سورة الحجرات 049 - الدرس (4): تفسير الأيات (11 – 11) - الغيبة و النميمة و التنابز بالألقاب

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الحجرات 049 - الدرس (4): تفسير الأيات (11 – 11) - الغيبة و النميمة و التنابز بالألقاب

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 15 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 06- غزة وخزة ايقاظ- د. عبدالوهاب الطريري           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - علامات قبول الطاعة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 387 - سورة المائدة 004 - 005           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 45- إدارة الأزمات والمخاوف- أ. أسامة ملحس -14 - 04 - 2024           برنامج مع الأسرى: مع الأسرى - حلقة45 - 13 - 4-2024         

الشيخ/

New Page 1

     سورة الحجرات

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الحجرات ـ الآيات: (011 - 11) - الغيبة و النميمة و التنابز بالألقاب

12/06/2013 18:08:00

سورة الحجرات (049)
الدرس : (4)
تفسير الآية : [11]
الغيبة و النميمة و التنابز بالألقاب
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة الكرام ...مع الدرس الرابع من سورة الحجرات .
 
 الغيبة والنميمة أساس تمزق المجتمع :
 
مع الآية الحادية عشر وهي قوله تعالى  :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
أيها الأخوة الكرام ... كما تعلمون من قبل أنَّ الله سبحانه وتعالى يخاطب الناس بأصول الدين ، ويخاطب المؤمنين بفروعه ، فهناك دعوةٌ إلى الإيمان بالله ، والإيمان بوجوده، وبوحدانيته ، وبكماله ، وهناك دعوةٌ إلى تطبيق منهجه ، فهذه السورة من فروع الدين ، فبعد أن آمن هذا الإنسان بربه فالآن تأتيه التوجيهات التفصيلية ؛ افعل ولا تفعل ، فمن هذه التوجيهات التفصيلية أن نظام العلاقات الاجتماعية إذا شاعت فيه الغيبة والنميمة تمزَّق المجتمع ، والله سبحانه وتعالى أراد أن نجتمع ، وكيف أراد أن نجتمع ؟ سمح لكل واحدٍ منا أو مَكَّنَهُ أن يتقن عملاً وجعله في أمس الحاجة إلى ملايين الحاجات ، وهذا التصميم الإلهي أراده الله لنا ومن محصلته ونتائجه الاجتماع .
 
مناط التكريم عند الله عز وجل ما استقر في القلب من معرفة الله : 
 
نحن مقهورون للاجتماع ، أنت محتاجٌ إلى أن تأكل وتشرب وترتدي ثياباً ، وتسكن في بيت ، وتعلِّم أولادك ، وتعالج نفسك عند طبيب ، وتقاضي عند قاضٍ عن طريق محام ، فأنت تتقن عملاً واحداً أو عملين ، لكنك في أمس الحاجة إلى ملايين الأعمال ، فلذلك نحن نجتمع ، وبنظام الاجتماع من أجل أن نبقى متماسكين ، متعاونين ، متحابّين ، متناصرين ، متفاهمين ، ولتغدو الحياة جميلةً ، فاضلةً ، مسعدةً ، مريحةً ، ناعمة البال ، هادئةً ، جاء التشريع الإلهي المتعلَّق بالعلاقات الاجتماعية .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ﴾
كأن الله سبحانه وتعالى يبيِّن لنا أن المظاهر التي تروْنَها ، وأن الصور التي تشاهدونها ، والمتاع الذي تحوزونه لا قيمة له إطلاقاً في ميزان الرقي عند الله عزَّ وجل ؛ فلا مكان البيت ، ولا حجمه ، ولا تزيينه  ، ولا أثاثه ، ولا طول القامة ، ولا اللون المتألِّق ، ولا اتساع العينين ، ولا نوع المركبة ، فهذه الصور التي تؤخذون بها ، وهذا المتاع الذي تحوزونه هذا كله ليس مناط التكريم عند الله عزَّ وجل ، فمناط التكريم ما استقر في قلوبكم من معرفةٍ لله عزَّ وجل ، ومن مشاعر نبيلة تجاه الناس ، وإخلاصٍ لله عزَّ وجل .
 
الجاهل من يسخر من الإنسان الفقير المستضعف : 
 
لذلك الذي يسخر من إنسان فقير هو جاهل ، قد يكون هذا الفقير أرقى عند الله منك ، والذي يسخر من إنسان ضعيف مستضعف أيضاً جاهل ، والله عزَّ وجل لحكمةٍ بالغة قوَّاك وضَعَّفَهُ ، وليست القوة دليل قربك من الله ، فالله عزَّ وجل أعطى الملك مَن لا يحب ، فقد أعطاه فرعون ، وأعطى المال مَن لا يحب ، فقد أعطاه قارون ، فهذه الصور التي يتيه الناس بها ، وهذا المتاع الذي يتفاخر الناس باقتنائه ، وهذه المركبات التي يزهو الناس بركوبها ، وهذه البيوت التي يبالغ الناس في الاعتناء بها ، أي هذه الصور التي تلتقطها أعينكم لا قيمة لها عند الله عزَ وجل ، وليست هي مناط التكريم .
فالتكريم ما استقر في قلوبكم من معرفةٍ بالله ، ومن تعظيمٍ له ، وإخلاصٍ له ، وإخلاصٍ للخَلْق ، ورغبةٍ في خدمة الخلق ، ورحمة:
(( إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) .
[ أخرجه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة ] .
وهذا مقياس دقيق .
 
المؤمن كلما اقترب من الله اقتربت موازينه من موازين الشرع :
 
لذلك فالله عزَ وجل قال : إياكم يا عبادي ، إياكم ثم إياكم أن تسخروا ممن هو دونكم في مظاهر الدنيا ، فلا ينبغي للغني أن يسخر من الفقير ، ولا للقوي أن يسخر من الضعيف ، ولا للصحيح أن يسخر من المريض ، ولا للوسيم أن يسخر من الدميم ، ولا المستقيم الطاهر مسموحٌ له أن يسخر من العاصي ، هو عاصٍ ولكن بعد حين قد يكون أقرب إلى الله منك ، فحتى العاصي لا ينبغي لك أن تسخر منه ، بل عليك أن ترثي حاله وأن تدعو له بالهدى وأن توجِّهَهُ إذا أمكنك التوجيه .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ﴾
 
والنقطة الدقيقة : متى الإنسان يظلم نفسه ؟ إذا احتقر مخلوقاً فهو عند الله عظيم ، فظلمٌ كبير أن تتهم إنساناً بشيءٍ من حطام الدنيا وهو عند الله عظيم ، فأنت ما أعطيته حقه ، ومقياسك غير صحيح ، ولذلك فالمؤمن كلما اقترب من الله اقتربت موازينه من موازين الشرع ؛ وكلما ابتعد عن الله تصبح له موازين ليست في الكتاب ولا في السنة ، فهذا القرآن كله بين أيدينا .
العلم والعمل أقرهما الله عز وجل لوزن الخلق فقط :  
 
أيّ ميزانٍ أقره الله عزَّ وجل لوزن الخلق ؟ فميزان الجمال مثلاً لا قيمة له قال :
﴿وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ
 (سورة البقرة : آية "221 " )
أميزان المال ؟ كذلك لا قيمة له ..
﴿قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ
 (سورة التوبة (
أميزان الذكاء ؟
                   ﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ* ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ﴾
 (سورة المدثر (
 فكل هذه المقاييس التي تواضع الناس على أنها مُرَجِّحات بين الخلق ، فالقرآن الكريم لم يعترف بها ولم يقم لها وزناً إلا مقياسين حصراً ؛ العلم والعمل ، قال تعالى  :
                                ﴿ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾
(سورة الزمر : آية "9 " )
وقال تعالى  :
﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾
 (سورة الأنعام : آية " 132")
 
قيمة الإنسان عند ربه بإيمانه وعمله الصالح : 
 
أنت كلما اقتربت من الله تقترب في الموازين التي تستخدمها من موازين القرآن ، وكلما ابتعدت عن الله عزَّ وجل تستعمل موازين ماأنزل الله بها من سلطان ، تقيم الإنسان بحجمه المالي ، أو بقوته ، أو بمدى تمكنه من السيطرة على الآخرين ، أو بوسامته ، أو بذكائه الشيطاني ، أو بنسبه وكلها عنعنات ما أنزل الله بها من سلطان ، فلذلك كأن الله سبحانه وتعالى يبيِّن أن هذه الصور التي تقع على أعينكم ؛بيت فخم ، ومركبة ثمينة ، وقامة منتصبة، ولون متألِّق ، وذكاء عالي المستوى لكن ليس في سبيل الله ، هذه الصور التي تقع على أعينكم والتي يتفاضل الناس فيها لا قيمة لها عند الله ، فالقيمة لإيمانك وعملك الصالح ، ولِما استقر في القلب من رحمةٍ ومعرفةٍ وإخلاصٍ وإنابةٍ إلى الله عزَّ وجل ، وهذا يؤكده النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
(( إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) .
[ أخرجه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة ] .
حتى أن بعض العارفين بالله سمَّى القلب : منظر الرب ، ورد في الأثر القدسي أن :
 )) يا عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طهرت منظري ساعة ؟ ))
 
تناقض الكبر مع العبودية لله عز وجل :
 
تعتني بأثاث بيتك ، وبمدخل البيت ، تنظف مركبتك ، تلبس ثيابًا أنيقة ، فهذا منظر الخلق .. (( أفلا طهرت منظري ساعة ؟ )) وقد ورد في الحكم " لا تجعل الله أهون الناظرين إليك " ، ولا تجعل الله الخالق العظيم أهون الناظرين إليك ، فالإنسان أحياناً يستحي من ضيف تكون ثيابه غير أنيقة ، بل متبذِّلة ، فلا تجعل خالق الكون الذي يراك حين تقوم أهون الناظرين إليك ، يقول الله عزَّ وجل :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ﴾
 
فقد تجد امرأة أقل جمال من أختها لكنها أكثر معرفةً بربِّها ، وأكثر رعايةً لزوجها ، وعطفاً على أولادها ، وطاعةً لله ، فهذا الجمال يذوي ، وهذا التيه والزهو لا شأن له عند الله عزَّ وجل ، فأنت متواضع بقدر إيمانك ، متكَبِّر بقدر بعدك عن الله عزَّ وجل ، فلا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبر لماذا ؟ لأن الكبر يتناقض مع العبودية لله عزَّ وجل .
 
الجاهل من يستعلي على الناس ويتيه عليهم : 
 
يمكن للحليب أن يضاف له من دون غش ضمن البيت ، تضيف له لبنًا أوضح ، فأن نضيف إلى اللبن ثلاثة أمثاله ماء وتعمله شراباً ، فهو يتحمل أن تضيف له ثلاثة أمثال ، ولكن لا يتحمل قطرة نفط واحدة ، وعندئذٍ يفسد وتلقيه في قارعة الطريق ، فكذلك العبودية لله عزَّ وجل لا تحتمل كبراً أبداً ، ويجوز للإنسان أن يغلط آلاف الأغلاط عن غير قصد وعن غير تصميم ويتوب منها سريعاً ، أما أن يأخذه العُجْب ، و يستعلي على الناس ، ويتيه على الناس بشكله ، أو بماله ، أو بقوته ، أو بوسامته ، أو بذكائه ، فهذا الكبر يتناقض مع العبودية لله عزَّ وجل ، ولذلك :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ﴾
 
المؤمن الغني هو المؤمن المتواضع أمام الفقراء، السخي في إنفاق :
 
أذكر أنني في الدرس الماضي قلت هذه الكلمة : السخرية جملةً وتفصيلاً في أي موضوع وفي أي مستوى وفي أي درجة  ليست داخلةً في حياة المؤمن إطلاقاً ، فلا يسخر إطلاقاً ، وإن أردت التفصيل لا يمكن أن يضاف إلى كلمة مؤمن ولا كلمة أخرى ، تقول : مؤمن فقط ، أو مؤمن فقير ، والفقر وسام شرف ، فالنبي كان فقيراً ، والفقير المؤمن متجمل ، عفيفٌ عن المطامع وعن المحارم ، وراضٍ بنصيبه من الله عزَّ وجل ، وعزيز النفس ، ولا يبذل ماء وجهه لإنسانٍ ولا يثق بمودته ، تقول : مؤمن غني ، فالغني مقيد بالشرع ، وسخيٌ في إنفاق المال ، ومتواضعٌ أمام الفقراء ، إذاً لم يعد اسمه غنياً ، غني بحجمه المالي ، أما بأخلاقه فمؤمن ، والفقير لم يعد فقيراً ، عنده نقص في المال ، ولكن لا يوجد عنده نقص بالأخلاق ، فأخلاقه عالية ، مؤمن ريفي ، الإيمان رفع شأنه إلى أعلى مستوى ، فالعنعنات لا توجد في الإسلام  .
 
الناس رجلان بر تقي أو غافل شقي :
 
والناس كما تعلمون أيها الأخوة رجلان في النهاية ، الناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وانتماءاتهم ، واتجاهاتهم ، وحضاراتهم ، ورقيهم ، ودخلهم الخ ... الناس رجلان رجل عرف الله فاتصل به ، وانضبط بشرعه ، وأحسن إلى خلقه فسعد بقربه في الدنيا والآخرة ، ورجل لم يعرف الله عزَّ وجل ، فمن لوازم عدم المعرفة أنه مقطوعٌ عن الله عزَّ وجل ، متفلتٌ من منهجه ، مسيءٌ إلى خلقه ، شقيٌ في الدنيا والآخرة ، وهذا القرآن أمامكم ، ليس في هذا الكتاب كله إلا هذان الصنفان ، مؤمن وكافر ، ومحسن ومسيء ، وموصول ومقطوع ، ومستقيم ومنحرف ، ورحيم وقاسٍ ، و مقبل ومعرض ، أبداً هذا هو التقسيم الحقيقي ، وأيّ تقسيمٍ آخر فتقسيمٌ جاهلي لا قيمة له ، النبي سمع كلمة قالها رجل بحق إنسانٍ أسود البشرة ، قال له : يا بن السوداء فقال له النبي عليه الصلاة و السلام : " إنك امرؤٌ فيك جاهلية " وانتهى الأمر .
 
الجاهلية من زان الناس بميزان غير ميزان الكتاب والسنة
 
فالجاهلية أن تستخدم مقاييس غير مقاييس هذا الكتاب ، وأن تزن الناس بميزان غير ميزان الكتاب والسنة ، هذه هي الجاهلية ، وأن تعظِّم إنساناً بماله ، وتعظمه لقوته ، وأن تحابيه لقربه منك فكل ذلك مقياس جاهلي:
((من ولي أمر عشرة وولى عليهم رجلاً فيهم من هو خيرٌ منه فقد خان الله ورسوله ))
فالمحاباة غير موجودة في الإسلام :
(( والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ))
[ أخرجه البخاري عن عائشة]
أبداً :
((إنما أهلك الله بني إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ))
[ متفق عليه عن عائشة]
هذا هو الدين . فالمجتمع ما لم تحكمه قيمٌ واحدة تسري على كل أفراده فهذا المجتمع لا يتقدم أبداً ، إنه مجتمع الإيمان ومجتمع المقاييس الواحدة ، والمعايير الواحدة ، فالمؤمنون جميعاً يُقَيَّمون بمقياسٍ واحد وبمعيار واحد ، والإنسان كلما اقترب من الإيمان اقترب من مقاييس القرآن ، فلا يُعَظِّمُ إلا المؤمن ، ولذلك :
(( لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ))
[أَخرجه أبو داود ، والترمذي عن أبي سعيد الخدري]
 
اللمز هو إشاعة العيوب والتعيير وكشف العورات : 
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾
اللمز هو الطعن ، والتشهير ، وأن تعيب على الناس متاعَهُم الخشن ، وحياتهم المتواضعة ، وأن تعيب على الفقير فقره ، وعلى الضعيف ضعفه ، وعلى المريض مرضه ، وعلى صاحب المتاع الخشن متاعه ، فالنقد ، والتعيير ، وإشاعة العيوب ، وكشف العَوْرات ، هذا هو اللمز قال :
     
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
دعوة الله عز وجل المؤمنين إلى أن يكونوا كالجسد الواحد : 
 
أما﴿أنفسكم ﴾ كأن الله سبحانه وتعالى أراد أن يكون المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسم بالسهر والحمى ، فكيف قال الله عزَّ وجل :
﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
 (سورة البقرة : آية "188 " )
أي إن أكلت مال أخيك فكأنما أكلت مالك لأنه أخوك إن قويَ فقوته لك ، وإن أضعفته تضعف أنت معه ، فإذا أكلت ماله فكأنما أكلت مالك .
      
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
 
يقاس عليها :
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
 (سورة النساء : آية "29 " )
أنت أخرجت عنصراً مؤمناً من المجتمع ، فضعف المجتمع .
 
 وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ : آية لها عدة معان :
 
1 ـ على الإنسان ألا يكون طعاناً أو لعاناً أو منتقداً :
حيثما وردت هذه الآية ومثيلاتها ..
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
 
 (سورة النساء : آية "29 " )
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
 ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
 
 (سورة البقرة : آية "188 " )
فالله سبحانه وتعالى عَدَّ المجتمع الإسلامي مجتمعاً واحداً ، فإذا أضعفت أحد أفراده أضعفت المجتمع كله ، وهذا معنى.
2 ـ على الإنسان ألا يفعل عملاً يلام عليه :
والمعنى الثاني لا تفعل شيئاً تستحق أن تعيَّر به .
     
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
إياك أن تفعل شيئاً تدعو الناس به إلى ذمِّك ، فلا تضع نفسك موضع التهمة ثم تلوم الناس إذا اتهموك ، وإياك وما يُعتَذر منه ، وأيُّ عملٍ يصغرك تضطر أنتعتذر وأن تقول : لم أكن أعرف فسامحونا ، ولا تؤاخذونا ، فهذه الأعمال التي تحملك على أن تعتذر منها لا تليق بك .
     
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
العاقل من يبحث عن الفضائل ويوسعها : 
 
صار لهذه الآية معنيان : الأول : لا تعمل عملاً تُلام عليه ، فالنبي عليه الصلاة والسلام من أسمائه محمود ، محمودٌ عند الله وعند الناس وعند نفسه ، فبعلاقاتك ، وبيعك ، وشرائك ، ومواعيدك ، وأفراحك ، لا تفعل شيئاً تُلام عليه ، ولا ترتكب عملاً تضطر أن تصغر أمام الناس ، وأن تعتذر ، فهذا الموقف الكامل ، وإيَّاك أن تدخل موقفاً لا تحسنه ، وأن تقوم بعمل لا تستطيعه ، وأن توهِم الناس بحجمٍ أنت أقل منه .
    
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
لا تفعلوا عملاً تلامون عليه فهذا معنى ، والمعنى الثاني ، لا تكن طَعَّاناً ، ولا عَيَّاباً ، ولا منتقداً ، ولا تكن معول هدمٍ في المجتمع ، بل كن بَنَّاءً ، ولا تكن سلبياً ولكن كن إيجابياً ، ولا تبحث عن العيوب بل ابحث عن الفضائل ووسِّعها ونَمِّها .
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
 من يستقم على أمر الله يحترم نفسه :
 
وحينما يحترم الإنسان نفسه يستقيم على أمر الله ، وهذا شعور المستقيم ..
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ﴾
 (سورة يونس : آية "26 " )
هذه الآية الكريمة أيها الأخوة الكرام هي قانون الذل والعز .
 
الجنة والنظر إى وجه الله الكريم عاقبة المتقين :
 
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾
الجنة ..
﴿وَزِيَادَةٌ
النظر إلى وجه الله الكريم ..
﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ﴾
 
الإنسان حينما يطمح فيما عند الله يحبه الله :
 
الإنسان متى يذل ؟ إذا أساء ، ومتى يُلام ؟ إذا قَصَّر ، ومتى يصغر ؟ إذا أخطأ ، فإذا الإنسان جهد ألا يخطئ وألا يقصر ، وألا يتوانى عن شيءٍ مكلفٍ به يرفع رأسه ، عندئذٍ لا يستطيع أحدٌ أن ينال منه ، قالوا : "استغن عن الرجل تكن نظيره ، واحتج إليه تكن أسيره ، وأحسن إليه تكن أميره " فالإنسان حينما يستغني عما في أيدي الناس يحبه الناس ، وحينما يطمح فيما عند الله يحبه الله ، والناس بالعكس ، يزهدون فيما عند الله فيبغضهم الله عزَّ وجل، ويطمعون فيما عند الناس فيبغضهم الناس ، وهم عند الله مبغَضون ، وعند الناس مبغضون ، ازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس ، ولا تزهد بما عند الله عزَّ وجل يحبك الله ، الآية الكريمة :
     
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
والنبيالكريم أشار إلى هذا المعنى بقوله الكريم: (( إياك وما يعتذر منه(( وكل موقف وتصرُّف سوف تضطر بعده أن تقول : لا مؤاخذة ، عفواً ، فهذا الشيء الذي تضطر أن تعتذر منه لا تفعله ، وارفع رأسك ، ارفع رأسك يا أخي ، قال سيدنا عمر لرجل : " وسيدنا عمر رضي الله عنه رأَىرجلاً مُتَماوِتاً ، فقال: لا تُمِتْ علينا ديننا ، أَماتكَ الله " .
 
المسلم عندما يطبق منهج الله عز وجل يشعر بعزة كبيرة :
 
هناك صحفي غربي يحلل هذا الحقد الشديد على المسلم الآن فقال : إن الشخصية الغربية الآن صغيرة أمام شخصية المسلم الأخلاقية ، فصار للمسلم في شعور بالتفوق على الغربي لأنه غارق في الجنس والمخدرات ، والانحلال الخلقي ، بينما المسلم حياته نظيفة ، ومشكلاته قليلة ودخله أعلى ، وانضباطه شديد ، وأسرته ناجحة ، وهذا منهج الله عزَّ وجل ، لذلك فالإنسان عندما يطبق منهج الله عزَّ وجل يشعر بعزة ما بعدها عزة ، ويُروى أن أحد الصحابة (ربما سيدنا الحسن) مشى مشية تيهٍ فقالوا : " أتيهٌ يا سبط رسول الله ؟! قال : لا، هذا عز الطاعة " ، فالإنسان أحياناً يشعر بعز الطاعة لأنه نظيف ، ولا يوجد عنده ازدواجية في حياته ، فبيته نظيف ، وعلاقاته نظيفة ، وحساباته نظيفة ، وليس عنده غموض ، ولا شيء معلن وشيء لا يعلن ، وما في قلبه ظاهر على لسانه ، وما في لسانه مكشوف عنه في قلبه ، فهذا التوحُّد والمظهر الواحد هذا من قوة شخصية المؤمن .
 
 أحد أسباب استقامة المؤمن أنه يحترم نفسه :
 
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
احترامه لنفسه يدعوه للاستقامة على أمر ربه ، لأن أي تقصير أو أي خلل يصغّرك ، فأحياناً الناس يقولون : ما أحببت أن أصغر ، فلو  طلب منك إنسان طلباً وأنت نسيت أن تنفذه ، فعندك كلمتان ؛ كلمة نسيت صعبة كأنك لا تنسى أبداً ، أما كلمة : اتصلت به فلم أجده ، فهذه أهون لك ، أما لو قدَّمت له عذراً غير صحيح فتصغر أمام نفسك ، وكفاك أن تشعر بالمهانة أمام إنسان ، وقد كفتك المهانة أمام نفسك ، فلذلك أحد أسباب استقامة المؤمن أنه يحترم نفسه ، ولا يريدها أن تكون صغيرةً ، ولا يحبها متناقضةً .
 
المؤمن الحقيقي من كان أداة بناء في المجتمع لا معول هدم :
 
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
المعنى الذي يفهم لا تعمل عملاً يُعَيِّرُكَ الناس به ، ويلومونك عليه ، ويصغرونك فيما بينهم ، والمعنى الثاني لا تكن طعاناً ولا فحاشاً ، هناك إنسان نمطه متكبِّر ، لا يحتمل أن يكون معه أحد ، ويحطم الكل من أجل أن يبقى وحده ، فهذا نمط شيطاني .
 
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ
 
لا تكن طعَّانًا ولا لعانًا ولا فاحشًا ولا بذيئًا ولا عيَّاباً ، ولا تنظر إلى نصف الكأس الفارغ بل انظر إلى نصفه المليء ، ولا تكن سلبياً بل كن إيجابياً، ولا تكن متشائماً بل كن متفائلاً،وإذا جلست مع إنسان فابحث عن نقاطه الإيجابية ولا تلتفت إلى عيوبه ، وأثنِ عليها تنمُ ، أما إذا تغافلت عن إيجابيته ونقَّبت في عيوبه فهذا موقف سلبي هدّام ، فلا تكن معول هدمٍ في المجتمع ولكن كُنْ أداة بناء .
 
 على الإنسان ألا يحتقر الآخرين أو ينتقص منهم : 
 
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
بالمناسبة السخرية أن تحتقر إنساناً أو أن تنتقص منه ، أو أن تعيِّرَهُ وهو في حضرتك ، أما الغيبة فأن تقول عنه كلاماً يؤذيه وهو غائب ، فالسخرية لا تقتصر على اللسان ، فأحياناً بحركة تحاكي بها حركة إنسان فهي سخرية ، وأحياناً بإشارة ، وغمز ، وحركة عينين ، وتحريك عضلات الوجه فيها سخرية ، وابتسامة ، قال بعض علماء التفسير في قوله تعالى : ﴿ يا ويلنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةٍ ولا كبيرةً إلا أحصاها ﴾ : الصغير الابتسام ، والكبير القهقهة ، فلو ابتسمت لموقف من مؤمن أخطأ فيه ، أو كنت متمكنًا في علمٍ من العلوم وسألك إنسان سؤالاً دلّ على جهله بهذا العلم فلا تسخر منه ، بل عَلِّمْهُ ، فهناك من تأخذه العزة باختصاصه ، فيسخر ويتهكم ، لا ، لا ، الله عزَّ وجل علمك وحجب عنه العلم والله قادر على أن يعكس الآية .
 
المؤمن الحقيقي من ابتعد عن موضوع السخرية جملة وتفصيلاً : 
 
مرة أخٌ يرعى عملاً اجتماعياً خيرياً ، ورجل قدم بيتاً بمبلغ كبير ، فأقيمت له حفلة لتكرمه على هذا التبرع الثمين ، فكل الخطباء أثنوا على سخائه وإحسانه وجوده و... إلا أخًا كريماً لفت نظر هذا المحسن إلى حقيقة قال له : كان من الممكن لو أراد الله أن تكون أحد المنتفعين بجمعيتنا ، أن نعطيك معاشاً شهرياً ، ولكن الله شاءت حكمته أن يغنيك ، فهذا من فضل الله عليك أنه أغناك وسمح لك أن تعطي ، ولو شاء لكنت الطرف الآخر الذي يأخذ .
فالإنسان لا يسخر ، كما قلت قبل قليل : فموضوع السخرية جملةً وتفصيلاً ، بقضه وقضيضه لا يدخل في حياة المؤمن أبداً ، ولا يسخر حتى ممن يعصي الله عزَّ وجل ، بل يدعو له بالهدى والتوفيق ، ويقال : " من عيَّر أخاه بذنبٍ تاب منه لم يمت حتى يعمله " ، ونحن عندنا مشكلة لو أنّ إنسانًا غلط ثم تاب ، فكلما رأيته تذكر تلك المشكلة ، وهذا من لؤم الإنسان ، امرأةٌ زلّت قدمها في عهد سيدنا عمر وأقيم عليها الحد ، وبعد حين جاء من يخطبها ، فجاء أخوها لسيدنا عمر يستفتيه : " أأذكر للخاطب ما كان منها ؟ فما كان من عمر رضي الله عنه إلا أن قال له : والله لو ذكرت له لقتلتك " ، فالإنسان تاب وانتهى الأمر .
 
الكمال يقتضي إذا وقع أخ في ذنب وتاب منه فعليك أن تتجاهله تجاهلاً كاملاً :
 
إخوة يوسف عليه السلام ماذا فعلوا بأخيهم ؟ ألقوه في الجب لماذا ؟ ليموت ، أي أرادوا قتله ، فلما دخلوا عليه قال :
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
(سورة يوسف : آية "100 " )
ولماذا لم يذكر الجب ؟ الجب أخطر ، والإنسان تكون حياته مضمونة في السجن ، وغذاؤه موجود لكن تؤسر حريته ، أما في الجب فموته محقق ، لماذا يا أيها النبي الكريم لم تذكر موضوع الجب بل ذكرت موضوع السجن ؟
 
﴿يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾
 (سورة يوسف : آية "100 " )
وماذا عن الجب ؟ إنه ما ذكر الجب لئلا يذكِّر إخوته بعملهم السابق ، فإذا كان لك أخ تابمن موضوع فهل تظل تذكره بالموضوع ليس لك حق ، لقد غلط في حياته ، وهناك إنسان يضيِّق ولا ينسى الماضي ، والكمال يقتضي إذا وقع أخ في ذنب وتاب منه فعليك أن تتجاهله تجاهلاً كاملاً ، قال : " من عيَّر أخاه بذنبٍ تاب منه لم يمت حتى يعمله " عقاباً له ، لأنه تجبر .
 
 الذنب شؤمٌ على غير صاحبه :
 
والنقطة ذكرتها في الدرس الماضي ولكن يحسن أن نعيدها مرة ثانية  الذنب شؤمٌ على غير صاحبه ، إن ذكره فقد اغتابه ، وإن عيَّره ابتلي به ، وإن رضي به شاركه في الإثم ، احذر إن اقترف أخوك ذنباً أن تشيع هذا الذنب بين الناس فقد اغتبته ، ثم احذر أن تُعَيِّرَهُ بهعندئذٍ فتبتلى به ، ثم احذر أن تقره عليه فتشاركه في الإثم ، لا هذه ، ولا هذه  ولا هذه ، اشكر الله عزَّ وجل على أن نجَّاك من هذا الذنب وادعُ لأخيك بالتوبة منه وانتهى الأمر .
 
 لا ينبغي للإنسان أن ينادي الناس إلا بأحب الأسماء إليهم :
 
     
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
 
المؤمن ينادي أخاه المؤمن بأحب الأسماء إليه ، فهذا هو المؤمن ، من الرجل ؟ قالله : زيد الخيل ، فقال عليه الصلاة والسلام: " زيد الخير".. " ما اسمكِ يا فلانة ؟ " لفتاة صغيرة ، قالت : عاصية قال : " بل أنتِ جميلة " ، اللهم صلّ عليه غيَّر الأسماء الجاهلية كلها .
     
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
فبعض الأشخاص يحلو لهم المُزاح في هذا الموضوع ، وتأكدوا أيها الأخوة أن الإنسان إذا ناديته باسمٍ قبيح لو ابتسم لك لذكائه فيجاملك ، ولكنه يتألَّم ،  وطبعاً من أنواع الذكاء أن يجاملك ويضحك معك ، أما لو ضحك من هذه التسمية القبيحة لكنّ قلبه يُكْلَمُ ، ويقطر دماً وألماً منك ، فلذلك لا ينبغي لك أن تنادي الناس إلا بأحب الأسماء إليهم .
 
 إحدى قواعد التعامل مع المؤمنين أنه إذا ترك الإنسان ذنباً فلا تذكّره به :
      
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
 
العوام الجهلة البعيدون عن مجالس العلم لو استمعت إلى أقوالهم وإلى خطاباتهم لأخذك العجب العجاب ؛ وقاحة ، وبذاءة ، وتهَكُّماً ، وعورات ، فهذا مستوى الإنسان غير المتعلم ؟ لا ، أقول : المتعلم الذي يكون معه شهادات ؟ لا ، كل إنسان حضر مجلس علم أصبح متعلماً ، وكل إنسان طبق الشرع فهو عالم :
((كفى بالمرء علماً أن يخشى الله وكفى به جهلاً أن يعصيه  (( .
[ أخرجه الدارمي عن مسروق]
 
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
 
وهناك نقطة أنه كان هناك يهودياً فأسلم (إذ عندنا يهود أسلموا) ، فكان بعض المنافقين يقول له : يا يهودي بعد أن أسلم ، ووُجد منافقاً ، فاستقام وصلح أمره،وحتى الألقاب التي كانت لهم قبل الإسلام بعد أن أسلموا وتابوا لا ينبغي أن تطلق عليهم أبداً ، فهذه إحدى قواعد التعامل مع المؤمنين ، إذا ترك الإنسان ذنباً .. انتهى الأمر .. فلا تذكِّره به لا من قريب ، ولا من بعيد ، ولا إشارة ، ولا عبارة ، ولا تنويهاً ، ولا تعليقاً ، تاب فتاب الله عليه  :
))إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هَنِّئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله))
[ ورد في الأثر]
((  إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ))
[ ورد في الأثر]
 
 
 الله عز وجل ستار يحب كل من يستر على أخيه :
 
إذا كان الإله تاب عليه أفلا تتوب ؟ والإله ستره وأنت تفضحه ؟ فليس هذا من أخلاق المؤمنين ، والله عزَّ وجل ستَّار يحب كل من يستر على أخيه ، وقد ذكرت قصة سابقاً ؛ بنت زلَّت قدمها فتزوجت ، فلا تقل : هذه كانت هكذا ، إذا سمع زوجها بهذا الشيء يطلقها  ، بلا رحمة ، يريد أن يتسلى ، معه معلومات فيتكلم بها ، إنه شيطان يتكلم ، فإذا إنسان كان له ماضٍ وتاب واستقام ، وله ترتيب سابق ورجع عنه قال :
     
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
 
لا التي بعد الإسلام ولا التي قبل الإسلام .
    
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾
 
 من تاب إلى الله توبة نصوحة عليه أن يستر نفسه ما دام الله ستره : 
 
بالمناسبة نحن لا يوجد عندنا بالدين اعتراف أبداً ، فإذا كان للإنسان أخطاء ، وتقصيرات ، وزلاَّت قَدَم ، وتاب اللهعليه لا ينبغي له أن يقول هذا لأحدٍ كائناً من كان ، والإنسان لا ينسى ، كلما رآه يتذكر الماضي ، فإذا كان لك غلطة فلا تقلها لأحد ، ما دام الله سترك وتاب عليك فأنت استر ، ولا حاجة إلى الفضيحة ، فالذي يفضح نفسه يجترئ على الله، لأنه سترك وأنت تتكلم !! فإذا تكلمالإنسان وعرف الناس أخطاءه السابقة عيَّروه بها دائماً .
    
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ﴾
 
فلو فرضنا إنسانًا أكل في مطعم ولم يدفع الثمن ، في زمن الجاهلية ، ثم أراد أن يتوب إلى الله بإمكانه أن يدفع المبلغ دون أن يعلم صاحب المطعم أنه عن طعامٍ أكله دون أن يدفع ثمنه ، ضع المبلغ داخل رسالة وألقه له وانتهى الأمر ، والله لم يكلِّفك أن تفضح نفسك ، لكن لابدَّ من أن تؤدي الحقوق .
 
  من تاب إلى عليه أن يعمل جرداً لأعماله السابقة دون أن يفضح نفسه :
 
 
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾
 
        قال لي صاحب محل يبيع حلويات : دخل شاب وألقى لي ظرفًا وقد كتب لي فيه : أنا مرة أكلت دون أن أدفع الثمن وقد تبت إلى الله وهذا هو المبلغ فخذه ، فإذا أراد الإنسان أن يتوب توبة نصوحاً فعليه أن يؤدي ما عليه من حقوق ، وقال لي أخ ثان صاحب معمل : حصل في معملي سرقات مستمرة ما تركت طريقة لكشفها ، ولكن لم أكتشف السارق ، وبعد عشر سنوات دخل شاب فقال لي : لقد كنت عندك وكان لي أخطاء وجئت لأعطيك ما علي ، ونظير توبته قلت له : أنت مسامح وإذا أردت العمل ثانيةً فلك مكان في المعمل ، فعد إلى المعمل واشتغل فيه ، فلا تجد أحلى من التوبة إلى الله عزَّ وجل ، فإذا تاب الإنسان عمل جرداً لأخطائه السابقة دون أن يفضح نفسه .
     
﴿وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾
 
المؤمن مقدم ، والمؤمن غالٍ على الله ، فلا يليق به أن يضاف لاسمه الشريف الطاهر اسم سيِّئ أو عمل قبيح ، وكلمة اسم هنا أي الذكر ، فإذا ذكرت إنسانًا بماضيه بعد أن تاب فهذا الاسم لا يتناسب مع الإيمان .
 
 المؤمن العاقل من يطلب الدليل قبل أن يظن بغيره :
 
﴿بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾
الظن أن تعتقد شيئاً من دون دليل .
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾
ولو  دققت في علاقات الناس فتسعة أعشار أحكامهم مبنية على الظن ، ومع ذلك فالمؤمن يطلب الدليل .
 
الحكم على الآخرين يحتاج إلى دليل قطعي لا يرد :
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾
فالمؤمن يطلب الدليل ، لما قال الناس : كذا ، أحياناً يقولون لك : لا نعرف ، هذه أقبح أنواع الغيبة ، لا يعرف ، إنك بهذه الإشارة بيدك قلت عنه كل شيء ، بهذه الحركة لم يبق شيء لم تقله ، وأحياناً كلمات تؤدي إلى طلاق ، وإلى انفصام شركات ، وإلى خراب بيوت .
     
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾
 
احكم على مثل الشمس،وعلى مثل الشمس فاشهد ، الحكم يحتاج إلى دليل قطعي لا يمكن أن يرد هذا ، هو الحكم .
 
 على الإنسان ألا يسيء الظنَّ بالآخرين حتى يتاكّد بالدليل القاطع : 
 
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾
        والآن عندنا قاعدة ، قالوا : لولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، الكلام عندئذٍ يُلْقى على عواهنه ، أما لو ألزمت نفسك ألا تقبل شيئاً إلا بالدليل فتسعة أعشار الكلام يسقط عندك ، ولا أبالغ في قولي : تسعة أعشار الكلام يُلْقَى في الأرض ، ولكن من أخطائنا الكبيرة نسمع قصة من دون دليل ، نسيء الظن بإنسان من دون دليل ، ونتهم إنسانًا من دون دليل ، وإنسان عُرِض عليه عمل بفندق والفندق يقدم مشروباً فرفض أشد الرفض ، وانتهى الأمر ، يشاع عنه أنه قَبِل وفَعل العمل ، وهذا الكلام غير صحيح ، أنا أعلَمُ الناسِ به ، لقد رفضه أشد الرفض ، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء ، وطِّن نفسك على ألاَّ تقبل قصة من دون دليل ، ولا تقبل إشاعة ، ولا خبراً من كاذب ، ولا من فاسق ، و لا كلاماً ضبابياً ، لا تقبل إلا كلاماً واضحاً مع الدليل ، ومع رؤية العين ، مع الدليل الخَطِّي ، وكثير من علماء أجلاء لا يتكلمون كلمة في إنسان آخر إلا في كتاب أو في صوت ، أما لا كتاب ولا صوت ، وهكذا قال الناس ؟ عندئذٍ ليس عالماً ، وجزء من علمك أساسه منهج التلقي ، فكيف تقبل الأفكار والوقائع ؟ هل عندك منهج لقبولها ورفضها ؟
 
 المؤمن الذي غلب عليه الصلاح والتستّر علينا ألا نظن به السوء : 
 
هنا الآية تحتاج إلى تفاصيل إن شاء الله نعيدها في الدرس القادم لكن :
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾
 
من هو الذي يجب عليك ألاّ تظن به السوء ؟ إنه المؤمن الذي غلب عليه الصلاح والتستُّر ، وما رأيته إلا يصلي ، إنه يصلي في رمضان وهو صائم ، وعياله محجبات  ، ولا يوجد في بيته أخطاء ، غلب عليه الصلاح ، ولو أخطأ لاستحيا من خطئه واستتر ، وكل إنسان غلب عليه الصلاح والتستر أنا لا أقول : إنه كامل ، ولا يوجد إنسان كامل بعد النبي ، الكمال لله ، والعصمة لرسول الله ، وما دام غلب عليه الصلاح والتستر فهذا الإنسان لا يمكن أن تغتابه .
((من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته ، ووجبت إخوته ، وحرمت غيبته  ((
       فقبل أن تقول : فلان فعل ، وفلان أكل مالاً ليس له ، فهل أنت متأكد ؟
 
من حُكِّم بين الناس عليه أن يجمع الطرفين معاً :
 
صدقوني لو أنك استمعت إلى إنسان عن إنسان وكان الطرف الثاني حاضراً فتسعة أعشار الكلام يُلْغَى ، فكل إنسان يتكلم على حسب هواه ، يبالغ ، وينمِّق الكلام ، ويدعم أفكاره بوقائع من خياله حتى يشكِّل لك كلاماً مرفوضاً عن الإنسان ، فلذلك :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
ومن أجمل ما قيل في آفات اللسان في كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ، باب آفات اللسان ، فمن كان الكتاب موجود عنده ، أو أحب أن يقرأه في مكتبة ، فهذا الموضوع مفصل تفصيلاً بالغًا ، فقد وضَّح كل شيء ، فالغيبة والنميمة والسخرية والبهتان والإفك الخ ... وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نعيد شرح هذه الآية مع تفصيلاتها :
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب