سورة النجم 053 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 04) - الموضوعية و الإنصاف أساس كل أمر

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة النجم 053 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 04) - الموضوعية و الإنصاف أساس كل أمر

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - بئس الضجيع - الشيخ توفيق الصايغ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - ضوابط التفاؤل - د. أحمد السيد           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 17 - موعد تحرير فلسطين - د. راغب السرجاني           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية - 438 - شد الرحال للأقصى - الشيخ محمد ماهر مسودة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 398 - سورة المائدة 032 - 033           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي         

الشيخ/

New Page 1

     سورة النجم

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة النجم ـ الآيات: (01 - 04) - الموضوعية و الإنصاف أساس كل أمر

18/08/2013 18:30:00

 
سورة النجم (053)
 
الدرس (1)
 
تفسير الآيات: (1-4)
 
الموضوعية و الإنصاف أساس كل أمر
 
 
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون : مع الدرس الأول من سورة النجم :
 
على الإنسان ألا يعبد النجم من دون الله لأنه يتلاشى يوم القيامة :
 
    ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾
النَجم مُطْلَقُ النجمٍ ، ليس نجماً بعينه ، هذا النجم الذي في السماء حينما يهوي ، أي حينما ينزل وراء الأفق بحكم دورة الأرض حول نفسها ، أو حينما يغيب ، أو حينما ينتثر .
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ﴾
(سورة التكوير(
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ﴾
) سورة الانفطار(
حينما يغيب عن الأنظار ، أو حينما ينزل وراء الأفق ، أو حينما ينتثر ، هذا النجم لا ينبغي أن يُعبَد من دون الله لأنه يغيب ، لأنه يسقط ، لأنه يتلاشى يوم القيامة .
 
الله رب كل شيء في الكون : 
 
المعبود ينبغي أن يكون أزلياً أبدياً ، لا أول له ولا آخر له ، وقد قال بعض المفسرين : " إن النجم يقصد به نجم الشِعرَى " . هذا النجم كان يُعبَد من دون الله في الجاهلية ، لذلك قال تعالى :
﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾
)سورة النجم (
الشعرى ليس رباً ، الله ربه ، فأي شيءٍ دون الله عزَّ وجل إذا عُبِدَ من دون الله فهو سيتلاشى ، وسيغيب .
﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ *فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً﴾
) سورة الأنعام (
معنى هذا أن أيَّ شيءٍ في الكون مهما بدا لنا عظيماً فالله ربه ، والفناء مآله ، إذاً لا ينبغي أن يُعبَد من دون الله ، هذه نقطة .
 
إرسال الله عز وجل الرسول الكريم لهداية الخلق : 
 
النقطة الثانية  :
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
 
الواو واو القسم ، فإذا أقسم الله بالنجم فلِيُلفتَ النظر إلى عظمة هذه الآية التي تُجَسِّد أسماء الله الحسنى ؛ القوة والعلم والقدرة ، هذا كلُّه يتضح من خلقه ، فإذا تجاوزنا أن النجم إذا هوى أي إذا سقط ، أو إذا غاب عن الأنظار ، أو إذا انتثر يوم القيامة ، فهذا لا ينبغي أن يُعبَد من دون الله ، وكأن القرآن الكريم أشار إلى الشِعْرَى بكلمة (والنجم) ، وقبل نهاية السورة قال سبحانه :
﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾
 
أما المعنى الثاني : أن هناك علاقةً بين هذا الرسول الكريم الذي جاءكم بهذا الكتاب الكريم ، وبين خالق السماوات والأرض الذي خلق النجم حينما يهوي هو الذي أرسل هذا الرسول ، شرفُ الرسالة من شرف المرسِل .
 
رسول الله الذي بعثه الله للعالمين ينبغي ألا تتهموه بالضلال أو الغواية :
 
أنت أحياناً تقرأ آلاف الكتب ، مئات الكتب لكيلا أبالغ  فكل هذه الكتب من تأليف البشر ، لكن هذا القرآن له شأنٌ آخر ، هذا كلام خالق البشر ، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه ، شتَّانَ بين من يقرأ كلام البشر وبين من يقرأ كلام خالق البشر ، فالذي خلق الكون كامل ، ومن لوازم كماله أن يبيّن ، أن يرسِل ، أن ينزِّل الكتاب ، فإرساله للرسل ، وإنزاله للكتب دليل رحمته ، ودليل حرصه على هداية خلقه ، ودليل إرادته أن يسعدهم في الدنيا والآخرة .
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى* مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
 
هذا الذي أمامكم هو رسولي ، والذي بين يديه كتابي ، فينبغي أن تصغوا إليه وأن تقرؤوا كلامي ، لا ينبغي أن تتهموه بالضلال ، ولا بالغواية .
 
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى : آية لها عدة معان :
 
1 ـ الشيء مهما كان عظيماً لا ينبغي أن يُعبَدَ من دون الله :
المعنى الأول : أنَّ شيئاً مهما كان عظيماً لا ينبغي أن يُعبَدَ من دون الله ، المعبود ينبغي أن يكون باقياً على الدوام ، هو الحيُّ الباقي ، ليس من شأن الفاني أن يُعبَد ، إنك إن ربطت مصيرك به فحينما يفنى ، وحينما يغيب أين أنت إذاً ؟ ومن معبودك إذا اضمحلَّ أو غاب ؟
2 ـ النجم آية من آيات الله الدالة على عظمته ينبغي ألا يعبد :
المعنى الثاني  :
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾
آيةٌ من آياته الدالة على عظمته ، قد ترى نجماً بعيداً صغيراً ، هذا النجم قد يتَّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، وبين الشمس والأرض مئة وستةٌ وخمسون مليون كيلو متر ، وهذا نجم العقرب (قلب العقرب). النجم الصغير الأحمر المتألِّق يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما ، هذه النجوم بعضها يبعد عنا أربع سنوات ضوئية ، بعضها كنجم القطب يبعد عنَّا أربعة آلاف سنة ضوئية ، بعضها مليون سنة ضوئية ، وبعضها يبعد أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية .
 
لفت الله عز وجل أنظار الناس إلى آياته الدالة على قدرته :
 
المعنى الأول : لا ينبغي لشيءٍ في الكون مهما بدا لكم عظيماً أن يُعبَد لأن مصيره إلى الفناء، المعبود الحق هو الحيُّ الباقي على الدوام .
المعنى الثاني : أن النجم آية من آيات الله ، فالواو واو القسم ؛ إذا أقسم سبحانه فبالنسبة إلينا ، وإن لم يقسِم فبالنسبة إليه .
                                          ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾
)سورة الواقعة (
              ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ *الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ﴾
(سورة التكوير )
إن لم يقسم فبالنسبة إليه ، وإن أقسم فبالنسبة إلينا ، وإن أقسم يخرج هذا القسم عن معناه الأصلي إلى معنىً آخر ، هو أن الله سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى آياته التي يمكن أن تكون دليلاً على عظمته ، ودليلاً على قدرته ، وعلى علمه ، وعلى رحمته .
 
معرفة قريش لصدق النبي الكريم وأمانته :
 
﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ﴾
لماذا قال صاحبكم ؟ أي لأنكم تعرفونه ، تعرفون صدقه ، وتعرفون أمانته ، وتعرفونه أنه ما كذب قط في حياته ، قالوا : ما جرَّبنا عليه كذباً قط ، أجل : تعرفون نسبه ، وتعرفون صدقه ، وتعرفون أمانته ، وتعرفون عفافه ، وهكذا قال سيدنا جعفر بن أبي طالب ، قال :
(( كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ ، وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ )) .
( أحمد عن أم سلمة )
تعرفونه ، هو بين أظهركم ، نشأ بينكم ، ما جرَّبتم عليه كذباً قط،ما وجدتم منه فاحشة ولا زلَّة قدمٍ ، هذا صاحبكم تعرفونه ما ضلَّ وما غوى ، ما ضلَّ عقله ولا انحرف سلوكه ، وفي هذا تعريضٌ بقريش ، أي أنتم ضللتم وغويتم ، أنتم ضللتم وانحرفتم ، أنتم ضللتم واعتديتم ، هو ما ضلَّ وما غوى .
 
الإنسان إذا سار على منهج الله لا يضل عقله :
 
تعلمون أن الله سبحانه وتعالى يقول  :
 
﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
(سورة طه (
                        ﴿فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
)سورة البقرة (
أيْ أنت عقلٌ يدرك ، وقلبٌ يحبّ ، فإذا سرت على منهج الله لا يضل عقلك ، ولا تشقى نفسك بانحرافك  .
 
نعمة العلم أعظم نعمةٍ لأنها تؤدي إلى الصلاح :
 
أولى ثمار الإيمان إخوانا الكرام أن يستنير عقلك ، المؤمن يتمتَّع بنعمة لا يعلمها إلا الله ، ما هذه النعمة ؟ أن الأمور واضحة في ذهنه ، يعرف سرَّ وجوده ، يعرف غاية وجوده ، يعرف حقيقة الدنيا ، يعرف الحلال والحرام ، يعرف الحقَّ من الباطل ، يعرف ما ينبغي وما لا ينبغي ، يعرف الحكمة من كل شيء ، نعمة العلم لا تعدلها نعمة ، رتبة العلم أعلى الرُتب ، أن تعرف : لماذا أنت في الدنيا ؟ وأن تعرف أثمن ما فيها  .
﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾
(سورة الكهف (
 
العمل الصالح أثمن شيء في الحياة الدنيا :
 
أن تعرف أن العمل الصالح هو أثمن شيءٍ في الدنيا ، نعمة العلم أعظم نعمةٍ على الإطلاق لأنها تؤدِّي إلى عبادة الله حقًّا وإلى التقوى والصلاح .
(( اغد عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك ))
( رواه الطبراني عن أبي بكرة )
(( اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَاهُمَا ))
(أخرجه الدارمي عن عبد الله بن مسعود)
يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه : الناس ثلاثة ؛ عالمٌ ربَّاني ، ومتعلمٌ على سبيل نجاة ، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيق،فاحذر يا كميل أن تكون منهم: (( اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَاهُمَا )) ، لا يؤكِّد في الإنسان إنسانيته إلا طلب العلم ، لا يرفعك عند الله إلا العلم .
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾
 (سورة المجادلة : آية " 11 " )
 
ثمرات الإيمان هي :
 
إنارة العقل و سعادة النفس :
أيُّ حظٍّ من حظوظ الدنيا الذي يعظِّمه الناس لا قيمة له عند الله ، فالله جلَّ جلاله في كتابه الكريم لم يعتمد أية قيمةٍ من قيم الناس ، لا قيمة المال ، ولا قيمة الذكاء ، ولا قيمة القوَّة ، ولا قيمة الجمال ، لم يعتمد إلا قيمة العلم والعمل .
 
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾
 
 (سورة المجادلة : آية 19)
 
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
 (سورة الأحقاف : آية " 19" )
 
 
﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾
 (سورة التوبة : آية " 105 " )
أيها الإخوة الكرام : أولى ثمار الإيمان أن يستنير عقلك وأن تسعد نفسك .
 
ضلال عقل الإنسان من أكبر مساوىء البعد عن الله :
 
أكبر مساوئ البعد عن الله أن يضلَّ عقلك ، وأن تشقى نفسك  .
                                     ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
(سورة طه (
الإنسان إذا تصوَّر تصوُّراً خاطئاً وسار في طريقٍ مسدود ، ثم اكتشف الحقيقة بعد فوات الأوان أنه كان مخطئاً ، فماذا يحصل له ؟ حدَّثني أخ كان في فرنسا ، رجل من وجهاء الشعب الفرنسي ، شغِل منصب رئيس وزراء سابقاً ، من أرقى الأُسَرِ ، غني ، انتحر وهو في السبعين من عمره ، وحار الصحفيون في تحليل انتحاره ، صحفي واحدٌ اهتدى ولعلَّه أصاب ، بأنه اعتنق مبدأ لا أصل له سبعين عاماً ، فلَّما اكتشف أن هذا المبدأ باطل ، وأنه لا أصل له ، وأنه قائمٌ على أوهامٍ لا على حقائق احتقر نفسه ، وأنت لو طلبت العلم الصحيح لن تجد عندك مفاجأة إطلاقاً في حياتك ، لن تأتي الأيام بمفاجأةٍ تنقض ما اعتقدته ، مُضِيُّ الأيام لا يزيدك إلا يقيناً ، كل الحوادث تؤكِّد صحّة ما تعتقد ، إن كان اعتقادك نابعاً من كلام الله وسنَّة رسول الله ، هذا كلام الله عزَّ وجل ، أنت حينما تقرأ القرآن ، وحينما تأخذ منه عقيدتك ، وحينما تأخذ منه منهجك فأنت تأخذ من الجهة الصانعة ، من الجهة الخبيرة ، قال تعالى :
 
﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾
 (سورة فاطر (
 
تعريض الله عز وجل بقريش بأنهم هم من غووا وضلوا :
 
لذلك  :
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
فكأن الله سبحانه وتعالى يعرِّض بقريش ؛ أنتم الذين ضللتم ، أنتم الذين غويتم ، أنتم الذين جهلتم ، أنتم الذين انحرفتم ، أنتم الذين شقيتم .
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
 
تعريضٌ بقريش بضلالها وبغوايتها ، وانحرافها وعدوانها ، نبيٌّ كريم عقله مستنير ، ونفسه صافيةٌ سعيدةٌ بلقاء الله عزَّ وجل ، أكبر نعمةٍ على الإطلاق أن يكون عقلك مستنيراً بالحق ، وأن تكون نفسك مطمئنَّةٌ بصلتها بالله عزَّ وجل ، كلام طيِّب ، فالإنسان عقل وقلب ، العقل يدرك والقلب يطمئن ، قال تعالى :
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
(سورة الرعد (
 
 لحظة الموت أسعد لحظات المؤمن :
 
هل هناك من شعور يفوق شعور المؤمن بأن الله راضٍ عنه ؟ وأن الله يحبُّه ؟ وأنه على الطريق السوي ؟ وأن الطريق ينتهي بجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض ؟ وأن مضي الزمن لصالحه ؟ وأن خطَّه البياني صاعدٌ صعوداً مستمرَّاً ؟ وأن الموت عرس المؤمن ؟ وأن لحظة الموت أسعد لحظات المؤمن ؟ هذا الموت عند الناس أكبر مصيبة ، يقولون لك : مسكين ؛ إنه مات ، لا ، ليس مسكين إذا كان مؤمناً ، النبي رأى جنازة فقال :
(( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ ؟ قَالَ : الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ ...))
( متفق عليه عن أبي قتادة الأنصاري )
عام دراسي مثقل بالمتاعب والدراسة ، والتحضير والتأليف ، والمذاكرات الشفهية والتحريرية ، والوظائف والدوام المرهق ، والساعات الطويلة إلى أن أدَّى الامتحان فنال الدرجة الأولى فاستحقَّ أعلى درجة تكريم ، ساعة الامتحان ساعة سعادة ، ورد في الحديث الصحيح :
(( تحفة المؤمن الموت )) .
) أخرجه الطبراني ، وأبو نعيم ، والحاكم ، والبيهقي ، عن ابن عمر )
والموت عُرْسُ المؤمن الإنسان أحياناً يسعى ثلاثين عاماً من أجل أنْ يشتري بيتًا،ويخطب ويتزوج ، فيوم عرسه بحسب مفاهيم الناس أجمل أيام حياته ، أما المؤمن عرسه ساعة لقاء الله عزَّ وجل ، بكت ابنة سيدنا بلال وقالت : "واكربتاه يا أبت (وهو على فراش الموت) ، قال : لا كربَ على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبَّة محمداً وصحبه " ، شتَّان بينمن يرى الموت أكبر مصيبة ، وبين من يرى الموت أنه ساعة اللقاء بالله عز وجل ، ولقاء الأحبة في رحاب رحمة الله    .
 
 فرح المؤمن وندم الكافر عند الموت :
 
أيها الإخوة : لو قرأتم سِيَرَ صحابة رسول الله ، فهي سير مختلفة ، ومواقف مختلفة متباينة ، لكنَّ فيها موقفاً متشابهاً : كان أصحاب النبي يرون أسعد لحظات حياتهم وهم على فراش الموت ، سيدنا رسول الله تفقَّد أحد أصحابه فلم يجده فقال : ابحثوا عنه في أرض المعركة ، ذهبوا إلى هناك ، فرأوه يَئِن (اسمه سعد بن الربيع) ، قيل له : يا سعد أمرنا رسول الله أن نتفقَّد شأنك ، هل أنت بين الأحياء أم بين الأموات ؟ أيْ أنت ما وضعك ؟ قال : بين الأموات (انتهيت) ولكن بلغوا عني رسول الله : جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبياً عن أمّتهٍ ، أي أنه مُمْتَن برسول الله الذي دَلَّه على الله حتى عَرَفَهُ ، وبلِّغ أصحابه أنه لا عذر لكم إذا خُلِصَ إلى نبيُّكم وفيكم عينٌ تطرف ، أي يعني إذا العدو وصل إلى النبي وبقي منكم واحد لا عذر له .
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
 
أنت مؤمن ، أنت عرفت الله ، عقلك مستنير ، عرفت سرَّ الكون ، هذا الكون خُلِق لتعرف الله من خلاله ، عرفت سرَّ الحياة إنها إعدادٌ لسعادةٍ أبدية ، لحياةٍ أبدية ، والدليل أنّ الإنسان عند الموت يقول :
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾
(سورة الفجر (
 
على المؤمن أن يطمئن قلبه بذكر الله :
 
       أيها الإخوة : كلمة  :
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
 
أكرِّر أنَّ هذا تعريضٌ بأهل الكفر ، أي أنتم ضللتم ، وأنتم غويتم ،  وانحرفتم ، واعتديتم ، وظلمتم ، لكن هذا النبي الكريم ما تكلَّم كلمةً باطلة ، ما ضلَّ أبداً ، ولا زل ، ولا اختل ، ولا غوى ، ولا انحرف ، وصاحبكم تعرفونه ، ما الحكمةُ في أنَّ النبي ولد في قريش ؟ لو جاء من الشام لا يعرفون ماضيه ، يشكُّون ، بل إنه تربّى بينكم ، ونشأ بين ظهرانيكم ، فرأيتم صدقه وأمانته وعفافه ، وعرفتم نسبه ، حينما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكَّة إلى المدينة ، فالكفَّار المشركون كانت أماناتهم وأموالهم ودائعَ عند النبي لأنهم يثقون به ، لذلك أبقى سيدنا علياً كرَّم الله وجهه ليردَّ الودائع إلى أصحابها .
﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾
 
 
المعنى المعاكس (والمعنى المخالف ) هو : أي أنتم أيها المؤمنون ينبغي أن تستنير عقولكم وأن تطمئنَّ قلوبكم .
﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
 
(سورة الرعد (
 
من خصائص المؤمن قول الحق : 
 
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
أيضاً في هذه الآية تعريضٌ بالكفَّار ، أنتم إذا تكلَّمتم تكلّمتم بأهوائكم ، لو أنّ الإنسان راقب نفسه (طبعاً الإنسان غير المنضبط ، غير الملتزم ، المتفلِّت ) تسعة أعشار كلامه غير موضوعي ، يتكلم عن هوى ، يتكلَّم كلاماً لمصلحته ، إذا كانت البضاعة بضاعته يُثْني عليها ثناءً لا حدود له ، أما إذا كانت بضاعة جاره فيسكت ولا يتكلَّم ولو كلمة ، ولكنه يحوقل إشارة إلى أنها كأنها لا تعجبه ، هذا شأنه ينطق عن هوى ، ويسكت عن هوى ، والإنسان قد يتكلَّم لصالحه ، يمدح ما عنده ، يذم ما عند غيره ، يُحسِّن الشيء إذا كان يملكه ، يُبَخِّس الشيء الذي لا يملكه ، فتسعة أعشار كلام الناس كلامٌ غير موضوعي ، غير حقيقي ، ليس فيه دقَّة ولا فيه إنصاف ، أما النبي :
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
 
حقًّا إنّ الإنسان غير المؤمن ينطق عن الهوى ، تجد أن الناس في زماننا كفروا بالكلمة ، لماذا ؟ لا توجد كلمة صادقة ، كل الكلام ينطلق من مصالح ويتَّجه نحو مصالح ، فالموضوعية شبه نادرة بين الناس ، فقل الحقَّ ولو كان مرَّاً ، وقل الحقَّ ولو كنت أنت المعنيَّ به ، وهذا شيء من خصائص المؤمن ، إنه يتكلَّم الحقيقة .
 
عدل و حكمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
 
كان سيدنا عمر بين أصحابه ، فأحد أصحابه تكلّم ولا أدري لماذا قال هذا الكلام ، نظر إلى عمر ، فقال : " والله يا أمير المؤمنين ما رأيناأفضل منك بعد رسول الله " وظنّ أنه قال صواباً ، فنظر عمر إليه وأحدَّ فيه البصر فارتبك وتكهرب الجو ، إلى أن قال أحدهم : لا والله يا أمير المؤمنين لقد رأينا خيراً منك ، قال : ومن هو ؟ قال : الصدّيق ، فقال سيدنا عمر : لقد صدق هذا وكذبتم جميعاً (عدَّ سكوتهم كذباً) ، قال سيدنا عمر : والله كنت أضلَّ من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك " .
يوم كنت أضل من بعيري كان أبو بكر أطيب من ريح المسك كلام موضوعي ، لم يتكلَّم عن الهوى ، أراد القائل لنفسه الرِفعة فأثنى عليه ، قال له : " ما رأينا رجلاً أفضل منك بعد رسول الله (إنه كلام طيّب يرفع شأنه) فقال لهم : كذبتم جميعاً ، لكن  هذا الذي قال : لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك ، قال : كذبتم جميعاً وصدق ، والله كنت أضلَّ من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك .
صعِد المنبر ليخطب أول خطبةٍ بعد تولّيهالخلاقة ، وقف على الدرجة العُليا ثم نزل درجة ، تعجَّب أصحابه !! قال : " ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر " . هذه الدرجة لأبي بكر وأنا أنزل درجة ، لكن سيدنا عثمان ما نزل درجة ولحكمةٍ أرادها ، فأحد خلفاء بني أمية سأل وزيره قال له : " لمَ لم ينزل عثمان درجة ؟ قال : والله لو فعلها لكنت في قعر بئر " . فمن غير المعقول أنّ كل واحد ينزل درجة ، لاحتجنا إذاً أن نحفر الأرض ، سيدنا عمر نزل درجة تواضعاً وإعلاءً لمقام سيدنا الصديق ، وسيدنا عثمان لم ينزل لأنه لو فعل لكانت سنَّة ولانتهت هذه السنَّة إلى أعماق الأرض .
 
شدة ورحمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
 
سيدنا عمر هاب الناس شدَّته ، فقال : " كنت مع رسول الله خادمه وجلوازَه وسيفه المسلول ، فكان يغمدني إذا شاء ، وتوفي عني وهو عني راضٍ ، الحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد (أنا أسعد الناس أن النبي توفي وهو عني راضِ) . ثم كنت خادم أبي بكر وجلوازه وسيفه المسلول ، فكان يغمدني إذا شاء ( كنت قوة بيده) ، عندما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام قال سيدنا الصديق لسيدنا عمر : " يا عمر مدَّ يدك لأبايعك ، قال : معاذ الله أنت أفضل مني ، فقال له : أنت أقوى مني ، فقال له : قوتي إلى فضلك " ، أنا خادم لك ، أنت صاحب الفضل وأنا وإن كنت كما قلت : إنني قوي ؛ فقوتي لك .
قال : " وكنت خادم الصديق وجلوازه وسيفه المسلول ، فكان يغمدني إذا شاء ، وتوفي وهو عني راضٍ والحمد لله وأنا به أسعد ، ثم صارت الأمور إليّ ، واعلموا أيها الناس أن تلك الشدَّة قد أُضعِفَت ، أنا عندما كنت شديداً كان سيدنا رسول الله رحيماً ، تجتمع رحمته مع شدَّتي فيتعادلان ، لما كنت شديداً كان الصديق حليماً ، أما الآن آلت الأمور إلي فاعلموا أن تلك الشدَّة قد أُضعِفَت وإنما تكون على أهل البغي والعدوان ، أما أهل التقوى والعفاف فإنني أضع خدّي لهم ليطئوه ، ثم قال : أيها الناس خذوا عني خمس خصال خذوني بهن (أيْ حاسبوني عليهن) لن آخذ من أموالهم شيئاً إلا بحقِّه ، ولن أنفقه إلا بحقِّه ، ولن أجمِّركم في البعوث (أيْ في الجهاد) ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى ، فإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا .
قال له سيدنا أبو ذر : " إن الناس خافوا شدًَّتك ، قال : والله يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه ، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى ".
 
المؤمن الصادق لا ينطق عن الهوى :
 
كان مرَّةً مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف في المدينة يجوبان طرقها فرأيا قافلةً قد استراحت في ظاهر المدينة ، فقال : " تعالَ نحرسها ، ولم يلبث أنْ سمع بكاء طفلٍ ، فذهب عمرٌ إلى أمه وقال : أرضعيه ، فأرضعته ، ثم بكى فقال : أرضعيه ، فأرضعته ، ثم بكى فقال لها : أرضعيه يا أمة السوء ، قالت : وما شأنك بنا ؟ إنني أفطمه ، قال : ولمَ ؟ قالت : لأن عمر لا يعطينا العطاء إلاّ بعد الفطام ، فأمسك بيده وضرب رأسه وقال : كم قتلت من أطفال المسلمين يا عمر ، ثم صلى صلاة الفجر ولم يستطع أصحابه أن يستمعوا إلى قراءته من شدَّة بكائه ، ودعا وقال : ربي هل قبلت توبتي ؟ ".
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
لقد وقفت عند هذه الآية طويلاً ، حياتنا كلها تفيض بالكلام الجزاف يومياً ؛ في البيع والشراء ، واللقاءات والزيارات ، قد تمدح إنساناً فتجعله ولياً ، وإذا أساء إليك تجعله في الحضيض ، لا الكلام الأول صحيح ولا الثاني صحيح ، فليس هناك إنصاف ، المؤمن الصادق لا ينطق عن الهوى إنه موضوعي .
 
على الإنسان إنصاف الآخرين ولو كانوا خصومه :
 
سيدنا رسول الله رأى صِهرَه بين الأسرى ، ما معنى أن يرى النبي صهره بين الأسرى ؟ أي أنه جاء يحارب النبي ، ولو تمكَّن لقتله ، رآه بين الأسرى فنظر إليه وقال عليه الصلاة والسلام : " والله ما ذممناه صهراً " . هذا صهر ممتاز ، ما هذه الموضوعية ؟! الآن إذا الإنسان خطب ولسبب أو لآخر لم تتم الخطبة ، تجد الأسرتين يتكلَّمون على بعضهم كلاماً ما أنزل الله به من سلطان ، فكلٌّ تكيل التهم للأخرى من غير إنصاف ، والنبي قال :
((أحْبِبْ حبِيبَك هَوْنا مَّا ، عسى أن يكونَ بَغِيضَكَ يوماً مَّا ، وأبْغِضْ بغيضَك هَوْنا مَا عسى أن يكونَ حبيبَك يوماً ما )) .
( أخرجه الترمذي عن أبي هريرة )
أنصف ، قل الحقَّ ولو كان مُرَّاً ، قل الحق ولو كان على نفسك ، فالله عزَّ وجل قال  :
﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا﴾
)سورة المائدة : آية " 8" )
 
أخطر شي ء على الإنسان الشرك الخفي :
 
عندك إمكانية أن تنصف عدوك ، لك في العائلة خصم وورد ذكره في مجلس ، وأنت تعرفه مُتقناً لعمله ، تعرفه صادقاً في كلامه ، وعندك جرأة أن تتحدَّث بموضوعية عن صفاته النبيلة فافعل وزد عنه ، فهذا المؤمن ، أما لم تكن لنا مصلحه ذممناه ، وإن كانت لنا مصلحة مدحناه ، فهذا الإنسان ليس له قيمة عند الله عزَّ وجل ، وغير موضوعي ينطق عن الهوى ، النبي الكريم قال :
((الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحبَّ على جور وأن تبغض على عدل  ((
أي أن تحبَّ شخصاً منحرفاً لأن لك مصلحة معه ، فهذا شرك بالله ، إنسان آخر نصحك نصيحة بأدب ، ومعه الدليل،هذه الآية وهذا الحديث ، ثم قال : هذا العمل غلط يا أخي ، أنت أخ كريم ومؤمن ، فإن تألَّمت من كلامه ، فلمجرَّد أنك تألَّمت من نصيحةٍ مخلصةٍ عادلةٍ فأنت مشرك ، طبعاً شرك ليس جلياً ولكنَّه خفي :
(( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي ))
( رواه البزار عن أبي صالح )
 
 الإنسان من دون إيمان عبد لمصالحه :
 
لذلك :
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
هل تستطيعأن تعاهد نفسك على ألاّ تتكلَّم كلمة إلا أن تكون حقًّا ؟ فالنبي قال : عامل الناس كما تحبُّ أن يعاملوك  .
هل تستطيع أن تعامل زوجة ابنك كما تعامل ابنتك ؟ إذا كنت مؤمناً هكذا يجب أن تعاملها ، لكن الابنة مهما أخطأت تتلقَّى خطأها بصبر وحلم وطول بال ، وإذا أخطأت زوجة ابنك خطأ صغيراً تقيم عليها النكير ، هل هذا هو الإنصاف ؟ هل تعامل الذي في محلِّك التجاري في سنِّ ابنك كما تعامل ابنك ؟
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
هذه آية دقيقة جداً ، قبل أن تنطق فكِّر مليًّاً ، هل ستقول الحق أم الباطل ؟ هل تبالغ ؟ هل تقلل من شأنه لأنه خصم ؟ هل تكبِّر في حجمه لأنه محبٌّ لك ؟ لأنه يمدحك ، يعطيك ، الإنسان من دون إيمان عبد مصالحه ، فالجهة التي فيها مصلحته يضخِّم ويمدح ويثني ، الجهة التي ليس له فيها مصلحة يصغِّر من شأنها ، هذا كلَّه صادر عن الهوى ولا قيمة له .
 
الحق عظيم من دون تضخيم والباطل أحقر من أن تصغّره :
 
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
هل من الممكن أن تتكلَّم كلاماً صحيحاً وأنت متهم ؟ إذا كنت متلبِّساً بمعصية وسألك شخص ما حكم هذا الشيء فماذا تقول له ؟ هل تحاول أن تبرِّر وتسوغ ؟ لا ، يجب أن تقول : هذا الحكم هكذا وأنا مقصِّر ، لا تبرِّر ، لا تغطِّ ، لا تجُرَّ الحق لصالحك ، الحق أكبر وأعظم أن تكذب له ، أكبر وأعظم من أن تكذب عليه ، لا تكذب له ولا تكذب عليه ، الحق أكبر من أن يحتاج إلى تضخيم ، فهو عظيم من دون تضخيم ، والباطل أحقر من أن تصغِّره ، صوِّرْه بحجمه لأنه صغير.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
  (سورة الإسراء (
أي كن موضوعياً ، لا تبالغ ، لا تقلل ، لا تطمس ، لا تبرز ، لا تعتِّم ، تكلَّم بالحق وقل الحقَّ فالحقُّ قويٌّ ، والحقُّ لا يحتاج أن تكذب له ، ولا أن تكذب عليه ، ولا أن تُضَخِّمه ، ولا أن تقلل خصمه ، فخصمُه قليل ضئيل زاهق ، خصمُه الباطل :
 
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾
 
و :
﴿الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ﴾
)سورة يونس : آية " 35 " )
 
 عامل الناس كما تحب أن يعاملوك :
 
لقد وقفت عند هذه الكلمة  :
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
راقب نفسك ، ضمن البيت إذا أخطأت فاعترف بخطئك ، فكما تريد أن يعترف الطرف الآخر بخطئه اعترف بخطئك ، والحقيقة أنّ هناك مقياساً دقيقاً جداً ، وهذا المقياس ميزان لا يخطئ وهوعامل الناس كما تحب أن يعاملوك دائماً : فاعكس الصورة ، أنت وراء الطاولة (موظَّف) وأمامك مراجع فاعكس الحالة ، لو كنتَ مكانه ما الذي يرضيك أن تُعامل به ؟ أنت عندك زوجة ابن في البيت ، لو أن ابنتك في بيتٍ آخر كم تتمنى أن تُعامل بالإحسان واللطف والعطف ، عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ، من أجل أن تكون موضوعياً .
 
النبي الكريم معصوم في أفعاله وأقواله وإقراره :
 
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
﴿هو﴾ تَعُودُ على مَن ؟ قال : تعود على القرآن في بعض التفاسير ، وعلى نطق النبي في بعض التفاسير ، إذا أعدنا ﴿إن هو﴾ على نطق النبي يعدُّ كلام النبي وَحْيَاً ، لذلك علماء الأصول يقولون : " الوحي وحيان وحيٌ متلوٌّ ووحيٌّ غير متلوٍّ ، الكتاب والسنَّة " الكتاب حقٌّ كله ، والسنَّة حقٌّ كلها ، لكن الكتاب قطعي الثبوت كله ، أما السُنَّة بعضها قطعي الثبوت وبعضها ظنّي الثبوت ، أي هناك حديث ضعيف ، وهناك حديث موضوع ، أما السنَّة الصحيحة فكأنها وحيٌّ إلهي .
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾
 
إن أعدنا﴿هو﴾ إلى القرآن فالقرآن وحيّ يوحى ، إن أعدنا ﴿هو﴾ إلى نطق النبي فإن نطقه وحيٌّ يوحى ، لكن الشيء الثابت أن النبي معصوم في أقواله ، وفي أفعاله ، وفي إقراره ، وفي صفاته ، لأن الله أمرنا أن نتبعه ، لو لم يكن معصوماً لكان أمرُ الله لنا أمرٌ بالمعصية ، لذلك قال له أحد أصحابه : " أنكتب عنك يا رسول الله في غضبك ؟ " قال : والذي نفسي بيده هذا اللسان لا ينطق إلا بالحق في الغضب والرضا .
أناسٌ كثيرون في حالة الغضب ينطقون بالباطل ، يبالغون ، يتهجَّمون ، يسيئون ، لكنّ النبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ في كل أقواله ، وفي كل أفعاله ، وفي إقراره ، وفي صفاته .
 
نزول الوحي على النبي الكريم وهو في أعلى درجات اليقظة :
 
                                               ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ﴾
فما معنى كلمة  :
 
﴿يُوحَى﴾
أحياناً الكلمات لها مجاز ، أي أنّ الوحي فعلاً وحيٌ حقًّاً ؟ قال :
﴿وَحْيٌ يُوحَى﴾
مثلاً هذا طعام ، أكلٌ يؤكل ، هذا كتاب ، كتابٌ يُدْرَس ، كلمة يوحى تفيد دفع توهُّم المجاز ، وحيحقيقي ، لذلك عندما جاء  الوحيُ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم ، فإنّ جبريل ضمَّه ضمَّةً اختلفت معها أضلاعه ، لماذا ؟ أيْ أنّ هذا الوحي لم يجئه في الرؤيا وهو نائم ، لا بل جاءه يقظة وإنه ضمَّه ضمَّةً اختلفت معها أضلاعه ثم أرسله ، ثم ضمَّه ، ثم أرسله ، ثم ضمَّه وقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ؟ قال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ ؟ قال :
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾
(سورة العلق (
إذًا فالوحي جاءه وهو صاحٍ ، في أعلى درجات اليقظة ، وهذه الضَمَّة حكمتها أنه كانيقظاً وكان صاحياً بكامل وعيه .
 
الوحي كيان مستقلٌّ عن كيان النبي :
 
فالقضية  :
 
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
والدليل أنّ الوحي انقطع فترة عن النبي الكريم ثم نزل قولُه تعالى  :
﴿وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾
)سورة الضحى (
فالنبي ظنَّ أن الله قد ودَّعه وقلاه ، فقال له : لا .
﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾
لكن تأخُّر الوحي له معنى عميق جداً ، لو كان الوحي كما يتوهَّم المتوهمون من فعل النبي لما انقطع أبداً ، الوحي كيان مستقلٌّ عن كيان النبي ، لا يملك له جلباً ولا دفعاً.
 
دين الإسلام أساسه الوحي من الله تعالى :
 
 لمّا قال المرجفون في المدينة ما قالوا عن السيدة عائشة ، واتهموها ، وافتروا عليها ، انقطع الوحي شهراً ، فماذا يفعل النبي ؟ إنه لا حيلة له ، ولو كان الوحي ادِّعاءً من عند النبي لأتت بعد ثانية آيةٌ بتبرئتها ، لكنه بقي ثلاثين يوماً وقيل : أربعين يوماً ، والنبيُّ لا يملك دليلَ إثباتٍ ولا دليلَ نفيٍ ، لماذا تأخَّر الوحي ؟ ليعرف الناس قاطبةً أن الوحي لا يملكه النبي أبداً ، الوحي مستقلَّ عن النبي لا يملك جلبه ولا دفعه .
                                           ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
 
 
ديننا أساسه الوحي ، إذاً نقف عند قوله تعالى  :
 
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾
 
الوحي أصل من أصول الدين والسنة فرع له : 
 
إخوانا الكرام : يجب أن نعلم علم اليقين أن هذا الدين العظيم في الأصل هو وحي ، الدين نقل ، والعقل لفهم النقل ، الركن الركين أنّ الله جلَّ جلاله أنزل هذا القرآن ، والنبي بيَّن هذا الدين ، الله أنزل والنبي بيّن ، ونحن دورنا دور التلقي فقط  ، إنما أن متبع ولست بمبتدع .
عقلنا لا ينبغي أن يشرِّع ، عقلنا يفهم ، العقل يتأكَّد من صحَّة النقل ويفهم فقط ، ولذلك فالوحي يُعدُّ أصلاً من أصول هذا الدين ، الوحي أصل ، والسنَّة فرع له ، السنَّة وحي غير متلو ، القرآن وحي متلو ، قال عليه الصلاة و السلام :
(( تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدهما : كتاب الله وسنتي )) .
( أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة )
 
على الإنسان أن يرد أي خلاف إلى القرآن و السنة :
 
لذلك فالله عزَّ وجل قال  :
﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾
أي بينكم وبين أمرائكم ، أو بينكم وبين علمائكم .
﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
)سورة النساء : آية " 59 " )
أيْ إلى القرآن وإلى السُنَّة ، والله عزَّ وجل قال  :
﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾
 (سورة الأنفال : آية " 33 " )
ومعنى : ﴿وأنت فيهم﴾ أيْ أن سنَّتك في حياتهم مطبَّقة ، ما داموا مطبقين لمنهج الله عزَّ وجل فهم في بحبوحةٍ من أن يُعذَّبوا .
 
 على الإنسان أن يكون موضوعياً في كل امر :
 
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع تفسير الآيات التالية  :
﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى* ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾
 
لكننا الآن لا بدّ من العودة إلى مطلع السورة لاستخلاص العبرة منها :
و التطبيق العملي لهذه الآية : احرص على ألاّ تنطق بالهوى ، بل قل الحقيقة ، قل الحق ولو كان مُرَّاً ، الحق يرفعك ، والكذب يرديك ويهوي بك ، لا تمدح شيئاً بما ليس فيه ، كن موضوعياً ، العلم الوصف المطابق للواقع مع الدليل ، لا ينهِضُنا إلا الموضوعية ، لا يخلِّصنا مما نحن فيه إلا الصدق ، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام كل كلمةٍ قالها كانت حقَّاً ، لا  مجال لا إلى التضخيم ولا إلى التقليل ، كن موضوعياً تكن مُطَبِّقاً لهذه الكلمة ، وكن منصفاً أبداً ، ولو كنت في خصومة مع غيرك  .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب