سورة الشورى (042)
الدرس (10)
تفسير الآية: (24-28)
رحمة الله عز وجل بعباده
لفضيلة الأستاذ الدكتور
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الأخوة الكرام ... مع الدرس العاشر من سورة الشورى .
من أنكر ظاهرة الوحي ألغى الدين كله :
مع الآية الكريمة الرابعة والعشرين وهي قوله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) ﴾
الحقيقة الدين في الأصل وحيٌ من السماء إلى الأرض ، ونقلٌ من رسول الله إلينا ، فحينما تشكِّك بالوحي ، أو تشكِّك بمصداقية النبي عليه الصلاة والسلام فقد ألغيت الدين كلَّه ، فالكفَّار كيف طعنوا في هذه الرسالة ؟ أنكروا ظاهرة الوحي ..
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾
أي أن هذا النبي الكريم جاء بهذا القرآن من عنده ، أي هو الذي جاء به ، وهو الذي رتَّبه وأوهم الناس أنه من عند الله عزَّ وجل .
إلزام الله عز وجل نفسه أن يهدي عباده :
النقطة الدقيقة جداً أيها الأخوة أن الله سبحانه وتعالى في سورةٍ أخرى يقول :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل)
الهدى على الله عزَّ وجل ، وحيثما وردتكلمة﴿على﴾ متعلِّقةً بذات الله الجليلة ، فمعنى ذلك أن الله ألزم نفسه أن يهدي العباد . والآن لأستعرض معكم بعض الآيات التي فيها ﴿على﴾ :
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( 56) ﴾
) سورة هود (
فبعضهم يقول : نحن عبيدٌ في ملك الله ، والله سبحانه وتعالى حرٌ في أن يجعل الطائع في جهنَّم . هذا صحيح ولكنه على صراطٍ مستقيم ، ألزم نفسه بالاستقامة ..
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
(سورة الزلزلة (
نفي الظلم عن ذات الله تعالى :
الآيات :
﴿ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾
(سورة غافر : من آية " 17 " )
﴿ ولا تُظْلَمُونَ فَتِيلا(71) ﴾
(سورة الإسراء (
﴿ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا(124) ﴾
(سورة النساء (
ولا قطمير .
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾
(سورة العنكبوت : من آية " 40 " )
آيات كثيرة جداً تصل إلى مئة آية ، تنفي عن ذات الله عزَّ وجل أدقَّ أنواع الظلم.
إلزام الله عز وجل نفسه أن يعدل بين العباد :
كلمة :
﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( 56) ﴾
) سورة هود (
أي ألزم الله نفسه أن يعدل بين العباد ..
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾
)سورة هود : من آية " 6 " )
أي أن الله عزَّ وجل ما من مخلوقٍ خلقه إلا وألزم نفسه برزقه ، وهذه الآية شرحتها سابقاً لها معنى دقيق جداً ، أي ما من دابةٍ ، من تفيد استغراق أفراد النوع ، وعلى تفيد الإلزام ، وما من إلا تفيد الحصر ..
﴿ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾
أي أن الله سبحانه وتعالى طلب منَّا أن نعبده وتكفَّل لنا هو برزقنا..
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132) ﴾
)سورة طه (
ألوان الهداية لا تعدُّ ولاتحصى :
أردت من هذا أن أصل إلى قوله تعالى :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل)
أي أن الله عزَّ وجل ألزم نفسه أن يهدي العباد ، والله سبحانه وتعالى يهدي العباد بأساليب لا تعدّ ولا تحصى ؛ والكون أحد أسباب الهداية ، والعقل أحد أسباب الهداية ، والفطرة ، وأفعال الله سبحانه وتعالى ، والمُعالجة النفسيَّة للإنسان ، والرؤيا التي يراها الإنسان أحياناً ، والعلماء الذين يعينهم الله على نشر الحق في الدنيا كل ذلك أسباب للهداية ، فهناك أساليب لا تعدُّ ولا تحصى . وقد فسَّر بعضهم قوله تعالى :
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ﴾
)سورة البقرة : من آية " 282 " )
أي ما دام الله يعلِّمكم بأساليب شتَّى فلمَ لا تتقونه ؟
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ﴾
الكون يعلِّم ، والقرآن يعلِّم ، والنبي ، والعقل ، والفطرة ، والحوادث ، والرؤى تعلِّم ، والدعاة ، والمصائب ، والضيق النفسي كل ذلك يعلِّمك ، أي أن ألوان الهداية لا تعدُّ ولاتحصى .
من افترى على الله كذباً لن يسمح الله له أن يضل الناس إلى ما شاء الله :
إذاً :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل)
ما دام الله سبحانه وتعالى تولَّى الهداية ، وكأن الهداية مستمرَّة وما عليك إلا أن تلتقط هذه الهداية ، من باب التقريب : فكيف أن البثَّ الإذاعي مستمر دائماً ، وما على الإنسان إلا أن يشتري جهاز الاستقبال ويستمع ، ولن يُفقَد من السوق ، البث مستمر فعليك أن تلتقط ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾ الله عزَّ وجل هدى العباد هدايةً كاملة .
الآن لو أن إنساناً يفتري على الله كذباً فهل يسمح الله له ؟ هل يسمح له أن يضلَّ الناس إلى ما شاء الله ؟ فهذا يتناقض مع حكمة الله في أن عليه الهدى ، مادام الله عزَّ وجل يقول :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل)
أيُّ إنسان يحاول أن يفتري على الله ، أو أن يكذب على الله ، أو أن يشوِّه الحقائق لصالحه ، فلابدَّ من أن يفضحه الله عزَّ وجل ، ولابدَّ من أن يكشفه ، ولذلك يقولون : بإمكانك أن تخدع بعض الناس كلَّ الوقت ، وبإمكانك أن تخدع كلَّ الناس بعضَ الوقت ، أما أن تخدع كل الناس كلَّ الوقت فهذا مستحيل .
مهما كانت محاولات إضلال الخلق قوية ستتهاوى في النهاية :
بالمناسبة إخواننا الكرام ، ليس معنى قول الله عزَّ وجل :
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل)
أنه لا تجري محاولةٌ لإضلال الخلق ، فالمحاولات على قدمٍ وساق ، ولكن هذه الآية تعني أن هذه المحاولات لا تنجح في النهاية ..
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81) ﴾
(سورة الإسراء (
وقد ترون بأعينكم ، وتسمعون بآذانكم كيف أن الباطل مهما دُعِم ، ومهما قوي بالأدلَّة المفتعلة ، ومهما دُعِمَ بالقوَّة في النهاية فإنه يتهاوى كبيت العنكبوت .
الوحي كيانٌ مستقلٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم :
لذلك :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾
هم بهذا ينكرون على النبي الوحيَ ، ولا أدري ما إذا كان هناك بحثٌ طويلٌ عميقٌ دقيقٌ عن الوحي ؟ لماذا حينما رأى النبي سيدنا جبريل ضمَّه ضمَّاً شديداً ؟ لئلا يُظَن أن الوحي منام،ولماذا تأخَّر الوحي في براءة السيدة عائشة شهراً بأكمله ؟ فلو أن الوحي شيءٌ بمتناول النبي عليه الصلاة والسلام ، وبإمكانه أن يجلبه ، وأن يمنعه ، فلا يمضي دقائق حتى يأتي بآية تبرِّئ السيدة عائشة ، نبيٌ عظيم اتُهِمَت زوجته بالزنا وهو يعلم براءتها ، ولا يملك دليلاً إيجابياً ولا سلبياً ، وانتظر شهراً حتى يأتيه الوحي مبرِّئًا السيدة عائشة .
طبعاً لا مجال للإسهاب في هذا الموضوع ، فهذا موضوع قائم بذاته عنوانه : ظاهرة الوحي في الإسلام ، والله عزَّ وجل بأساليب كثيرة جداً ، وبأحداث عديدة جداً أكَّد للعباد أن الوحي كيانٌ مستقلٌ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ليس بإمكانه أن يجلبه ولا أن يمنعه ، وقد يأتِي الوحي معاتباً النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد يأتِي الوحي ليثبت حقيقةً اتهم به خصومُ النبيِّ النبيَّ بالجنون ، وبالكهانة ، وبالشِعر ، والوحي نقل إلينا ذلك ، ولو أن الأمر بيد رسول الله لأغفل هذه التهم لأنها أصبحت قرآناً يُتلى إلى يوم القيامة .
القلوب بيد الله عز وجل :
أيها الأخوة ...
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾
ولو طبَّقنا هذه القاعدة على إنسان دعا إلى الله ، ولو كان في نيات سيِّئة لتلعثم المتكلِّم ، ولانصرف الناس عنه ..
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾
(سورة آل عمران : من آية " 159 " )
ما أخلص عبدٌ لله عزَّ وجل إلا جعل قلوب العباد تنهال إليه بالمودَّة والرحمة ، فالقلوب بيد الله عزَّ وجل ، إذا علم الله من إنسانٍ كذباً ، أو نفاقاً ، أو تزويراً ، أو إضلالاً ، أو انحرافاً يصرف عنه القلوب ، ويتهمه الناس ، وقلوبهم تنفِر منه ..
﴿ فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِه﴾
فالله عزَّ وجل بكلماته التَّامة ، وبكلماته الثابتة يمحُو الله الباطل ويحقُّ الحق .
الله سبحانه وتعالى تولَّى هداية الخلق و ما على الخلق إلا الاستجابة :
لننتقل معكم إلى التاريخ ، هؤلاء الذين عارضوا النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذَّبوه ، وادعوا النبوَّة ، وحَرَّفوا الإسلام عن خطِّ سيره وما أكثرهم ، وما أكثر الفرق الإسلاميَّة ، وما أكثر الضالين المضلين الفاسدين المفسدين ، أين هم ؟ هل لهم ذكرٌ ؟ إنهم في مزبلة التاريخ ، وهذا يؤكد أن الله يمحوُ الباطل ويحق الحق بكلماته ، ولولا أن هذا الدين دين الله عزَّ وجل ما بقي إلى هذه الأيام ، لأن المؤامرات التي حيكت على هذا الدين أبلغ من أن توصف ، ومع ذلك كل من افترى على الله كذباً ، وكل من زوَّر الحقائق يتهاوى كبيت العنكبوت ، فهناك فرق ضالَّة مضلَّة ، منحرفة ، فاسدة مفسدة شوَّهت الإسلام ، وجرَّته إلى أن يطابق الحياة المعاصرة ومع ذلك فما استطاعوا .
وكأن هذه الآية تشير إلى قاعدة هي : أن الله سبحانه وتعالى تولَّى هداية الخلق ، بل جعل هداية الخلق عليه ..
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
( سورة الليل)
ويؤكِّد هذا قوله تعالى :
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ﴾
(سورة الأنفال : من آية " 23 " )
فكأنَّه على الله عزَّ وجل أن يُسْمِع الخلق ، فالهدى على الله ، وما علينا إلا أن نستجيب فقط ، إذْ علينا الاستجابة .
أمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم أمَّتان أمة الاستجابة وأمة التبليغ :
لذلك ذكرت اليوم في خطبة الجمعة أن أمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم أمَّتان : أمة الاستجابة وأمة التبليغ ، فكل من ينتمي لهذه الأمة تاريخياً هو من أمة التبليغ ، لكن الذي استجاب لله ورسوله هذا من أمة الاستجابة ، ولذلك كل الآيات التي تُثني على أمة سيدنا محمَّد، وتَعِدُ أمة سيدنا محمد بالغلبة ، والنصر ، والتمكين ، والاستخلاف ، والتأييد هذه الأمَّة هي أمة الاستجابة ..
﴿ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾
)سورة الشورى : من آية " 38 " )
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
(سورة الأنفال : من آية " 24 " )
إذاً هذه الآية تؤكِّد أن الذي يفتري على الله ، ويكذب على الله ، و يضل العباد ، ويجرُّ الحقَّ لصالحه ، ويطمِس ، ولا يبيِّن ، ويَكْتُم ، ويسعى بشكلٍ أو بآخر ، وبطريقةٍ أو بأخرى أن يضل الناسَ فاللهُ له بالمرصاد ، فلابدَّ من أن يفضحه ، ولابدَّ من أن يكشفه ، وأن يحبس لسانه ، وأن يجعل الناسَ ينفضّون من حوله .
كل من يستخدم الهدى ليجرَّ المصالح إلى ذاته الله له بالمرصاد :
لذلك :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾
لو كنت كذلك يا محمَّد ..
﴿ فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ﴾
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47) ﴾
(سورة الحاقة (
إنسان يلعب بدين الله ؟!
يا إخواننا الكرام ... أنقل لكم بعض الكلمات ، يقول الإمام الغزالي:"العوامُّ لئن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون " ، لأنهم يضلون الخلق والله لا يسمح لهم ، والإمام الغزالي يقول : " لئن أرتزق بالرقص أهون من أن أرتزق بالدين " . لأن الذي يرتزق بالدين يلعب بدين الله عزَّ وجل ، ويحرِّكه لصالحه ، والله لن يسمح له ، بل يقصمه لأن الله عليه الهدى ، تولَّى هداية الخلق ، فكل إنسان يستخدم الهدى ليجرَّ المصالح إلى ذاته ، والله له بالمرصاد .
من بلّغ رسالات الله يجب أن يخشى الله وحده :
لو أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو سيِّد الخلق وحبيب الحق..
﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ(44)لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46)فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47) ﴾
(سورة الحاقة (
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ﴾
وكل إنسان دعا إلى الله أيها الأخوة ليحذر أن يتكلَّم في آيةٍ ، أو في حديثٍ ، أو في حكمٍ فقهيٍ ، أو أن يتكلَّم ليجرَّ مصلحةً إليه ، أو ليبعد خطراً عنه ، لقد خان الأمانة ، ولذلك فالآية الكريمة :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ﴾
(سورة الأحزاب : من آية " 39 " )
هؤلاء الذين يبلِّغون رسالات الله يجب أن يخشوا الله وحده ، ولا يخشوا أحداً إلا الله ، ولو أنهم خافوا غير الله فسكتوا عن الحق خوفاً ممن يخافونهم ، أو نطقوا بالباطل إرضاءً لمن يخافونهم سقطت دعوتهم ، فماذا بقي من دعوتهم ؟ .
الله عز وجل يعلم السر و أخفى :
ملخَّص الملخَّص :
الله هو الهادي ، وهو تولَّى هداية الخلق ، وقد تجري آلاف المحاولات لإضلالهم لكنها لا تنجح ، ولا يحقُّ في النهاية إلا الحق ، ولا يستقرُّ إلا الحق ، ولا يتألَّق إلا الحق ، والباطل زهوق ولو عُمِّر سبعين عاماً ..
﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81) ﴾
(سورة الإسراء (
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ﴾
فكلمة من كلمات الله تنهي باطلاً وتحيي حقَّاً ..
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) ﴾
أنت كإنسان لك الظاهر ، ولكن الواحد الديَّان يعلم السرَّ وأخفى ، فيعلم ما أخفيته عن الناس ويعلم ما يخفى عنك أيضاً ، وأنت مكشوفٌ عند الله ، حسب نيتك ، فهناك من يجر الآية لصالحه ليغطي انحرافه ، وليُقنع الناس بأنه على حق ، وهناك من يلعب بكلمات الله ، وبأحاديث رسول الله ، فالصحيح يُضَعِّفُهُ والضعيف يقوِّيه من أجل فريةٍ ، أو انحرافٍ ، أو إرضاءً لإنسانٍ لزيدٍ أو عُبيد ، فالله سبحانه وتعالى يتولَّى فضحه ، ويتولى كشفه ، وهذه المحاولة لا تنجح .
تولي الله عز وجل حفظ كلامه :
مثلاً الله عزَّ وجل يقول :
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) ﴾
(سورة الحجر (
ألم تجرِ محاولاتٌ لتغيير كتاب الله ؟ جرت لكنَّها ما نجحت ، قبل خمسين عاماً (فيما أذكر وفيما سمعت) طُبِعَ خمسون ألف نسخة من هذا المصحف ، حُذِفَت منه كلمة واحدة .. وَمَنْ يَبْتَغِ .... الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
حذفوا كلمةغير :
﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾
(سورة آل عمران : من آية " 85 " )
النسخ كلها أُتلفت وأُحرقت ، لم تنجح المحاولة . فإذا كان الله عزَّ وجل تولَّى حفظ كلامه فليس معنى هذا أنه لا تجرى محاولات لتشويه كلامه ، بل تجري لكنها لا تنجح ، لأن الإنسان مخيَّر في الدنيا ..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ﴾
(سورة الأنفال : من آية " 36 )"
أسعد إنسان من آمن بالحق وانسجم معه فكانت النهاية له :
في النهايةدقِّق في قوله تعالى :
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) ﴾
(سورة الأعراف )
العوام يقولون كلاماً يعجبني ، يقول لك : لا يصح إلا الصحيح . الأمور تتحرَّك ، وتسير ، وتضطرب ، وتتداخل وفي النهاية لا يحق إلا الحق ، ولا يصح إلا الصحيح ، ولا يستقر إلا ما أراده الله عزَّ وجل .
(( عبدي أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد ))
[ورد في الأثر]
ولذلك فأسعد إنسان هو الذي آمن بالحق وانسجم معه فكانت النهاية له . عندما يخالف الإنسان الحق تضطرب نفسه ، ويختل توازنه ، وقد يحمله هذا الضيق النفسي على أن ينتحر .
من خالف الحق انهار من الداخل و خسر الدنيا و الآخرة :
قلت لكم قبل درسين أو ثلاثة : إنسان يتمتَّع بأعلى مكانة في فرنسا ، وسمعة ، وأسرة ، وغنى ، ومنصب رفيع جداً كان يتسلَّمه (كان رئيس وزارة) فانتحر ، فسمعت أن مئة صحفي كتبوا مقالاتٍ عدَّة في سر انتحاره ، ثم أحد الصحفيين وصل إلى الحقيقة ، هذا كان يعتنق مذهباً باطلاً ، عمره سبعون سنة ، احتقر ذاته لأن إنسان يعتنق مذهباً لا صحَّة له ، فحمله ذلك على أن ينتحر ، واليوم انتحر شخصٌ ثانٍ ، لماذا ؟ لأن الإنسان عندما يخالف الحق تنهار نفسه من الداخل ، أما الذي يربط نفسه مع الحق ..
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(128) ﴾
(سورة الأعراف (
أنت ربطت نفسك مع خالق الكون ، ومع منهج الله ، وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
﴿ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) ﴾
باب الرحمة مفتوح على مصراعيه لكل إنسان :
الآن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم وانحرفوا وقصَّروا فباب الرحمة مفتوح ، وأرجى آية في كتاب الله :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾
(سورة الزمر : من آية " 53 " )
فباب التوبة مفتوح ..
(( لله أفرح بتوبة التائب من الظمآن الوارد ، ومن العقيم الوالد ، ومن الضال الواجد ))
[من كنز العمال : عن " ابن عباس" ]
والنبي عليه الصلاة والسلام ذكر قصَّةً تعرفونها جميعاً ، هذا البدوي الذي ركب ناقته ليقطع الصحراء بها ، جلس ليستريح وعليها زاده وشرابه فلم يجدها ، أيقن بالهلاك فجلس يبكي حتَّى أدركه النعاس ، فأفاق فرأى الناقة ، فمن شدة فرحه بهذه الناقة قال:"يا رب أنا ربُّك وأنت عبدي " . هكذا ورد في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام :
(( لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته ))
[ أخرجه البخاري عن الحارث بن سويد ]
من اصطلح مع الله عز وجل غفر له ذنوبه جميعها :
إذا اصطلحت مع الله ، وضبطت أمورك ، وضبطت جوارحك ، و بيتك ، ودخلك ، وإنفاقك ، وبناتك ، وأولادك ، وعلاقاتك ، وندواتك ، وسهراتك ، ونزهاتك ، ضبطتها كلها وفق الشرع ، معنى ذلك أنك اصطلحت مع الله ، وجعلت بيتك إسلامياً ، وعملك إسلامياً ، وربَّيت أولادك التربية الصالحة ، وحملتهم على طاعة الله ، وحفظت بناتك من كل تقصيرٍ أو انحراف ، فأنت الآن مصطلح مع الله ، والله يفرح بك لرحمته بخلقه ، ولذلك يقول الله عزَّ وجل :
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ﴾
والله أيها الأخوة ما أعرف شعوراً يسعد الإنسان كشعوره أن الله قَبِلَ توبته ، ملك الملوك يقبلك ، ويرضى عنك ، ويمحو لك خطيئاتك ، ويستر لك ما كان منك من قبل !!
((من تاب إلى الله توبة نصوحا أنسى الله حافظيه وجوارحه وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه ))
[ من كنز العمال : عن " ابن عباس " ]
(( ابن آدم لو جئتني بملء السماوات والأرض خطايا غفرتها لك ولا أبالي ))
[ورد في الأثر]
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) ﴾
من استقام على أمر الله و أخلص وجهه له ذاق طعم القرب منه :
إخواننا الكرام ... ما دام القلب ينبض فأنت في بحبوحة وبإمكانك أن تتوب ، وبإمكانك أن تصلح ما كان منك ، وأن تؤدِّي الحقوق إلى أصحابها ، وأن تؤدِّي الذمم التي عليك ، وأن تعيد اقتسام الإرث إذا كان فيه ظلم ، فإذا وضع الأخ الكبير يده على أموال والده المتوفَّى وحرم إخوته الصغار فهو محجوبٌ عن الله عزَّ وجل ، وبإمكانه أن يعيد توزيع الإرث ، وإيَّاك أن ترجئ انحرافاً أو مالاً حراماً إلى المستقبل ، فقد لا يأتي المستقبل ، فلذلك من الآن أصلح حالك .
والله الذي لا إله إلا هو ما رأيت أعقل من الذي اصطلح مع الله في وقتٍ مبكِّر ، وسوَّى علاقاته مع الله ؛ فالذمم ، والحقوق ، والبيت ، استقم ، إن استقمت على أمر الله رأيت الطريق إلى الله سالكة ، وإذا اتصلتبالله عرفت معنى القُرب ، وعرفت لماذا قال أحد العارفين بالله :"لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف " .
من استقام على أمر الله و أقبل عليه تذوق معنى وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ :
إن استقمت على أمر الله وأقبلت عليه ، وأخلصت الوجهة إليه عرفت معنى أن في الدنيا جنَّة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، وتذوَّقت معنى قوله تعالى :
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ(46) ﴾
(سورة الرحمن (
وعرفت معنى قوله تعالى :
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾
(سورة الجاثية : من آية " 21 " )
إلهٌ في عُلاه يقول لك : المؤمن له معاملة خاصَّة ، وله علاقات خاصَّة ، وله زواج وعمل خاص وسعادة نفسيَّة ، وكل ذلك خاص به ، فأنت إذا عرفت الله كنتَ مستثنًى مما يصيب معظم الناس ..
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ(18) ﴾
(سورة السجدة (
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) ﴾
أيُعقَل هذا الكلام ؟ ..
عدم استواء المؤمن مع الفاسق عند الله عز وجل :
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36) ﴾
(سورة القلم (
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾
)سورة القصص (
أهكذا ظنُّك بالله عزَّ وجل ؟ إنسان شاب في مقتبل العمر يخشى الله ، ويرجو ما عند الله ، ويؤدِّي الصلوات ، ويستمع إلى مجالس العلم ، ويطلب في شبابه ، ويبتغي زوجةً مؤمنةً ، ويتوخَّى عملاً صالحاً وحرفةً ترضيالله عزَّ وجل ، فهل هذا الإنسان يُعامل كما يُعامل شاب فاسق منحرف ؟ مستحيل ..
﴿ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه﴾
لا يحيا الإنسان إلا بمعرفة الله و بابتغاء مرضاته :
دقِّقوا في هذه الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
(سورة الأنفال : من آية " 24 " )
والإنسانميِّت قبل أن يعرف الله ، يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه : " يا بني مات خُزَّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " . تحيا بالعلم ، وتحيا بمعرفة الله ، وبطاعته ، وبابتغاء مرضاته ، وتحيا في بيت الله ، وبهذا القرآن ، وبتطبيق سنة النبي العدنان ، بهذا تحيا ..
أمة الاستجابة خير أمة أخرجت للناس :
﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
إذا كنت من الذين استجابوا فأنت من أمة الاستجابة ، أنعم بها من أمَّة ، كل الآيات التي تتحدَّث عن أمة رسول الله :
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
(سورة آل عمران : من آية " 110 " )
من هي ؟ أمة الاستجابة ، فأمة الاستجابة ليست أمة التبليغ ، كل إنسان وُلِدَ في بلد عربي بحكم انتمائه التاريخي يقول لك : أنا مسلم و أنا من أمة محمَّد ، وهذا الشيء لا يعتبر إطلاقاً ، ولا يُعْبَأ به ، ولا تسمَّى من أمة محمد صلى الله عليه وسلَّم إلا إذاكنت من أمة الاستجابة ، أما كلُّنا جميعاً بحكم انتمائنا التاريخي فمن أمة التبليغ ، لا من أمة الاستجابة ..
﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِه﴾
فأدنى حركة نحو الله ، يعطيك الله عزَّ وجل ما لا تحتسب ..
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾
(سورة فصلت : من آية " 17 " )
هديناهم ..
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى(12) ﴾
(سورة الليل (
من تحرك حركة نحو الله عز وجل كان الله في قضاء حاجته :
لكن ..
﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى(13) ﴾
(سورة الكهف (
فإذا تحرَّكت نحو الله خطوة ..
(( إذا تقرب إلي العبد شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا ، وإذا أتاني مشيا أتيته هرولة ))
[ من الجامع الصغير : عن " أبي هريرة " ]
هذا حديث قدسي ، أي أنت تحرَّك حركة نحو الله ، انوِ نيَّة طيِّبة ، انوِ أن تقرأ القرآن ، وأن تحفظه ، وأن تفهمه ، وتحضر مجلس علم ، عاهد نفسك علىأن تلزم مجلس علم ، وانظر ماذا يكون ، هم في مساجدهم والله في حوائجهم ، تحلُّ المشكلات بشكل عجيب ، لأن هذا زكاة الوقت (دقِّقوا في هذا الكلام) الله عزَّ وجل قادر أن يضيِّع لك خمسين ساعة لأتفه الأسباب ؛ فالسيارة توقفت ، ليس لها قطع تبديل ، بعثت لطلبها فجاءكقياس أكبر بقليل، ارجع وابعث مرَّة ثانية ، تدفع أموالاً وتنتظر ، والآلة معطَّلة ، والعمال معاشهم مستمر ، والله قادر أن يضيِّع لك من وقتك مئة ساعة لأتفه الأسباب ، فإذا حضرت مجلس العلم فهذا زكاة الوقت ، فكيف أن المال له زكاة فالوقت له زكاة ، يستنبط هذا من بعض الأحاديث الشريفة :
(( من أخَّر الصلاة عن وقتها أذهب الله البركة من عمره ))
بركة الوقت أن تؤدِّي زكاته ومن تأدية زكاته أن تطلب العلم :
أنت تقول : هذا الذي ألَّف الكتاب كم قرأ كتباً حتَّى ألَّفه ؟ كتاب في اثني عشر مجلَّداً ، يحتاج إلى عشرين عاماً لتأليفه ، والسلف الصالح أعطاهم اللهُ عزَّ وجل بركةً في أوقاتهم ، وبعض العلماء ترك مؤلَّفات قُسِّمت على أيام حياته فكان نصيب اليوم الواحد تسعين صفحة ، فهل عندك استعداداً أن تقرأ عشر صفحات في اليوم بشكل دائم ، تسعين صفحة تأليف ، فهذا الوقت له بركة ، بركة الوقت أن تؤدِّي زكاته ، ومن تأدية زكاته أن تطلب العلم ..
(( إِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَطْلُبُ ))
[من سنن الترمذي : عن " صفوان بن عسَّال " ]
((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً .. ))
[ رواه الترمذي عن" أبي هريرة" ] .
مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ :
الإنسان يكون في درس يوم الجمعة فيقوم قبل الموعد بساعة ونصف ، فيغيِّر ثيابه ويلبس ، ويتوجَّه إلى المسجد ، ويركب المركبة العامَّة ، فإلى أين يذهب ؟ ليس إلى سهرة ، ولا إلى ضيافة ، ولا إلى مقعد وثير ، ولا إلى شيء مضحك ، جاء ليتعلَّم ..
(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ))
[من صحيح مسلم : عن " أبي هريرة " ]
فالمجيء من الغوطة إلى جامع يظن أن فيه حقًّاً ، ونرجو ذلك ، فهذا الطريق إلى الجنَّة في النهاية :
(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ))
فعندما يتوجَّه أحدنا إلى بيت الله فأين يذهب ؟ إنه ذاهب إلى الجنَّة ، لأن هنا مكان معرفة الله عزَّ وجل ، والسوق والبيت مكان تطبيق معرفة الله ، ألم يقل النبي عند دخوله إلى بيت الله :
(( اللَّهُمَّ افْتَحْ لي أبْوَابَ رَحْمَتِك ))
[من الأذكار النوويَّة : عن " أبي حميد " ]
هنا توجد رحمة ، فإذا خرج من المسجد :
((اللَّهُمَّ إني أسألُكَ مِنْ فَضْلِك ))
[من الأذكار النوويَّة : عن " أبي حميد " ]
أنت بين حالتين إما أنك تطلب العلم ، وإما أنك تطبِّق الذي تعلَّمته ، في بيتك وعملك والطريق تطبِّق ما تعلَّمت ، وفي بيتالله تتعلَّم ، و..
(( بلغوا عني ولو آية ))
[ من الجامع الصغير : عن " ابن عمر " ]
من ضيع كل شيء خسر الدنيا و الآخرة :
﴿ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)﴾
إذا كان الإله يقول : ﴿ شديد﴾ . فما هو الشديد ؟ وإذا قال لك طفل : أنا معي مبلغ كبير . أي خمس ليرات ، أما إذا قال لي غني : معي مبلغ كبير . أي معه خمسون مليونًا ، فكلَّما تكلَّم العظيم ، ووصف شيئاً بأنه عظيم يكون عظيماً جداً ، والإله يقول :
﴿ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) ﴾
وربنا عزَّ وجل يقول لهم في آية أخرى :
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ(175) ﴾
)سورة البقرة (
شيءٌ لا يحتمل أن يُدرك الإنسان أنه ضيَّع كل شيء ، وفقد وخسر كل شيء ، فهذه هي الخسارة ، ولهذا يقول سيدنا علي : " الغنى والفقر بعد العرض على الله " .
الرخاء الاقتصادي في الغالب يرافقه انحراف أخلاقي :
الآن في الدنيا القضيَّة لا قيمة لها إطلاقاً ، ليس الغني غنياً ولا الفقير فقيراً ..
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾
وهناك سؤال كبير : يا ربي لماذا الفقر ؟ إذا وجد في انفتاح قليل واستيراد مسموح ، تجد الناس قد انحرفوا انحرافًا شديداً ، وهذا شيء ملموس ، إذْ يرافق الرخاءَ الاقتصادي انحرافٌ أخلاقيٌّ ، فربنا عزَّ وجل يقول :
﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)﴾
الله هو الذي يعلم ..
﴿... وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216) ﴾
)سورة البقرة (
﴿ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(216) ﴾
)سورة البقرة (
هذه الآية أساسيَّة ، وهي أصل في بابها .
من رضي بما قسمه الله عز وجل له كان أغنى الناس :
إذا رأينا إنسانًا دخله قليل فهذه رحمةٌ من الله ، والذي يجبِر كسره أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( إن الله ليحمي صفيَّه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام ))
[ورد في الأثر]
إن الله تعالى يحمي عبده المؤمن كما يحمي الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة(( ))
[ الجامع الصغير : عن " حذيفة "]
إذا اختار لك ربنا عزَّ وجل شيئًا فابذل جهدك ، وحَسِّن دخلك ، وارفع ثقافتك ، وكفاءة عملك ، وافعل كل ما في إمكانك ، لكن بعد أن تنتهي كل جهودك إلى هذا المستوى قل : الحمد لله رب العالمين ، فأنا لا أدعو إلى الكسل ، ولا إلى القعود ، ولا إلى ترك الأخذ بالأسباب . خذ بالأسباب ، افعل ما تشاء ، ولكن إذا انتهت بك كل هذه الأعمال إلى هذا المكان فقل : حسبي الله ونعم الوكيل . ارضَ بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس .
﴿ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) ﴾
الله عز وجل بيده خزائن كل شيء :
والله عزَّ وجل قال :
﴿ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14) ﴾
)سورة فاطر (
ولا خبير مثل الله ، وأحياناً تأتي سنوات قاحلة ، والناس يجأرون بالدعاء يا رب يارب . أنا علمت قبل عدة سنوات أن محاصيل القمح ثلاثة ملايين طن ، حاجة قطرنا كلِّه مليون طن ، ثلاثة أمثال حاجتنا ، وفي سنوات مئتان وخمسون ألف طن ، أي ربع حاجتنا ، فالله عزَّ وجل المحاصيل بيده ، يزيدها ويقلِّلها ، وبيده الثمار والإنتاج ومياه الأمطار ، فقد قلَّت مياه حوض دمشق إلى درجة أن الناس يئسوا ، وأشرفنا على الجفاف ، عشر سنوات تقريباً وكان معدَّل الأمطار مئة وعشرين ، أو مئة وثلاثين ، أو مئة وستين مليمتر ، إلى أن يئس الناس وظنوا أن خطوط المطر تغيَّرت وسوف نلقى جفافاً قاحلاً ، فجأةً العام قبل الماضي كميَّات الأمطار التي هطلت في دمشق ثلاثمئة وخمسون ميليمتر ، والعام الماضي ثلاثمئة وخمسون ، والحالي حوالي مئتين إلى الآن ، والله بيده كل شيء ، وكل الخزائن والرزق بيده ..
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) ﴾
القنوط من رحمة الله علامة عدم معرفة الله :
أيها الأخوة الكرام ... القنوط من رحمة الله علامة عدم معرفة الله ، والقنوط من رحمة الله في القرآن الكريم كفرٌ ، وجهلٌ ، ويأسٌ ، ولذلك حينما تضيق الأمور بالإنسان ، ويظن أن السماء قد شَحَّت فلا تمطر ، وأن الأرض قد يبِسَت فلا تنبت ، وإذا وصل إلى القنوط فهذه حالةٌ لا ترضي الله عزَّ وجل ، ولكن الله يقول :
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾
قلت لكم قبل قليل : أخ كريم يعمل فيحوض دمشق قال لي قبل عدة سنوات : انتهى الأمر ، فلابدَّ من أن يرحل أبناء هذه المدينة لجفاف الماء ، فالحوض المائي في دمشق وصل إلى أقل مستوى ، وكل شيء كان مهدَّداً بالجفاف ، وبعد ذلك جاءت الأمطار ، وهناك أنهر جافة من ثلاثين عاماً ، والآن فُجِّرَت وسالت مياهُهَا ، وبعض الينابيع في منين وصلت إلى الشام ، فلذلك عندما يعطي ربنا يدهش .
ثقة المؤمن بربه ولو كان في ضيق طارئ :
المؤمن دائماً يثق بالله ولو كان في ضيق مؤقَّت ، ضيق طارئ ، وهذا الضيق تربوي ، والله عزَّ وجل يقول :
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾
(سورة النساء : من آية " 147 " )
فكل أنواع الضيق ، والتشديد هذا من أجل أن نرجع إليه ، فإذا رجعنا إليه زال هذا الضيق ، وربنا عزَّ وجل ينوِّع العلاجات إن لم يرجع الناس إليه ، ويبلوهم بالشر فهل يرجعون ؟ وهل يخافون ؟ وبالخير هل يستحيُون من الله ؟ فالإنسان المعرض يمتحن مرّتين : مرَّةً بالرخاء ومرَّةً بالشدَّة ، فهل ترجعه الشدَّة إلى الله ؟ على كلٍ فالمؤمن يثق بالله عزَّ وجل ..
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) ﴾
الله عز وجل هو الرزاق و المعطي :
الآن الشيء الثابت أن الرزق من السماء ، فإذا كانت الأمطار غزيرة ، والنبات جيِّد ، والمحاصيل جيِّدة فهذا يحرِّك عجلة الاقتصاد في البلد ، ولقد كنت واقفًا مع شخص عنده معمل مطرَّزات ضخم ، قال لصديقه أمامي : بعنا بيعاً مخيفًا هذه السنة ، قال له : ما السبب ؟ فأجاب : كانت الأمطار في الجزيرة غزيرة جداً . فأنا انتبهت أنه معمل مطرَّزات يبيع بكميات مذهلة لأن أمطار الجزيرة كانت غزيرة ، ومعنى هذا عندما تنزل الأمطار بغزارة ، والمحاصيل تنبت بغزارة فهذا الذي يحرِّك اقتصاد البلاد ، وأحياناً سعر العملة يزداد بالمحصول الاقتصادي الجيِّد ، فحصل عندنا مخزون وشيء نبيعه ، وقطْع أجنبي ، فلذلك الرزق من السماء ، فإذا انهمرت السماء بالأمطار ، وأنبتت الأرض من خيرات السماء كان هذا حركةً لكل نشاطٍ اقتصاديٍ في البلد ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) ﴾
مرَّة قلَّ إنتاج القمح كثيراً ، فثمن مستوردات القمح أرهقت الميزانيَّة ، لأننا نحتاج أن نأكل الخبز ، وأحياناً القمح يكون ثلاثة أمثال حاجة القطر ، فالملاحظ أن الرزق من السماء ، وأحياناً بشكل متزامن ، أي هو مثالي في كل فترة مطرة بعدها شمس ، وهذا يعين على إنبات النبات ، ونضجه ، إذْ نحن في برمجة زمنيَّة للأمطار ، فالله هو الرزَّاق ، وهو المتصرِّف ، والمعطي ، والمانع ، والمغني ، والمفقر .
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى :
﴿ وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) ﴾
والحمد لله رب العالمين