سخرت له السموات والأرض، والذي كرمه الله، والذي جعله خليفة له، والذي أمره أن يعمر الأرض، هذا المخلوق الأول وحده الغافل، هو وحده الشارد، هو وحده الشاذ.

 

الإنسان إن لم يسبح فقد شذّ عن كل المخلوقات التي هي في الأصل دونه :

 

هناك معنى دقيق في الآية:

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

طالب مثلاً- ولله المثل الأعلى- ولكن من باب التوضيح، طالب لم يؤدِّ واجبه الدراسي، قال له المعلم: كل الطلاب قد أدوا واجبهم إلا أنت، هذا توبيخ لهذا الطالب، كل الطلاب من دون استثناء قد أدّوا واجبهم المدرسي إلا أنت، في هذه الآية معنى أن الإنسان إن لم يسبح فقد شذّ عن كل المخلوقات التي هي في الأصل دونه.

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

ما معنى كلمة ما في السموات؟ أنا ذكرت لكم قبل مدة أن مركبة فضائية أرسلت إلى المشتري، وسارت بأقصى سرعة اخترعها الإنسان، أربعون ألف ميل في الساعة، هذه المركبة بقيت تمشي في الفضاء الخارجي ست سنوات، إلى أن وصلت لقرب المشتري، وعليها مرصد عملاق التقط أبعد مجرة اكتشفت حتى الآن، هذه المجرة تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، هذا الخبر أذيع قبل عام أو أكثر من إحدى محطات الأخبار العالمية، لو أردت أن تصل إلى نجم ملتهب يبعد عنا أربع سنوات ضوئية لاحتجت إلى خمسين مليون عام، هذا هو الكون، هذه معرفتنا به حتى الآن، الكون غير محدود بالنسبة إلينا، ولكن بالنسبة إلى الله فمحدود.

 

أعلى أنواع التكريم أن الكون كله مسخر للإنسان بنص القرآن الكريم :

 

هذا الكون أيها الأخوة عبّر عنه القرآن الكريم بكلمة السموات والأرض، كم مجرة؟ بعضهم قال: قريبًا من مليون مَليون مجرة، المجرة كم نجم فيها؟ قريبًا من مليون مَليون نجم، درب التبابنة مجرتنا مجرة متوسطة، شكلها مغزلي، المجموعة الشمسية نقطة في هذه المجرة، المجموعة الشمسية قطرها ثلاث عشرة ساعة ضوئية، الشمس ثماني دقائق، القمر ثانية، فكلمة غزو الفضاء تعني تخطوا ثانية ضوئية واحدة، أما أبعد مجرة فثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، ربنا عز وجل يقول:

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

كل يسبح، وينزه، ويمجد، ويخضع، في الآية معنى أن الإنسان إن لم يكن كذلك فهو شاذ، أيعقل أن كل ذرة في السموات والأرض تسبح الله عز وجل، وأنت أيها الإنسان المخلوق الأول لا تسبح؟ الآية الكريمة التي تقول:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ﴾

[ سورة الأحزاب: 72 ]

أنت أيها المخلوق الأول، وأنت المخلوق المكرم في شكلك، وقوامك، وصورتك، وزواجك، وفي كل شيء، و أعلى أنواع التكريم أن الكون كله مسخر لك بنص القرآن الكريم:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ﴾

[ سورة الجاثية: 13]

أيعقل أيها الإنسان أن يسبح الكون كله وأنت لا تسبح؟! أينزه الكون كله وأنت لا تنزّه؟! أيمجد الكون كله وأنت لا تمجد؟! أيخضع الكون كله وأنت لا تخضع؟! أيعقل هذا؟!

 

الله عز وجل له الملك وله الحمد :

 

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾

الملك واضح، والحمد واضح، لكن أحياناً أن تجمع الملك إلى الحمد، قد تجد من يملك ولا يحمد، وقد تجد من يحمد ولا يملك، الذي يملك ولا يحمد لا تحبه، لأنه ظالم، والذي يحمد ولا يملك لا ينفعك، لأنه ضعيف، أما الله عز وجل ففي الوقت نفسه له الملك وله الحمد، أنت لاحظ نفسك، لو أن دائرة تهملك لسألت من المدير؟ أول سؤال: من؟ الثاني: كيف هو؟ يهمك أولاً من هو، ثانياً ما أخلاقه، مستقيم ومنصف، تسأل من؟ ثم تسأل كيف؟.

لذلك قال بعضهم: الحمد لله على وجود الله، والحمد لله على ملك الله، والحمد لله على كمال الله، الإنسان إذا اعتقد لحظة واحدة أن أمره بغير يد الله فقد أشرك، إذا اعتقد للحظة واحدة أن حياته بغير يد الله فقد أشرك، إذا اعتقد أن رزقه بغير يد الله فقد أشرك، قال تعالى:

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده.

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾

 

ملكية الله مطلقة خلقاً وتصرفاً ومصيراً :

 

ذكرت من قبل إذا قلت: الله له الملك، أو مالك الملك، أو بيده ملكوت كل شيء، فهذه الملكية المطلقة، أحياناً تملك أنت شيئاً لكن لا تملك مصيره، وفي القرآن الكريم آية دقيقة جداً، وهي قوله تعالى:

﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾

[ سورة هود: 123 ]

فهو في عيشة مرضيّ عنها أم راضية؟ بعض المفسرين قال: الإنسان قد يرضى عن حياته، قد يرضى عن بيته، لأنه واسع، قد يرضى عن زوجته الصالحة، قد يرضى عن أولاده، هم أبرار، قد يرضى عن دخله هو كبير، قد يرضى عن مركبته هي حديثة، قد يرضى عمن حوله، لكن هل يستطيع أن يضمن بقاء كل هؤلاء معه؟ إذا لم يضمن بقاء كل هؤلاء معه فهم إذاً بالتعبير المجازي ليسوا راضين عنه، أما الآية الكريمة فتعني أن هذه المعيشة في الجنة لن يخسرها، لن يغادرها إطلاقاً، ربنا عز وجل كنّى عن دوام حال أهل الجنة بأنهم في عيشة، هي راضية عنهم، وليس مرضي عنها فحسب.

في الدنيا الأمر خلاف ذلك، لأنه له الملك، لأن ملكية الله ملكية مطلقة، الله عز وجل يملك كل شيء خلقاً وتصرفاً ومصيراً، قد تمل، ولا تنتفع، وقد تنتفع ولا تملك، وقد تملك وتنتفع، ولكن مصير هذا المملوك ليس في يدك، فإما أن تفارقه بالموت، وإما أن يفارقك بالموت، الآن زوجان محبان بأعلى درجات المودة، هل يضمن أحدهما أن يبقى معه الآخر إلى أبد الآبدين؟ الزوجة التي يهيم بها الإنسان إما أن يتركها بالموت، وإما أن تتركه بالموت، أو بالطلاق، افرض المحبة إلى أعلى درجة، والوفاء كذلك، أنت لا تملك هذه الزوجة، تملكها ما سمح الله لها أن تبقى معك، إذاً ملكية الله مطلقة خلقاً وتصرفاً، قد تملك رقبة الشيء ولا تملك منفعته، مثال البيت المؤجر، قد تملك منفعته كمستأجر ولا تملك رقبته، وقد تملك رقبته ومنفعته، أن تسكن فيه وهو ملكك ولا تملك مصيره، إذاً ملكية الإنسان ليست مطلقة، وليست كافية، بل ملكية ناقصة، الإنسان مالك جسمه، يتحرك، ولكن هل تملك القلب؟ لا، هل تملك انتظام دقات القلب؟ لا، هل تملك بقاء الشرايين مفتوحة؟ لا، هل تملك الخلايا التي في الجسم ألا تنمو نمواً عشوائياً؟ لا، هل تملك ألا يتجمد الدم في بعض الشرايين وخاصة في الدماغ؟ لا، هل تملك سيولة الدم دائماً؟ لا، قد تكون في أعلى درجة في المجتمع، بمجرد أن تتجمد نقطة دم في أحد شرايين الدماغ تصاب بالشلل، أو بالعمى، أو بفقد الذاكرة، إذاً الله عز وجل قال:

﴿ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾

مع أنه يملك ملكية مطلقة، لكنه لا يتصرف بما يملك إلا بما يحمد على تصرفه، مع أنه يملك ملكية مطلقة خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، إلا أن تحمده حمداً مطلقاً على جميع تصرفاته، قال تعالى:

﴿ وآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ لِلَّه رَبّ العالَمِينَ ﴾

[ سورة يونس: 10 ]

 

الله عز وجل قدرته مطلقة :

 

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ﴾

يسبح كلمة كبيرة جداً، إذا سبحت الله فقد عرفته، إن نفيت عنه ما لا يليق به أن يتصف به، إن مجدته، ونسبت إليه الكمال الذي يليق به، إن خضعت له، فقد سبحته.

﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

قدرته مطلقة، لذلك الإنسان أحياناً مع البشر أتمنى ولكن ليس عندي إمكانيات، إلى هنا تقف إمكانيتي، أما إذا عرفت الله فليس عنده شيء مستحيل، أعظم مرض يشفيه الله عز وجل، لكن أنت مع الأشخاص هناك حدود، هناك سقف، كل إنسان له سقف، فوق كل قوي أقوى، وكل عالم فوقه أعلم، أنت إذا تعاملت مع البشر فألف سقف فوقك، أما إذا تعاملت مع خالق البشر، وهو على كل شيء قدير، فقدير على أن يخلق من الضعف قوة، ومن الفقر غنىً، ومن الشقاء سعادة، ومن الضياع وجداناً، ومن التشتت اجتماعاً، وهو على كل شيء قدير.

لو فرضنا في جلسة أحد الحاضرين من أقوى الأشخاص، تجد الأنظار كلها متجهة نحوه، كلها تعقد أبصارها عليه، كلها تشرئب أعناقها إليه، كلها تثني عليه، الإنسان يحب القوي، القوي يركن إليه، القوي يحمي، فكيف إذا كان الله خالق السموات والأرض هو ملاذك؟ هو ربك وإلهك؟ هو الذي تعبده؟

يقولون: الإنسان يتقوى بمن يعتمد عليه، هل يجوز مثلاً أن نعطي الطفل الصغير زكاة المال؟ الجواب: لا يجوز، إذا كان الطفل له أب غني العلماء قالوا: هو غني بأبيه، لو قست هذه النقطة في الفقه، المؤمن الصادق قوي بالله، عالم بالله، غني بالله، مادام هو مع الله فالله قوي، هو قوي بقوة الله، غني بغنى الله، عليم بعلم الله، رحيم برحمة الله، تخلقوا بأخلاق الله، إذا كنت مع الله كنت مع القوي الرحيم، الغني العليم.

 

أساس كل شيء الاختيار والاختيار من لوازمه الحياد :

 

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾

هل في هذه الآية ما يشير ولو واحد بالمئة أن الله عز وجل هو الذي خلق الكافر كافراً؟ لكن الله عز وجل خلق الإنسان بطبيعة وخاصية تتيح له أن يؤمن كما تتيح له أن يكفر، لأن الإنسان في الأصل مخير، إذاً بإمكانه أن يؤمن كما بإمكانه ألا يؤمن، مادام أصل الإنسان مخلوقًا أول، مكرمًا، مكلفًا حمل الأمانة، والأمانة نفسه التي بين جنبيه، فأساس الثواب والعقاب الاختيار، أساس الجنة والنار الاختيار، أساس كل شيء الاختيار.

والاختيار من لوازمه الحياد، أما إذا لم يستعمل شيئاً إلا في وظيفة واحدة فليس بالإمكان أن تكتب في التعليمات أنه يستعمل في وظائف عديدة، مصمم أن يقدم لك خدمة واحدة، وهناك آلات مصممة أن تعمل على تيارين إذاً فيها اختيار، آلة مئة وعشرة لا تعمل في أي مكان، تعمل على تيار واحد فليس فيها اختيار أبداً، أما إذا كان بالإمكان أن تعمل على التيارين، فإنه يوجد مكان، يقول لك: إن أردت أن تعملها على هذا التيار فافعل كذا، وافعل كذا، مادام في الإمكان أن تعمل على تيارين فهناك اختيار، من لوازم الاختيار الحياد، مادام الإنسان مخيرًا فطبيعته النفسية قابلة أن تؤمن وقابلة أن تكفر.

 

الحكمة من تقديم الكفر على الإيمان :

 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾

ولكن لماذا قدم الكفر على الإيمان؟ لأن الكفار أكثر، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾

[ سورة الأنعام: 116 ]

هناك شيء آخر، هذه النفس البشرية فيها قابلية الإيمان كما أن فيها قابلية الكفر، لذلك الإنسان مخير، مخير لأن فيه قابلية الإيمان والكفر، هذه العلاقة ترابطية، مخير لأنه يملك قابلية الإيمان والكفر معاً، إذاً هو مخير.

شيء آخر هو أن الإنسان أودع الله فيه قوة إدراكية، وأعطاه ميزاناً، وأنزل عليه ميزاناً، جعله بقابلية مزدوجة، وأودع فيه قوة إدراكية، وأعطاه ميزاناً ذاتياً، وأنزل عليه ميزاناً ثابتاً، الشرع هو الميزان الثابت،.والعقل الميزان الخاص،.والقوة الإدراكية هي العقل،.والإنسان في بنيته حيادي،.يؤمن أو لا يؤمن،.هذا معنى قول الله عز وجل:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ ﴾

أن تضرب لنفسك الأمثلة الكثيرة، أدوات كثيرة تستعملها لوظيفتين، مادام هناك  وظيفتين فينبغي أن يكون فيها مكان يشير إذا أردت هذه الوظيفة فافعل كذا، أما آلة تعمل على تيار واحد فليس فيها اختيار أبداً، وأي آلة تعمل على تيارين ترى فيها مكان على اليمين مئة و عشرة ، على اليسار مئتان و عشرون، لأنها تعمل على تيارين، كان هناك اختيار طبعاً، هذا مثل من الآلات.

 

الإنسان مخير وله طبيعة ازدواجية وأعطاه الله قوة إدراكية وميزانًا :

 

و مِن في قوله: ] فَمِنْكُمْ [ للتبعيض، أي بعضكم آثر الدنيا، وكذب برسالات السماء، وأعرض عن الله، فكان كافراً.

إذاً مجمل هذه الآية هو أن الله عز وجل هو الذي خلقكم، الإنسان وحده مع الجنّ، مخلوقان متميزان، أولاً: مكلفان ومكرمان، الإنسان سرّ وجوده أنه يفعل أفعالاً اختيارية هي ثمن الجنة، لأن الاختيار سرّ ثمن الجنة، فجعله الله عز وجل في قابلية مزدوجة، يؤمن أو يكفر.. يستقيم أو ينحرف.. يصدق أو يكذب.. يخلص أو يخون.. ينطلق بدافع الشهوة أو بدافع المبدأ.. يرجو الدنيا أو الآخرة.. يرحم أو يقسو.. الإنسان في طبيعة اثنينية، أي طبيعة مزدوجة، هذه الطبيعة الاثنينية هي سعادته الأبدية، بإمكانه أن يؤمن أو لا يؤمن.. بإمكانه أن يتصل بالله أو لا يتصل، بإمكانه أن يحسن، وبإمكانه أن يسيء، أولاً: مخير، وله طبيعة ازدواجية، وثانياً: أعطاه الله قوة إدراكية، وثالثاً: أعطاه ميزانًا، قال تعالى:

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾

[سورة الرحمن : 7 ]

ولئلا يختل ميزانه أعطاه ميزانًا ثابتًا وهو الشرع، فهناك ميزان ثابت مركزي، وميزان مع كل إنسان، وقوة إدراكية، واختيار، وطبيعة ازدواجية، يصدق أو يكذب.. يخلص أو يخون.. يؤمن أو يكفر.. يعطي أو يمنع.. ينصف أو يظلم، هذه هي الطبيعة.

 

الناس رجلان برّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله :

 

يبدو أن التقسيم القرآني لبني البشر ألغى الأعراق، والأنساب، وأصول الشعوب، كل هذه كلمات ما أنزل الله بها من سلطان، البشر سواسية كأسنان المشط، منكم مؤمن ومنكم كافر، فكل انتماءات البشر العرقية والمذهبية والانتماءات اللونية، الأصفر والأبيض، والغني، والدول الشمالية والغنية، والدول الفقيرة، كل هذه التقسيمات لم يعتمدها القرآن، قال:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ ﴾

الناس رجلان، برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، منكم مؤمن ومنكم كافر، هذا هو التقسيم لذلك لا يضاف للمؤمن ولا كلمة، ولا يضاف إلى الكافر ولا كلمة، الكافر كافر من أي بلد، من أي عرق، من أي نسب، من أي مصر، الكافر هو الكافر، قبل خمسة آلاف سنة الكافر يشبه كافراً معاصراً، والمؤمن هو المؤمن، والمستقيم هو المستقيم، وأينما ذهبت، وأينما حللت، هذا هو التقسيم القرآني:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾

بالعكس، أنت مؤمن، لو ذهبت إلى بلدٍ بعيد، والتقيت بأخ مؤمن تشعر إذا كنت صادقاً في إيمانك أنه أقرب إليك من أخيك النسبي من أبيك وأمك المتفلت، هذه أكبر علامة من علامات الإيمان قد تلتقي بإنسان في أقصى الدنيا، لكن عرف الله، واستقام على أمره، تجده أقرب إليك من أقرب الناس إليك نسباً، لأن الله عز وجل قال:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾

تلتقي مع المؤمن بمليون قاسم مشترك، وأقرب الناس إليك من أم وأب، ومورّثات واحدة، وبيئة واحدة، وعادات وتقاليد، كل هذه القواسم المشتركة قد تجعل إنسانًا يؤمن، وإنسانًا يكفر، فإذا كفر الكافر، وآمن المؤمن، كان بينهما هوة كبيرة جداً، بينما تلتقي مع أخيك بطرف الدنيا، إذا عرف الله، واستقام على أمره، هذا هو تقسيم القرآن الكريم.

 

العمل لا يمكن أن يُعرف حق المعرفة إلا من قِبل الله عز وجل :

 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

يعرف حقيقة العمل، وحجمه، وهدفه، وتضحياته، إلى آخره، العمل لا يمكن أن يعرف حق المعرفة إلا من قبل الله عز وجل، لك الظاهر قد يبدو لك عملاً طيبًا، ولكن وراءه نية خبيثة، قد يبدو لك عملاً هزيلاً، ولكنه عند الله عظيم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 (( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ))

[مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

والحقيقة، الله بما تعمل بصير، وأنت على نفسك بصير، لذلك لا يمكن أن تخدع الله، ولا أن تخدع نفسك، قال تعالى:

﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ﴾

[سورة النساء: 142 ]

وقال تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾

[ سورة القيامة: 14-15 ]

 

الإنسان خلق ليبقى إما في جنة يدوم نعيمها أو في نار لا ينفد عذابها :

 

ثم يقول الله عز وجل:

 

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾

هذه الآية وردت كثيراً في القرآن الكريم، الباء باء الملابسة، أي لابس خَلقها الحق، الحق الشيء الثابت المستقر، أما الباطل فالشيء الزائل.

أحيانا نبني جناحاً في معرض لأسبوعين فقط، قد يكون جداراً، أو قماشاً، أو كرتون، أو مواد رخيصة جداً، لأن هذا البناء بني ليهدم بعد أسبوعين، أما حينما تبني بناءً ليبقى إلى أبد الآبدين فإنك تعتني به عناية كبيرة، من باب التقريب، كل شيء خلقه الله خلقه بالحق، أي خلق ليبقى إلى أبد الآبدين، لتبقى حقيقته، فأنت إنسان مخلوق بالحق، تذوق الموت ولا تموت:

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾

[ سورة الزخرف: 77]

خلقت لتبقى إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها، لكن خلقت لتبقى، والكون خلق ليبقى، الحق الثبات، الديمومة، الاستقرار، ثم السمو لهدف نبيل، الدليل أن الله عز وجل قال:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾

[ سورة الأنبياء: 16 ]

واللعب هو العبث، فصار الحق نقيض الباطل، والعبث نقيض الاستقرار والدوام، ونقيض العبث الهدف النبيل، لأن العبث هدف غير نبيل.

 

الله عز وجل خلق البشر فأحسن صورهم :

 

إذاً خلق السموات والأرض بالحق، وأنتم يا بني البشر صوركم فأحسن صوركم، أنت منتصب القامة، أما غير مخلوق فيمشي على أربع، أنت تأكل اللب، ويأكل الحيوان القشر، طعامك منوع أنواعاً لا يعلم عددها إلا الله، أما الحيوان فطعامه واحد، أنت لك زوجة، وأولاد، وبيت تسكنه، أودع فيك العقل، فبالعقل ركبت الطائرة، وغصت في أعماق البحار، وارتديت أجمل الثياب، وسكنت في أفخر البيوت، أعطاك شيئًا ثمينًا هو أخطر ما في الكون، ألا وهو العقل، أعطاك العقل، وجعل لحياتك زوجة من نفسك على شاكلتك، إنسان تعلم كما تعلم، وتحب كما تحب، إذاً كرمك بالزوجة، والأولاد، والعقل، والطعام، والشراب، كم نوع من الأزهار في الأرض؟ مئات ألوف الأنواع، كلها تكريماً لك، إذاً:

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾

منتصب القامة، جعل هذا الجلد الجميل.. لولا هذا الجلد لكان الإنسان مخيفاً، أعطاك الحواس الخمسة، تسمع، وترى، وتلمس، وتنطق، أعطاك حاسة اللمس، والذوق، والسمع، والبصر، وهناك حواس أخرى.

﴿ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾

هاتان الآيتان لنا عودة لهما إن شاء الله في الدرس القادم.

والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب