سورة غافر 040 - الدرس (11): تفسير الأيات (34 – 37)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة غافر 040 - الدرس (11): تفسير الأيات (34 – 37)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة غافر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة غافر ـ (الآية: 34 - 37)

01/12/2012 15:28:00

سورة غافر (040)
 
الدرس (11)
 
تفسير الآيات: (34 ـ 37)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
       الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
         أيها الإخوة الكرام ، مع الدرس الحادي عشر من سورة غافر ، ومع الآية الرابعة والثلاثين ، وهي قوله تعالى:
 
﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْلَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾
 
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ
 
1 ـ تذكيرٌ بتكذيب بني إسرائيل بيوسف عليه السلام :
 
         قال العلماء : هذه الآية تعني إما أن سيدنا موسى عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام هو الذي خاطب قومه ، وذكَّرهم بموقفهم المكذِّب من سيدنا يوسف عليه السلام ، أو أن مؤمن آل فرعون تابع كلامه ، وذكَّرهم أيضاً بتكذيبهم العريق لسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام .
         على كلٍ :
﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
 
2 ـ لابد للعباد من الرسل :
 
      أيْ أنّ ربنا سبحانه وتعالى لرحمته بعباده ، ولأنه خلَقَهم ليهديهم ، لابدَّ من أن يذكِّرهم ، فالسماء لابدَّ من أن تتصل بالأرض ، ولابدَّ من رسلٍ مبشِّرين ومنذرين ، فمع أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ، ومنحه نعمة العقل ، وسخَّر له الكون ، وفطره فطرةً عالية ، وأعطاه حريَّة الاختيار ، وأعطاه كل المقوِّمات ، ومع كل ذلك فالله جلَّ جلاله إذا رأى الناس قد غفلوا وانساقوا وراء شهواتهم لابدَّ من أن يذكِّرهم .
       فالتذكيرُ الإلهي للإنسان شيء ثابت ، والله عزَّ وجل يذكِّر عباده من خلال الأنبياء ، ومن خلال الرسل ، ومن خلال العلماء والدعاة ، ومن خلال الحوادث ،ومن خلال التسيير النفسي ، ومن خلال كل شيء ، فربنا سبحانه وتعالى يسوق كل الأساليب التي يمكن لهذه النفس أن تستفيد منها ، وربنا جلَّ جلاله يعالج هذه النفس أدقَّ معالجة .
     لكن النقطة الدقيقة هنا أن الحيّ مطموع فيه ..
 
﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
      سيدنا عمر رضي الله عنه وقف مع أصحابهموقفاً ، قالوا : " وقفت موقفاً كموقف النبي معنا " يبيِّن لهم ، أيْ أنّ ربنا عزَّ وجل إذا أرسل الأنبياء فقد أرسلهم ليبيِّنوا للناس ، فإذا جاء العلماء من بعدهم فليذكِّروا الناس بدعوة الأنبياء .
      كما قلت في الدرس الماضي : العالِم لا يستطيع أن يزيد شيئاً ، ولا أن ينقص شيئاً ، مهمَّته الوحيدة التبيين ، أيْ يجب أن يشفَّ عن سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام وعن دعوة النبي ، فإذا عبَّر عنها تعبيراً صادقاً فقد أدَّى مهمَّته ، لذلك فالناس حينما ينصرفون عن الدعاة إلى الله ينصرفون عن طريق سعادتهم .
        والشيء الذي يلفت النظر هو أن الإنسان الداعية أو العالِم حينما يموت تبدو قيمته الحقيقية ، ويبدو حجمه الحقيقي ، يقولون : لماذا لم نعرفه في حياته ؟
 
﴿ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْلَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ﴾
 
حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْلَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا
 
       من معاني هذه الآية : أنه حينما كان بين أظهركم ، وحينما كان بينكم كنتم زاهدين فيه ، بل شكَّكتم في دعوته ، فلم تتبعوه ، فلمَّا هلك عندئذٍ قلتم :
 
﴿ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ﴾
 
1 ـ لا تُعرَف قيمة العلماء إلا بعد موتهم :
 
       ومن معاني هذه الآية : أنكم آمنتم به لكن بعد أن قُبِضْ ، أيْ بعد أن توفَّاه الله عزَّ وجل آمنتم به .
      لنا تعليق على هذا الموقف  :
      الملاحظ أن العالِم مثلاً في حياته يجتمع قليل من الناس حوله ، ولكن إذا توفَّاه الله ترى مئات الألوف ، فليت هذه الجموع الغفيرة التي جاءت للتعزية ، أو التي سارت في جنازته ، ليتهم أمّوا بيته وهو حي ، ليتهم استفادوا من علمه يوم كان بين أظهرهم ، فهذا الموقف يتكرَّر .
      كنت قبل أيام في تعزية أحد العلماء الأجلاء ، فوقفت خطيباً وقلت : جميلٌ جداً أن يتوافد الناس للتعبير عن إيمانهم وعن تقديرهم حينما يعزُّون في مناسبات انتقال العلماء الأجلاَّء ، ولكن الأجمل من هذا أن يتوافدوا إليهم في حياتهم ، وأن يستفيدوا من علمهم ، وأن يأخذوا عنهم ما يحدثون به عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم .
 
لابد للإنسان من التعلّم :
 
       تأمّل مليًّا ودقِّقفي هذه الناحية ، ربنا عزَّ وجل حينما يقول:
 
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا ﴾
(سورة الطلاق : من الآية 12)
      أي أنك خُلِقتَ كي تعلم ، أنت إنسان ، هويَّتك أنك إنسان ، وعليك أن تتعلَّم ، هذه اللام في الآية لام التعليل ، أيْ أنّ علَّة وجودك أن تَعْلم ، إن لم تعلم فلست في مستوى الإنسانيَّة ، الله عزَّ وجل أودع في الإنسان قوَّة إدراكيَّة ، فهذه الطاولة لا تفقه ما حولها ، هذه الطاولة لا تدرك لأنها جماد ، وكذلك الحيوان ، وكذلك النبات ، فالله ما أودع القوَّة الإدراكيَّة إلا في الإنسان ، إذاً : هو خُلِقَ ليعلم ، فإذا كان الجماد شيئا له حيِّز ، له وزن ، طول ، ارتفاع ، يشغل حيِّزًا ، والنبات يشغل حيِّزًا كذلك ، لكنَّه ينمو ، والحيوان يشغل حيِّزًا أيضاً وينمو ومع ذلك يتحرَّك ، أما الإنسان فيشغل حيِّزًا كالجماد ، وينمو كالنبات ، ويتحرَّك كالحيوان ، لكنَّه يفكِّر ويدرك ، فأعظم ما في الإنسان هذه القوَّة الإدراكيَّة التي أوعها الله فيه ، وبهذا ميَّزه الله عن كل المخلوقات .
       إذاً :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا ﴾
(سورة الطلاق : من الآية 12)
       نعم ، من أجل أن تعلم ، من أجل أن تَعْلم أنّ الله يعلم ، إن علمت أن الله يعلم انتهى كل لَبسٍ وإشكال ، واستقمت على أمره ، إن استقمت على أمره سعدت بقربه ، فهذه ثلاث كلمات : العلم ، والسلوك ، والسعادة ، الهدف الأخير أن تسعد بقرب الله عزَّ وجل ، وثمن هذه السعادة أن تستقيم على أمره ، ولن تستقيم على أمره إلا إذا عرفته ، إذاً فلتعلم أن الله يعلم ، وأنه قادر .
       فما دامت علَّة وجودك في هذه الأرض أن تعلم أن الله يعلم ، فالذي يعلِّمك كتاب الله عزَّ وجل ، الذي يعلِّمك سُنَّةَ النبي عليه الصلاة والسلام ، الذي يعلِّمك الحكم الشرعي أهو حرام أم حلال ؟ الذي يبيِّن لك سيرة النبي وسيرة أصحابه الكرام .
      إذاً : فهذا الإنسان قائم بأخطر مهمَّة تواجهك ، في حياة كل واحد منَّا آلاف الأشخاص ، فأنت في حياتك مثلاً طبيب ، الطبيب مرتبط بجسمك للعلاج ، وأنت بحاجة إلى خيَّاط ، إذا طال شعرك فأنت بحاجة إلى حلاق ، وأنت تأكل بحاجة إلى من يزرع لك النبات .
      ففي حياتك آلاف الأشخاص ، وهؤلاء كلهم مرتبطون بدنياك ، لكن الذي يدلُك على الله هذا مرتبط بأمر آخرتك ، لذلك ما دام الله عزَّ وجل قال: لتعلموا أن الله يعلم ، فالذي يدلُّك على الله ينبغي أن تبحث عنه ..
((يا ابن عمر ، دينك دِينك ، إنما هو لحمك ودمك ، فانظر عمن تأخذ ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين قالوا )) .
(كنز العمال عن  ابن عمر )
       كذلك ما دام الإنسان وُلد ووُجد في هذه الدنيا ليعلم ، فالله عزَّ وجل يقول :
 
﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾
(سورة النساء : من الآية 59 )
       أطيعوا الله من خلال قرآنه ، وأطيعوا رسوله من خلال سنَّته الشريفة المبيِّنة لكتاب الله عزَّ وجل ، أمّا ؛ وأولي الأمر منكم بمعنى أطيعوا العلماء والأمراء ، العلماء هم الذين يعلمون أمر الله ـ هذا تفسير الإمام الشافعي ـ والأمراء الذين يطبِّقون أمر الله ، قال :
 
﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾
(سورة النساء : من الآية 59)
       معنى ذلك أن الحَكَمَ هو الله ورسوله ، من خلال كتاب الله عزَّ وجل وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم :
﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
 
2 ـ الرسل جاءت بالآيات الواضحات :
 
    البيِّنات الأشياء الواضحة ، فما مِن دعوة إلى الله إلا كفلق الصبح واضحة مشرقة نيِّرة .
((قد تركتكم على البيضاء : ليلها كنهارها ، لا يزيع عنها بعدي إلا هالك )) .
(الجامع الصغير عن العرباض]
       فدين الله عزَّ وجل لا يمكن إلا أن يكون متوافقاً مع العقل ، متوافقاً مع الواقع ، متوافقاً مع الفطرة ، متوافقاً مع النقل ، دين الله عزَّ وجل كالهواء بالنسبة للإنسان ، نعم كالهواء ، ولا يمكن أن نحيا من دون هواء ، والهواء في كل مكان ، لذلك لا يستطيع أحدٌ أن يحتكر هذا الدين أيًّا كان ، فلا جماعةٌ ، ولا فئةٌ أن تحتكر هذا الدين ، ولا بلد ، ولا عصر يمكنهم أن يحتكروا هذا الدين ، لأنه دين الله ..
 
﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾
       فمن المستحيل أن تجد تفسيرًا واضحًا منطقيًا للكون والحياة والإنسان بعيدًا عن الدين ، فذلك تفسير أعرج ، فأهل الدنيا دائما في اضطراب ، وفي قلق ، وأبسط سؤال يتردد على ألسنة الكثير منهم : يا أخي ما هذه الحياة ؟ أربعين سنة في كدٍّ وجدّ وشقاء ليعيش الإنسان عشر سنوات أو عشرين سنة ، لأن معترك المنايا بين الستين والسبعين ، وهذا العمر ينحدر متسارعًا مع ضغوط الحياة ، ومع المشكلات والهموم التي تصرع الإنسان ، وكلَّما توفَّي إنسان يتساءلون : كم عمره ؟ فيقال : خمسة وثلاثون عامًا ، اثنان وخمسون ، سبعة وأربعون ، ثلاثة وستون ، سبعة وخمسون...الخ . وما وصل إلى مرحلة الاستقرار إلا في سن الأربعين  .
       والعجيب تساؤلهم : ما هذه الحياة ؟ لماذا هذا العمر القصير ؟ لماذا هذه المتاعب ؟ لماذا هذا التناقض في الحياة ؟ وما فهموا أنّ الحياة ، وما أدركوا أنّ الحياة مرحلةُ إعداد لحياةٍ أبديَّة ، وأنّ الحياة مزرعة ، و أنها دار ابتلاء وامتحان ، لا دار قرار واستقرار .
      فلذلك من خلال فهم القرآن والسُنَّة ، ومن خلال فهم العقيدة الصحيحة تبدو الدنيا واضحةً وضوح الشمس .
 
لا تجتمع أسباب السعادة في مرحلة واحدة من العمر :
 
    هناك تعليقات وملاحظات أساسية ذكرتها سابقاً مفادها : أن الإنسان في أول مرحلة في حياته تكون صحَّته طيِّبة ، والوقت مديد ، لكنَّه فقير ، لا يملك الدِرهم والدينار ، إذاً سعادته عرجاء ، المال أحد أسباب السعادة في الدنيا ـ بنظر الماديين طبعاً ، أنا أقول هذا الكلام بنظر الماديين ـ المرحلة الثانية تكون الصحَّة موجودةً والمال موجودًا ، ولكن ليس لدى الإنسان فراغ وقت ، منهمك في أعماله إلى قمة رأسه ، المرحلة الثالثة المال موجود ، والوقت موجود ، ولكن تتراجع الصحَّة فتعرج بك الأيام ، فالمحصِّلة لو أن الإنسان عاش للدنيا ، ونسي الله عزَّ وجل ونسي الآخرة فلا يسعد ولن يسعد ، ودائماً في تناقص وتراجع .
       رأينا إذًا أن الإنسان في المرحلة الأولى ينقصه المال ، وفي المرحلة الثانية ينقصه فراغ الوقت ، وفي المرحلة الثالثة تنقصه الصحَّة ، أما المؤمن إذا عرف الله عزَّ وجل معرفةً يقينيَّة ، وعرف سرَّ وجوده ، وعرف المهمَّة العُظمى التي أنيطت به ، وعرف أن هذه الدنيا دار ابتلاء ، منزل ترحٍ لا منزل فرح ، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى ، فجعل بلاء الدنيا لعطاء الآخرة سببا ، وجعل عطاء الآخرة من بلوى الدنيا عوضًا ، فيأخذ ليعطي ، ويبتلي ليجزي .
       شتَّان بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن، حياة المؤمن إنْ أعوزه المال لا تعوزه الأعمال الصالحة ، يحقِّق وجوده بالأعمال الصالحة ، بطلب العلم ، بمعرفة الله عزَّ وجل ، بالدعوة إليه ، سعيدٌ وهو شاب ولو أن جيبه فارغٌ من المال ، فإذا أعوزه الوقت تنقلب أعماله المباحة إلى عبادات ، فهو في عمله ، وهو في بيته ، وفي سعيه لكسب رزق أولاده في عبادة ، لأنه يسير على منهج الله عزَّ وجل ، فأعماله تستغرق كلَّ وقته ،  في كسب الرزق ، وفي طلب العلم ، وفي الدعوة إلى الله ، في كلٍّ يحقِّق وجوده ، فإذا بلغ خريفَ العمر وجدته سليم النفس و العقل .
"من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتَّى يموت " .
       فالله عزَّ وجل يعامل المؤمن معاملة طيِّبة ، لأنه عرف الله في شبابه فأكرمه في شيخوخته ، فما من شيء أجمل من إنسان نشأ في طاعة الله ، فكانت شيخوخته سعيدة أيَّما سعادة  .
      إن الإنسان يجب أن يطلب العلم ليتعلَّم ، يجب أن يكون على منهج الله عزَّ وجل ليسعد ، وإذاً فأخطر شيء في حياته أن يحقِّق رسالته التي أُرسِلَ من أجلها ، أن يحقِّق الغاية من وجوده طاعة الله وعبادة ثم خلود أبدي .
﴿ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْلَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾
 
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ
 
1 ـ الله لا يهدي إلا الصادقين :
 
       بيَّنت لكم في دروس مضت أن الإضلال إذا عزي إلى الله عزَّ وجل ، فمعناه أنه الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري ، وأكبر دليل :
 
﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾
(سورة الصف : من الآية 5)
     أيْ أنّ الله عزَّ وجل يهدي من ؟ يهدي إليه من أناب ، يهدي من كان صادقاً ، من كان مستقيماً ، من تعامل مع آياتِ الله التي بثَّها في الكون فهمًا و إيماناً .
 
2 ـ مَن هو المسرف ؟
 
    أما المسرف المرتاب ، فهو الذي أسرف في اقتناص الملذَّات ، فأخذ ما له وما ليس له ، استمتع بما يحلُّ له وبما لا يحلُّ له ، أخذ ما سمح له الشرع ، وما لم يسمح له ، أخذ حقَّه وحقَّ غيره ، أخذ ماله ومال غيره ، استمتع بما يحلُّ له ، وما يحلُّ لغيره ، فهو إذًا إنسان أسرف ، فاتبع شهوته في الدنيا ، ولم يعبأ بمنهج الله عزَّ وجل ، ولم يعبأ بالشرع الذي أنزله الله على نبيِّه .
      أما المؤمن ففي حياته وقفات كثيرة جداً ، مثلما كان سيدنا عمر وقَّافاً عند كتاب الله ، فهذه الحركة العشوائيِّة ، والانسياق وراءالشهوات ، هما سلوكُ إنسانٍ ضائع ، سلوك نفس تائهة ، سلوك إنسان بعيد عن الله عزَّ وجل ، المؤمن متبصِّرٌ في قبض المال ، في إنفاق المال ، في إنفاق الوقت ، في علاقاته ، في مسرَّاته ، في أحزانه ، دائماً منضبط يحجزه شرع الله سبحانه .
 
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾
 
3 ـ مَن هو المرتاب ؟
 
      أما المرتاب فما عَلِمَ عِلْمَ اليقين الغاية من وجوده ، بل عاش كل حياته بالشك والريبة والضياع ، عاش في حيرة عمياء ، زاغ عن الحق وما علم أن الحق والإيمان لا يخالطهما شك أبدًا ، اسمع قوله تعالى :
 
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ﴾
(سورة الحجرات : من الآية 15)
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾
(سورة البقرة : من الآية 2)
       أنت الآن بحاجة إلى يقينيَّات ، فلا تعتقد اعتقادات لست متأكدًا من صحَّتها مثل : لا نعرف ، شيءٌ يحيِّر ، وكما قال بعض الشعراء:
جئت من حيث لا أدري ولكني      أتيت فرأيت قدَّامي طريقاً فمشيت
لماذا جئت ؟ قال : لست أدري       ولماذا لست أدري ؟ لست أدري
*  *  *
     تأمل الضياع ، إنه الضياع حقيقة ، ثم المصير نار جهنم ، لأنه هو الذي سعى إلى الضياع .     
      فالمشكِّك دائماً الذي لا يعلم ، الذي لا يوقن ، هذا إنسان ليس في مستوى الإنسانيَّة ، أنت يجب أن تعتنق عقيدة صحيحة يقينيَّة ، تدافع عنها حتَّى آخر لحظة في حياتك ، الحياة أساسها اليقينيات ، أليس عندك شيء ثابت ؟ أليس هذا الكون يدلُّ على عظمة الله عزَّ وجل ؟ هذا أول ثابت ، الكون من الثوابت
، فكل شيء لديك لا نعرف ، كل شيء الله يعلم ، كل شيء عندك يحيِّر ، فهذا الذي يبني حياته على الشك ليس مؤمناً ، فإن سئل : هل أنت متأكِّد أن هناك جنَّة ؟ يقول : الله يعلم ، أرجو أن يكون هناك جنَّة وإلا يكون قد خرب بيتنا ـ مثلاً ـ فهذا ليس كلامَ مؤمنٍ .
     انظر ..
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾
 
4 ـ بين الإسراف والارتياب علاقة تلازمية :
 
      الارتياب من لوازمه الإسراف ، والإسراف من نتائجه الارتياب ، فتجد المسرف دائماً بحركاته وسكناته مرتابًا ، والمرتابُ مسرفٌ ، يسمونها علاقة ترابطيَّة ، قال تعالى :
 
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59) ﴾
(سورة مريم )
       لماذا اتَّبعوا الشهوات ؟ لأنهم أضاعوا الصلوات ، لماذا أضاعوا الصلوات ؟ لأنهم اتبعوا الشهوات ، أيْ أنّهم تارةً باتباع الشهوات ينقطعون عن الله عزَّ وجل ، وتارةً بالانقطاع عن الله عزَّ وجل يلهثون وراء الشهوات ، فالعلاقة بينهما علاقةٌ ترابطيَّة ، اتباع الشهوات وترك الصلوات .
      كذلك المسرف الذي يتحرَّك وفق شهواته من دون ضوابط ، يجمع المال ، ولا يعنيه أكان حلالاً أم حراماً ، هذا مسرف ، يطلق بصره فيما يحلُّ له ، وما لا يحلُّ له ، هذا مسرف ، يتكلَّم بما هو صحيح ، وبما هو باطل ، هذا مسرف ، يتحدَّث بلاضوابط ، يمارس شهواته بلا ضوابط ، يكسب المال بلا ضوابط ، هذا مسرف ، لماذا هو مسرف ؟ لأنه مرتاب ، ليس متيقِّنًا أن هناك حسابًا  .
       مرَّة قلت لكم : إذا كان الشخص أقوى منك وأعطاك أمرا ، وهو يراقبك ، وبإمكانه أن يوقع بك الأذى ، هل من الممكن أن تعصيه ؟ مستحيل ، بحسب قوانين النفس مستحيل ، على أدنى مستوى ، على أدنى إشارة مرور ، ممكن أن تكون الإشارة حمراء والشرطي واقف ، وأنت شخص عادي ؟ ليس من الممكن ، بل مستحيل إلا أن تنضبط ، لأن النتائج واضحة جداً ، فأنت مع إنسان عادي يمكن أن يسبِّب لك بعض المتاعب فلا تعصِيه ، أما مع خالق الكون فأنت في ارتياب ، فلتعلم علم اليقين خيرٌ لك ، قال تعالى :
 
﴿ كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6) ﴾
(سورة التكاثر )
       لو علمت علم اليقين لرأيت الجحيم .
     الطبيب أحياناً لماذا يعتني عناية بالغة بتنظيف الخضراوات والفواكه ؟ لأنه يرى الجراثيم ، يرى المرضى ، يرى الأمراض السارية ، يرى الإنتانات المعويَّة ، يرى هذه الأمراض رأي العين ، ويعلم أن أسبابها كلها من الجراثيم ، فرؤيته المستمرَّة تجعله في هذا الحرص الشديد ، لكن عدم الرؤية يسبَّب الإسراف .
     فهاتان النقطتان دقيقتانجداً :
 
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾
 
5 ـ لابد من الانتقال من الارتياب إلى اليقين :
 
       فأول شيء يلزمك أن تنتقل من الارتياب إلى اليقين ، فماذا لديك من ثوابت في الكون ؟ الكون ثابت ، هذا الكون ألا يدلُّ على وجود الله ؟ بلى .
       قلت لكم مرَّة : هناك وهمٌ ، وشك  ، وظن ، وغلبة ظن ، ويقين ، وقطع ، أعلى درجة القطع ، إذًا فالوهمُ بالمائة ثلاثون ، الشك بالمائة خمسون ، الظن بالمائة سبعون ، غلبة الظن بالمائة ثمانون ، اليقين تسعة وتسعون ، القطع بالمائة مائة .
      ابحث عن اليقينيات ودعك من الارتياب ، أليس يدلُّ الكونُ على وجود الله ؟ ألا يدل على وحدانيَّته ؟ ألا يدل على كماله ؟ أليست هذه المقولة صحيحة : عظمة الخلق تدلُّ على عظمة الخالق ؟ بلى وحقاً ، كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف ، عظمة الخلق تدلُّ على عظمة الخالق ،  كمال الخلق يدل على كمال التصرُّف .
     إذا كانت المؤسَّسة راقية جداً فحساباتها راقية ، علاقاتها العامَّة راقية ، ألا يدلُّ كمال الخلق على كمال التصرُّف  ، وعظمة الخلق تدل على عظمة الخالق ؟ هذا الشيء ثابت قطعي .
      القرآن الكريم بين يديك ، ابحث في آياته ، هل هناك حقيقة قطعيَّة ثابتة فيه نقضها العلم ؟ مستحيل ، لأنه كلام خالق الكون ، على مر العصور والدهور كل كتاب أُلِّف على وجه الأرض إلا وبعد حين ظهرت بعض أخطائه ، أيّ كتاب من تأليف بني البشر فلابدَّ من أن ترى بعد حين أن فيه أشياء غير صحيحة ، هذه الأيام أقرأ كتابًا ، وأنا من أشد الناس إعجاباً به ، فمؤلفه لعالِم جليل عاش في العصور العبَّاسيَّة ، وهو من أرقى الكتب تأليفًا ومضمونًا ، ومع ذلك المعلومات في وقتها كانت محدودة جداً ، وكان يظنُّ مؤلِّف الكتاب أن المعدة إذا امتلأت بالطعام ارتفع بخار الطعام إلى الدماغ فعطَّل وظيفته ، كأن داخل الإنسان جوف فارغ ، هكذا توهَّم مؤلِّف الكتاب ، وهذه خطيئة لديه واضحة نقضها التقدم العلمي .
       فهل في القرآن الكريم آية تتعارض مع حقيقة علميَّة ؟ مستحيل لأنه كلام خالق الكون ، فإذا كانت كل عقيدتنا يقينيَّة ، فالإنسان بشكل أو بآخر يجد نفسه مستقيمًا ، لاحظ قوانين علم النفس ، عندما تُحاَصر فكرياً تستقيم سلوكياً ، الاستقامة السلوكيَّة أساسها القناعات الثابتة ، اليقينيات الثابتة ، فهناك علاقة دقيقة بين الإسراف والارتياب ، المرتاب مسرف ، والمسرف مرتاب ، فلكي لا نكون مسرفين يجب ألاّ نرتاب ، من أجل ألاّ نرتاب ينبغي أن نبحث عن الثوابت .
 
لابد من اتباع النبي عليه الصلاة والسلام في كل شيء :
 
       الثوابتُ : الكونُ ، والقرآن ، والنبي وسنَّته ، والصحابة الذين رضي الله عنهم ، هذه كلها ثوابت ، فاجعل من كتاب الله ، ومن سُنَّةِ رسوله ومن فعله ، ومن فعل صحابته منهجاً لك ، يقال : إن أعظم فهمٍ لهذا الكتاب هو فهم النبي عليه الصلاة والسلام ، وسلوك النبي انعكاسٌ لفهمه .
     بعض العلماء قال : تعلُّم السيرة فرض عين ، لماذا ؟ لأنك أمام نموذج كامل ، فهذا الإنسان الكامل الذي فهم كتاب الله فهماً دقيقاً وكاملاً ، وانطلق في حياته يتحرَّك حركةً وفق منهج الله ، فحركته تجسِّد فهمه لكتاب الله ، والله سبحانه وتعالى جعله قدوةٌ لنا نتأسَّى به ، ونقتفي أثره ، إذاً : معرفة النبي عليه الصلاة والسلام ، ومعرفة موِاقفه العمليَّة ، ومعرفة سُنَّته المطهَّرة جزءٌ من الدين .
      نحن على أبواب عيد المولد ، كلكم يعلم أن هذا البلد عريق بالاحتفالات بعيد المولد ، وجوهر هذه الاحتفالات أساسها أن تتعرَّف إلى رسول الله ، لقوله تعالى :
 
﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ ﴾
(سورة المؤمنون : من الآية 69)
       والمرحلة الثانية أن تقتفي أثره ، وهذا جوهر الصلاة على النبي ..
 
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56) ﴾
(سورة الأحزاب)
       فالنبي عليه الصلاة والسلام هو سيد الخلق وحبيب الحق ، بلغ أعلى درجة من الكمال بين البشر ، أصبح أهلاً لأن يكون باب الله عزَّ وجل ، فالله سبحانه وتعالى يصلي عليه أي يتجلَّى عليه بالرحمة ، وقد أُمِرْنا أن نصلي عليه أن نتعرَّف إليه ، وأن نقتفي أثره ، وأن نتبع سُنَّته ، فإن عرفنا شمائله ، وأخلاقه ، وكمالاته ، واقتفينا أثره فقد صلينا عليه ، وهذه حقيقة الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام ، فنحن أمام نموذج إنساني كامل .
       مرَّة ثانية : أعلى فهم لكتاب الله هو فهم النبي ، والنبي معصوم ، فحركته بين أصحابه ، في بيته ، في عمله ، في كل مناحي حياته تمثِّل فهمه لكتاب الله ، لذلك معرفة سيرة النبي فرض عين على كل مسلم ، هكذا عامل زوجاته ، هكذا عامل أصحابه ، هكذا كان في حياته الخاصَّة ، هكذا كان في حياته العامَّة ، هكذا عامل أعداءه ، إذاً هو نموذج كامل ، هذا يقين آخر بين أيدينا .
      الكون يقين ، والقرآن يقين ، وسنة النبي يقين ، وسيرة أصحاب النبي الذين رضي الله عنهم بنص القرآن الكريم يقين ، نحن أحياناً تختلط الأمور علينا ، نقول : فلان : الله يرضى عنه ، هذه دعائيَّة أم تقريرية ؟ فرقٌ كبير ، الله جلَّ جلاله رضي عن أصحاب رسول الله ، قال :
 
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ﴾
(سورة الفتح : من الآية 18)
       الله أعلن في قرآنه الكريم أنه رضي عنهم ، لكن إذا قلنا عن شخص : الله يرضى عنه ، فهذه دعائيَّة ، وليست تقريريَّة ، فرقٌ كبير بين التقريريَّة والدعائيَّة ، التقريريَّة أن تقول : لقد رضي الله عن فلان ، هؤلاء الصحابة وحدهم الذين رضي الله عنهم ، أما الدعائيَّة فأن تدعو لإنسانان يرضى الله عنه ، كأن تقول : أغناك الله ، تدعو له بالغنى ، هذه ليست كأن تقول : لقد أغناه الله ، صار غنياً ، إحداهما تقريريَّة والثانية دعائيَّة ..
 
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾
       إذاً : الإسراف هو تجاوز الحدود ، وكما قال ابن عطاء الله السكندري : "من تجاوز الحدود فهو من الحضرة مطرود " .
       الإسراف أسبابه الارتياب ، والارتياب أن تعيش في الأوهام ، في الظنون ..
 
﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا(28) ﴾
(سورة النجم)
﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا(28) ﴾
       ظن ، أوهام ، أفهام سقيمة ، أما المؤمن فمعه حجَّة ، المؤمن مع اليقينيات ، المؤمن مع الثوابت ، المؤمن عقيدته كفلق الصبح ، عقيدته كالشمس في رابعة النهار ، إنه على الحق المبين لا يخشى الضياع ، فهو على يقين ..
 
﴿ كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6) ﴾
(سورة التكاثر)
 
علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين :
 
       بالمناسبة لدينا علم اليقين ، وحق اليقين ، وعين اليقين ، ما دامت هذه المراوح تدور فنحن موقنون أن في الجامع كهرباء ، هذا يقين ، الكهرباء لا نراها ، ولكن تألُّق المصابيح ، وحركة المراوح ، وهذا الصوت الذي يكبَّر هذه علامة وجود كهرباء في المسجد .
      إذًا : فهناك شيءٌ لا تراه ، ولكنك ترى آثاره فهذا علم اليقين ، أما إذا رأيتَ عينَه فهذا حق اليقين ، لو رأيت الدخان لقلت : لا دخَّان بلا نار ، فالدخَّان يدلُّك على النار يقيناً ، لا دخَّان بلا نار ، لكنك إذا رأيت بعينك التي في رأسك لهب النار فهذا حق اليقين ، أما إذا لامست يدك النار ، وشعرت بحرِّها ووهجها فهذا عين اليقين ، فأنت لك أن تتدرَّج من علم اليقين ، إلى حق اليقين ، إلى عين اليقين ، أما أن تبقى في الشك ، فمع الشك إسرافٌ ، لكنْ مع اليقين استقامةٌ ، ومع حق اليقين هناك رقيٌّ ، ومع  عين الرقي في إشراق ، كأنّ هناك ترابطًا فبقدر ما عندك من يقينيات يكون التزامك ، بقدر تصوُّراتك الصحيحة تكون استقامتك ، صحة عقيدتك بقدر التزامك ، فكلّ أثرٍ داخلي ينعكس على السلوك الخارجي بشكل أو بآخر ..
﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾
 
من صفات المسرف المرتاب : الجدال بغير علم :
 
      النقطة الحرجة في الآية السابقة ، أنك  تجد إنسانًا ما طلب العلم ، ولا درس القرآن ، ولا فهم الإسلام ، ولا قرأ السُنَّة ، ولا قرأ السيرة ، ولا قرأ الفقه ، فمع جهله الفاضح ، مع إهماله الشديد لمعرفته بالله عزَّ وجل يُنصِّب نفسه حكمًا بكل قضيِّة إسلاميَّة ، فكيف يناقش هذا الإنسان الجاهل ، وكيف يجادل في موضوع ليس له خبرة فيه ولا دراية ؟
 
﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ﴾
       
       تجده يعُدُّ طرفًا ، ومرجِعًا ، وحكمًا ، ووصيًّا ، وفي كل قضيَّة يحشر أنفه ، ويدلي برأيه ، وينتقد ، ويقبل ، ويرفض ، وهذه غير معقولة ، وهذه معقولة ، فمن أنت ؟
﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾
      فلو سألت أحدًا : ماذا تعرف عن الصعود إلى القمر عبر مركبة فضائيَّة يدفعها وقود سائل ؟ فقد يقول : ولمَ لا نذهب إلى القمر بالطائرة مثلاً ؟ فالجواب أنه إذا لم تنطلق بسرعة سبعة كيلو مترات في الثانية فلن تستطيع أن تتحرَّر من جاذبية الأرض ، بسرعة أقلّ منها ستبقى في نطاق الجاذبيَّة ، ومهما كانت الطائرة سريعة فستبقى في نطاق الجاذبيَّة ، أما من أجل أن تتجاوز ، وأن تتحرَّر من الجاذبيَّة تحتاج إلى سرعة عالية جداً ، أعلى سرعة يحقِّقها رد الفعل الناتج عن احتراق الوقود السائل ، تبينها لك : الصواريخ التي تدفع الكبسولة إلى الفضاء الخارجي ، ويبلغ ارتفاعها ارتفاع بناء شاهق ، وفيها ألوف الأطنان من الوقود السائل ، وكلُّها تحترق في وقت قصير جداً من أجل أن تنطلق المركبة .
       كان إنسان جاهلاً بالفيزياء والكيمياء ، والفلك ، والسرعات ، وردود الفعل والحركات والسكنات ، وهو جاهل بكل هذه العلوم ، ويريد أن يسفِّه آراء العلماء بهذا الموضوع ، فهل هذا معقول ؟ لا ، لن يُقبل ، ولن يُعقل أن يكون الإنسان جاهلا ، ثم يكون حَكمًا أو وصيًّا على علماء كبار ؟
       فنحن مشكلتنا قبل أن تقول : هذه لم تعجبني ، وهذه القضيَّة غير واقعيَّة ، وهذه غير معقولة ، قبل أن تقول فهل درست الإسلام ؟ هل فهمت القرآن ؟ هل اطلعت على السُنَّة النبويَّة المطهَّرة ؟ فأنت معلوماتك نُتَف ، أخطر شيء في الحياة نصف العالِم ، قرأ عددًا من المجلاَّت ، وعددًا من المقالات ، وسمع حكايات وأقاصيص مهزولة ، ثم يجعل من نفسه شيخ الإسلام ، فأنت ليس لديك معلومات دقيقة ، فقبل أن تنتقد ، قبل أن تهاجم ، قبل أن تقترح على الله عزَّ وجل ، قبل أن تقول : هذا غير واقعي ، غير منطقي ، قبل أن تقول : هؤلاء ، لا بدّ من أن تتعلم ، قال تعالى :
 
﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
      فهل من الممكن لإنسان يقرأ عددًا من المجلات الطبيَّة أن يصير طبيبًا ؟ إن هذا ليس ممكنًا ،  فالطبيب درس دراسة منهجية ، درس السنة  الأولى الفيزياء ، والكيمياء ، والرياضيات ، وقضى سنة بالتشريح الوصفي ، وسنة بعلم الأمراض ، وسنة بعلم الأدوية ، وسنة بالمعالجة السريريَّة ، وسنة يدخل تجريبات عمليَّة ، سبع سنوات ، ثم ليصبح طبيبًا يحتاج إلى اختصاص ، فهل من الممكن لإنسان يقرأ فقط مجلات طبيَّة ، ويجلس مع عدد من الأطبَّاء ثم يدَّعي أنه صار طبيبًا ؟ فهل يعقل هذا الشيء ؟
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ﴾
 
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ
 
      أساس تعلُّم الإنسان التواضع ، نصف العالِم مشكلته كبيرة جدًا ، لا هو عالِم فيفيد من علمه ، ولا هو جاهلٌ فيتعلَّم .
      والآية دقيقة :
﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ ﴾
 
  خطورة استخدام العقل :
 
      المجادلة ؛ إنسان لديه فكر ، وعَنْ الفكر قلت لكم مرَّة : إنه سلاح خطير ، جهاز بالغ التعقيد ، هذا الجهاز إما أن يرقى بك إلى أعلى عليين ، وإما أن يهوي بك إلى أسفل سافلين ، كآلة طبع ملوَّنة ثمنها مليون ليرة من الممكن أن يستخدمها الإنسانُ استخدامًا رائعًا جداً ، فيجمع منها أموالاً طائلة ، ويلمع اسمه في الحياة ، ومن الممكن أن يُزوِّر عليها عملة تودي به إلى السجن ، وهي هي الآلة ، هكذا العقل البشري ممكن أن يقودنا إلى أعلى درجة من التألُّق والسعادة ، وممكن إذا استخدمناه لغير ما خلقه الله عزَّ وجل أن يهوي بنا إلى الشقاء ..
 
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ﴾
(سورة المدثر)
       إذاً : فنحن قبل أن ننتقد ، قبل أن نَرُدّ الحقائق ، قبل أن نرفض ، قبل أن نتفلسف لابدَّ من معرفة هذا الدين العظيم ، بدءاً بقرآنه الكريم ، ومروراً بسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، وانتهاءً بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا علمت عندئذٍ تتحجَّم ، فهؤلاء ..
 
﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ﴾
 
لابد من الحُجة والسلطان العلمي :
 
     الحجَّة سلطان ، فالحجَّة هي كلام مقنع ، ولكن أحياناً تكون مثلاً صامتًا ، يواجهك شخص يغلي ويفور كالمرجل ، فتتكلَّم معه بكلمة يسكت ، ويقنع ، لمصلحته ، فالحجَّة قوَّة ، الله عزَّ وجل سمَّاها حجَّة وسمَّاها سلطانا ..
﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 83)
       وسمَّاهاسبحانه وتعالى السلطان ..
 
﴿ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾
 
التواضع من لوازم العلم :
 
      هم لمْ يتعلَّموا فكيف يناقشون ؟ الإنسان يناقش إما بحجَّة ، أو بعلم ، أو بكتاب منير ، فلا كتاب منير لديه ، ولا علمٌ ولا حجَّة ، ومع ذلك يناقش ، لأن المناقشة لا تكلِّفه شيئًا ، بالعكس تعمل له نوعا من الوجاهة في المجتمع ، وأنه إنسان حر لا يقبل كل شيء بداهةً ، ولكن لو عرف عظمة هذا الدين لصار أمامه كالطفل الصغير ، والعالِم الحق كلَّما ازداد علمه تواضع ، وكلَّما قلَّ علمه تكبَّر ، والعلاقة بين الكِبر والعلم علاقةٌ عكسيَّة ، يزداد الكبر مع قلة العلم ، ويزداد التواضع مع وفرة العلم ، يقول الإمام الشافعي: " كلَّما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي " ، ويقولون : " يظل المرء عالِماً ما طلب العلم ، فإذا ظن أنه قد عَلِم فقد جَهِل " .
      حينما يظن الإنسان أنه عالِم فهو جاهل ، وأجمل كلمة تقال : فلان طالب علم ، لا تقل : عالِم لأن العالم هو الله عزَّ وجل ، كلمة عالِم ثقيلة ، فقد تجده يقول : أنا من علماء دمشق ، ليقُلْ : أنا من طلاب العلم ، لأنك قد عرفت شيئاً ، وغابت عنك أشياءُ ..
قل لمن يدَّعي في العلم فلسفةً      حفظت شيئاً وغابت عنك أشياءُ
*  *  *
       التواضع من لوازم العلم ، والتكبُّر من لوازم الجهل ..
 
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
      فلو أردنا أن نوضِّح هذه الآية بمثل لقلنا : إنسان جاهل يجلس بين علماء أفاضل ـ في أي اختصاص ـ هم يتكلَّمون ، وهو يردّ عليهم ، وينتقد كلامهم بلا دليل ، وبلا حجَّة ، ولا برهان ، أليس هذا التنطُّع مدعاة للاشمئزاز والاحتقار ؟ فالسكوت مناسب جداً له ، فربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ ﴾
     إنسان جاهل لا يعرف شيئًا ، يريد أن يدخل في موضوعات دينيَّة كبرى ، يدلي برأيه السخيف ، وينتقد ، ويجعل عقله هو الحكم في كل قضيَّة ، هذا الشيء مستحيل ، فهذا يكسبه مقتاً عند الله ، ومقتاً عند المؤمنين ، لكن التواضع ، والتعلُّم هذا شيء من صفات الإنسان الكامل ، لذلك قال سيدنا علي : << قِوام الدين والدنيا أربعة رجال ، عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلَّم >> .
     من لوازم العالِم أنه يستعمل علمه ، من لوازم الجاهل أنه يتواضع ، ويقبل على التعلُّم ـ << عالمٌ مستعملٌ علمه ، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلَّم ، وغنيٌ لا يبخل بماله ، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيَّع العالِم علمه ، واستنكف الجاهل أن يتعلَّم ، وإذا بخل الغنيٌ بماله ، وباع الفقير آخرته بدنيا غيره  فقد اختل كل ميزان وتاه كل عقل >> .
       لذلك:
﴿ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾
 
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
 
1 ـ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ :
 
أولاً :
     عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ... )) .
[ مسلم ]
       لماذا ؟ لأن الكبر يتناقض مع عبوديَّة الإنسان لله عزَّ وجل ، وكل إنسان نازع الله الكبرياء قصمه الله ، فمن الممكن للحليب أن يتحمَّل ماءً من دون أن تغشَّه ، فلو أراد أحد أن يضيف ماءً له لجاز ، أمّا أن يضع معه زيتا فقد فسد ، ويجب أن يلقى في القمامة ، أما الكبر فمهما كان قليلاً فهو مرفوض ، والإنسان مهما كان كِبْرُهُ قليلاً يحجبه عن الله عزَّ وجل ، لأن كبره حجابٌ بينه وبين الله عزَّ وجل :
 
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾
 
2 ـ العلاقة بين الكبر والتجبُّر :
 
    كيف هناك علاقة بين الإسراف وبين الارتياب ، هناك علاقة بين التكبُّر والجبروت ، فالمتكبِّر إذا بطش دمَّر ، قال تعالى :
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130) ﴾
(سورة الشعراء)
       فالتجبُّر ليس ظلماً فقط ، بل هو ظلم ، مع كبر ، مع عنجهيَّة ، مع تدمير ، مع إيقاع الأذى الشديد ، هذا هو التجبُّر ، وأساسه التكبُّر ، والمؤمن بريء من التكبُّر والتجبُّر ، والله سبحانه وتعالى قهر كل الجبابرة بالموت ـ سبحان من قهر عباده بالموت ـ والإنسان مهما كان عالياً في الأرض فلابدَّ من أن يموت ، كل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقَ إلا ذو العزَّة والجبروت ، والليل مهما طال فلابدَّ من طلوع الفجر ، والعمر مهما طال فلابدَّ من نزول القبر ، وسبحان من قهر عباده بالموت ، فالمتكبِّر والجبَّار يجولان جولاتٍ ثم يزولان ، ويقصمهما الله عزَّ وجل ، أما المؤمن فإنه ينمو ، كلَّما ازداد عمره ازداد مكانةً ورفعةً ، لأنه متواضع ، وبالتواضع تأخذ أعلى درجة .
انظر إلى الأكحال وهي حجارةٌ      لانت فصار مقرُّها في الأعينِ
*  *  *
       الحجر عندما لان أصبح يوضع في العين ، والكحل أساسه حجر .
 
ما لي سوى فقري إليكَ وسيلةٌ       .. فبالافتقار إليك فقري أدفعُ
ما لي سوى قرعي لبابك حيلةٌ        فإذا رددتَ فأيَّ بابٍ أقرعُ
*  *  *
       علامة المؤمن التواضع ، بالتواضع يعلو ، والإنسان غير المؤمن متكبِّر ، وبالتكبُّر يَسْفُل ، فربنا عزَّ وجل يرفع المتواضعين ، ويقصم العتاة والجبَّارين .
      إذاً :
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ ﴾
        وبعد تأملوا ، وانظروا إلى هذا الموقف السخيف:
 
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾
 
من مواقف فرعون السخيفة :
 
فرعون يريد الوصول إلى إله موسى :
 
      قد تجد أشخاصًا متكبِّرين ، جبابرة ، فانظر أين صاروا ؟ انتهوا بالتعبير البسيط إلى مزبلة التاريخ ، تجدهم إذا ذُكِروا فالنفوس ضاقت بهم ، والعقول مجَّت سيرتهم ، وأقوالهم ، وأفعالهم ، أما المؤمنون الصادقون فسيرتهم تُعَطِّر المجلس ، انظر لهذه السخافة ، إنه إنسان بل عبد ضعيف يريد تعمير بناء ، قال :
﴿ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ﴾
     فالإنسان لا يكون بأعلى درجاته إلا وهو مؤمن ، لا تراه منطقياً إلا وهو مؤمن ، لا تراه في كمالٍ رائع إلا وهو مؤمن ، أما مع الكبر ، والبعد ، والانقطاع ، والإسراف ، والتجبُّر تراه في أدنى دركاته ، لذلك الإنسان يعلو ويهبط ، ويكبُر ويصغر ، يرتفع ويسقط ، بالإيمان ترتفع ، بالإعراض عن الله تسقط ، بمعرفة القرآن ترقى ، بالبعد عن كتاب الله تسقط ..
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾
 
فرعون وآله في عذاب القبر غدوًّا وعشيا :
 
     الله سبحانه في آيات أخرى قال عنهم:
 
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) ﴾
(سورة غافر)
       هذا هو البرزخ ، لقد مضت ستة آلاف سنة بيننا وبين فرعون ، اضربها بثلاثمائة وخمسة وستين يومًا ، ضرب اثنين ـ غدواً وعشياً ـ والذل والهوان إلى الأمام.
﴿ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46) ﴾
       أما المؤمن وهو في قبره يغدو عليه قبرُه روضةٍ من رياض الجِنان .
      إن شاء الله في الدرس القادم ننتقل إلى الآيات التالية :
﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39)مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب