سورة الدخان 044 - الدرس (2): تفسير الأيات (10 – 36) التأديب الإلهي للإنسانً

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة الدخان 044 - الدرس (2): تفسير الأيات (10 – 36) التأديب الإلهي للإنسانً

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 09 - وقاية من الأزمات النفسية في الشدائد - الشيخ محمود المصري           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 162 - اسم الله النصير           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - أسرانا البواسل           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 390 - سورة المائدة 007 - 008           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 17 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 08 - فقدنا الأمل في الدعاء - د. عمر عبدالحفيظ         

الشيخ/

New Page 1

     سُورَةُ الدُّخَان

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة الدخان ـ (الآية: 10 - 36) - التأديب الإلهي للإنسان

26/03/2013 16:50:00

سورة الدخان (044)
الدرس (2)
تفسير الآية: (10- 36)
التأديب الإلهي للإنسان
 
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الأخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني من سورة الدخان .
    
 من سنن الله في خلقه نقل الحق إلى الناس :
 
ربنا سبحانه وتعالى يقول في الآية العاشرة :
    
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ(10)يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(11)رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ(12)أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ(14) ﴾
( سورة الدخان )
أيها الأخوة :قبل أن نمضي في الحديث عن هذه الآيات ، وعن اختلاف العلماء في تفسيرها ، لابد من مقدمة دقيقة تلقي ضوءاً على مضمون هذه الآيات
أيها الأخوة : ربنا سبحانه وتعالى ، من سننه في خلقه ، أنه ينقل الحق إلى الناس عن طريق الأنبياء المرسلين والدعاة الصادقين ، يبلغ الناس الحق بطريقة أو بأخرى ، عن طريق نبي أو رسول أو داعية أو عالم أو عن طريق مؤلف ..... الخ. هذا الإبلاغ ، والموقف الذي ينبغي أن يقفه الإنسان من بلاغ ربه أن يستجيب .
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (24)
( سورة الأنفال)
    
 الاستجابة هي الموقف الذي ينبغي أن يقفه الإنسان من بلاغ ربه :
 
كل واحد من الأخوة الأكارم ينبغي له إذا سمع مقالة تدعوه إلى الهدى ، أو خطبة تدله على الخير ، أو جلس في مجلس علم بين له الطريقة إلى الله ، أو قرأ كتاباً من الكتب المعتمدة التي تبين له الحقيقة الدينية ، أو سمع شريطاً ، أو أي أسلوب من أساليب إبلاغ الحق إلى الناس ، يجب عليك أن تستجيب وأن تعلم أن هذا بشكل أو بآخر من عند الله . و لاسيما إذا جاءت الدعوة مؤيدة بالآيات الكريمة و مفسرة وفق القواعد الصحيحة والسنة الصحيحة المطهرة ، إذا دعيت إلى الحق عليك أن تستجيب ، فإن لم تستجب فحرصاً على مصلحتك ورحمة بك ودفعاً لك إلى الهدى ، عندئذ لابد من المعالجة ، والله عز وجل عنده أنواع منوعة وأساليب عديدة من أنواع المعالجة لأنك كلك في ملكه ، أجهزتك كلها ، وأعضاؤك ، وأنسجتك ، وأحياناً النسيج ينمو نمواً عشوائياً ، فالأنسجة والأعضاء و الحواس والأجهزة ، كل شيء تتمتع به بملك الله عز وجل . ومن حولك الزوجة والأولاد ، ومن فوقك ومن تحتك الرزق ، وكل شيء بيد الله .
    
 من لم تستجب لله في الدعوة السلمية نقل نفسه لمرحلة الثانية هي الشدة :
 
لذلك ربنا عز وجل حينما يصمّ الإنسان أذنيه عن سماع الحق ، وحينما تأتيه الدعوة شفهية ، وسلمية ، ولطيفة ، ولا يستجيب لها ، يكون هو باختياره عرّض نفسه لمرحلة ثانية في الدعوة ، المرحلة الثانية هي الشدة .
 
﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
( سورة السجدة) .
وكلام واضح كالشمس ، جلي ، في أكثر آيات القرآن الكريم ، إن لم تستجب بالدعوة الكلامية ، وبالدعوة البيانية ، واللطيفة ، والسلمية ، فأنت بمحض اختيارك نقلت نفسك إلى أسلوب آخر من أساليب الدعوة . والآن الدعوة عن طريق الشدة ، إن لم تستجب لله بلطائف الإحسان ، ساقك الله إليه بسلاسل الامتحان ، إن لم تأته مسرعاً حملك أن تأتيه مسرعاً ، وإن لم تأته مسرعاً طواعية حملك على أن تأته مسرعاً قهراً . والموقف الأول أكرم وأعظم ، وهذه الدنيا بين أيديكم ، ما من قصة إلا وتؤكد هذه الحقيقة ، ما من حدث إلا ويؤكدها .
فإن لم تستجب إلى الله في الدعوة السلمية الكلامية البيانية اللطيفة ؛ نقلت نفسك طواعية إلى المرحلة الثانية من مراحل الدعوة : البأساء والضراء ، والهموم والأحزان ، والأمراض والمشكلات ، والقهر والقلق والخوف .
 
الإنسان باختياره وتقصيره ينقل نفسه إلى أسلوب آخر في الدعوة :
 
الآن لو أن الإنسان لا سمح الله دخل في المرحلة الثانية طواعية ، فقد وضع نفسه في المرحلة الثانية ، وأحياناً يقول لك الطبيب : هذا المرض يعالج بالحبوب إذا اعتنيت بأخذ الدواء ، فإن لم تعتن بالدواء وتفاقم المرض فلابد من عملية جراحية ، والأمر بيدك : إما أن تعالج معالجة لطيفة بحبوب بعد الطعام على شهرين أو ثلاثة ، وإما إذا أهملت الحبوب ولم تعتن بالمعالجة الدوائية ، فلابد من معالجة جراحية ، ساعتئذ هنالك تخدير وهناك غرفة عمليات وفتح بطن ومشكلات .. فالإنسان أحياناً هو باختياره وبتقصيره وعدم استجابته لربه ينقل نفسه إلى أسلوب آخر في الدعوة  .
على كل لو أن الإنسان انتقل إلى المرحلة الثانية ، فيسوق الله عز وجل إليه من الشدائد والضيق لعله يعود أو يرجع ، والموقف الكامل أن يتضرع ، ولو دخل إلى هذه المرحلة فعليه أن يقول يا رب تبت إليك ، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى مناد في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله . أيضاً شيء رائع جداً أن الإنسان حينما يدخل وهو لا يشعر بالمرحلة الثانية عليه أن يتوب إلى الله وأن يقلع وأن يتضرع .
 
من لم تُحْدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر : 
 
أحياناً هذه الشدة يفسرها الإنسان تفسيراً أرضياً لا سماوياً ، ويقول لك هذه هي الحياة : مد وجزر ، يوم لك ويوم عليك ، ويقول لك عندما تأتيه المصيبة : قلب لي الدهر ظهر المجن :
 
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(95) ﴾
( سورة الأعراف) .
وشيء طبيعي ، هكذا الحياة ، لا يفسر الشدائد تفسيراً قرآنياً ، كما أرادها الله أن تكون ، لذلك قيل : من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة  فمصيبته في نفسه أكبر .
    
 من لم يستجب لله هناك مرحلة ثالثة يؤدب الله بها عبده هي الإكرام الاستدراجي :
 
بعد ذلك فهنالك مرحلة ثالثة : مرحلة الإكرام الاستدراجي .
 
﴿ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ (95) ﴾
( سورة الأعراف) .
كان هنالك شدة انفرجت فيقول الإنسان كانت الأمور صعبة فأصبحت ميسرة ولكن لم يعد الناس إلى الله عز وجل ، هذه مرحلة ثالثة ، كان هناك ضيق ؛ انفرج الضيق ، كانت هناك أشياء صعبة المنال فأصبحت موفورة ، والناس على ما هم عليه من فسق و فجور ، أحياناً الله عز وجل يبدل الأسلوب : أولا دعوة كلامية بيانية لطيفة ثم معالجة بالسراء والضراء ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة  ، إذًا إكرام استدراجي ، والموقف الكامل في الإكرام الاستدراجي الشكر .
    
القصم هو المرحلة الأخيرة من مراحل التأديب الإلهي :
 
إن لم يستجب بالدعوة البيانية ولا تضرع بالمعالجة التأديبية و لا شكر بالإكرام الاستدراجي فماذا بقي ؟  بقي القصم :
 
﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً (95) ﴾
( سورة الأعراف) .
 انتهى الأمر .
أيها الأخوة الكرام :هذا الملخص مستقى من آيات كثيرة ، وهو من روح القرآن الكريم بأكثر من سورة و أكثر من موضع تؤكد هذه الحقائق . دعوة بيانية ، معالجة تأديبية ، إكرام استدراجي ، القصم ، من هو السعيد ؟ الذي يصغي إلى الحق بأذنه قبل أن تأتي المعالجة التأديبية ، و إذا فاته الإصغاء إلى الحق بأذنه و عندما تأتي المعالجة التأديبية يتضرع إلى الله عز وجل ، وإذا فاته التضرع ودخل في مرحلة ثالثة يشكر ويتوب ، وإلا فلا بد له من حسم لهذا التردد وذاك التأرجح بين قيل وقال و فلان زعم كذا وفلان على حق وفلان على باطل ، هذا الكلام ملخص الملخص .
 
الله عز وجل لو ترك الإنسان على اختياره لاستمرأ المعاصي والآثام :
 
: الله عز وجل يقول
 
﴿فَارْتَقِبْ ﴾
( سورة الدخان )
(يا محمد) والارتقاب ليس للخير ، فارتقب لهم أن يأتي العلاج الإلهي . وأنا أقول لكم هذا الكلام المستقى من هذه الآية ، عندما يكون الإنسان غارقاً بالنعم وهو غارق بالمعاصي ، غارق بالنعم وهو ملتفت إلى الدنيا وقد أدار ظهره للدين فرحمة الله به وحرصه عليه ورأفته به لابد من أن يساق إليه شيء ليصحو ، فهو غافل ، ومسترسل ، فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يرسل للناس ما يؤدبهم ، ما يحملهم على التوبة ، لكان معظم الناس من أهل النار .
أي لو أن الله عز وجل ترك الإنسان على اختياره ولم يسق له أية معالجة إطلاقاً فالناس يستمرؤون المعاصي والآثام ، وفي الأعم الأغلب يعيشون لحظتهم فقط ، والآن من هو الغبي ؟ الغبي الذي يعيش لحظته ، في هذه اللحظة ليس فيه شيء ، إذ يأكل كما يشتهي ، و يشرب كما يشتهي،  و يذهب إلى أي مكان يريد ، ويلتقي مع من يحب ، ويفعل ما يحلو له ، ولا يعبأ بكل القيم والمبادئ ، فهذا الإنسان هو النموذج المعاصر ، يعيش لحظته ، يعيش واقعه ، فإذا جاءه الموت فجأة ، أو جاءه المرض بغتة ، فعندئذ يقول :
 
﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
( سورة الفجر )
والذي يندم هو الغبي والعاقل لا يعمل عملاً يندم عليه ، العاقل يرى الشيء قبل أن يصل إليه ، ويعيش مستقبله والأقل عقلاً يعيش واقعه و الغبي يعيش ماضيه .
 
العاقل من أعدّ العدة لساعة الموت :
 
أيها الأخوة الكرام :هل يستطيع أحد على وجه الأرض أن ينكر وقوع الموت ، أيوجد إنسان خلد ؟ أقوي أم ضعيف ؟ أعالم أم جاهل ؟ أمستقيم أم منحرف ؟ أي إنسان كان ، وأي نوع فمحكوم علينا بالموت جميعاً ، وهل هناك من حدث أشد واقعية وحتمية من الوقوع في الموت ؟ فمن هو العاقل ؟ الذي يعد له .
والحقيقة أيها الأخوة الكرام لكي لا يدخل الإنسان في متاهات التشاؤم ، إذ لا علاقة إطلاقاً بين الموت والتشاؤم ، فالموت حدث لابد منه وقد يأتي بعد ساعة وقد يأتي بعد خمسين عاماً ، لكنه لابد من أن يأتي ، وإذا أتى لا يؤخر ولا دقيقة ، وما بعد الموت حياة أبدية سرمدية ؛ إما في جنة يدوم نعيمها أو في نار لا ينفد عذابها ، فمنتهى العقل يقتضي أن تعد لهذه الساعة  فلك أن تعمل ، ولك أن تدرس ، وأن تشتري بيتاً ، وأن تؤسس مشروعاً ، وأن تتزوج ، وأن تنجب وأن تزوج بناتك .... وكل هذا مشروع ، ولكن النقطة الدقيقة أن الله عز وجل نهى عن الهوى من غير هدى من الله . هناك ميول أودعها الله فينا ، ميل أودعه الله فينا ، إذا تحركت به وفق منهج الله فلا شيء عليك ، أي إذا تمنى الشاب أن يتزوج ، وأن يستقل ببيت صغير وأن يكون له عمل يدر عليه دخلاً معقولاً ، فهل في هذا الميل ملامة ؟  لا ، فهذا الهوى وفق منهج الله . أما إذا تطلع إلى الزنا ، وخرج عن منهج الله فقد وقع في الإثم العظيم .
 
السعيد من استجاب لله ورسوله :
 
لو أن إنساناً أراد أن يعمل وأن يكسب المال بطريق مشروع فلا شيء عليه ، وإذا أنفقه في الوجه المشروع فلا شيء عليه . الشيء الذي حرمه الله أن تتبع الهوى من غير هدى من الله .
الشيء الذي أود أن أقوله لكم : نحن أمام أربع مراحل : مرحلة الدعوة البيانية ومرحلة التأديب الإلهي والإكرام الاستدراجي والقصم . والسعيد من استجاب لله إذا دعي ، والقرآن دعوة من الله ، والحديث النبوي الشريف دعوة من الله ، والعلماء الأمناء على هذه الرسالة ؛ العاملون المخلصون الذين ينقلون لك ما في الكتاب والسنة بأمانة تامة ؛ من دون إضافة شيء أو حذف شيء هؤلاء أيضاً ينوبون عن النبي صلى الله عليه وسلم  في إبلاغ الناس ، فالسعيد من استجاب لله ورسوله إذا دعاه .
 
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ (24) 
( سورة الأنفال)
 
من لم يستجب لله فقلبه ميت لا محالة :
 
دقق في هذه الكلمة ، فالإنسان إن لم يستجب فهو ميت ولو كان ضغطه  12 - 8 ونبضه 70 وعمل تحليلاً وكان كله كاملاً ، فهذه الحياة لا قيمة لها ، إنها حياة الجسد ، أما قلبه فَمَيِّت ، إن لم يستجب فهو ميت . والله عز وجل قال :
 
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22) ﴾
( سورة فاطر)
مقبورون في شهواتهم . قال :
 
﴿ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء ﴾ .
( سورة النحل الآية : 21 ) .
إذا جلست مع إنسان ساعات طويلة يحدثك عن كل شيء إلا عن الله واليوم الآخر وهذا الدين وماذا بعد الموت ، هذه الموضوعات لا يفقه عنها شيئاً ، فإذا طرقت بعض هذه الموضوعات تثاءب وتململ واعتذر وقام من المجلس ، هذا ميت ومنتهٍ .
والطبيب إذا وضع يده على المريض وقال "خالص" . تماماً والله أشعر أحياناً يوجد أشخاص "خالصون " فمهما حاولت تقرب ، وتبعد ، وتذكره بالموت ، وبالآخرة وبالقرآن ، يقول لك غيبيات ولنكن واقعيين ، وكأن الموت غير واقعي وحسب اعتقاده ، لنكن واقعيين :
 
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾ .
( سورة الروم الآية : 7 ) .
 
الموت تحفة المؤمن :
 
لذلك إذا سمح الله للإنسان أن يتعرف إلى الحق في الدنيا ، وعرف سر وجوده ، وعرف عظمة هذا الإله العظيم ، عرف ماذا بعد الموت ، فله عمل متعلق بالآخرة ، وله عمل لا يبتغي به أجراً ولا سمعة ولا عطاءً ولا شكوراً .... إطلاقاً ، له عمل وهو زاده في الآخرة .
أيها الأخوة الكرام : من هو الشقي ؟ ومن هو التعيس ؟ والخاسر ؟ والمخفق ؟ الذي يعمل للدنيا فقط والدنيا تنتهي بثانية واحدة ، مثلاًً أحدهم انتهى عمره أثناء عملية لوزات ، وآخر أثناء عملية بحصة بالمرارة مات ، أحياناً بلا سبب إطلاقاً .
مرة دعينا إلى مولد في بعض المساجد دخلت إلى المسجد واستقبلني أحد من أقام هذا المولد وصافحته ورحّب بي وقعدت في مكاني في المولد ، شعرت بحركة غير طبيعية سألت فقالوا توفي الآن الذي استقبلك ! كان واقفًا فوقع ميتاً . فالموت قريب جداً وحينما يأتي تخسر كل شيء ، الذي جمعه خلال سبعين عاماً يخسره بثانية واحدة إلا المؤمن فالموت تحفة المؤمن وعرس المؤمن ، لأن كل هذه الحياة لهذه الساعة ، ينتظرها بفارغ الصبر ، تصور طالباً درس ليلاً نهاراً ، صباحا ومساء ، حتى أتقن الكتب لها ، فقرع جرس الامتحان يلقي في قلبه الفرح ، هو ينتظر هذه الساعة بفارغ الصبر ليصب علمه كله داخل الورقة ، وليأخذ الدرجة الأولى ويتيه على زملائه بالفوز ، فإذا تكلمت عن الموت من الناحية السلبية فأنا لا أنسى الناحية الإيجابية ، والإنسان عندما يموت يلقى الله عز وجل ، قال تعالى :
 
﴿وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ(158) ﴾
( سورة آل عمران ) .
 
الدنيا أحقر من أن تكون عطاءً لإنسان أو عقاباً له :
 
يا إخواننا الكرام : الإنسان إذا نقل اهتماماته و أهدافه للآخرة  تهون عليه الدنيا ، والله يرضيه منها بيت صغير ولقمة تمسك رمقه ، ليس له طموح أكثر ، الدنيا ماضية ، دائماً أبداً تذكر : أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ؟ فإن قال أهانه فقد كذب ، وإن قال أكرمه  فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا . و هذه الدنيا أحقر من أن تكون عطاء لإنسان وأحقر من أن يكون الحرمان منها عقاباً لإنسان ، لأنها زائلة ، لنفكر في موضوع الأبد . فما معنى الإنسان عندما يموت إلى أبد الآبدين ؟ يا ترى مليون سنة ، ألف مليون سنة ، ألف ألف مليون سنة ، ألف ألف ألف ..... وأنا أقول هذا الكلام عشر ساعات مليون سنة  ، أكثر . إخواننا الكرام ، أي رقم مهما بلغ فمثلاً واحد وأمامه أصفار بطول أربعين كيلو متر هذا الرقم صفر أمام اللانهاية ، تصور رقم واحد بدمشق وأصفاراً حتى حلب ، لأنقرة ، لموسكو ، للقطب ، المحيط الهادي ، القطب الجنوبي ، إفريقيا ، مكة ، لِتبوك ، لعمان ، لدمشق أي رقم واحد وأمامه أربعون ألف كيلومتر أصفاراً وبين الصفرين 1 مم فهذا الرقم ضعه صورة والمخرج لانهاية فتكون القيمة صفر ، بالرياضيات أكبر رقم إذا نسب للانهاية فهو صفر . والآخرة لانهاية ،﴿ لا يموت فيها ولا يحيى ﴾ ، فهذه الدنيا كلها هي سنوات محدودة ، وكلها متاعب ، فهل من المعقول من أجلها أن نضيع الآخرة ، معقول من أجل امرأة نضيع ديننا ، ومن أجل مبلغ من المال كبر أو صغر نضحي بقيمنا ومبادئنا ، ولا يوجد عقل ، فبالعقل تصل إلى الشيء قبل أن تصل إليه .
 
الله عز وجل يجعل التأديب من جنس الذنب :
 
أيها الأخوة :الآن الآيات من هذا المعنى ، يوجد دعوة بيانية ، تأديب ، وإكرام استدراجي ، وقصم
 
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ(10) ﴾
( سورة الدخان )
يا محمد ارتقب لهؤلاء الكفار يوماً أسوداً ، يوماً تأديبياً ، وقلت قبل قليل إنسان منحرف وماله حرام  لم يضبط جوارحه وفق منهج الله ، ولم يقم الإسلام في بيته ، لا يبالي بدخله أحراماً كان أم حلالاً ، لا يبالي بإنفاق ماله ، فهذا الإنسان ليس من باب التشاؤم ، بل من باب رحمة الله به ، وأن الله رب العالمين ، وأنه الله لا يدع عباده معطلين من التربية ، هذا الإنسان المنحرف لابد من أن يسوق الله إليه شيئاً ما : أنواع منوعة ، فالصيدلية الإلهية فيها مليار دواء ، وكل بلد له أساليب معينة ، أحياناً يذهب الإنسان إلى بلد يقول لك هنا لا يوجد مشكلة ، عند الله في هذا البلد تأديب من نوع ثان ، وكل مكان فيه أساليب لربنا عز وجل بتأديب ، وهذا هو الإنسان .
إخواننا الكرام :أي أقرب تأديب : جسم الإنسان مثلاً القناة الدمعية هي أضيق قناة في جسم الإنسان بين مؤق العين وبين الأنف ، فلماذا الأنف رطب دائماً ؟ لأن فائض الدمع يصل للأنف ، وهذه القناة الدمعية لو سدت صار فيضان دمع على الخد دائماً والدمع مادة قلوية ، وبعد حين يصير مجرى أحمر ، ويتخرش الخد ، ودائماً بحاجة لمنديل لمسح الدمع ، يعني حياة الإنسان تغدو جحيماً لو أن القناة الدمعية سدت .
مثل آخر : أحدهم يرغب بالتنزه في الطرقات أيام الصيف مساء ليمتع عينيه بمنظر الغاديات الرائحات ، الله أدبه بارتخاء الجفون فنحن ننظر براحة والجفن مفتوح ، وعندما ننام يرتخي الجفن بينما هذا الشخص يرتخي جفنه أثناء النهار ولا يستطيع أن يرى إلا إذا فتح عينيه بيديه ليرى ، هذا تأديب وربنا عز وجل أحياناً يجعل التأديب من جنس الذنب كي يعلم العبد وكي يجعله موعظة للناس .
 
العاقل من اتعظ بغيره :
 
الدعاء الذي قرأته مرة وتأثرت به : اللهم لا تجعلنا عبرة  لأحد من خلقك . فعلى الإنسان ألا يكون قصة فعندما ينحرف يصبح قصة ، فالله قال : ﴿فجعلناهم أحاديث﴾ لما الإنسان ينحرف ، ويتجاوز الحدود ، ولا يطبق أمر الله عز وجل ، ويظلم ، ويبغي ، يجعله الله قصة ليُتعظ به ، فأنا أقول دائماً لإخواننا الحياة مسرح وفيها أماكن للمشاهدين وخشبة مسرح ، المستقيم له محل مع المشاهدين يرى و يسمع فإن لم يستقم جرّ إلى خشبة المسرح ليكون قصة ، ويشاهد ، فإن لم يستقم على أمر الله جرّ إلى خشبة المسرح ليجري له حدث مؤلم يصبح قصة ومتعة للناس.
الآن اسمع ما الذي يتناقله الناس ، أحيانا تجد قصة غريبة ، أحياناً انهياراً لإنسان وأحيانا تأديباً قاسياً فالناس يتسلون بهذه القصص فالدعاء : اللهم لا تجعلنا عبرة لأحد من خلقك . أي ألا نكون قصة ، فإذا سمع أحدنا قصة واتعظ فلا مانع ، ولكن عليه ألا يكون هو نفسه قصة .
 
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ : من بعض تفسيرات هذه الآية :
 
1 ـ كنى الله عز وجل عن جفاف السماء و قحط الأرض بالدخان :
 
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ(10) ﴾
( سورة الدخان )
من بعض تفسيرات هذه الآية أن سنوات القحط والمجاعة تجعل أمام العين غشاوة و هذه ثابتة علمياً ، أي شدة الجوع تضعف البصر أو إذا السماء شحت بالأمطار سنوات جفاف ، يصبح الجو مغبراً ، أحياناً يغبر الجو وكأن فيه دخاناً من قحط السماء ، ومن جفاف الأرض وكلكم يرى أول مطرة تأتي في أيلول يصبح الجو نقياً ، كان مغبراً بآخر الخريف ، جفاف  فالجو كله يغبر ، فإذا جاءت الأمطار فيُصبح الجو نقياً والأشياء متألقة ، فربنا عز وجل كنى عن جفاف السماء وعن قحط الأرض وعن انعدام الرزق  بالدخان ، أو عن الغشاوة التي تكون على العين  من شدة الجوع بالدخان ، أي تأديباً .
 
من يعصِ ربه كأن لسان حاله يقول يا رب دمرني :
 
أنا كنت أقول لإخواننا إنه كلما رخص لحم النساء غلا لحم الضأن ، وكلما قلّ ماء الحياء قل ماء السماء والدليل قوله تعالى :
 
﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا لنفنتهم فيه ﴾
)  سورة الجن ) .
وحدثنا الله عن أهل مدين قال سيدنا شعيب : إني أراكم بخير (الخير وفرة المواد ورخص الأسعار) فلما قالوا ربنا باعد بين أسفارنا . فالمفسرون وقعوا في حيرة ، فهل من المعقول أن يدعو إنسان الله أن يتلفه و يدمره ؟ فمعنى باعد بين أسفارنا ، إن كانت البلاد خضراء ففيها مياه وينابيع وأنهار وفيها جنات وتكون الأسفار متقاربة والإنسان أحياناً لا يحتاج إلى حمل زاد إطلاقاً ، والآن في بعض الأماكن التي تموج بالسكان كل مكان فيه حاجات ميسرة ولا يوجد مدن متمايزة ويقول لك إن العمران أصبح متصلاً ، باعد بين أسفارنا أي يا رب امحق هذه الزراعة وهذه البساتين ، والكلام غير معقول ، إلا أن بعض المفسرين قالوا : حين يعصي الإنسان ربه وحينما يطغى و حينما يبغي كأن لسان حاله يقول يا رب دمرني ، يا رب أفقرني ، وأتلف مالي . فإذا كان الكسب حراماً كأنه يقول يا رب أقم حكمك فيّ ، أتلف مالي ، نحن لدينا قاعدة هناك لسان المقال ولسان الحال فعندما يعصي الإنسان فكأنه يقول يا رب أدبني ، وأتلف مالي ، ودمرني .
 
﴿يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(11) ﴾
( سورة الدخان )
2 ـ أو الدخان من أشراط الساعة :
وبعضهم قال الدخان من أشراط الساعة ، ومن أشراط الساعة : الدجال والدخان وطلوع الشمس من مغربها ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج ، فهذه أشراط الساعة ومنها الدخان . فالتفسير الأول : أي قحط من السماء وأي سنة من سنوات الجفاف الشديدة و أي فقر شديد يلحق بالعباد هو بمنزلة دخان من السماء وأن العين من شدة الجوع ترى أنها مغشاة أو أن الجو مغبر وكأنه دخان.
التفسير الثاني : الدخان من علامات الساعة الكبرى ، ومن علامات القيامة .
 
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ(10) ﴾
( سورة الدخان )
أي دخان من أثر جهنم ، من أثر نار جهنم وهذا الدخان يأتي قبل يوم القيامة .
﴿يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(11) ﴾
( سورة الدخان )
    
 تضرع جميع الناس إلى الله عز وجل عند الشدة :
 
من شأن العباد :
 
﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ(12) ﴾
( سورة الدخان )
أي لا يوجد إنسان أثناء الشدة إلا ويقول يا رب عدت إليك أنقذني ، وبالمناسبة هذا الالتجاء عند الشدة يستوي فيه كل الناس ، لا فضل لك فيه ، وأعتى الكفار يدعو ربه عند الشدة ويقول يا رب أنقذني ، ولذلك فالبطولة أن تكون في الرخاء ملتفتاً إلى الله عز وجل ، وأنت في بحبوحة وفي صحة ، أما عند الشدة فكلهم يتضرع ولكن قد لا ينفع هذا التضرع .
 
﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ(12)أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13) ﴾
( سورة الدخان )
    
 استجابة الإنسان عند الشدة أقل من وضعه في الرخاء :
 
الإنسان وهو تحت الشدة تكون استجابته أقل من وضعه في الرخاء . أما إذا كان في رخاء ويوجد نبي ومعه أدله ومعه آيات وأشياء واضحة جداً ، فهل يعقل أن تكون استجابته عند الشدة وهو في ضائقة كاستجابته وهو في بحبوحة :
 
﴿أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى (13) ﴾
( سورة الدخان )
كأن الله سبحانه وتعالى يبين لنا أن الإنسان حين الشدة ، فقد تعمي بصره ، وقد تربكه ، والشدة قد تعطل فكره ، قد تسحقه .
 
اتهام الكفار النبي الكريم بالكذب و الجنون لأن دعوته تتعارض مع شهواتهم :
 
﴿أَنَّى لَهُمْ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ(13)ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ(14) ﴾
( سورة الدخان )
أي هناك من علمه هذا الكلام أو هو مجنون ، نبي كريم على الله ، معه وحي من السماء ، ومعه كتاب وأخلاقه رضية ، وما عُرف عنه كذب قط ، صادق أمين ، وعفيف ذو نسب ، هذا النبي العظيم يقال عنه :
 
﴿مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ(14) ﴾
( سورة الدخان )
لأن دعوة النبي تتعارض مع شهوات الكفار ، ولذلك ماذا يفعلون ؟ يلجؤون إلى رد هذه الدعوة عن طريق تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم  .
 
﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ(15) ﴾
( سورة الدخان )
هذا الإكرام الاستدراجي :
 
﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ(15) ﴾
( سورة الدخان )
    
 من رُفعت عنه الشِدّة و لم يتب إلى الله تعالى فلا يفرح بها :
 
النقطة الدقيقة أيها الأخوة ، إذا كان الإنسان مقيماً على معصية ودخل في ضائقة ثم انفرجت هذه الضائقة فلا يفرح ، فهذا انفراج مؤقت ، أما إذا كان مقيماً على معصية وكان في ضائقة ، جاءت الضائقة علاجاً له ، وقد تنفرج الضائقة دون أن يقلع عن المعصية ، فلا يفرح ، فهذا استدراج :
 
﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ(15) ﴾
( سورة الدخان )
أنا أعرف رجلاً مغتصباً حقوقًا كثيرة ، وله محل تجاري وأراض ، وأبنية من أخوته حيث كان أكبرهم فلما توفي أبوه اغتصب هذه الأموال ، فجاءه مرض عضال ونقل إلى المستشفى ، صرح بأن المحل الفلاني لأخوته عند شعوره بأن أجله قريب ، ثم ردت له صحته وشعر بأنه أصبح كما كان فطلب الشريط المسجل فيه تصريحه وكسره ، وعاد إلى ما كان عليه ، وعاش بعد هذا الحادث ثمانية أشهر ، ثم جاءت الطامة الكبرى . فمن سنن ربنا عز وجل في خلقه أحياناً يرفع الشدة مؤقتاً ، فالإنسان إذا رفعت الشدة ولم يتب فلا يفرح فيها . فهذا رفع مؤقت ، ﴿إنكم عائدون ﴾ .
﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ(15)يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ(16) ﴾
( سورة الدخان )
 
الله عز وجل منتقم جبار ممن اعتدى على حقوق الآخرين :
 
الله عز وجل حين يعاقب يعاقب وإذا بطش  بطش ، وإذا انتقم انتقم ، ولذلك فمرة أحدهم قرأ على درع :
إذا جار الأمير وحاجباه         وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويــل         لقاضي الأرض من قاضي السماء
*     *      *
وإنسان اشترى مع أخيه بيتاً ودفعا قيمة البيت مناصفة بينهما ، وكان البيت باسم الأخ الأول وتمكن بِخُبْثِه أن يهدد أخاه بإخراجه من البيت مع أن نصف البيت لأخيه ، ثم أخرجه منه ، وجعله في الطريق طمعاً بثمن البيت كله ، والله أيها الأخوة أنا عشت هذه القصة ، ولم يمض شهر إلا وأصيب بمرض خبيث بالأمعاء فهذا الذي اغتصب البيت ، وكنت أظن بأن يبقى سنتين في هذا المرض وبعد شهر ثان توفاه الله  ﴿إنا منتقمون﴾ . الإنسان إذا اعتدى على ما ليس له ، استخدم قوته وفهمه واستغل ضعف الطرف الآخر وأخذ ما ليس له  ﴿إنا منتقمون﴾. الله ينتقم .
 
خوف الإنسان من الله يتناسب مع حجم إيمانه :
 
أيها الأخوة الكرام :
 
﴿إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ(15) ﴾
( سورة الدخان )
إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره ، أما إذا كان الإنسان مستقيماً على أمر الله والله عز وجل أكرمه ، فهذا إكرام حقيقي ، هذا نتيجة طاعته لله عز وجل فالإنسان عليه أن يشكر ، كل هذا الكلام مفاده ، الإنسان يفكر ، عليه أن يقف من حين لآخر ليقيّم نفسه ، بيتي هل فيه مشكلات ؟ وعملي هل هناك علاقات غير شرعية ؟ لأن رأس الحكمة مخافة الله وخوفك من الله يتناسب مع حجم إيمانك ، كلما ازداد إيمانك ازداد خوفك ، والعالم هو الذي يخاف وأنا حينما أنقل لكم أقوال بعض الصحابة الكرام عن شدة خوفهم من الله فهذا كلام حقيقي ، صحابي كريم لا يمثل بكلامه ، بل يخاف الله حقاً ، وهذا هو الخوف المقدس ، وذاك هو القلق المقدس ، والسعي المقدس لاكتساب مرضاة الله عز وجل .
 
﴿يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ(16) ﴾
( سورة الدخان )
 
توعد الله عز وجل الفاسد بالعذاب العظيم :
 
بعض الأحيان نرى بالصحف والمجلات بعض الزلازل ، تجد بأن زلزالاً جعل بناء بكامله ركاماً في غمضة عين ، فالزلازل والبراكين و الفيضانات و الأعاصير ، فإعصار ضرب غربي أميركا فكانت الخسائر 30 ملياراً ، فالأعاصير ، والفيضانات ، والزلازل  ، والبراكين ، و الحروب الأهلية الطاحنة ، والقهر ، والمجاعات ، إذا كانت البلاد استمرأت الفساد والزنا ودور الدعارة كانت أكبر من دور السكن بكثير والكسب الحرام أكثر من الحلال بكثير فهذا المجتمع تنتظره بطشة من الله عز وجل ، الأمثلة كثيرة جداً :
 
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾
( سورة النحل )
 
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ(17) ﴾
( سورة الدخان )
سيدنا موسى ، ومعنى ﴿فتنا﴾ أي امتحنا وابتلينا والفتنة هي الامتحان .
 
الداعية الصادق ينقل للإنسان ما جاء في الكتاب والسنة دون زيادة أو نقصان :
 
﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(18) ﴾
( سورة الدخان )
أي أيها العباد أدوا إلي طاعتكم وعهدكم الذي عاهدتم به ربكم أو يا فرعون أعطني بني إسرائيل لأخرج بهم  كلاهما صحيح .
 
﴿أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ(18) ﴾
( سورة الدخان )
أمين على وحي السماء ، فالنبي الحق والرسول الحق أمين على وحي السماء ولا يستطيع أن يزيد كلمة ولا حرفًا ولا أن يحذف ، وهكذا الداعية الصادق ، ينقل لك ما جاء في الكتاب والسنة دون زيادة أو نقصان .
 
الكبر بطر الحق و غمط الناس :
 
﴿وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ(19) ﴾
( سورة الدخان )
من هو المتكبر ؟ الكبر بطر الحق و غمط الناس . بطر الحق : رد الحق ، أي يتكبر على الله أن يطيعه ، فقد لا يعجبه حكم الله في موضوع ما ، فمثلاً هذا حرام ، فيقول لك نحن في حياة عصرية ، فلابد من نماء الأموال ، أنجمد المال ؟ لابد من الربا فهو لا يعبأ بالحكم الشرعي والآية القرآنية بهذا الموضوع ، فهذا الذي لا يعبأ بحكم الله يستعلي على الله .
 
الحكمة من عصم النبي الكريم من الناس :
 
 لذلك :
 
﴿ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾
[ سورة الأحزاب : الآية 36]
لذلك لا يوجد خيار ، فإذا كنت مؤمناً حقاً ورأيت أمر الله في الكتاب والسنة ، انتهى الأمر .
 
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِي(20) ﴾
( سورة الدخان )
أي أن الله يعصم  النبي من الناس ، يعصمه من أن يقتل ، قبل أداء الرسالة لأنه إن قتل قبل أداء الرسالة انتهت الدعوة بموته ، لذلك فالله يعصمه ، وأما إذا أدى الرسالة فممكن .
 
﴿وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي(21) ﴾
( سورة الدخان )
هذه الآية  تذكرنا بقوله :
 
﴿ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
( سورة هود )
 
وحي الله عز وجل إلى سيدنا موسى أن يتجه باتجاه البحر :
 
﴿وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِي(20)وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِي(21) ﴾
( سورة الدخان )
لكم شأنكم .
 
﴿فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ(22) ﴾
( سورة الدخان )
فربنا عز وجل أوحى إلى سيدنا موسى :
 
﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(23) ﴾
( سورة الدخان )
 
﴿إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ﴾
( سورة الطارق )
 
﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾ .
( سورة الأعراف ) .
 
﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا (23) ﴾
( سورة الدخان )
سيدنا موسى مع بني إسرائيل ضعاف مستضعفون وفرعون وجبروته وقوته وجيشه وأتباعه ، لا يوجد تناسب أبداً ، فأُمِرَ سيدنا موسى من قبل الله عز وجل أن يتجه باتجاه البحر .
 
من يعصِ الله عز وجل يقصمه الله قصماً :
 
﴿فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ(23)وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ(24) ﴾
( سورة الدخان )
لما ضرب بعصاه البحر وأصبح طريقاً يبساً فلما كاد أن يخرج منه وخاف أن يتبعه فرعون فهم أن يضرب مرة ثانية ليعيد البحر كما كان قال واترك البحر رهواً ، دعه كما كان لأن فرعون سوف يتبعه من هذا الطريق وفي منتصف البحر سوف يعيد الله البحر بحراً ، واترك البحر رهواً أي ساكناً إنهم جند مغرقون .
 
﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25)وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ(28) ﴾
( سورة الدخان )
الإنسان حين يعصي يقصمه الله قصماً ، فيترك أموالاً وبساتين وبيوتًا وأراضي وزوجة ومتاعاً ، فالإنسان كلما نما وكلما كبر يتنامى استمتاعه بالحياة ، أما إذا قصمه الله قصماً ترك هذا كله ، م تركوا ﴾ هذه الآية دقيقة جداً ، كم تكثيرية .
 
﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(25)وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ(26)وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27)كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ(28) ﴾
( سورة الدخان )
آيات واضحة جداً .
 
من مات فاجراً فرح بموته كل شيء :
 
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29) ﴾
( سورة الدخان )
بالعكس فرحت السماوات والأرض ، لأن المؤمن مبارك والكافر مؤذٍ ، مؤذٍ بكل شيء ، فإذا مات العبد الفاجر استراح منه كل شيء ، فما بكت عليهم السماء ، أما المؤمن فأينما وجد يصلي ويسجد ويدعو ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر و يرحم الناس ، فأينما سار فله آثار طيبة ، فكيفما تكلم له آثار طيبة ، وأينما حلّ له آثار طيبة ، فبيته مكان للدعوة ، ومركبته في خدمة الحق ، إنه ينفق ماله في سبيل الله ، ومن حوله يحبونه لشدة عطفه عليهم ورحمته بهم ، فالمؤمن مبارك والحقيقة دليل صلاح العمل أن الإنسان إذا مات ، هل يفرح الناس بموته أم يحزنون ؟ ليجهد الإنسان أنه إذا توفاه الله ليكون له أثر طيب .
 
إسراف فرعون في ظلم بني إسرائيل :
 
﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمْ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ(29)وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ الْعَذَابِ الْمُهِينِ(30) ﴾
( سورة الدخان )
كان فرعون يعذب بني إسرائيل عذاباً مهيناً .
 
﴿مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ(31) ﴾
( سورة الدخان )
مستعلياً ، لقد أسرف في الظلم ، ما ظلم فقط ولكنه أسرف في الظلم ، طبعاً بلغه بأن طفلاً من بني إسرائيل  سوف يقضي على حكمه حيث رأى ذلك في المنام ؛ فعوضاً عن أن يتوب أمر بذبح كل أولاد بني إسرائيل ، وأية قابلة لا تبلغ رجال فرعون عن مولود ذكر ، تقتل مكان المولود ، فالقابلة تبلغ ، فيأتي الرجال لذبح المولود ، وهذا مبالغة في الظلم .
 
﴿إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنْ الْمُسْرِفِينَ(31) ﴾
 ( سورة الدخان )
 
إنكار البعث و النشور من قِبل الكفار في كل زمان و زمان :
 
﴿وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(32)وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ(33)إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ(34) ﴾
( سورة الدخان )
قومك يا محمد يقولون :
 
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ(35) ﴾
( سورة الدخان )
هذا قول الكفار كلهم ، لا يوجد غير الدنيا ، و موتة واحدة ، نحيا ونموت ، فالجنة هنا والنار هنا ، والذي معه مال في الجنة ، والمحروم من المال في جهنم ، فهذه مقولة الناس الجاهلين .
 
﴿فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(36) ﴾
( سورة الدخان )
وفي درس قادم إن شاء الله نتابع هذه القصة وننتقل إلى قصة أخرى .
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب