سورة القمر 054 - الدرس (4): تفسير الأيات (33 – 46) - عذاب الدنيا ليس بشيء أمام عاب الآخرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القمر 054 - الدرس (4): تفسير الأيات (33 – 46) - عذاب الدنيا ليس بشيء أمام عاب الآخرة

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القمر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القمر ـ الآيات: (33 - 46) - عذاب الدنيا ليس بشيء أمام عاب الآخرة

01/09/2013 18:28:00

سورة القمر (054)
الدرس (4)
تفسير الآيات: (33-46)
عذاب الدنيا ليس بشيء أمام عاب الآخرة
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الكرام : مع الدرس الرابع من سورة القمر ، ومع الآية الثالثة والثلاثين .
 
   الاستقامة على أمر الله :
  
أيها الإخوة : قبل أن نمضي في الحديث عن الأقوام الذين كذبوا واستحقوا عذاب الله عزَّ وجل ، لابدَّ من حقيقةٍ محورية في هذا الدرس وهي : أن كل قومٍ كذَّبوا الحق ، وانحرفوا ، وعصوا ، جاءهم الإنذار تلو الإنذار ، فركبوا رؤوسهم واستكبروا ، ثم جاءهم العذاب ، والسؤال هنا:  إذا تحقق الإنسان أن هذا الإنذار صادق ولا شك في مصداقيته أبداً ، وأن هذا الذي وقع بعد الإنذار من عذاب استئصال لا يمكن لواحدٍ أن يتفلت منه ، فإذا ثبت لديك مصداقية الإنذار وحتمية العقاب ، فماذا يجب عليك أن تعمل ؟ أنت في تعاملك مع الدنيا ، ومع من حولك ، إذا ثبت لديك أن واحداً من الناس إذا قال فعل ، وأنه إذا أراد أن يفعل لن تستطيع أن تتفلت من قبضته ، فعليك أن تجد نفسك مستقيماً على أمر الله .
 
العذاب الأليم لمن كذب بدعوة الأنبياء :
  
العبرة من هذه القصص أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن أقوامٍ كثيرين ، حدثنا عن قوم نوح ، وعن قوم صالح ، وعن عادٍ وثمود ، وحدثنا عن قوم فرعون ، وعن قوم لوط ، وكيف أن هناك قاسماً مشتركاً بينهم جميعاً ، كذبوا دعوة الأنبياء ، وكذبوا وعيد الأنبياء ، وانحرفوا ، فجاءهم العذاب الأليم ، وهذه سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنة الله تحويلاً .
ومرةً ثانية أعود وأقول : إن كل القصص في كتاب الله ، لا يمكن أن تكون قصة بمعنى أن أشخاصاً ، ووقائع ، وحوادث ، وحواراً ، ووصفًا ، وبداية ، وعقدة ، ونهاية ، نقرأها فنستمتع بها ، أو نقرأها فنأخذ علماً بها ، قصص كتاب الله عزَّ وجل فوق هذا بكثير ، إنها قوانين صيغت على شكل قصص ، وإنها حقائق صيغت على شكل حوادث ، وإنها سنن صيغت على شكل أشخاصٍ يتحاورون ، فالذي يعنينا من هذه القصص ، أن الإنذار صادق ، وأن العقاب حَتْميّ ، فإذا كان الإنذار صادقاً والعقاب حتمياً فماذا ينبغي لنا أن نعمل ؟ ينبغي لنا أن نستقيم على أمر الله ، وأن نفر إليه ، وأن نلجأ إليه .
 
الهلاك عاقبة من يخالف الحكم والفطرة :
  
الله سبحانه وتعالى يقول :
      
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾
قوم لوط الذين أرسل الله لوطاً إلى هدايتهم ، هؤلاء كانوا منحرفين انحرافاً أخلاقياً ، آثروا الرجال دون النساء ، واليوم كما تعلمون في أمريكا وحدها كما تقول الإحصاءات سبعة عشر مليون شاذ ، وما مرض الإيدز الذي هو وباء العصر إلا بسبب هذا الانحراف ، فهؤلاء القوم انحرفوا عن الفطرة التي فطرهم الله عليها إلى طريقةٍ شاذةٍ في إشباع هذه الرغبة ، والحقيقة أنّ ثمة فرقاً كبيراً بين الزاني وبين اللوطي ، فالزاني خالف الحكم الشرعي ، لكن الشاذ خالف الفطرة ، إنه فرق كبير جداً ، فالتصميم الإلهي ..
﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾
 (سورة النجم (
فهناك المكان الطاهر ، المكان الذي ينبت .. ﴿ نساؤكم حرثٌ لكم ﴾ ، مكان إنجاب الأولاد ، المكان الطبيعي الذي خلق للإنسان ، فالذي أراد انحرافاً وشذوذاً لم يخالف الحكم الشرعي بل خالف الفطرة ، ولذلك فهؤلاء القوم خالفوا الحكم والفطرة معاً ، فاستحقوا الهلاك ، لكن هذا على مستوى قوم ، وعلى مستوى فردي فالإنسان إذا انحرف وخالف تعليمات الصانع فالعقاب حتمي ، لكن رحمة الله عزَّ وجل تقتضي أن يسبق عقابه إنذاره ، ولذلك قال تعالى :
 
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً﴾
 
البلاء العام لا يصيب المؤمنين الصالحين :
   
القصة في أماكن أخرى بشكل مفصل ، أحياناً ربنا عزَّ وجل يعرض القصة مفصلةً في مكان وموجزة في مكان آخر ، بل إن بعض علماء التفسير قالوا : إن كل قصةٍ عرضت في كتاب الله عزَّ وجل ، عرضت من زاوية ، فإذا رأيت قصة موسى عليه السلام .. مثلاً .. عرضت في أماكن عديدة جداً ، ففي كل مكانٍ من كتاب الله عرضت القصة من زاويةٍ معينة ، فاليوم في سورة القمر ليس هناك تفصيلات كثيرة حول هذه القصة .
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ * إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً﴾
 
رياحٌ فيها حجارة ، أهلكتهم ..
  
 
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾
من هم آل لوط ؟ الذين آمنوا معه ، فالقاعدة الثانية أن الله سبحانه وتعالى إذا أنزل بلاءً عاماً وكان في هؤلاء القوم أناس مؤمنون،صالحون ، مستقيمون ، فالله جلَّ جلاله ينجِّيهم  .
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
) سورة الزمر (
 
   حيقة الإيمان أن الأمور كلها بيد الله تعالى : 
 
"لكل شيءٍ حقيقة وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه " ، ليس هناك شيء طائش ، شظية طائشة ، أو قذيفة طائشة ، أو رصاصة طائشة ، كل هذه القذائف مسوَّمة ، أي عليها اسم صاحبها ، هذا هو الإيمان ، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾
) سورة الزمر (
إن لم نؤمن أن الأمور عند الله محسوبة بأدق التفاصيل فالإيمان يحتاج إلى تجديد ، فهؤلاء القوم الذي استحقوا الهلاك من الله عزَّ وجل ، لكن آل لوطٍ الذين آمنوا معه نجَّيناهم بسحر ، قال  :
﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾
)سورة الذاريات (
فاستبدل كلمةً لا تقل : طائشة ، بل قل : مسوَّمة ، وهذه قاعدة مطبقة في كل الحياة ، كل شيء مسوم وما في الحياة شيء طائش أبداً ، لأن الله عزَّ وجل كماله مطلق ، وكل شيء بيده ..
 
   نجاة المؤمن الصادق من الكرب العظيم : 
 
﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾
 
)سورة الزمر(
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾
) سورة الأعراف : آية " 54 " )
﴿مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً﴾
 (سورة الكهف (
 
﴿نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾
يمكن أن تستمع إلى آلاف القصص في حياتنا ، كيف أن الله سبحانه وتعالى نجّا المؤمن المستقيم من كربٍ عظيم ، ومن كارثةٍ كبيرة ، ومن مصيبةٍ طاحنة ، لسببٍ صغيرٍ صغير لم يلق له بالاً ، لكن :
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
) سورة الأنبياء  (
 أن ينجي الله المؤمنين هذا أحد قوانين الله عزَّ وجل ، نجاة المؤمنين من الكرب العظيم إحدى سنن الله عزَّ وجل .
 
طاعة الله أساس كل طمأنينة وليس حذرك : 
 
بالمقابل الإنسان مهما كان ذكياً ، ومهما كان عاقلاً ، وحكيماً ، و أخذ الحيطة ، والحذر ، واستعدّ لكل الاحتمالات ، وسد كل الثغرات ، فقد يأتيه المُصاب من مأمنه ، وقد قيل : يؤتى الحذِر من مأمنه ، وقد قال عليه الصلاة والسلام :
((لن ينفع حذرٌ من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ((
( أخرجه أحمد عن معاذ )
فالإنسان لو أنه لم يكن مستقيماً ، وكان حكيماً ، وذكياً ، وعاقلاً ، وسد الثغرات ، وأخذ كل الاحتياطات ، وتوقَّع كل الاحتمالات ، وأخذ بكل الأسباب ، فالله جلَّ جلاله يؤدبه من الجهة التي اطمأن إليها ، ومن الجهة التي أغلقها ، واعتمد عليها ، ومن مكانٍ لا يتوقَّعه ، فما الذي ينفعك ؟ لا ينفعك حذرك ، بل تنفعك استقامتك (دقق في هذا الكلام) . لا ينفعك ذكاؤك ولا مالك ، ولا حذرك ، ولا أن تأخذ بالأسباب ، ولا أن تسد الثغرات ، ولا أن تتوقَّع الاحتمالات ، ولا أن تغطي المُشكلات ، فلا ينفعك إلا أن تطيعه ، فإن أطعته طمأنك ، وحماك ، وحفظك ، وأيَّدك ، ونصرك .
 
الاعتماد على الأسباب وحدها توقع الإنسان بالعذاب الأليم :
   
الآن : الإنسان أحياناً يكون غارقًا في المعاصي ولكن يقول : هذه القضية أغلقتها ، وهذه القضية أخذت الحيطة منها ، لا ، لا ينفع حذرٌ من قدر ولكن ينفع الدعاء مما نزل ومما لم ينزل ، فلا يمنعك من الله إلا أن تكون على أمره ونهيه ، والحذِر يؤتى من مأمنه ، فمثلاً : أحياناً طبيب متفوق في اختصاصه ، وقد أمضى ثلاثين عاماً في الدراسة فهذا المرض وأسباب الوقوع فيه ، هو واثقٌ من نفسه إلى درجة أنه لن يصاب بهذا المرض لأنه عليمٌ بكل تفاصيله ودقائقه ، فمثل هذا الإنسان الذي اعتمد على علمه وظن أن الأسباب وحدها تكفي ، قد يصاب بهذا المرض تأديباً له على شركه ، أو على اعتماده على الأسباب .
إذاً : ننطلق في بداية هذا الدرس من أن الله سبحانه وتعالى ذكر لنا أقواماً كثيرين جاءتهم رسالة السماء فكذبوا بها ، وأنذروا بعذابٍ إذا هم عصوا فلم يعبئوا بهذا الإنذار ، فجاءهم العذاب الأليم فاستأصلهم ، قال تعالى :
 
﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
) سورة القمر(
 
   المنطق والعقل والفطرة تدعوك إلى طاعة الله : 
 
إذا أيقنت بمصداقية الإنذار ، وإذا أيقنت بحتمية العقاب ، فالمنطق والعقل والفطرة تدعوك إلى طاعة الله عزَّ وجل.
      
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً﴾
أي رياحاً محملةً بالحجارة فأهلكتهم عن آخرهم ..
﴿إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ﴾
وكل إنسان له معاملة خاصة إذا كان مطيعاً لله ، فالقاعدة هناك من يقول : إن البلاء يعم . ولكن البلاء يعم بحالة واحدة ، أن يسكت الإنسان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أما الإنسان المستقيم الذي يذكر الله عزَّ وجل ويذكِّر بالله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فمثل هذا الإنسان الله جلَّ جلاله يأخذ الله بيده ويحفظه وينصره .
 
معية الله عز وجل خاصة ومشروطة :
  
الحقيقة التي تعرفونها جميعاً ، هي أن الله سبحانه وتعالى حينما قال :
﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾
)سورة الأنفال(
وفي آية أخرى  :
                                              ﴿ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾
 (سورة البقرة(
       وفي آية :
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
 (سورة البقرة(
  قالوا : هذه المعية الخاصة ، معية النصر والتأييد والحفظ والتوفيق ، لكن هذه المعية مشروطة ، وهي خاصةٌ ومشروطة ، مشروطةٌ حينما قال الله عزَّ وجل  :
﴿وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
 (سورة المائدة : آية " 12 " )
أنا معكم إن فعلتم كذا وكذا ، فمعية الله عزَّ وجل خاصةٌ ومشروطة ، خاصةٌ بالمؤمنين ، وبالمتقين ، وبالصابرين ، ومشروطة بطاعة الله،فإذا كنت مع الله كان الله معك.
 
الصدق والإخلاص علامة نجاة المؤمن من عذاب الله : 
     
﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾
دققوا في هذه الآية ..
     
﴿إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾
النجاة نعمة كبيرة جداً ، لكن لئلا تتوهم أن هذه قصة ، وأن هذه وقعت ولم تقع بعد اليوم ، دقق في قوله تعالى  :
﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾
إلى يوم القيامة ، أرأيتم كيف أن الله سبحانه وتعالى لا يريدها قصةً ؟ بل يريدها قانوناً ، ويريدها قاعدةً ، وحقيقةً ثابتةً ، ومتجددةً في كل زمانٍ ومكان ، وأنت بعد ألفي عام ، وبعد أربعة آلاف عام من هذه الحادثة ، مؤمن يعيش في القرن العشرين ، في مكان من بقاع الله الواسعة ، لو أنه كان صادقاً مخلصاً وجاء كربٌ عظيم نجَّيناهم بسحر .
 
قدرة الله في دفع البلاء عن المؤمن :
 
حدثني صديق قال لي : أحياناً يوجد كوارث عامة ، وزلازل ، وفيضانات ، وصواعق ، وأحياناً براكين ، وربما وقع زلزال في بعض البلاد العربية وقع بكامله ، ولم ينج منه أحد إلا إنسان خرج منه قبل دقائق ، فأحياناً إذا أراد الله عزَّ وجل أن ينجي إنساناً من كربٍ عظيم يخلق له حاجةً خارج هذا المكان فيخرج ، طبعاً لا مجال لذكر تفاصيل القصة لكن هناك آلاف القصص ، تشعر أن قوةً إلهيةً كبيرة دفعت هذا الإنسان عن هذا المكان ..
     
﴿نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾
 
   آيات نجاة الإنسان المؤمن من الكرب العظيم :
 
سأذكِّركم ببعض الآيات المشابهة لهذه الآية  :
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
 (سورة يوسف (
       آية ثالثة  :
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾
 
 (سورة الأنبياء )
﴿وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
) سورة الزمر (
 
ثقة الإنسان برحمة الله و حفظه أساس إيمانه :
   
هذا كلام يُلقي في قلوبكم الطمأنينة ، والبشرى ، والثقة بعدالة الله ، والثقة بحفظ الله ، فالإنسان من دون إيمان يكون تحت أخطار كبيرة جداً ، أخطار صحية ، في أجهزته وأعضائه ، وأخطار في السير ، وأخطار حوادث ، وقهر أحياناً ، وفقر مدقع ، فالإنسان بهذا الطريق .
طائرة قبل سنوات ارتطمت بالأرض لخطأٍ في قيادتها ، وأحد الركاب الذين أراد الله أن ينجيه لم يستخدم حزام الأمان ، وعدم استخدامه هو الذي أنقذه ، حالة غريبة جداً ، انشقت الطائرة بجانب مقعده ، ولو كان مربوطًا لما خرج منها ، ألقى بنفسه خارج الطائرة بعد أن وقعت على الأرض ، وهناك حالات نجاة عجيبة جداً .. طائرة تطير فوق أوروبا احترقت في السماء ، ووقع منها راكب على ارتفاع أربعين ألف قدم ، نزلت على غابةٍ في جبال الألب مغطَّاة بثلوج سماكتها خمسة أمتار ، فخمسة الأمتار مع الأغصان المرنة امتصت هذه الصدمة ونزل على قدميه .. وقبل عامٍ أو أكثر هناك طائرة تطير من جدة إلى دلهي بالهند فيما أعتقد ، فأصاب هذه الطائرة خلل في إحدى النوافذ ، أمٌ تحمل طفلين صغيرين ولِدا حديثاً ، توأمين ، فالطائرة مضغوطة ثمانية أمثال ، فحينما انفتحت النافذة فجأةً لخلل أصابها ، فالطفلان خرجا من النافذة ووقعا في البحر على ارتفاع أربعين ألف قدم ، وما بقي واحد إلا وهو أيقن بهلاكهما ، وذهبت أمهما إلى بلدها في الهند ، ثم جاءتها مذكرة أن ارجعي إلى الخليج لسببٍ ما ، وقد ظنت أنها ستُعْطى التعويض ، إذا بولديها أمامها ، هذان الطفلان الصغيران نزلا إلى جنب صيَّاد سمك ، فغاص وأنقذهما وأخذهما إلى المستشفى ، طفلان ، فالله عزَّ وجل إذا أراد أن ينجي إنسانًا ..
إذا كنت في كل حالٍ معـي     فعن حمل زادي أنا في غنى
وإذا العناية لاحظتك جفونها     نم فالمخاوف كلهــن أمانُ
 *    *    *
 
   قانون الله في الأرض :
 
أنت يجب أن تثق برحمة الله ، وبعدالته ، ومحبته لك ، فإذا كنت معه كان معك وأنقذك من كل شيءٍ تخافه ، طبعاً هذه القصص حادة صارخة ، ولكن يوجد آلاف القصص نعيشها جميعاً،فأحياناً شبح مصيبة ينزاح عنك ، وأحياناً مشكلة تنجو منها ، أو مطب كبير تتفلت منه ، أو أحياناً مصاب كبير.
حدثني أخ يدفع زكاة ماله ، ومحله مغلق ، وقد شعر بضيقٍ شديد ألم به ، واليوم يوم عطلة ، فركب مركبته واتجه إلى المحل ، أول احتراقه ، بدأ يحترق الورق ، صار في ماس كهربائي ، فما الذي أشعره أن اذهب إلى محلك التجاري ؟ قال لي : أوشك كل شيء في المحل أن يحترق ولكن في أول المرحلة ، تسمع قصصاً كثيرة جداً ، هذه القصص نجاةٌ من الله ، وإكرامٌ من الله ..
﴿إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾
لكن إيَّاك أن تتوهم أن هذه قصة ، بل هذا قانون ..
 
كشف الله تعالى للإنسان المنحرف ولو بعد حين :
 
﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ* وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا﴾
 
أيسيدنا لوط ، وأحياناً بسببٍ من معرفة الإنسان بقانون الله ، فالمرابي قد يقال له : إن الله سبحانه وتعالى قد يدمِّر مالك كله ، فقد يستهزئ ، لكن أنت إذا عرفت قوانين الله عزَّ وجل ، لا أقول : تعلم الغيب .. حاشا لله .. ولكن أقول لك : يمكن أن تتنبَّأ بما سيكون منقبيل معرفة القوانين ، فالذي يأكل مالاً حراماً ، ربنا سبحانه وتعالى يدمر ماله ، والذي يعتدي على أعراض الآخرين ، فالآخرون يتعدون على عرضه ، والذي يَعُقَّ والديه في الأعم الأغلب يعقُّه أولادُه ، فهناك قوانين ثابتة ، وأنت بالقوانين الثابتة يمكن أن تعرف ما سيكون لا من قبيل معرفة الغيب ؟ لا والله ولكن من قبيل معرفة القوانين .
   
 
﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ* وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا﴾
 
والله عزَّ وجل لا يليق بكماله وهو رب العالمين أن يرى عبده منحرفاً وأن يمدَّه إلى آخر الطريق ، هذا الشيء يتنافى مع ربوبية الله عزَّ وجل ، وإنسان قوي ، وذكي ، وظالم ، ومنحرف،وكافر، وعاصٍ ، وفاجر ، وكل شيء بيده ، وقد رتَّب أموره على نحوٍ يسعده في وهمه ، فمثل هذا الإنسان لن تمضي خطته إلى نهايتها ، من دون تدخل الإله العظيم فهذا يتناقض مع ربوبيته ، ولذلك قال أحدهم : "عرفت الله من نقض العزائم " ، تكون خطة محكمة جداً جداً ، ومدروسة ، ومدعمة ، ومغطاة ، فالله سبحانه وتعالى بسببٍ لم يخطر على بال من أحكمها تنكشف خطته ، ويفتضح أمره ، ويقع في شر عمله.
مثلاً : إنسان يأتي ببضاعة انتهى مفعولها وحقق أرباحاً طائلة ، يضع لصاقة جديدة ويبيعها بشكل مغرٍ وبأسعار معقولة وبإيحاء أنها بضاعة جيدةجداً إلخ ، فغش الناس كثيراً ، وهو ذكيٌ جداً ، فكيف انكشف أمره ؟ نسي في بعض العلب أن يضع اللصاقة الجديدة فوق القديمة ، فانكشف أمره ، وهذا في بلد آخر ، على أثر الغش التجاري ظهر قانون كان فيه قسوة بالغة لأنه غطى انحراف المنحرفين ، فإنسان يغش الناس ، ويبتز أموالهم ، ويبني مجده على أنقاض الآخرين ، وحياته على موتهم ، وغناه على فقرهم ، وتمضي خطته إلى نهايتها !! فهذا يتناقض مع ربوبية الله عزَّ وجل .
 
الإنسان المنحرف تفكيره هازل وضعيف :
 
لذلك فالإنسان مهما كان حذراً ، ومهما كان قوياً ، وحكيماً ، ويقظاً ، ومستعداً ، فمهما غَطَّى الأمور ، وسد الثغرات ، وتوقع الاحتمالات ، و أخذ بالأسباب ، إن كان منحرفاً لابدَّ من أن يدمر لسببٍ تافه ، فلو تتبعتم كيف ينهار الإنسان المنحرف تجدون شيئًا عجيباً ، مرّ بمخاطر كبيرة جداً ونجا منها ، وعند أتفه الأسباب فُضِحَ أمره ، فهذا من فعل الله ، وهذا بتقدير الله ، وبحكمته عزَّ وجل .
﴿وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ﴾
ومعنى تماروا أي لم يؤمنوا بهذه النذر ، بل ناقشوها ، وقلَّبوها على وجوهها ، فرفضوها ، واستهزؤوا بها ، وطالبوا بالدليل ، والدليل لم يعجبهم ، فالإنسان المنحرف يتسلى بالمنطق ، ولا يفكر تفكيراً جاداً ، بل يفكر تفكيراً هازلاً ، فهذه المماراة ..
 
أمر الله هو النافذ مهما اعتد الإنسان بنفسه : 
 
         ﴿فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ * وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ﴾
فسيدنا لوط عنده ضيوف كرام ، ملائكة بشكل شباب صباح الوجوه ، فقوم لوط لما رأوا عنده هؤلاء الشباب صباح الوجوه راودوه عن ضيفه ، بل إن بعض القصص المأثورة تروي أن امرأة لوط بلَّغت قومها أنه عند زوجها شبابٌ مُرْد ، فأقبلوا .
      
﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ﴾
والله عزَّ وجل قال  :
                                               ﴿ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾
لم يروا ، والله عزَّ وجل مهما كان الأمر عصيباً يوقف القلب أحياناً ، يموت فجأةً ، فمرة قاضٍ (والقصة قديمة قبل خمسين عاماً ) متفق مع الخصم على حكم معين وعلى شهادة معينة ، وقف على قوس القضاء فجاءته نوبةٌ قلبية ، وهو على القوس ، فجاء قاضٍ مكانه فحكم وفقالحق ، فالإنسان مهما اعتدَّ بنفسه فربنا عزَّ وجل أمره هو النافذ.. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ..
﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
وأحياناً الإنسان المُرَبِّي إذا وعظ إنساناً آخر وتوعَّده بعقابٍ إذا هو فعل كذا وكذا ، ففعل ما نهاه عنه وجاء العقاب ، فهناك كلمة لابدَّ من أن يقولها : ألم أقل لك لا تفعل ، ألم أنذرك هذا العقاب الأليم ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
 (سورة القمر(
  
أفعال الله عز وجل تؤيد أوامره : 
 
     
﴿وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ﴾
هم في الليل راودوه عن ضيفه وفي الصباح أرسل الله عليهم حجارةً من السماء فدمرتهم،﴿فجعلنا عاليها سافلها ﴾ ، وليس هذا غريباً علينا ، نحن في كل حين نستمع إلى براكين ، وإلى زلازل ، وإلى صواعق ، وإلى فيضانات ، وإلى حروب أهلية ..
 
﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً﴾
)سورة الأنعام : آية " 65 " )
﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
فكل إنسان انحرف فهذا الانحراف له ذلك العقاب ، ولكن أحياناً يكون عقاباً جماعياً تتناقله الأفواه ، وأحياناً كثيرة جداً يكون عقاباً فردياً ، فالله عزَّ وجل له أمر تكليفي وله أمر تكويني ، ففي الأعم الأغلب الأمر التكويني هو ثمرة للأمر التكليفي ، فربنا يأمر وينهى ، له فعل تكويني هذا أمره التكليفي ، وفعله التكويني يكافئ المحسن ويعاقب المسيء ، ولو تتبعت الأمر ملياً لوجدت العجب العجاب ، ولوجدت فعل الله يُفَسَّر بحفظ المؤمن وتوفيقه والأخذ بيده ونصره ، وإسعاده ، وإلقاء السكينة على قلبه ، وأن فعل الله نفسه ينصب على المنحرف شقاءً ، وإخفاقاً ، وابتلاءً ومصاباً ، فأوامره واضحة وأما أفعاله فتؤيِّد أوامره ، ولذلك قال العلماء : تأويل الآية الحقيقي وقوع وعدها ووعيدها .
 
تأويل الآية الحقيقي وقوع وعدها ووعيدها :
   
 لما ربنا عزَّ وجل قال :
﴿لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً﴾
 (سورة آل عمران : آية " 130 " )
ما تأويل هذه الآية ؟ حينما يدمر مال المرابي فتدمير ماله أدق تأويلٍ لهذه الآية ، ولما يقول ربنا عزَّ وجل :
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
 (سورة النحل : آية " 97 " )
الحياة الطيبة أوضح تفسيرٍ لهذه الآية،فالحياة الطيبة التي يحياها المؤمن المستقيم هي نفسها تأويل قوله تعالى  :
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً﴾
 
والمعيشة الضنك .. إن رأيت بيتًا فيه تفلت ، من دون صلاة ، ولا انضباط ، وفيه اختلاط ، ومال حرام ، فإن وجدت في هذا البيت كل يوم مشكلة وخصومات عميقة ، الزوج والزوجة متخاصمان ، والأولاد مشتتون ، فهذا البيت قطعة من الجحيم ، وهو أوضح تأويل لقوله تعالى :
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾
 (سورة طه : آية " 124 " )
ولو رأيت إنسانًا تصدَّق ببعض ماله فنما ماله ، فهذا أوضح تأويلٍ لقوله تعالى :
﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾
 (سورة البقرة : آية " 276 " )
لو رأيت إنساناً نمَّى ماله بشكلٍ غير مشروع فدمر الله ماله ..
﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾
 (سورة البقرة : آية " 276 " )
وهذا أوضح تأويلٍ لهذه الآية ، فالتأويل الحقيقي وقوع الوعد والوعيد وهو أدق تأويلٍ وأفصحه وأوضحه .
 
أثر ورع الإنسان في الدنيا :
      
﴿فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ﴾
والآن تستنبط مما سأقوله قاعدة يستأنس بها .. سألت طبيب أسنان هل مر عليك إنسان ما قلع سنًّا من أسنانه ؟ فذكر لي رجلاً كان من الورع بأنه لم يشرب كأس شايٍ مغلية على سخانةٍ في المدرسة ، وعمره ست وثمانون ، فالورع أحياناً له أثر كبير ، والحياة الطيبة ، والصحة الجيدة ، والاستقامة ، فهذه كلها لها آثار كبيرة ، وقد قيل :
(( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة )) .
( رواه الطبراني عن ابن عباس )
والعبد يقول :
((..... يَا رَبِّ ، يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟)) .
(رواه مسلم عن أبي هريرة )
من عاش تقياً عاش قوياً ، ولذلك فأعظم تأويل لكتاب الله أن :
﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾
 (سورة الأنعام (
انظر إلى شاب مؤمن مستقيم ورع ، وانظر إلى مصيره ، وانظر إلى تألقه في الحياة ، وإلى التوفيق الذي يصيبه ، وإلى سعادته البيتية ، وأموره المنتظمة ، وانظر إلى منحرف ، تجده على النقيض فالمصائب تأتيه من كل جانب ، لا يوفق ، وليس هو سعيداً في بيته ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾
 
(سورة طه : آية " 124 " )
 
  القرآن الكريم كتاب هداية ومنهج للناس جميعاً : 
 
  ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾
القرآن مُيَسَّر ، وذكرت مراراً أنك إذا أردت أن تفهم كلام الله فكل الناس في خدمتك ، ويمكن أن تفهمه ، وأن تقرأه ، وأن تستمع إليه ، و أن تستمع إلى تفسيره ، فربنا عزَّ وجل يسّره ، لأنه كتاب هدايةٍ ، ولأنه منهجنا ، وطريقنا إلى السعادة ، وكتابنا المقرر ، وفيه نجاتُنا ..
 
جنود الله في الأرض :
 
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾
 
والآن خرجنا من الجزيرة إلى إفريقيا ، فكل هؤلاء الذين ذكرهم الله عزَّ وجل عاشوا في جزيرة العرب ، والآن خرجنا إلى قومٍ آخرين ..
 
﴿وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ * كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾
 
﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾
 
 (سورة البروج (
فمثلاً الناس كلهم قلقون إلى درجة غير معقولة من مرض الإيدز ، تصور دولاً عظمى بكل إمكاناتها ، وهيئاتها العلمية ، والأموال ذات الحجوم الفلكية ، يقول لك : ثمانمئة ألف كلها موظَّفة في البحث العلمي للوصول إلى مادة مضادة لهذا الفيروس ، فالعالم كله بخمس قاراته ، وهيئاته ، وأرقى جامعاته ، وبكل إمكاناته ، واقفٌ مكتوف اليدين أمام أضعف فيروس على الإطلاق ، والإصابات بعد خمس سنوات مقدَّرة بمئة وعشرين مليوناً ، والآن الإصابات أربعة وثلاثون مليوناً ، ويمكن أن توظف ألف مليون دولار ، ولم يغير هذا الفيروس شكله ، وكلها ذهبت أدراج الرياح ، فهذا جندٌ من جنود الله عزَّ وجل ، والله عنده جنود كثيرة ، الزلازل جند ، وهذا الفيروس جند ، وكل شيء يرسله الله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة .
 
اليقين بحتمية وقوع الإنذار يؤدي إلى الاستقامة : 
 
أيها الإخوة : انتهت القصص التي جاءت تباعاً والتي تؤكد أن الله سبحانه وتعالى يرسل الأنبياء ، وينذر ، فإن لم يصدَّق الأنبياء وإن لم يتبع منهجه ينزل عقابه الأليم ، وذكرت في أول الدرس أن الإنسان العاقل يجب أن يتحرى مصداقية هذا الإنذار ، وأن يتحرى حتمية وقوع العقاب ، فإذا ثبت لديه مصداقية الإنذار وحتمية الوقوع فالعقل يأمره أن يستقيم على أمر الله وإلا أصابه ما أصاب هؤلاء ، والآن هذا المعنى جاء بآيةٍ دقيقة ، قال تعالى : ﴿أكفاركم ﴾ . يخاطب أهل مكة :
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾
هل معكم براءة ؟ أم معكم ضمانة ؟ أم معكم دليل على أنكم لن تعذبوا كماعذب هؤلاء ؟
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾
 
أي هل أنت من نوع آخر ؟ فالكفر واحد ، وملة الكفر واحدة ، والمعصية واحدة ، والفسق واحد ، والفجور واحد ، والتكذيب واحد ، وفي أي مكان وفي أي زمان الكافر كافر ، والمؤمن مؤمن ، والمستقيم مستقيم ، والمنحرف منحرف ، فقال :
     
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ﴾
 
فعلتم ما فعلوا ، واقترفتم ما اقترفوا ، وعصيتم كما عصوا ، وانحرفتم كما انحرفوا ، وبغيتم كما بغوا ، وظلمتم كما ظلموا .
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾
 
فهل معكم ضمانة ؟ أم معكم دليل ؟ أم معكم كتاب سابق نزل من السماء يضمن لكم عدم العذاب ؟ .
 
  عذاب الدنيا ليس بشيء أمام عذاب الآخرة : 
 
﴿أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ﴾
 
  ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾
هذه الآية خطيرة جداً ، فمعنى إهلاك قوم لوط بحجارةمن السماء ليست بشيء أمام ما ينتظرهم من عذابٍ أبدي ، وإهلاك قوم فرعون غرقاً ليس بشيء أمام ما ينتظرهم من عذابٍ أبدي ، وإهلاك قوم صالح بالصيحة ، هؤلاء الأقوام الذي كذبوا فأهلكهم الله عزَّ وجل ، فحتى هذا الهلاك ، و هذا القصم ، وهذا العذاب الأليم ، وهذا البطش الشديد ، إذا قيس بما ينتظرهم من عذابٍ أليمٍ ودائمٍ وأبديٍ ليس بشيء .
 
كثرة المنحرفين لا تقي من العذاب : 
 
قال :
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ* أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾
والكافر إذا رأى حوله جمعاً غفيراً إذ رأى الناس كلهم كذلك ، وكلهم غارقون في الملذَّات ، يشعر بطمأنينة ناتجة عن كثرة العصاة ، ويقول لك : الناس كلهم هكذا ، فهل من المعقول أن الكل على غلط ؟ فإذا انحرفوا في أخلاقهم ، وبيعهم وشرائهم ، وكذبوا ، وأكلوا مالاً حراماً ، وانغمسوا في الملذات ، وتتبعوا البرامج المنحطة ، فالكل عنده دش السطوح ، فإذا كان المنحرفون قد أصبحوا كثيرين فهل هذا يعفينا من العقاب ؟ .
   ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾
 
عذاب الآخرة إلى أبد الآبدين :
 
قال  :
﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾
أدهى من كل ما ذكر ، فهذا العذاب ينتهي ، ساعة أو ساعتين انتهى ، فإذا إنسان ارتكب جريمة قتل ، أثناء إعدامه شنقاً فشيء مؤلم جداً ، و لكن بربع ساعة ينتهي ، فعذاب الاستئصال ينتهي أثره ، أما عذاب الآخرة فهذا لا ينتهي ..
﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾
)سورة الزخرف (
إلى أبد الآبدين ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل .
 
على الإنسان ألا يستأنس بكثرة المنحرفين و أدوات المعصية :   
 
والنقطة الدقيقة الدقيقة إذا وجدت معظم الناس انحرفوا في كسب أموالهم ، وعلاقاتهم ، وانحرفوا في نزهاتهم واختلاطهم ، واقترافهم المعاصي ، وفي تتبعهم صرعات العصر ، وعمّ هذا كل الناس ، هل معنى هذا أنه حق ؟ الحق حق والباطل باطل .
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ﴾
)سورة الأنعام : آية " 116 " )
فعلى الإنسان ألاّ يستأنس بكثرة المنحرفين ، ولا بكثرة أدوات المعصية وهي منتشرة وواسعة .
﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾
  
الموت آخر الم للمؤمن وأقل ألم للكافر : 
 
هذه الآيات القليلة هي مغزى السورة بكاملها ، وكل هذه القصص من أجل هذه الآيات القليلة..
     
﴿أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾
فهذا كلام خالق البشر ولذلك قالوا : الموت للكافر أهون شيءٍ لما بعده ، والموت للمؤمن أصعب شيءٍ لما بعده ، وآخر ألم يتألَّمه المؤمن ساعة النزاع وانتهى في جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، وحتى إن القبر روضة من رياض الجنة ، فآخر ألم يذوقه المؤمن ألم النزع ، " إن للموت سكرات " وانتهى ، أما أقل ألم يذوقه الكافر فألم النزع ، لما بعده..
  
 
﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾
ثم يقول الله عزَّ وجل في آياتٍ نؤجِّله إلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى :
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب