سورة فصلت 041 - الدرس (9): تفسير الأيات (40 – 44)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة فصلت 041 - الدرس (9): تفسير الأيات (40 – 44)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - 163 - أنا عند ظن عبدي بي           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 16 - متى تصبح القدس عاصمة الخلافة - د. راغب السرجاني           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - فضل الدعاء           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 397 - سورة المائدة 028 - 032           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 24 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 15 - معاملةالأسرى في الإسلام - د. راغب السرجاني         

الشيخ/

New Page 1

     سورة فصّلت

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة فصلت ـ (الآية: 40 - 44)

08/01/2013 16:07:00

سورة فصلت (41)
 
الدرس (9)
 
تفسيرالآيات: (40- 44)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
        أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس التاسع من سورة فصِّلت ، ومع الآية الأربعين ، وهي قوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿
 
 إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا
 
أيها الإخوة .

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا
 
معنى آية :   
       الآيات جمع آية ، وهي العلامة الدالَّة على الشيء ، فإذا أطلقت كلمة الآيات في القرآن الكريم فإنما تعني الآيات التي تدل على وجود الله ، وعظمته ، وقدرته ، ووحدانيَّته ، وكماله .
       والآيات أحياناً تأتي على أنواع ثلاثة : آياتٌ كونيَّة ، وآياتٌ قرآنيَّة ، وآياتٌ تكوينيَّة ، آياته الكونيَّة خلقه ، وآياته التكوينيَّة أفعاله ، وآياته القرآنيَّة  كلامه ، خلقه وأفعاله وكلامه هذه كلها آياتٌ تدلُّ عليه ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا
 
 معنى الإلحاد في آيات الله :
 
المعنى الأول :
 
      الإلحاد في الآيات الطعن فيها ، أو ردُّها ، أو عدم اعتمادها دليلاً على ما تدلُّ عليه ، هذا المعنى الأول  .
 
المعنى الثاني :
 
      والمعنى الثاني : حَرْفُهَا عن مرادها،أو تأويلها على غير ما يريد الله سبحانه وتعالى ، أو الحذف منها ، أو الإضافة عليها ، فالكافر أحياناً إما أنه يردُّ هذا الدين رداً مباشراً ، وإما أنه يخشى أن لا ينجح في هذه المحاولة فيحاول أن يفجِّره من داخله ، فردُّ هذه الآيات رداً مباشراً هو الطعن فيها ، أو عدم قبولها ، أو الاستخفاف بها ، أو عدم قبول ما تدل عليه ، هذا المعنى الأول .
      والمعنى الثاني تزوير هذه الآيات ، وتحريفها ، وتغيرها ، وتأويلها .
       المفاد أن الكافر إما أن يرد هذه الآيات ، وإما أن يؤوِّلها تأويلاً لا يرضي الله عزَّ وجل ، لنأت ببعض الأمثلة .
 
 مثالٌ للإلحاد في آيات الله :
 
     عندما قال ربنا عزَّ وجل :
﴿لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً
( سورة آل عمران : من الآية 130)
       فالمقيم على الربا يؤوِّل هذه الآية على غير ما يريد الله سبحانه وتعالى ، يقول : أنا لا آكل الربا أضعافاً مضاعفة ، أنا آكله بنسبٍ قليلة ، فهذا تأويلٌ لا يرضي الله ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ(279)
( سورة البقرة : من الآية 279 )
      والقرآن مثاني ، أي كل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرها ، فإذا التبس الأمر في هذه الآية فالآية الثانية توضِّحها .
    إذاً : الكافر إما أن يردَّ هذه الآيات رداً مباشراً ، وإما أن يؤوِّلها تأويلاً لا يرضي الله عزَّ وجل ، على هو كلٍ رَفَضَ الحق ، فإما رفضه بشكلٍ وقح ، أو بشكلٍ فيه مداراة .
   مرَّةً ثانية :
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ
       الإلحاد هو الطَعْنُ في الآيات ، أو عدم قبولها ، أو الاستخفاف بها ، أو السخرية منها ، أو عدم قبول ما تدل عليه ، تقول له : هذا الزلزال دليل قدرة الله عزَّ وجل ، ودليل أن الله يعاقب هؤلاء الذين ابتلاهم به ، فيقول لك : هذه حركة القشرة الأرضيَّة لا تعني أكثر من ذلك ، فالإلحاد في الآيات هو الطعن فيها ، أو الاستخفاف بها ، أو السخرية منها ، أو عدم قبول ما تدل عليه ، وهذا هو الرد المباشر ، أو تأويلها تأويلاً على خلاف ما هي عليه ، أو تزويرها ، أو اللغو فيها ، ففي المرحلة الأولى كان الرد مباشراً ، وفي المرحلة الثانية كان الرد غير مباشراً ، هؤلاء جميعاً الذين رفضوا الحق إما رفضاً مباشراً أو رفضاً غير مباشر ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا
إنْ في آياتنا الكونيَّة ، أو في آياتنا القرآنيَّة ، أو في أفعالنا التكوينيَّة ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
 
 لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
 
1 ـ لا يخفى على الله شيءٌ :
 
هم في علمنا ، إن الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد ..
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)
( سورة النساء)
 
2 ـ إذا علمتَ أن الله يعلم فلابد أن تستقيم : 
 
      إن الله سبحانه وتعالى يعلم سرَّهم وجهرهم ، أي أن الإنسان حينما يعلم أن الله يعلم حُلَّت مشكلته مع الله ، لأنه إذا أيقن أن الله يعلم فلابدَّ من أن يستقيم على أمر الله ، فربنا عزَّ وجل يقول :
﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
        الإنسان لا يستطيع أن يخالف إنسانا من جنسه إذا كان أقوى منه ، وإذا كانت هذه المخالفة يعلمها ويضبطها ، هذا شأن الإنسان مع الإنسان فكيف شأنه مع الواحد الديَّان ؟
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا

الله لهم بالمرصاد  ..
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا(1)
(سورة النساء)
       وكما قال عليه الصلاة والسلام :
(( أفضل إيمان الرجل أن يعلم أن الله معه حيث كان )) .
(ورد في الأثر)
      لمجرَّد أن تعلم أنك تحت المراقبة ، وأن الله مطلعٌ عليك ، مطلعٌ على ظاهرك وعلى باطنك ، على سرِّك وعلانيَّتك ، على خلوتك وجلوتك ، ولمجرَّد أنك موقنٌ أن الله مطلعٌ عليك فلابدَّ من أن تلتزم أمره ، وأن تبتعد عما نهى عنه ، وقد سُئل أحد العارفين باللهوهو الإمام الجنيد : من الولي ؟ فقال هذا الإمام الكبير : "ليس الولي الذي يطير في الهواء ، ولا الذي يجري على وجه الماء ، إنما الوليُّ كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام " .
        مرَّةً ثانية ، أيها الإخوة ، وهذا من باب التأكيد والتوضيح ، إذا أيقنت أن اللهيعلم وسيحاسب لا يمكن ـ بحسب فطرتك ، وبحسب عقلك ـ أن تعصيه ، فإذا وصلت إلى اليقين القطعي أن الله يعلم ، وأنه سيحاسب لاشك أنك تستقيمٌ على أمره ، لن يفلح العاصي مهما كان ذكياً ، لابدَّ من أن يدفع ثمن معصيته باهظاً ..
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
 
أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
 
    الظاهر أن الله سبحانه وتعالى يقول : أفمن يُلقى في النار خيرٌ أمن يدخل الجنَّة أيهما أفضل ؟ فربنا سبحانه وتعالى عَدَلَ عن قوله أمن يدخل الجنَّة إلى قوله :
﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً
 
المؤمن يأتي يوم القيامة آمنًا :               
 
        عبّر الله عن الجنَّة بكلمةٍ أخرى ، أن تأتي يوم القيامة آمناً ، لأن الله سبحانه وتعالى سمَّى يوم القيامة يوم الفزع الأكبر ، فحينما يفزع الناس جميعاً لأنهم ما عرفوا ربهم في الدنيا ، واقترفوا من السيئات ما لا يعد ولا يحصى ، حينما يأتون يوم القيامة آمنين فهذه جنَّةٌ لا تعدلها جنَّة ، وإذا خاف الناس كثيراً ، واضطربوا ، وكنت أنت أيها المؤمن آمناً ، فهذا عطاءٌ لا يقدَّر بثمن ..
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)
( سورة الحج )
       ففي يوم الفزع الأكبر المؤمن يأتي آمناً يوم القيامة ، أي هل من سعادةٍ تفوق أن تكون أيها المؤمن آمناً يوم الفزع الأكبر ؟ يوم ينخلع قلب الناس خوفاُ وإشفاقاً من عذابٍ أليم ، ويأتي المؤمن آمناً يوم القيامة ، أي هل يستوي إنسان سوف يُلقى في النار ؛ وإنسان سيأتي يوم القيامة آمناً ليدخل الجنَّة ؟ كأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية قال :
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا : أي أنه يعلم ما يفعلون ، وأما ..
﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ
       إذاً : سوف يحاسبهم .
      المعنيان أتيا في هذه الآية ، علم الله ومحاسبته ، فإذا أيقنت أن علم الله يطولك ، وأن محاسبته تطولك ، لا يمكن أن تعصي الله ، هذا ما أكَّده الإمام الغزالي حينما خاطب نفسه فقال لها : " يا نفس ، لو أن طبيباً منعكِ من أكلةٍ تحبينها لاشكَّ أنكِ تمتنعين ، أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ إذاً ما أكفركِ ، أيكون وعيد الطبيب أشد عندكِ من وعيد الله ؟ إذاً ما أجهلكِ " .
      إذاً : كل إنسان يعصي الله عزَّ وجل فهو مدموغٌ إما بالحمق والجهل ، وإما بالكفر والانحراف . ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ
 
 أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ
 
موازنةٌ بين حالتين متضادتين :       
 
     هذا استفهام تقريري ، ومعنى كونه تقريريا أي : أن من يلقى في النار لا يستوي مع من يأتي يوم القيامة آمناً ، هذا معنى الاستفهام التقريري ، من يلقى في النار لا يستوي أبداً مع من يأتي يوم القيامة آمناً ، وهذا المعنى تؤكِّده آياتٌ كثيرة ..
﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا
(سورة السجدة : من الآية 18)
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
(سورة الجاثية : من الآية 21)
﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)
( سورة القلم)
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)
(سورة القصص)
       هذه الموازنة بين حالتين متضادتين ، من يأتي آمناً أو من يأتي خائفاً ، من يلقى في النار أو من يدخل الجنَّة ، من يعامل بالإكرام والإحسان ومن يعامل بالعقاب الأليم والعذاب الأبدي ، أين عقلكم أيها البشر ؟ أيستوي هذا مع هذا ؟
     طبعاً الإلقاء في النار سببه المعصية في الدنيا ، وأن تأتي يوم القيامة آمناً سببه أن تستقيم على أمر الله في الدنيا ، فالثمن في متناول اليد ، أي أن هذه النتيجة المخيفة أنت السبب فيها ، وهذه النتيجة المُسعدة أنت الذي اخترت هذا الطريق ، فالأمر باختيارك ، فإما أن تختار جنةً عرضها السماوات والأرض ، وأن تأتي الله آمناً يوم القيامة مكرَّماً ، وإما أن يعصي الإنسان ربَّه فيستحق دخول النار إلى أبد الآبدين .
      ثم يقول الله عزَّ وجل  :
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
 
  اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
 
1 ـ هذه الآية تفيد الاختيارَ وتفيد التهديدَ :  
 
        هذه الآية تفيد الاختيار ، وتفيد التهديد ، أي أنتم مخيَّرون ، فلكم أن تطيعوا الله في الدنيا فتأتون يوم القيامة آمنين ، ولكم أن تعصوه في الدنيا فتلقوا في النار ، فالأمر بيدكم .
(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ )) .
(من صحيح مسلم عن أبي ذر)
       الأمر بيدكم ، أي أن خيرك منك وشرّك منك ..
﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ
(سورة الإسراء : من الآية 13)
       موضوع التشاؤم والتفاؤل كقولك : ما لي حظ ، حظّي قليل ، كل هذا كلام فارغ  ..
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
(سورة الليل)
       الأمر واضح ، فالعجيب أن الحياة قصيرة ، ووقتها محدود ، والطاعات بيد الإنسان أن يفعلها ، وفي إمكانه أن يفعلها ، وهي متاحة لكل البشر ، والمعاصي حالات سقوط وحالات انحطاط وقذارة ، فالناس حينما يقبلون على الطاعات يسعدون في الدنيا والآخرة ، وحينما يقعون في السيئات يشقون في الدنيا والآخرة ، أين عقل الناس ؟ هل من شهوةٍ أودعها الله في بني البشر ليس لها قناةٌ نظيفة يسلكها الإنسان ؟ لا ، لكن الناس بوسوسةٍ من الشيطان يندفعون إلى المعاصي ، ويجتنبون الطاعات فيستحقون عذاب جهنَّم يوم القيامة ..
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
هذه تفيد التهديد ، افعل ما بدا لك وكل شيءٍ له حسابه ..
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
         هذه الآية مخيفة .
        والمعنى الثاني أنتم مخيَّرون ، طريق الجنَّة معروفٌ لديكم ، وطريق النار معروفٌ لديكم .
(( حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات)) .
 (من الجامع الصغير عن أنس)
((ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة . ألا وإن عمل النار سهل بسهوة)) .
(من الجامع الصغير عن ابن سعد)
       عمل الجنَّة يحتاج إلى جهد ، ويحتاج إلى كُلفة ، إنه ذو كلفة ، لكنه في مقدور الإنسان ، وعمل النار هو سهوٌ واسترخاءٌ وإعطاء النفس ما تشتهي  ..
((ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة . ألا وإن عمل النار سهل بسهوة)) .
(من الجامع الصغير عن ابن سعد)
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
 
2 ـ لو ألغينا الاختيار لألغينا التكليفَ :
 
       مرَّةٌ ثانية أيها الإخوة ، لو ألغينا الاختيار الذي تؤكِّده هذه الآية لألغينا التكليف ، ولألغينا الثواب ، ولألغينا العقاب ، ولألغينا الجنَّة والنار ، ولألغينا المسؤوليَّة ، ولألغينا جوهر الدين ، هذا ما قاله الإمام عليٌّ كرَّم الله وجهه : << ويحك لو ما كان قضاءً لازماً ، وقدراً حاتماً إذاً لبطل الوعد والوعيد ، ولانتفى الثواب والعقاب ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ولم يكلِّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يُطع مكرهاً >> .
        أنت مخيَّر ، قال لك :
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)
(سورة الإنسان)
﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى
(سورة فصلت : من الآية 17)
﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
(سورة البقرة : من الآية 148)
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ(148)
(سورة الأنعام)
       حينما يشتطُّ عقل الإنسان فيعتقد أن الله قد أجبره على هذه المعاصي فقد وقع في شر عمله ، وما من عقيدةٍ تشُل الإنسان وتقعده ، وتوقعه في سوء الظن بالله عزَّ وجل ، وتجعله كتلةً هامدة كعقيدة الجَبْرِ ، أن تعتقد أن الله أجبرك على فعل المعاصي ، وأنها مقدَّرةٌ عليك ، ولا سبيل إلى الخلاص منها ، هذه عقيدة أهل الضلال ، وعقيدة المشركين ..
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
من جهة هي تهديد ، أي افعل ما بدا لك وسوف ترى نتيجة عملك .
       والمعنى الثاني أنك مخيَّر لك أن تستقيم ولك أن تنحرف ، لك أن تحسن ، ولك أن تسئ ، لك أن تُقْبِلَ ، ولك أن تُعْرِضْ ، لك أن تطيع ، ولك أن تعصي  ، لك أن تؤمن ، ولك أن تكفر ، لك أن توحِّد ، ولك أن تُشرك ، هذا باختيارك ..
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ
 
  طريق الجنة معروف وسبيلها واضح :
 
      طريق الجنَّة معروف ؛ طاعة الله عزَّ وجل ، والتقرُّب إليه بالأعمال الصالحة ،  وطريق النار معروف ؛ معصية الله عزَّ وجل ، والتقرُّب منها بالموبقات والمعاصي ، والبشر على اختلاف أنواعهم ، ومشاربهم ، وأجناسهم ، وألوانهم ، وأعراقهم لا يزيدون على رجلين : رجلٍ منضبطٍ بالشرع ، محسنٍ إلى الخلق ، سعيدٍ في الدنيا والآخرة ، ورجلٍ متفلِّتٍ من الشرع ، مسيء إلى الخلق ، شقيٍ في الدنيا والآخرة . الأمور بسيطة ومضغوطة..
((الناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله)) .
(من الجامع الصغير عن ابن عمر)
       أخطر شيء في حياتك أن تحسن الاختيار ، اختر أن تكون مؤمناً ، الإيمان يحتاج إلى تفكُّر في خلق السماوات والأرض ، يحتاج إلى معرفة أمر الله ، يحتاج إلى حضور مجالس العلم ، يحتاج إلى الذِكْر ، يحتاج إلى الطاعة ، يحتاج إلى الأعمال الصالحة ، فالإيمان معرفة الله عزَّ وجل وطاعته ، والتقرُّب إليه .
       أما أن تعطي النفس شهواتها ، أما أن تعطي نفسك ما تريد عندئذٍ لابدَّ من أن تقع في العدوان ، ومع العدوان هناك العقاب الأليم ، فتجد حياة الكافر من مصيبةٍ إلى مصيبة ، ومن مطبٍ إلى مطب ، ومن أزمةٍ إلى أزمة ، ومن معضلةٍ إلى مُعضلة . وحياة المؤمن من إكرامٍ إلى إكرام ، ومن سعادةٍ إلى سعادة ..
﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
      
  ملخص الآية :
 
الآية صارت :
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا
        آياتنا الكونيَّة ، أو التكوينيَّة ، أو القرآنيَّة ، والإلحاد نوعان : إما طعنٌ بالآيات ورفضٌ لها ، وعدم قبول دلالتها ، واستخفافٌ واستهزاءٌ ، وإما تحايلٌ على ردِّها بتأويلها ، أو تزويرها ، أو اللغو فيها ، أو صرفها عن غير ما هي هادفةٌ إليه ، هؤلاء ..
﴿لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا
بعلمنا ، وسوف يحاسبون ، والدليل ..
﴿أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ
       فربنا عزَّ وجل بيَّن لك أن الانحراف مضبوط وسوف تُحاسب عليه .
       أحياناً الإنسان يخفي شيئا عن بعض الجهات الماليَّة ، وهذا الشيء الذي استورده أُرسلت نسخة منه إلى الماليَّة ، وبسذاجة يخفيه ، هو مضبوط ، فإذا كُشِف أمره ندم على فعله ، هذا مثل بسيط من حياتنا الواقعيَّة ، فأعمالك مضبوطة ولابدَّ من الحساب ، هذان المعنيان يكفيان للاستقامة على أمر الله ، وأنت مخيَّر ..
﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
       وأثمن ما في الجنَّة أن الإنسان يأتي يوم القيامة آمناً ، ونعمة الأمن لا تعدلها نعمة على الإطلاق .
       ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ
 
 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
 
1 ـ الذكر هو القرآن الكريم :
 
     الذكر هو القرآن الكريم ..
﴿  لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
 
2 ـ معنى : عزيز :
 
       كلمة عزيز لها عدة معان ، من معانيها أن هذا الكتاب لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله ، شيءٌ نادر ، عزيز ، أي ممتنع عن أن يحاكى ، عن أن يقلَّد ، عن أن يُؤتى بمثله ، هذا المعنى الأول .
     وكلمة عزيز لها عدة معاني في اللغة ، أن الشيء إذا أصبح نادراً صار عزيزاً ، إذا كان هذا الشيء يصعب الوصول إليه صار عزيزاً ، فصار الكتاب ـ كتاب الله عزَّ وجل ـ ليس كمثله كلامٌ آخر ..
((فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ )) .
(من سنن الترمذي عن أبي سعيد)
       كما أن الله واحدٌ في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله كذلك كلامه لا مثيل له ، ولا يرقى إليه كلامٌ آخر ..
﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
        أي أن كلام الله عزَّ وجل كتابٌ ممتنعٌ عن التقليد ، لا يستطيع أحدٌ أن يأتي بمثله ، ولا أن يحاكيه ، ولا أن يقلِّده ، ولا أن يعارضه .
       قال :
﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ{41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
 
 لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
 
1 ـ كتاب الله لا يُنقَض بمرور الأيام :
 
      أي لا يمكن أن يأتي كتابٌ آخر ينقض ما فيه من قبل ، كما أنه لا يمكن أن يأتي بعده كتابٌ آخر ينقض ما فيه ، وهذه النقطة واضحة جداً ، ما من كتابٍ على وجه الأرض ألَّفه بشر إلا وبعد حينٍ ظهرت حقائق تناقض ما فيه ، كل كتاب له عُمر ، ما من كتابٍ على وجه الأرض ألَّفه بشر إلا وبعد حينٍ ظهرت حقائق تناقض ما فيه ، لابدَّ له من تعديل ، هذه حقيقة ثابتة ؛ لكن كتاب الله عزَّ وجل منذ أن أنزله الله عزَّ وجل وإلى الآن وإلى قيام الساعة لا يمكن أن تظهر حقيقة علميَّة تناقض آياته ، لماذا ؟
 
2 ـ العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح :
      لأن الحقائق العلميَّة هي استنباطاتٌ من الواقع ، من خلق هذا الواقع ؟ هو الله عزَّ وجل ، وهذا كلامه فالمصدر واحد ، فالكون كلُّه من خلق الله ، من قنَّن قوانينه ؟ الله سبحانه وتعالى ، من سنَّ سُنَنَهُ ؟ الله سبحانه وتعالى ، من بيَّن العلاقات فيما بين مكوِّناته ؟ الله سبحانه وتعالى ، وهذا كلامه ، لذلك يجب أن تطمئن إلى أن النقل الصحيح لا يمكن أن يتعارض مع العقل الصريح أبداً .
       العقل الصريح لا يتعارض مع النقل الصحيح ، لأن العقل الصريح مقياسٌ أودعه الله فينا  ، وأن الواقع هو من خَلق الله ، وأن هذا القرآن هو كلام الله ، وأن الفطرة التي فُطرنا عليها هي من صنع الله عزَّ وجل ، لذلك هناك من يقول : إنه لابدَّ من تطابق العقل والنقل والواقع والفطرة ، الحق ما جاء به النقل وأكَّده الواقع ، وارتاحت إليه الفطرة ، وأقرَّه العقل ، هذا الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض .
       عندما تعتقد اعتقادًا صحيحًا حقيقيًا ، حينما تؤمن بالحق أي أنك آمنت بالواقع ، وآمنت بالمنطق ، وآمنت بالفطرة ، وآمنت بالقرآن ، هذا هو الحق ، فكلمة حق تعني النقل والعقل والواقع والفطرة ، لا يمكن للواقع أن يظهر خطأ في القرآن ، لأن الواقع من خلق الله ، وقوانينه قنَّنها الله عزَّ وجل ، وسُنَنه سنَّها الله عزَّ وجل ، وهذه النفس لا ترتاح إلا للحق ، إلا لما في القرآن وهكذا فُطرت ..
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
(سورة الروم : من الآية 30)
 
3 ـ النفس لا ترتاح ولا تنسجم إلا بما جاء في القرآن الكريم :
 
        طبيعة النفس هكذا ، لا ترتاح إلا لما جاء في القرآن الكريم، لذلك إخواننا الكرام ، المؤمن حينما يتوب إلى الله عزَّ وجل ـ ولست مبالغاً في هذا القول ـ يشعر كأن جبالاً قد أُزيحت عن كاهله ، لأنه وجد نفسه ، ارتاحت فطرته ، اطمأنَّ عقله ، انسجم الواقع مع العقل والفطرة مع النقل ، هذا الحق ، الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض ، والذي دعا إليه الأنبياء السابقون ونبيُّنا عليه الصلاة والسلام ، الحق هو الله ، الكون من خلقه ، والقرآن كلامه ، والفطرة هو الذي فطرنا عليها ، والواقع هو الذي خلقه ، هذا الانسجام بين الواقع والفطرة والعقل والنقل هو أجمل ما في الحق ، ليس في حياة المسلم اثنيْنيَّة ، ولا ازدواجيَّة ، ولا تناقض ، ولا تنافر ، ولا تباعد ، ولا تشتُّت ، ولا تمزُق ، والإنسان أحياناً يتمزَّق فيقول لك : شيء يحيِّر ، إن اقتنعت بهذا الرأي نقضت هذا الرأي ، وإن اقتنعت بهذا الرأي نقضت هذا الرأي ، إن أرضيت زيداً أغضبت عبيداً ، وأصعب ما في الحياة هذا التمزُّق ، لكن أجمل ما في الدين ذاك الانسجام .
       حياتك ما فيها اثنينيَّة أبداً ، دنياك وآخرتك واحدة ، مهنتك وعبادتك واحدة ، تعبد الله في مهنتك ، في حرفتك ، في نصح المسلمين ، وتعبده ثانيةً في مسجدك ، إن عملت ، وكسبت الرزق لأهلك فأنت في عبادة ، وإن أتيت المسجد ، واستمعت إلى درس العلم فأنت في عبادة ، فالعبادة واحدة .
     إذاً :
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ
      أي ممتنع عن أن يُحاكى ، يمتنع عن أن يُقلَّد ، يمتنع عن أن يؤتى بمثله ، عزيزٌ لا مثيل له ، ما من كتابٍ على وجه الأرض يمكن أن ينقضه لا سابقاً ولا لاحقاً ، هذا معنى :
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ
       أكبر نعمة على الإنسان أن تعتقد اعتقاداً مع اعتقادك بهذا الشيء تطمئنّ إلى أنه لن يزول ، ألا ترون أيها الإخوة أن هناك من اعتقدوا اعتقاداتٍ باطلة بعد حين تداعت كبيت العنكبوت ، وتلاشت ، وأيقن الناس بضلالها وانحرافها ؟ هذه مشكلة أن يعتقد الإنسان شيئا ويسعى من أجل هذه العقيدة طوال حياته ، ثم يكتشف فجأةً أن هذه العقيدة باطلة ولا أصل لها ، ولا تنسجم مع طبيعة النفس ، ولا تحقِّق لصاحبها سعادةً ولا شيئاً من هذا القبيل .
        لكن المؤمن مطمئن ، هو مع الحق الذي قامت من أجله السماوات والأرض ، فليست هناك مفاجأة،عندما يؤمن الإنسان بالله عزَّ وجل يصير عنده انسجام ، هذا الكون يتناسب مع ما ذكره الله عزَّ وجل ، حتى إنهم قالوا : الكون قرآنٌ صامت ، والقرآن كونٌ ناطق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي .
       الحق واحد ، هذه الحقيقة الوحيدة في الكون ـ حقيقة الذاتالإلهيَّة ـ تتبدَّى في الكون إبداعاً ، وقدرةً ، ورحمةً ، وجمالاً ، ولطفاً ، وخبرةً ، وغنًى ، وتتبدَّى في القرآن إعجازاً ، وتتبدَّى في أفعاله حكمةً ورحمةً ، أفعاله كأقواله كخلقه ، وأنت مخلوقٌ من مخلوقات الله عزَّ وجل .
      إن أروع ما في حياة المسلم هذا الانسجام في عقله ، بين عقله وعاطفته ، بين حاجاته وقيَمِهِ ، بين دُنياه وآخرته ؛ لكن تضاد ، تنافر ، تشتُّت ، تمزُّق ، تبعثر كل هذه الأمراض التي يعانيها الناس المؤمن معافاً منها ، هذا معنى ..
﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
 
  تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
 
1 ـ معنى حكيم :
 
       حكيم يضع الشيء المناسب ، في الوقت المناسب ، في المكان المناسب ، بالقدر المناسب ، مع الرجل المناسب ، هذه الحكمة ، ومعنى الحكمة أن كل شيءٍ وقع أراده الله ، وأن كل ما أراده الله وقع ، وأن إرادة الله سبحانه وتعالى متعلِّقةٌ بالخير المطلق ، وأن إرادة الله سبحانه وتعالى متعلِّقةٌ بالحكمة المطلقة ، وأن حكمته المطلقة متعلِّقةٌ بالخير المطلق .
       معنى الحكمة أن كل شيءٍ وقع على نحو ما وقع لو لم يقع على نحو ما وقع لكان هذا نقصاً في حكمة الله عزَّ وجل ، والشيء إذا وقع على خلاف ما وقع يعد هذا نقصاً في حكمة الله عزَّ وجل .
﴿تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ
 
2 ـ معنى حميد :
 
        حميد أي يُحمد على أفعاله كلِّها ، لذلك المؤمن حينما يؤمن أن أفعال الله سبحانه وتعالى حميدة ، أي يحمده عليها كل مخلوق ، يستقبل القضاء والقدر بكل رضى .
     مرَّةً كان أحد الرجال يطوف حول البيت ، وكان يقول : " يا رب ، هل أنت راضٍ عني ؟ " ، كان وراءه الإمام الشافعي فقال له : " يا هذا ، وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك ؟ " ، فالتفت نحوه وقال : " من أنت يرحمك الله ؟ " ، قال له : " أنا محمد بن إدريس " ،  قال : " كيف أرضى عن الله ، وأنا أتمنَّى رضاه ؟ " ، قال : " إذا كان سرورك بالنقمة كسرورك بالنعمة فقد رضيت عن الله " .
       معنى ذلك أن الإنسان عليه أن يوقن أن أفعال الله يُحمد عليها ، لكن لماذا نرى بعض الشر ؟ هذا الشر نسبي ، والإنسان حينما يرى أن الدنيا هي كل شيء ، ويأخذ الله منه بعض الصحَّة ، أو بعض المال يظن أن هذا شراً ، لكن إذا أدخلنا في الحساب الآخرة ، وأن الله سبحانه وتعالى إنما يسوق بعض الشدائد للعبد المؤمن المسلم من أجل أن يرقى به ، ومن أجل أن يفوز بسعادة الدارين ، عندئذٍ يتضح أن كل ما يفعله الله سبحانه وتعالى خيرٌ محضٌ .
       ثم يقول الله عزَّ وجل :
﴿مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ
 
 مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ
 
      هذا تسليةٌ للنبي عليه الصلاة والسلام ، أي أن هذا شأن الرسالة ..
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
(سورة الحج : من الآية 52)
      أي أن النبي يتمنَّى هداية الخلق ، والشيطان يتمنَّى إضلالهم ..
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ
(سورة الأنعام : من الآية 112 )
       فالله سبحانه وتعالى يُسَلِّي نبيَّه ، ويسرِّي عنه بهذه الآية ..
والحمد لله رب العالمين
 
 

 

 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب