سورة الصافات (037)
الدرس (12)
تفسير الآيات: (133 ـ 148)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني عشر من سورة الصَّافَّات ، ومع الآية الثانية والثلاثين بعد المئة .
﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ
إرسالُ الرسلِ من رحمة الله بعباده :
من للتبعيض ، والرسل كثيرون ، منهم من قَصَّ الله علينا ، ومنهم من لم يقصص ، وإن دل إرسال الرُسل على شيء فإنما يدل على رحمة الله جلَّ جلاله ، على وعلى حرصه على هداية خلقه ، وعلى أن الخلق كلَّهم مطلوبون للهداية ، العقيدة الصحيحة أن الله عزَّ وجل يريد كل خلقه ، كل الخلق خُلقوا للهداية ، خلقوا للسعادة ، قال تعالى :
﴿ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾
قال تعالى:
﴿ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
(سورة هود : من الآية 119)
الخلق جميعاً مطلوبون ، مدعوون لمعرفة الله ، مطالبون بما فرض الله عز وجل ، لذلك كان إرسال الرُسُل .
﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴾
إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ
قد تلاحظون أن عرض هذه القصة في هذه السورة جاء بشكلٍ مختصرٍ جداً ، وربما لو كان هناك دراسات قرآنية في هذا الموضوع ، أي أن ندرس القصص التي تكررت ، في كل مرةٍ ذكرت فيها ، كانت المعالجة من زاويةٍ معينة ، فربنا جل جلاله في هذه القصة عرضها عرضاً سريعاً ، في آيات كثيرة عرضها عرضاً مُفَصَّلاً .
على كلٍ :
﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴾
1 ـ الهلاك والنجاة لهما قانون وسببٌ :
إذاً الهلاك والنجاة لهما قانون ، المؤمن يعتقد هذا ، أما غير المؤمن فيريد أن تكون عشوائية ، يريد أن يبن لك القضية ليست بالعمل ولا بالاستقامة ، ولكن الحظ والنصيب ، فكل من يطرح لك هذا الطرح ؛ قضية حظ، قضية نصيب ، قضية بلاء عام ، البلاء يعم ، الرحمة خاصة ، هذا الطرح غير قرآني ، أما ربنا عز وجل فبيّن أن الهلاك بسبب ، وأن النجاة بسبب .
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117) ﴾
(سورة هود)
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾
(سورة الكهف : من الآية 59)
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾
(سورة الإسراء : من الآية 16)
بالخير والصلاح والهدى.
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا(16) ﴾
(سورة الإسراء : الآية 16)
تتبع آيات الإهلاك في القرآن الكريم تجدها كلها تربط الهلاك بالمعصية ، الهلاك بالظُلم ، الهلاك بالتكذيب ، الهلاك بالانحراف ، الهلاك بالعدوان ، الهلاك بالبغي والطغيان ، ما من هلاكٍ إلا وله سبب، وما من نجاةٍ إلا ولها سبب ، وإذا ظهر السبب بَطَلَ العجب ، فنحن نريد أن نقرأ القرآن قراءةً واعية ، نريد أن نستنبط منه القوانين .
أقول لكم دائماً : إن القصص في القرآن الكريم ليست مقصودةً لذاتها ، المقصود أن نستنبط منها سنناً وقوانين وقواعد كُلِّيَّة ، تفيدنا في حياتنا اليومية .
فهنا :
﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
2 ـ الخلق كلهم مدعوون للهدى :
والرسالة تدل على رحمة الله ، تدل على لطف الله عزَّ وجل قبل أن يأتي بالعذاب ، تدل على أن الخلق كلهم مدعوون للهدى ، وأنه ما خلق مخلوقاً إلا ليسعده ، فإذا شقي المخلوق فباختياره.
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3) ﴾
(سورة الإنسان )
﴿ وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴾
دائماً يجب أن تؤمن أن النجاة هي ثمن الهُدى ، الهدى والاستقامة من ثمارها اليانعة في الدنيا النجاة ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
في أكثر آيات الهلاك يأتي التعقيب :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
هذا قانون ، فأنت لو وُجِدتَ في زمنٍ صعب ، في زمن الفِتَن ، في زمن الكوارث ، في زمن الجوائح ، في زمن المُعالجات الإلهية ، بإمكانك أن تنجو من عذاب الله إذا اتَّبعت منهج الله عز وجل ، فأريد أن أبيِّن لكم ، أن كل إنسان داخله القلق والخوف من مصيبة وجائحةٍ عامة ، من شبح مصيبةٍ مخيفة ، بإمكانه أن يَعُدَّ أن طاعة الله عز وجل سبيلٌ للنجاة ..
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
3 ـ أهل الإنسان هم الذين اتبعوه :
والحقيقة أن أهلَك هم الذين اتبعوك ، الأهل فيما يبدو للناس الأقارب ، لكن قال : يا نوح إنه ليس من أهلك ، إنه عمل غير صالح ، فمن أهلك أنت ؟ أهلك المؤمنون ، فمن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من أهله ، لهذا ورد في السنة :
((أنا جد كل تقي )) .
[كشف الخفاء]
ورد أيضاً:
((سلمان منا آل البيت )) .
[ورد في الأثر]
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) ﴾
(سورة المسد)
عم النبي في القرآن الكريم :
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) ﴾
(سورة المسد)
((سلمان منا آل البيت )) .
كلكم يذكر قصة سيدنا عمر عندما وقف أبو سفيان ببابه، طبعاً أبو سفيان أسلم ، نقول عنه : رضي الله عنه ، وقد حارب النبيَّ عشرين عاماً ، وقف ببابه ساعاتٍ طويلة فلم يُؤذَن له ، وبلال وصهيب يدخلان بلا استئذان ، فلما دخل على عمر عاتبه ، وقال: يا أمير المؤمنين ، زعيم قريش يقف ببابك ساعاتٍ طويلة ، وصهيبٌ وبلال يدخلان ويخرجان بلا استئذان ؟ "، قال : << يا أبا سفيان ، أنت مثلهما ؟ >> .
4 ـ الناس فريقان :
إذاً : لا انتماءات في الإسلام ، لا يوجد إلا انتماء واحد : الخلق كلهم عباد الله ، الله ربهم ، وهم عباده ، يتفاضلون بالعافية ، ويدركون ما عند الله بالطاعة ، ليس بين الله وبين عباده قرابة ، إلا طاعتهم له .
هذه المعاني مريحة جداً ، هذه المعاني تحفز الهمم ، هذه المعاني تلغي كل فارق ، كل منبت ، فلا طبقية ، ولا عِرقية ، ولا أي شيء آخر ، فالانتماءات البشرية ، انتماءاتٌ كلها جاهلية .
((فَالنَّاسُ رَجُلانِ : بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ )) .
[من سنن الترمذي عن ابن عمر]
تقسيم النبي الكريم ، الناس رجلان مؤمنٌ وكافر ، عالم وجاهل ، محسنٌ ومسيء ، مقبلٌ ومُعرض ، منضبطٌ ومتفلت ، ملتزم وغير ملتزم ، مخلصٌ وخائن.
هناك زمرتان ؛ المؤمنون صفاتهم كلها كاملة ، والكفار والمنافقون صفاتهم كلها خسيسة ، أي انتماءٍ آخر لا قيمة له ، ولا شأن له عند الله عز وجل .
((رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه ، لو أقسم على الله لأبره )) .
[الترمذي]
روي أن امرأةً كانت تقُم مسجد رسول الله ، تنظفه ، وقد توفيتفلما سأل عنها النبي قالوا : توفيت يا رسول الله قال : هلا أعلمتموني ؟ فسكتوا ، فأصحابه رأوا من هوانها على الناس أنها أقلُّ من أن يخبر النبي بموتها ، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام ، وذهب إلى قبرها ، وصلى عند قبرها واستغفر لها ..
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ :
(( أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ ، أَوْ شَابًّا ، فَفَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَ عَنْهَا ، أَوْ عَنْهُ ، فَقَالُوا : مَاتَ ، قَالَ : أَفَلا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي
؟ قَالَ : فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا ، أَوْ أَمْرَهُ ، فَقَالَ : دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ ، فَدَلُّوهُ ، فَصَلَّى عَلَيْهَا ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا ، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ )) .
[صحيح مسلم]
هذا هو الدين ، الخلق كلهم عيال الله ، يتفاضلون بالطاعة فقط ..
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
(سورة الحجرات : من الآية 13)
فأنت إما أنك مؤمن ، وإما أنك عنصري ، تعتز بأسرتك ، تعتز بانتماءاتك ، تعتز بجماعتك ، تعتز بلونك ، تعتز بمالك ، عنصري أما إذا اعتززت بالله عز وجل وبطاعتك له فأنت مؤمن ، لذلك ضعْ تحت قدمك كل الانتماءات التي اخترعها البشر وهي انتماءاتٌ جاهلية .
سيدنا أبو بكر اشترى بلالاً من سيده ، قال سيده أمية بن خلف : "والله لو دفعت به درهماً لبعتكه " ، يريد أن يحقِّرَهُ ، قال له الصديق :<< والله لو طلبت به مائة ألفٍ لأعطيتكها >> ، يريد أن يُعِزَّهُ ، فلما اشتراه من سيده وضع يده تحت إبطه ، فهذه لها معنى كبير جداً ، سيدنا الصديق سيد قريش وبلال عبد ، أبى الصدّيق إلا أن يضع يده تحت إبطه ليرفع من مكانته ، وقال : << هذا أخي حقاً >> .
حتى عندما تولىسيدنا الصديق الخلافة قال له: << يا بلال أذِّن >> ، قال : " والله ما كنت لأؤذّن لأحدٍ بعد رسول الله " ، مستحيل ، قال : " من يؤذن لنا ؟ " ، فقال له : " يا خليفة رسول الله ، إن كنت أعتقتني لك فلك ما تريد ، وإن كنت أعتقتني لله فدعني وما أريد " ، قال : " والله أعتقتك لله " .
فالإسلام لا ينمو إلا في مجتمع مسلم ، نحن نريد أن نعيش هذه القيَم ، أن نُلغي كل التفاوت ، كل الانتماءات غير الدينية ، فلان من أسرة فلانية ، فلان له شأن ، له مكانة ..
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
(سورة الحجرات : من الآية 13)
والله مرة قال لي أحد الإخوان الكرام حج بيت الله الحرام ، ولما عاد قال لي : أنا بهذا الحج ليس في الدنيا من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني ، هذا هو المقياس ، كلنا لآدم ، وآدم من تراب ، الناس كلهم سواسية كأسنان المشط ، يتفاضلون بطاعتهم لله عز وجل ، فلذلك هذه المعاني تُلغي الكبر ، تلغي الاعتزاز بالنسب ، من أنت ؟
لا تقل أصلي وفصلي أبداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
***
((رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه ، لو أقسم على الله لأبره )) .
[تخريج أحاديث الإحياء]
إذاً : هذا هو التقسيمالصحيح ؛ مؤمن وغير مؤمن ، المؤمن يعتز بالله ، منضبطٌ بمنهج الله ، أساس عمله العطاء والإحسان ، أساس منطلقه خدمة الخلق ، إرضاء للحق ، غير المؤمن عقيدته غير صحيحة ، زائغة ، متعلقٌ بأوهام ، متفلتٌ من منهج الله عز وجل ، أساس حياته الأخذ لا العطاء ، يريد من الناس أن يقدموا له كل شيء ؛ أما المؤمن فيريد أن يقدِّم للناس كل شيء ، والفرق كبير .
﴿ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ﴾
5 ـ اطمئنّوا فإن النجاة تشمل المؤمنين :
اطمئنوا ، فهذه الآية مطمئنة ، أنت بيدك النجاة ، نجاتك من كل شيءٍ مخيف بيدك ..
أطع أمرنا نرفع لأجلك حُجبنا فإنا منحنا بالرضا من أحبنا
ولــذ بحمانا واحـتمِ بجنابنا لنحميك مما فيه أشرار خلقنا
***
في الحياة مخاطر لا يحصيها إلا الله ، مخاطر ، منزلقات ، ورطات ، أمراض ، خصومات في قهر بشري ، هذه كلها بيد الله عز وجل ، اسمع الآية:
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 65)
انظر إلى شمول الآية ، من فوقك أي صواعق ، وصواريخ أيضاً ، قصف ..
﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 65)
ألغام ، زلزال ، براكين ..
﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 65)
كله بيد الله عز وجل ، سبيل النجاة الاستقامة على أمر الله.
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
فلذلك النجاة مطمح لكل إنسان ، أن ينجو من بلاءٍ عام ، أن ينجو من كارثةٍ محققة ، أن ينجو من جوعٍ مُميت ، أن ينجو من قهرٍ لا يحتمل ، أن ينجو من مرضٍ عُضال ، بطاعتك لله عز وجل ، يجب أن تعامل مع الله بصدقٍ وإخلاص .
﴿ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(134)إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴾
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ
1 ـ ليس مِن صالحِ المرأة تشجيع الانحراف :
امرأته ، ليس من صالح امرأته أن تُشَجِّعَ على الشذوذ الذي تلبَّس به قومه ، كل أنثى ليس من صالحها أن ترحِّببهذا الانحراف الأخلاقي ، ولكن لأنها أحبت قومها ، ودافعت عنهم ، وانضمت إليهم ، استحقت العذاب معهم ، لهذا ورد في السنة:
((كل نفس تحشر على هواها ، فمن هوي الكفرة حشر معهم ، ولا ينفعه عمله شيئاً )) .
[ ورد في الأثر ]
لذلك العلامة الطيبة أن يكون قلبك متعلقاً بالمؤمنين ، أن تكون في سبيل المؤمنين ، ربنا عز وجل قال:
﴿ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ﴾
(سورة النساء : من الآية 115)
طوبى لمن وسعته السُنَّة ، ولم تستهوه البدعة ، والبدع كثيرة جداً ، هذه البدع كلها تُهْلِك الإنسان.
﴿ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ﴾
2 ـ مِن مظاهِر حكمة الله تعالى :
ربنا عزَّ وجل في القرآن الكريم جعل نبياً عظيماً زوجته كافرة ، وجعل كافراً كبيراً زوجته مؤمنة ..
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10) ﴾
(سورة التحريم)
معنى ذلك أن الإنسان محاسب وحده ، الإنسان مخيَّر ، فهذه امرأة لوط لم تؤمن فاستحقت الهلاك ، ولم ينفعها أن زوجها نبيٌ مُرسل ، وهذه امرأة فرعون استحقت النجاة ، ولم يمنع من نجاتها أن زوجها طاغيةٌ جبَّار..
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11) ﴾
(سورة التحريم)
هاتان الآيتان فيهما مفارقتان عجيبتان ، الهدف منهما أن يبين الله لنا أن المرأة كائنٌ مستقلٌ في اختياره عن زوجها ، فتكريمٌ لها جعلها الله كائناً مستقلاً في اختياره عن الآخرين ، وهذا من أبرز ما يظهر كيانها في الدين ، إن آمنت نجت ، ولو كان زوجها فرعون ، وإن كفرت هلكت ، ولو كان زوجها لوطًا النبي .
3 ـ المرأة مكلفةٌ ، ومشرفةٌ :
أتمنى أن أوضِّح لكم هذه الحقيقة : المرأة والرجل متساويان تساوياً مُطلقاً في التكليف وفي التشريف ، فهي مكلفةٌ ، ومشرفةٌ ..
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ﴾
( سورة النحل : من الآية 97 )
﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 195)
﴿ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 35 )
فهذه الآيات تبين أن شأن المرأة كشأن الرجل تماماً ، لكن المرأة لها صفاتٌ جسميةٌ وعقليةٌ ونفسيةٌ هي فيها كمالٌ لمهمتها التي خُلقت من أجلها ، وللرجل صفاتٌ جسميةٌ وعقليةٌ ونفسيةٌ واجتماعية هي في حقه كمالٌ لما خلق له ، صفات المرأة كاملة فيما يتعلق بمهمتها في الحياة ، وصفات الرجل كاملةٌ فيما يتعلق بمهمته في الحياة ، لذلك قال تعالى :
﴿ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 36 )
إنهما يتكاملان ، إذا افترقا في الصفات فهو افتراق تكامل لا افتراق تضاد.
﴿ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ﴾
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
وهذه نتيجة كل منحرفٍ عن طريق الحق ، آخرته الهلاك والدمار، كنت أقول دائماً : إن قضية الإيمان ليست أن تؤمن أو لا تؤمن ، أنت لست مخيراً بهذا ، لست مخيراً بأن تؤمن أو لا تؤمن ، هذا اختيارٌ باطل ، أنت مخير متى تؤمن ، لأنه لابد من أن تؤمن ، ولكن بعد فوات الأوان .
﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ ﴾
أعظمُ حدثٍ عند الإنسان حدثُ النهاية :
والإنسان توفيقه وعقله في أن يتوقَّع الشيء قبل أن يصل إليه ، فدائما الإنسان ضعيف التفكير يعيش لحظته ، الأضعف يعيش ماضيه ، الأعقل يعيش مستقبله ، دائماً .
هناك قصة معروفة أرويها لكم كثيراً عن سمكات ثلاث ، حينما مر صيَّادان تواعدا أن يرجعا ليصطادا ما في هذا الغدير من السمك ، قال : في الغدير ثلاث سمكات ؛ كيسةٌ ـ عاقلة ـ وأكيس منها ـ أعقل منها ـ وعاجزة ـ أي بليدة ـ أما أكيسهُن فإنها ارتابت ، وتخوَّفت ، وقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ـ اسألني : مَن هو العاقل ؟ هو الذي يحتاط للأمور قبل وقوعها ، فأخطر حدث في حياتك ؟ انتهاء الحياة ؛ هناك دراسة ، وزواج ، وتجارة ، وتفليس شركة ، وتأسيس شركة ، وحَل شركة ، وتطليق امرأة ، وبيع بيت ، وشراء بيت ، وشراء مركبة ، وبيع مركبة ، وسفر ، ووظيفة ، هناك أحداث كثيرة في حياتك ، ولكن أخطر حدث فيها نهاية الحياة ، لذلك قال تعالى :
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾
(سورة الملك : من الآية 2)
علماء التفسير قالوا : قدَّم الله الموت على الحياة ، لأن حدث الموت أخطر من حدث الحياة ، أنت حينما ولدت هناك خياراتٌ كثيرة ، أما حينما يموت الإنسان فإما أن يموت مؤمناً فيستحق جنةً عرضها السماوات والأرض ، وإما أن يموت كافراً فيستحق ناراً لا يموت فيها ولا يحيا ، أبلغ وصف : لا يموت فيها ولا يحيا ، فالخيار إذاً أن تهيئ نفسك لحدثٍ لابد من أن يأتي ، وأخطر حدثٍ هو الموت ، وأعقل إنسان هو الذي يعمل لهذه الساعة .
أحياناً تجد النعي كُتب ، والأهل ذهبوا إلى المقبرة ليشتروا قبراً ، وقسم ذهب ليجري معاملات الدفن ، وقسم ذهب ليهيئ ما يحتاجه الأهل في هذه المناسبة الحزينة ، لكن هل فكر أحدٌ بهذا الميت ماذا يعاني الآن ؟ كيف سيحاسب ؟ كيف سيكون قبره ؟ هل هو روضة من رياض الجنة ، أم حفرة من حفر النيران ؟ فهذه مشكلة كبيرة جداً .
فهذه السمكة قالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، ثم إنها لم تعرج على شيء حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء ، من النهر إلى الغدير فنجت .
الأقل عقلاً مكثت في مكانها حتى عادا الصيَّادان ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُد ـ طبعاً الصيادان سدوا الفتحة ـ قالت : فرَّطت ، وهذه عاقبة التفريط ، غير أن العاقلَ لا يقنط من منافع الرأي ، ثم أنها تماوتت ، فطفت على وجه الماء ، أخذها الصياد ، وضعها على الأرض بين النهر والغدير فنجت ـ ولكن بعد أن تحطمت أعصابها ، وغامرت ، وقامرت ، وكان يمكن أن لا تنجو .
وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدت .
فالناس ثلاثة ، كيّس جداً ، وهو الذي يعمل لما بعد الموت ، أقلّ عقلاً هو الذي يؤخر التوبة ، أما عند المُلِمَّة فيتحرك ، هذا يتحرك عند المُلمات ، عند المصيبة ، يتوب ، من جامع لجامع ، يا رب تبت إليك ، تأخرت ، أما العاجز فلا قبل المصيبة ولا بعد المصيبة ، لذلك من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظةً فمصيبته في نفسه أكبر ، أي أن أكبر مصيبة ألا تتأثر بالمصيبة ، معنى ذلك أن الحس ميت ، وفيه تلبد ، وبُعد ، وعمى ، وصمم .
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ(18) ﴾
(سورة البقرة)
أقول لكم : إذا كان أحدنا ضيَّق الله عليه ، شدد عليه ، ثم سأل نفسه : لماذا أنا كذلك ؟ الله عز وجل يقول:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾
(سورة النساء : من الآية 147)
معنى هذا أن العذاب هادف ، فما الخلل في حياتي ؟ ما التقصير ؟ ما الانحراف ؟ هذا التفكير سليم ؟ إذا جاءت مصيبة ، وسألت نفسك : لماذا؟ فالله عز وجل أرحم الراحمين ، هذا السؤال جيد ، وهذا السؤال تفكير سليم ، وإذا اتعظت بشدة ساقها الله إليك ، انقلبت هذه الشدة نعمة ، لذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى :
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
(سورة لقمان : من الآية 20)
قالوا : " المصائب هي النعم الباطنة " .
﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ(137)وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
الحكمة من بقاء آثار الأقوام السابقة :
الله عز وجل سمح لأقوامٍ أن يشيدوا أبنيةً شاهقة ، وشاءت حكمة الله أن تبقى هذه الأبنية ، أو أن تبقى أطلالها أو آثارها ، ولكن مشيئة الله شاءت ذلك لنتَّعظ ، فإذا بالناس يتجهون اتجاهاً آخر ؛ يعدونها آثاراً سياحية، يعتنون بها ، يجلبون بها العُملة الصعبة ، يقيمون حولها المنتزَّهات والمقاصف ، يتباهون بها والأمر على عكس ذلك ، أراد الله عز وجل من هذه الآثار الباقية أن يعظنا أن هؤلاء القوم كانوا أقوياء ، وكانوا أشدَّاء ، وكانوا متفوقين ، ومع ذلك حينما انحرفوا دمَّرهم الله عز وجل ، أفلا تعقلون ؟! فإذا مررت بآثارٍ لأقوامٍ سَبَقَتْ ينبغي أن تتعظ .
﴿ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ(136)وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ(137)وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
وانتقل القرآن إلى قصةٍ ثانية ، هي قصة سيدنا يونس:
﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ
العوام يقولون : يونِس ، هناك ثلاث كلمات بالضم لا بالكسر ، يونُس ، ويوسُف ، وتونُس ، أما العوام يقولون : يونِس ، ويوسِف ، أما هي تنطق : يونُس ،ويوسُف.
﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ ﴾
القصد من القصة المغزى لا التفاصيل :
قصة سيدنا يونس هذا النبي الكريم دقيقة جداً ، فيها تفصيلات ، وكتب التفاسير مشحونةٌ بالتفاصيل حول هذه القصة ، ولكن بادئ ذي بَدء أقول لكم : التفاصيل والجُزئيات في القصة إما أن تكون في خدمة الهدف العام ، وإما أن تكون عبئاً عليها ، فهذه القصة وردت بهذه التفاصيل أو هذه الكُلِّيات ، ونحن لا ندخل غُصنا في تفاصيل هذه القصة ، ونقرؤها في كتب بني إسرائيل ، ونأخذ الأسماء وبعض التفاصيل ، ليس هذا هو قصد الله عز وجل ، قصد الله عز وجل أن نأخذ المَغزى ، القصة لها مغزى ، ولها تفاصيل ، فمن قرأ التفاصيل وغاب عنه المغزى كأنه ما قرأ القصة .
ومن قرأ القصة ، وعرف المغزى ، وغابت عنه التفاصيل فهو الذي قرأها ، وهو الذي استفاد منها.
نحن إذا قرأنا قصةً يجب أن نبحث عن مغزاها ، لأن مغزاها هو محورها ، مغزاها هو هدف الذي رواها لنا ، الله عز وجل لماذا ذَكَرَ فيقرآنه الكريم هذه القصص ؟ الهدف هو المغزى .
نحن لا تعنينا التفاصيل كيف ركب في السفينة ، وكيف وقع في البحر ، وقع باختياره ، ألقى بنفسه ، ألقاه رُكَّاب السفينة ، تفاصيل دقيقة جداً وردت في كتب التفسير ، لا يعنينا إلا شيء واحد ، هو : أن هذا النبي العظيم أرسله الله إلى قوم نَيْنَوَى في الموصل ، هكذا أجمعت كُتب التفسير ، دعا قومه ليلاً ونهاراً ، سراً إعلاناً ، لم يستجيبوا له ، فضاق بهم ذرعاً ، كأنه شعر أن الله عز وجل لن يقدِّر علي يديه هداهم ، فتركهم مغاضباً ، هذا التَرْكُ يحتاج إلى معالجةٍ من الله عز وجل :
﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(139)إِذْ أَبَقَ ﴾
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
1 ـ لا ينبغي للداعية أن يسأم من قومه إذا لم يستجيبوا له :
أبق أي أبى الانصياع لمهمته ، مهمته أن يبقى معهم ، هذا تعليم لنا ، فالإنسان إذا دعا إلى الله وما رأى استجابة ، لا ينبغي أن يسأم ، لا ينبغي أن يمل ، لا ينبغي أن يتضَجَّر ، لا ينبغي أن يقول : هؤلاء ليس فيهم خير سأتركهم ، ما لي ولهم ، لا شأن لهم عندي ، هذا موقف لا يليقُ بالدعاة إلى الله عزَّ وجل ، الدعاة إلى الله يحتاجون إلى نفَسٍ طويل ، وإلى صبرٍ شديد ، فسيدنا يونس :
﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾
2 ـ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ :
الفُلك هي السفينة ، المشحون المليئة بالركاب ، فقد ضاقت نفسه وسئم دعوة قومه ، فالحقيقة من ذاق عرف ، ما من شيءٍ أصعب في حياة الإنسان من أن تدعو إنساناً ، وهو معرض عنك ، تدعوه ، وهو مكذبٌ لك ، تدعوه وهو منتقدٌ لك ، تدعوه ، وهو يدير لك ظهره ، تدعوه ، وهو يسخر منك ، شيء صعب ، فأصعب عمل أن تُعَلِّم أناسا لا يحبون العلم ، أصعب عمل أن تدعو أُناساً أنت في وادٍ ، وهم في وادٍ آخر ، أصعبٍ شيء في الحياة أن تقبل على شخصٍ لا يقبل عليك ، أن تهتم بإنسان لا يهتم بك ، أن تكلِّم إنساناً لا يُصغي لك ، هذا شيء صعب جداً ، وشيء مؤلم جداً ، وشيء يدعو للسأم والضَجَر ، ومع ذلك النبي عليه أن يتحمل ، لأن الأجر كبير جداً ، الأجر عظيم ، هو يقرض الله قرضاً حسناً ، فسيدنا يونس مر بتجربة أنه ضجر من قومه ، وسئم صدَّهم ، وتكذيبهم ، وسخريتهم ، وعدم استجابتهم ، فتركهم ، وتوجَّه إلى مكان آخر .
﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾
فهو لم يؤمر أن يتركهم ، هو تركهم ، لم يؤمر أن يتركهم ، النبي أُمر بالهجرة أمراً ، كل حركات النبي علي الصلاة والسلام كانت بأمرٍ من الله عز وجل ، هو غادر قومه دون أن يأخذ إذناً من الله عز وجل ، دون أن يأمره الله بمغادرتهم .
﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾
الفُلك مليء بالركاب .
﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ ﴾
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ
هناك روايات كثيرة جداً : أنه هبت عواصف عاتية كادت أن تغرق هذا المركب ، فاستهموا فيمن يلقي بنفسه تخفيفاً ، وهذه الرواية ردَّها بعض المفسرين ، أو أنه قال : أنا السبب ، أو أنا المذنب ، فأريد أن أترككم حتى ينجو القارب ، هناك رواياتٌ كثيرة ، الذي يعنينا أنه شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يقع هذا النبي الكريم في البحر ، ألقى بنفسه ، ألقوه ، اقترعوا على من يكون فداءً لهذه السفينة ، هو ظن أنه هو المذنب ، رواياتٌ كثيرة ، لكن الشيء الثابت أنه ساهم بقرعةٍ ، فوقعت عليه ، فألقى نفسه في اليَم ، فكان من المدحضين ، أي حجته داحضة ، كان مغلوباً على أمره ..
﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
1 ـ من عظُمت عنده مشكلتُه فليذكر مصيبة سيدنا يونس :
هذه القصة أرويها لكم كثيراً : إذا ضاقت على الإنسان الدنيا ، بمشكلة بعمله ، بصحته ، ببيته ، بأسرته ، أعتقد ما من مشكلة أصعب من أن يجد نفسه في بطن الحوت ، مهما ضخَّم مشكلته ، لا يجد عملاً ودخلاً ، الزواج ميئوس منه ، زوجته سيئة جداً ، إن طلقها عنده منها أولاد ، يخاف ضياعها ، ولا يتحمل معاشرتها إن أبقاها ، وهو يظن أن هذه أكبر مشكلة في العالم .
لكن سيدنا يونس رأى نفسه فجأةً في بطن الحوت ، في ظلمة بطن الحوت ، الحوت معروف ، الحوت تقريباً يزن حوالي مائة وخمسين طناً ، الحوت الأزرق ، فيه خمسون طنًّا من الشحم ، وخمسون طنًّا من اللحم ، وتسعون برميلا زيتًا ، أرقامه مذهلة ، ومرة جرّ حوت سفينةً ثمانية وأربعين ساعةً ، وهي تُعمل محركاتها بعكس اتجاهه ، ولم تفلح في الخلاص منه ، سفينة ضخمة ، ثمة غرفة ، فجأةً رأى نفسه في بطن الحوت .
كلما ضاقت بالإنسان الأمور ليذكر هذه القصة ، مهما بلغت المصيبة ليست أشد من أن تكون في بطن الحوت ، في ظلمة بطن الحوت ، وفي ظلمة البحر ، وفي ظلمة الليل ، وإذا أراد الإنسان أن يعرف ما معنى البحر في الليل ، ليركب من طرطوس لجزيرة أرواد في الليل فقط ، البحر في الليل موحش جداً ، ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت ، ولكن دائماً يجب أن تشعر أن الله عز وجل لما يعالج إنساناً فمثله ـ ولله المثل الأعلى ـ مثل الأب يمسك ابنه من يده ، ويقربه من الساقية ، يخاف الابن ، لكن رحمة الأب ، وحرص الأب على سلامة ابنه ، هي أشد بكثير من الخطر الذي يراه ماثلاً أمامه ، ربنا يعالجنا جميعاً ، ولكن لا يتخلى عنا ، يعالجنا بالمرض ، ثم يشفينا ، يعالجنا بالفقر ، ثم يغنينا ، بالخوف ، ثم يطمئننا ، فإذا وقع الإنسان بحرج ، بمشكلة فله في هذا النبي الكريم أسوةٌ حسنة ..
﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ(141)فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾
2 ـ معنى : وَهُوَ مُلِيمٌ
أي أنه أتى بعملٍ يلام عليه ، لأنه غادر قومه قبل أن يأذن الله له ، ضجر منهم .
أحياناً الواحد يتكلَّم مع شخص كلمتين فينفر منه ، ويبتعد عنه ، عيشة الفهيم مع البهيم داء دفين،لا يتحمل .
على كلٍ ، لا ينبغي أن نشغل بتفاصيل وقوعه في البحر ، شاءت مشيئة الله أن يقع في البحر ، قرعة ، بغير قرعة ، ألقوه ، ألقى نفسه ، مهما شئتم هذه التفاصيل لا تعنينا ، يعنينا أن الله أراد له أن يقع في البحر ، وإذا شاء الله شيئاً فلابُدَّ من أن يقع ، كل شيءٍ وقع أراده الله ، وكل شيءٍ أراده الله وقع .
إذا كانت وجبة الحوت المعتدلة أربعة أطنان ، فماذا يفعل سيدنا يونس معه ، فهو كالسمسمة بين أسنانك ، لقمة ، بل أقلّ من لقمة ، إذا رضعته الواحدة ثلاثمائة كيلو ، يحتاج ثلاثة رضعات في اليوم ، أنثىالحوت ترضع وليدها ما يقرب من طن حليب يومياً ، فلذلك الله قال :
﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾
أي أتى بعملٍ يُلام عليه ، الله عزَّ وجل وصف النبي عليه الصلاة والسلام فقال :
﴿ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ﴾
(سورة الذاريات : من الآية 54)
لست ملوماً عندنا يا محمد ، ولست ملوماًعند الخَلق ، ولا عند نفسك .
الواحد منا طوال حياته يلوم نفسه : لماذا قلت ذلك ؟ ، لماذا فعلت كذا ، لمَ لمْ أعطه ؟ لمَ ضيَّقت عليه ؟ لمَ تأخَّرت ؟ كل حياته لوم ، والله أثنى على النفس اللوامة ، أثنى عليها فقال :
﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1)وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2) ﴾
(سورة القيامة)
ولكن النبي عليه الصلاة والسلام في كل حياته ما أتى بعملٍ يُلام عليه ، الأنبياء مراتب ..
﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾
أهميةُ المعالجة الربانية :
لكن هناك نقطة دقيقة جداً ، فالمؤمن لا تضره معصية ، بمعنى أنه إذا خالف الأولى وعاتبه الله ، عاد إلى الله مباشرةً ، فهو كثير التوبة ، كثير الأوبة ، أوَّاب ، توَّاب ، وقَّاف عند كتاب الله ، كل ابن آدم خطَّاء ، وخير الخطائين التوابون ، فالنبي وحده معصوم ، أما أمته فخطاءة ؛ لو أن الإنسان غلط بكلمة ، بتصرف ، بنظرة ، فباب التوبة مفتوح ، والإنسان المؤمن كثير الأوبة ، كثير التوبة ، كثير الرجوع ، والله عزَّ وجل لا يتخلى عن المؤمن ، وإذا عالجك الله عزَّ وجل فهذا من علو مقامك عند الله ، لأن من الناس من هو خارج الاهتمام الإلهي ..
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(36) ﴾
(سورة هود)
حدثني أخ له قريبان ، أصيب قريب بمرض عُضال ، جئ بطبيبٍ صديق العائلة ، فهذا الطبيب كلما سأله أهل المريض ماذا يأكل ؟ يأكل ما يشاء ، هل نعطيه هذا الدواء ؟ أعطوه أي دواء يحبه ، تساهل عجيب ، يبدو أن الطبيب كان يائساً من شفائه ، خرج هذا المريض عن دائرة الشفاء ، فلذلك كل شيء مباحٌ لهذا المريض .
هذا الأخ الكريم ، الطبيب نفسه ، مع مريضٍ آخر من الأسرة ، أصيب بمرض في أمعائه ، فرآه متشدداً غاية التشدد ، أعطاه قائمة بالممنوعات ، والمسموحات بمقادير محددة ، والأدوية بمواقيت ، زارهم مرة ثانية ، خالفوا التعليمات قليلاً ، أقام الدنيا ولم يقعدها ـ الطبيب نفسه ـ لماذا كل هذا التساهل مع الأول ، وكل هذا التشدد مع الثاني ؟ الثاني ضمن دائرة الشفاء والعناية المشددة .
فأحدنا أيها الإخوة ، إن رأى أن الله جل جلاله يعالجه ، ويتابعه ، ويحاسبه حساباً دقيقاً ليفرح ، هذا دليل أن الله عزَّ وجل يريد أن يتوب عليه ، يريد أن يطهِّره ، هذا الصحابي الذي سأل النبي أن يدعو له ، قال :
" اللهم ارحمه " ، فقال الله عز وجل : " كيف أرحمه مما أنا به أرحمه ، وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئةٍ كان عملها سقماً في جسده ، أو إقتاراً في رزقه ، أو مصيبةً في ماله أو ولده ، حتى أبلغ منه مثل الذر ، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت ، حتى يلقاني كيوم ولدته أمه " .
إذا رأينا ربنا جلَّ جلاله يتابعنا ، ويضيِّق علينا ، ويحاسبنا على كل نظرةٍ ، وعلى كل خطرةٍ ، وعلى كل زلةٍ ، فهذا من نعم الله علينا ، معنى ذلك أننا مطلوبون ، وأننا ضمن العناية الإلهية ، أما إذا أعطانا الدنيا ، ولم يعالجنا ، فهذه إشارةٌ لا تُرضي إطلاقاً ، إذا رأيت الله يتابع نعمه عليك ، وأنت تعصيه فاحذره .
سيدنا يونس نبيٌ كريم ، نبيٌ عظيم ، الله عزَّ وجل يحبه ، لكن ترك الأولى ، فجاء العلاج ، ثم اجتباه ..
﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142)فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ ﴾
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
نادى في الظلمات .
﴿ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) ﴾
(سورة الأنبياء)
قالوا : الثناء على الله دعاء ، والدليل هذه الآية :
﴿ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) ﴾
اعترف بذنبه ، والمعترف بالذنب كمن لا ذنب له ، والثناء على الله دعاء ، أحياناً يكون شخص ، لك عنده حاجة ، إذا قلت له : أنت إنسان كريم ، أنت عظيم ، أنت رحيم ، هذه الأوصاف دعوةٌ مُبَطَّنَةٌ بالعطاء .
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ﴾
أنا وقعت بأمرك يا رب ، ارفض الجزئيات والتفاصيل ، شاءت حكمة الله أن يقع في البحر ، وأن يلتقمه الحوت ، وفي الظلمات تذكر الله عزَّ وجل .
بالمناسبة : المؤمن إذا وقع يذكر الله عز وجل ، أما غير المؤمن فلا يتذكر شيئاً ، يتذكر زيداً وعُبيداً ، ويهتف طالباً النجدة منهم ، لا تذكر إلا الله ، لأن الله عزَّ وجل معك ، يسمعك ، ويستجيب لك ، قال :
﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ(143)لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
وانتهى ..
﴿ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
الله عز وجل استجاب له ، وكشف عنه الغم ، والحوت ألقاه في البر ، نحن لا نعلم الكيفيَّة ..
﴿ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ﴾
أصابته التهابات في الجلد ، وجروح ، الله عزَّ وجل أنبت عليه شجرة كانت شفاءً له .
الشاهد هنا :
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا
﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)فَآمَنُوا ﴾
كلُّهم ..
﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾
فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
استنباطٌ مهمٌّ :
في الآية استنباط دقيق جداً ، إذا آمن الإنسان ، واستقام ، واصطلح مع الله عزَّ وجل ، فله بشارةبهذه الآية ، أنه يمتِّعه إلى حين ، إلى حين انقضاء أجله ، أي أن الله عز وجل يعالجك لفترة ، ويمتحنك لفترة ، ثم يعطيك لفترة .
2 ـ أطوار المعالجة :
حياة الإنسان فيها أطوار ثلاثة ، قبل أن يؤمن معالجات ، فإذا آمن ابتلاءات ، فإذا استقر إيمانه إكرام ، فترة المعالجة ، الفترة الثانية ابتلاء ، الثالثة إكرام ..
﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾
فلذلك إذا مر الإنسان بالطَور الأول لينتظر الثاني ، وإن مر بالطور الثاني فلينتظر الطور الثالث .
ففي حياتك فترة إكرام ، تستقر حياتك النفسية ، تشعر بالسعادة ، بالهدوء ، بالراحة ، هذه فترة الإكرام ، قبلها الامتحان ، قبلها المعالجة ، فإذا استجاب الإنسان إلى الله سريعاً تقصر المعالجة ، وإذا امتحنه مرةً ، وثانية ، وثالثة ، وكان في كل مرةٍ صادقاً ..
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 23)
تقصر أيضاً مدة الامتحان ، وتطول فترة الإكرام ، فالله عز وجل قال :
﴿ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴾
أي أبى البقاء عند قومه ، ضجر منهم ، ولم يؤمر بتركهم ، خالف الأولى ، فعالجه الله عز وجل ، ثم نجَّاه إلى البر ، ثم عالج جسمه ، ثم عاد كما كان ..
﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)فَآمَنُوا ﴾
به جميعاً ، واستجابوا له ..
﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾
أسعد إنسان هوالذي إذا دعا إلى الله استجاب الناس له ، وآمنوا بدعوته ، فكان سبباً لهدايتهم ، وهذا من إكرام الله له ، فأعظم عمل هو من صنعة الأنبياء أن تكون سبباً في هداية الخلق ، أن تكون سبباً في دلالة الخلق إلى الحق جل جلاله .
وفي درسٍ قادم إن شاء الله ننتقل إلى بقية الآيات في سورة الصافات .
المغزى من قصة يونس عليه السلام :
وقبل أن ننهي الدرس ، هذه القصة قصة يونس :
أول مغزى : أن كل الناس مدعون إلى الهدى ، وأن الله خلقهم جميعاً ليرحمهم وليسعدهم ، هذه أول نقطة .
الثاني : أن الإنسان إذا دعا إلى الله عليه أن يصبر ، وعليه أن يستمر ، وأن يثبت ، لأنه إذا تخلَّى عن دعوته أدَّبه الله عزَّ وجل .
الثالث : الإنسان يمر بمرحلة معالجة ، ومرحلة ابتلاء ، ومرحلة إكرام .
الرابع : أن الإنسان إذا أصابته مصيبة ليذكر مصيبة هذا النبي العظيم ، وقد وجد نفسه فجأة في بطن الحوت ، وكيف أن الله لا يتخلَّى عن المؤمنين إطلاقاً .
وتصوَّر هذا المثل : أب حمل ابنه من يده وقرَّبه من الماء ، فبكى ، ثم أعاده ، عملية إيقاظ ، عملية تنبيه ، عملية حَفْز ، فربنا عزَّ وجل يعالجنا جميعاً ، والمؤمن كما قلت : لا تضره معصية ، لأنه إذا عصى أو خالف أو قصَّر يذكر رحمة الله عز وجل ، فيتوب إليه ، الكافر معصيته ثابتة ، أما المؤمن فكثير التوبة ، يتوب منها فوراً ، وإذا آمنت ، واصطلحت مع الله ، واستقمت على أمره ، يُمَتِّعَكَ في الدنيا متاعاً إلى حين .
هناك آية أخرى تؤكِّد ذلك :
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(38) ﴾
(سورة البقرة)
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123) ﴾
(سورة طه)
﴿ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(36) ﴾
(سورة البقرة)
فهذه الدنيا على قصرها إذا اصطلحت مع الله ، جعلها الله لك متعةً ، وأسعدك فيها ، لأنك امتحنت فصبرت ، عولجت فاستجبت ، امتحنت فنجحت ، بقي الإكرام ، لهذا قال تعالى :
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4) ﴾
(سورة الشرح)
حتى المؤمن لما يصطلح مع الله ، ويمتحنه الله ، وينجح يرفع الله شأنه ، صار له شأن ؛ بين أهله ، بين عشيرته ، بين جيرانه ، بين زملائه ، له قيمة .
كل الذي أتمناه على الإخوة الأكارم أن تكون هذه القصص نبراساً لهم ، أن تكون مناراتٍ لهم في طريق الحياة ، فالمصيبة الذي ساقها يذهبها ، والذي قدَّرها يُقَدِّرَ محوها ، والذي أرسلها يصرفها عنك ، فالأمل كان بالمائة صفرا أن ينجو من بطن الحوت ؛ ولكنه نادى في الظلمات:
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ ﴾
(سورة الأنبياء)
وأروع ما في القصة:
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
فالكلام لنا كلنا ، كلنا معنيٌ بهذه الآية :
﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
(سورة الأنبياء)
فأنت اعتصم بالله ، واستعن به ، ولا تعصِ أمره ، ولا تترك الأولى .
أنا أعرف أشخاصاً عديدين كانت لهم دعوةٌ إلى الله ، زهدوا بها ، وآثروا الدنيا عليها ، فدمَّرهم الله عزَّ وجل ، والله أعرفهم بالأسماء ، له دعوة ، له مريدون ، له إخوان ، جاءته فرصة بارقة ، فترك الدعوة ، وآثر الدنيا عليها ، فذهبت دنياه عن آخرها ، التي آثرها على الدعوة إلى الله عزَّ وجل ، أيضاً هذه ملاحظة .
يكون الإنسان مقيماً ببلد ، له مجلس علم ، له إخوان ، له ترتيب ، وهو سبب لهداية سبعة أو ثمانية ، يأتيه عرض خارجي يترك رأساً ، فهؤلاء إخوانك ، وأنت تعلمهم ، تهذِّبهم، توجههم ، أنت سبب هدايتهم ، تركتهم ومشيت .
هذه القصة تعني كل واحد منا ، إذا أقامك الله في دعوةٍ إليه فلا تؤثر عليها الدنيا ، إذا أقامك الله في دعوةٍ ، ولو كان خمسة أشخاص فلا تؤثر عليها راتباً ضخماً ، ولا منصباً رفيعاً ، آثر مرضاة الله عزَّ وجل فتأتيك الدنيا وهي راغمة ، ولا تنسَ الحديث القدسي :
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين )) .
[كنز العمال عن جابر ]
أحياناً يستنبط من الإنسان تصرُّفات ربنا عز وجل ؛ أن الله عزَّ وجل لا يريد ذلك ، أقامك بدعوة ، أطلق لسانك ، دعا الناس إليك ، استفادوا منك ، هكذا يأتيك راتب مغرٍ خارج القطر ، فتترك الدعوة كلها وتمشي ، عندئذٍ يؤدَّبك تأديباً شديداً ، وقد يذهب الله دنياك التي آثرتها على آخرتك ، فإذا أقام الله الإنسان كلفه بأمر فليكن خادماً للخلق ، إذا أقامك بالدعوة إليه ، فهذا أرفع منصب تناله في الدنيا والآخرة .
هذه القصة أمامنا ، سيدنا يونس ضجر منهم ، ترك الأولى فالتقمه الحوت ، لا يهمني كيف التقمه ، يهمني أنه التقمه ، شاءت مشيئة الله أن يلتقمه فلما نادى في الظلمات ، واستغفر ، وأناب واعترف بذنبه ..
﴿ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) ﴾
الله عزَّ وجل على الرغم من أن المصيبة كبيرة جداً أنجاه منها ، الحوت نفسه نبذه في العراء ، والله عالجه بهذه الشجرة التي ذكرها الله عزَّ وجل ، وبعد ذلك عاد إلى قومه داعيةً ، ودعا مائة ألفٍ أو يزيدون ، وآمنوا به جميعاً ..
﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾
إذا استجبت في طور المعالجة ، توقفت المعالجة ، وإذا نجحت في طور الامتحان توقف الامتحان ، بقي الطور الثالث وهو الإكرام .
﴿ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾
هذه آياتٌ كريمة خالدة ، فهذا ما يفعله الله بعباده في كل عصر وفي كل مصر .
والحمد لله رب العالمين