سورة فاطر 035 - الدرس (3): تفسير الأيات (03 – 08) وعد الله حق

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة فاطر 035 - الدرس (3): تفسير الأيات (03 – 08) وعد الله حق

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة فاطر

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة فاطر ـ (الآيات: 03 - 08) - وعد الله حق

18/07/2012 15:18:00

سورة فاطر(035)
 
الدرس (3)
 
تفسير الآيات: (3 ـ 8)
 
وعد الله حق
 
 
لفضيلة الشيخ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً  وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ... مع الدرس الثالث من سورة فاطر ، وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية الثالثة وهي قوله تعالى :
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ
 
1 ـ الإنسان خُلق للابتلاء بشتى أنواعه :
 
إنّ هذه الآية تبين أشياء كثيرة ، تبين أول ما تبين أن الإنسان خلق في الدنيا للابتلاء ، الدنيا أساسها الابتلاء ، والابتلاء هو الامتحان ، فمن ظنها للجزاء فقد وقع في وَهْم كبير .
أنت في الدنيا تمتحن بالفقر ، وتمتحن بالغنى ، تمتحن بالصحة ، وتمتحن بالقوة ، تمتحن بالتعظيم والتبجيل ، وتمتحن بالتكذيب ، فكل حالة لها موقف كامل ، فإذا كُذبت فماذا تفعل ؟ هل تتخلى عن دعوتك ، أم تتابع الطريق ، وتستوحي همة عالية من قوله تعالى :
 
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ﴾
(سورة النمل : 79)
ألا تستوحي المثابرة على متابعة الدعوة ومواصلتها من قوله تعالى :
 
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ﴾
(سورة آل عمران : 146)
قلت لكم مرة : إن بعض المواد تفحص مقاومتها للشد عن طريق جهاز ، فنقول : هذه المادة تضعف على وزن كذا ، وهذه على وزن كذا ، وهذا الإنسان لو جاءه التكذيب ، لو جاءته المعارضة ، لو جاءه من يكيد له ، هل يتخلى عن دعوته ؟ فالله سبحانه وتعالى يعلمنا من خلال تأديبه لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقلت لكم من قبل إن الله ربّى محمداً صلى الله عليه وسلم ، وهذا يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم :
(( أدبني ربي فأحسن تأديبي )) .
[ الجامع الصغير عن ابن مسعود ]
 ثم ربّى الأمة العربية بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وجعل من هذه الأمة شهداء على جميع خلقه ؟؟ .
 
﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾
(سورة الحج : 78)
 
2 ـ تسلية الله للنبي عليه الصلاة والسلام :
 
إن الله عز وجل يسلّي النبي عليه الصلاة والسلام ، أو يخفف عنه ، أو يواسيه ، يقول : يا محمد :
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
لست أول َمن كُذب ، ولن تكون آخر مَن كُذب ، هذه سنة الله في خلقه ، من القديم وإلى يوم القيامة ، هناك صراع بين الحق والباطل  أهل الحق متمسكون بالحق ، مدافعون عنه ، وأهل الباطل يكيدون لأهل الحق ، والمعركة سجال بينهم إلى يوم القيامة ، ولأن الدنيا دار امتحان ، فلو أصاب المؤمنين بعض المكروه ، فهذا يرفعهم عند الله درجات عليّة ، ولو حقق الكفار بعض النصر فهذا من باب الإمهال والاستدراج ، كما يقول الله عز وجل :
﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ﴾
(سورة آل عمران : 178)
الإمهال غايته الاستدراج للكافرين ، فما دامت الدنيا دار تكليف ، وليست دار تشريف ، ما دامت الدنيا دار امتحان ، مادامت الدنيا دار ابتلاء ، مادامت الدنيا قصيرة ومحدودة ، ولابد من أن تنتهي ، فماذا يبقى ؟ العمل ، فكأن الله سبحانه وتعالى وقد ربّى النبي عليه الصلاة والسلام فخفَّف عنه بعض آلامه ، وواساه ، وسلاّه بهذه الآية :
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
 
وأنت أيها المؤمن إذا قرأت سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وإذا قرأت سيرة أصحابه الكرام ، ووجدت أن مِن أصحاب النبي مَن لاقى المتاعب ، مَن تحمل الشدائد ، مَن تجشم المشاق ، مَن خسر الدنيا كلها ، لأنه آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام ، هؤلاء الذين هاجروا تركوا ديارهم ، وأموالهم وأولادهم ، وجاءوا إلى المدينة فقراء ، ليس لهم عمل ، وليس لهم دار ، هكذا الدنيا .
أنا أحب أن أطمئِن كل أخ مؤمن على أنه إذا استقام على أمر الله ، فالله جلا وعلا يتولى شؤونه ويحفظه ، ويرعاه ، ويؤيده ، وينصره ، لكن لا تنسوا أن هذا التطمين لا يعني أنك لن تمتحن ، ولن تجرب ، أو أنّك لن توضع على المحك .
 
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
(سورة العنكبوت : 2)
أنت صالحٌ جداً ، وأنت غني في فترةٍ ما ، فما هي حالتك إذا جاءك الفقر ، وأنت صالحٌ جداً ، وأنت صحيح ، فما حالك إذا جاءك شبح مرض ، هل تنسى ربك ؟ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : (( والله يا عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهرهُ الله أو أهلك دونه )) .
[ السيرة النبوية ]
هذا شأن المؤمن ، وهو موقف للنبي، والنبي يعلّمنا .
 
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا   
(سورة الأحزاب : 23)
أنت عاهدت خالق الكون ، عاهدته على الطاعة ، يجب أن تطيعه في السراء ، في الضراء ، في إقبال الدنيا ، في إِدبارها ، في الصحة  في المرض ، قبل الزواج ، بعد الزواج ، قبل العمل ، بعد العمل ، في شبابك ، في كهولتك ، في شيخوختك ، وأنت مقيم ، وأنت مسافر ، إن الدنيا أقبلت ، أو إن الدنيا أدبرت ، رفعك الله ، أو خفضك الله ، هكذا :
﴿ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ﴾
 
﴿  مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا   
(سورة الأحزاب : 23)
 
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
 
3 ـ علاقة هذه الآية بقوله : وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
 
لكن ما علاقة هذه الآية بقوله تعالى :
 
﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾
هناك علاقة دقيقة جداً ، يعني أنت أيها الإنسان حينما تقوّي هذه الفئة على هذه ، أو هذه على هذه ، فالأمر بيد الله في النهاية ، أنت إذاً في امتحان ، فالله عز وجل يمتحن المؤمنين حينما يُضعفهم ، ويمتحنهم حينما يُقويهم ، يمتحنهم حينما يُعطيهم ، ويمتحنهم حينما يحرمهم ، يمتحنهم حينما يرفعهم ، فإلى الله ترجع الأمور ، الأمر كله لله .
﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾
(سورة الأنفال : 17)
 
﴿ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
(سورة هود : 56)
لو رأيت زيداً قوياً وعبيداً ضعيفاً ، هؤلاء رفعهم الله ، وهؤلاء خفضهم الله ، يجب أن تعلم أَن رفعة هؤلاء ليست في قواهم الذاتية ، وأن خفض هؤلاء ليس في تقصير منهم ، ولكن شاءت مشيئة الله أن يرفع هؤلاء ليبتليهم ، وأن يخفض هؤلاء ليبتليهم ، أن يعطي هؤلاء ليمتحنهم ، وأن يمنع هؤلاء ليختبرهم .
﴿ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ﴾
(سورة المؤمنون : 30)
حقيقة الدنيا أنها دار ابتلاء ، لا دار استواء ، ومنزل ترح لا منزل فرح ، فمن عرفها لم يفرح لرخاء ، ولم يحزن لشقاء ، قد جعلها الله دار بلوى ، وجعل الآخرة دار عقبى .
 
4 ـ البطولة كمال الموقف عند المصائب :
 
أقول لكم الآن : ليست البطولة ألا تصاب بمكروه ، ليست هذه بطولة ، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام سمّى هذا الذي دائماً يأتي واقفاً على قدميه ، ولا يلحقه أذىً ، سماه عفريتاً نفريتاً ، ليست البطولة ألا تصاب بمكروه ، ولكن البطولة إذا جاءك المكروه أن تكون كاملاً في توحيدك ، كاملاً في طاعتك ، كاملاً في صبرك ، كاملاً في تأديبك ، فالبطولة لا أن تنجو من الابتلاء ، ولكن البطولة أن تنجح في الابتلاء .
ليست البطولة ألا تقدم الامتحان ، ولكن البطولة أن تدخل الامتحان ، وأن تنجح في الامتحان ، فإذا جاءت مشكلة ، جاءت مصيبة ، لاح شبح قضية متعبة ، يكرهها الإنسان ، ووراءها من الله عز وجل محض فضلٍ ، ومحض رحمةٍ ، ومحض عدلٍ ، عدل ورحمة وفضل ، إن رأيتها كذلك فقد نجحت ، وإن شكرت الله عليها فقد تفوقت ، إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن شكر اقتناه ، مَن هذا الذي يشكر الله على مصيبة ألمت به ؟ إنه الذي يعرف أن الله عز وجل ساق له هذه المصيبة ، رحمةً به ، وحرصاً عليه ، وتقريباً له ، ودفعاً إلى بابه ، وترقية لجنابه ، هكذا .
ليست البطولة أن تنجوَ من الامتحان ، ولكن البطولة أن تنجح في الامتحان ، ليست البطولة ألا يصيبك مكروه ، ولكن البطولة أن تكون كاملاً في تلقي هذا المكروه أن تصبر .
 
﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ ﴾
(سورة الأحقاف : 35)
لماذا أصبر ؟ لو أن الأمر واضح كالشمس ، جلي كرابعة النهار لماذا أصبر ؟ فحينما يأمر الطبيب أن تأخذ دواءً مراً ، وتعلم أنت علم اليقين ، أن هذا الدواء لصالحك ، لماذا الصبر ؟ ولكن حينما لا تعرف الحكمة ، حينما يسوق الله لإنسان مؤمن شيئاً ، دون أن يكشف هذا المؤمن حكمة ذلك ، فهنا عليك بالصبر ، أليست لك أسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، حينما قال وأنا نبيٌ مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم ، لعل الله يمتحنني بالحرمان ، أو يمتحنني بالعطاء ، لعل الامتحان في العطاء ، أو في الحرمان ، في الضيق أو في الرخاء .
إذاً : حينما تنجح في مواجهة امتحان الله عز وجل ، حينما تنجح في قبول المصيبة ، وفي تفسيرها التفسير الصحيح ، وفي رؤيتك أن هذه المصيبة ، محض فضل ، ومحض عدل ، ومحض رحمة ، عندئذ نجحت بالامتحان ، ولا تنسَ هذه المقولة أيها الأخ الكريم : " مَن لم تُحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر " ، الإنسان الذي لا يتعظ بالمصيبة فهو المصيبة عينها ، وهو مصيبة تتحرك ، لأنه متلبد الحس ، لأنه بعيد عن الفهم عن الله  عز وجل .
 
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾
(سورة الشورى : 30)
﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾
 (سورة التغابن : 11)
يهديه إلى حكمتها ، وإلى سببها .
 
5 ـ بعد كل مصيبةٍ اتَّهم نفسَك :
 
لكنّي أنصح إخوتنا الكرام ، أنك إذا  جاءتك مصيبة لا سمح الله فاتهم نفسك قدر ما تشاء ، و لكن إياك أن تتخذ من هذه القاعدة وسيلة للطعن في المؤمنين ، أقول هذا بشكل واضح جداً : إذا جاءك شيء تكرهه فلا عليك أن تتهم نفسك ، أن تبحث عن السبب ، أن تبحث عن العلة ، وأن تقول إنّ الله عز وجل أفعاله كلها حكيمة ، يا رب أنت غني عن تعذيبي ، لكنك حينما عذبتني لحكمة تريدها ، ما هذه الحكمة يا رب ؟ الله غني عن تعذيبنا ، لكن هناك حكمة لابد من معرفتها ، لك أن تفعل هذا مع نفسك قدر ما تشاء ، لكن إياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تتخذ من هذه الحقيقة الثابتة في القرآن والسنة ، أن تتخذها سبباً في الطعن في أخيك المؤمن ، فلان أصابته مصيبة لابد أنه مذنب ، هذا من سوء الأدب ، ومن سوء التصرف ، ومن السلوك الذي لا يُرضي الله عز وجل :
 
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾
 
6 ـ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
 
يعني يرفع هذا ، ويخفض هذا ، هو الرافع وهو الخافض يعز هذا ويذل هذا ، هو المعز ، وهو المذل :
﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾
مقاليد الأمور بيده ، القوة كلها بيده ، خيوط القوى كلها بيده ، فإذا رفع فَلِيمتحنَ ، وإذا خفض فَلِيمتحن ، هذه علاقة جزاء ، والآية :
 
﴿ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ﴾
حينما سمح الله لهم أن يكذبوك ابتلاهم بالتكذيب ، ابتلاهم بأنهم كَذبوا ، وابتلاك بأنك قد كُذبت ، ماذا يصنع المُكَذَّب ؟ أيتخلى عن دعوته ؟ حينما يسلط الله إنساناً على إنسان ابتلى المتسلط ، وابتلى المسلط عليه .
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
 
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
 
1 ـ وعدُ الله واقع لا محالة :
 
كلمة حق : أمرٌ استقر ، وثبت ، فوعدُ الله عز وجل حق لا ريب فيه ، واقع لا محالة ، واقع لدرجة أن الله عز وجل يعبر عما يعد بالزمن الماضي .
 
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ﴾
(سورة المائدة : 116)
هذا أمر لم يحدث بعد ، ولكن لِتحقق الوقوع ، جاء بصيغة الماضي :
﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
النار حق ، والجنة حق ، والصراط حق  والميزان حق ، ونشر الصحف حق ، وعذاب القبر حق ، والبرزخ حق ، والجنة حق :
﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
إنّ أيّ وعد وعدَ الله به إنساناً يجب أن تؤمن أنه كأنه وقع ، لشدة مصداقية وعد الله عز وجل ، مصداقية وعد الله عز وجل تؤكد لك أن هذا الشيء قبل أن يقع كأنه وقع ، وفي القرآن آية تشير إلى ذلك :
 
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾
(سورة النحل : 1)
معناها لم يأتِ بعد ، فلا تستعجل قدوم الامتحان ، والامتحان لم يأتِ بعد ، فكيف يقول الله عز وجل :
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾
ما دام أنه أمرٌ قد وعد به فهو واقع لا محالة ، وكأنه قد أتى :
 
﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
لا بد من مغادرة الدنيا  .
 
2 ـ علاقة القسم الأول من الآية بالقسم الثاني :
 
ما علاقة القسم الأول من هذه الآية بما بعده؟
 
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
هذه الحياة الدنيا لا بد من أن نغادرها ، لا بد من أن نتركها ، لا بد من أن ننصرف عنها ، فإذاً : هذا الذي اغتر بها ، ورآها كل شيء ، وعلق عليها الآمال ، وباع من أجلها دينه وعرضه ، وباع آخرته ، وارتكب المعاصي والموبقات ، وأكل المال الحرام ، واعتدى على الناس ، وبنى مجده على أنقاضهم ، وبنى عزه على ذلهم ، وبنى غناه على فقرهم ، وبنى حياته على موتهم ، من أجل دنيا محدودة ، قال عليه الصلاة والسلام يعاتب الأنصار كما في حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ :
(( قَالَ لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ
 
 ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ : لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ
 
 فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ ، قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتَ
 
 مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي ، قَالَ : فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ ، قَالَ : فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ ، قَالَ : فَجَاءَ
 
 رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ : قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالَ : فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
 
 وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ ، وَعَالَةً
 
 فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ؟ قَالُوا : بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ ، قَالَ : أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ قَالُوا : وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ
 
 الْمَنُّ وَالْفَضْلُ ، قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ ، وَصُدِّقْتُمْ ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا
 
 مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلَامِكُمْ ، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
 
 اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ ، فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا ، وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ، اللَّهُمَّ
 
 ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ ، قَالَ : فَبَكَى الْقَوْمُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ قِسْمًا وَحَظًّا ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
 
 عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَفَرَّقْنَا )) .
[ أخرجه أحمد في مسنده ]
فالدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ :
﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾
 
3 ـ الموت حقٌّ آتٍ لا محالة :
 
كأن الله عز وجل يشير في هذه الكلمة إلى أنه لا بد من أن تغادرها ، فعـش ما شئت فإنك ميت ، أحبب ما شئت فإنك مفارقه ، اعمل ما شئت فإنك مجزِيّ  به .
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته     يوماً على آله حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبـور جنـازة     فأعلم بأنك بعدهـا محـمولُ
***
كل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت .
الليل مهمـا طال فلا بد من طـلوع الفجر
و العمر مهما طال فلا بد من نزول الـقبر
***
أنا أسال الطلاب أحياناً ، طلاب المدارس أو الجامعات ، شهر أيلول أول العام الدراسي أقول لكم : موعد الامتحان بعيد ، فيأتي أيلول ، ويأتي تشرين الأول والثاني ، وكانون الأول والثاني ، ما بين غمضة عين وانتباهتها جاء حزيران ، بقيت خمسة أيام ، بل بقي يوم ، اليوم الأول والثاني ، لا بد من أن يستيقظ الطالب في أحد الأيام ، على أن هذا اليوم هو يوم الامتحان ، وأنت تنظره قبل تسعة أشهر ، تقول : إنه بعيد ، هذا البعيد جاء ، دخلنا في الصيف ، نحن في أول الصيف ، ما هو إلا زمن يسير ، حتى يأتي الشتاء ، ثم يأتي الصيف ، ثم يأتي الشتاء ، ولا بد من مواجهة الموت في النهاية ، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا ، وسيتخطى غيرنا إلينا ، فلنتخذ حذرنا .
كنت البارحة مع رجل أعرفه جيداً ، وتسلم مناصب رفيعة ، ذهب ليوصِلَ ابنته إلى المدرسة ، في طريق العودة ، قال : أشكو من صدري ، فمال جسمه ، ومال عنقه ، وسلم روحه ، المغادرة تمت في ثانية ، كل هذه الدنيا التي حصّلها ، خسرها في ثانية واحدة ، ماذا في القبر ؟ القبر صندوق العمل .
البطولة أيها الإخوة أن تعمل عملاً يصحبك إلى القبر المقياس الدقيق ، أن أيّ عمل تنتهي نتائجه عند القبر فلا قيمة له ، هو مِن الدنيا ، أي شيء لا يصحبك بعد الموت هو من الدنيا ، وأي شيء يصحبك بعد الموت فهو من الآخرة ، قد تفعل شيئاً في الدنيا للآخرة ، فالذي يبقى عند القبر من الدنيا ، الذي يبقى في البيت من الدنيا ، أما الذي يدخل معك القبر فهو من الآخرة ، يا قييس ، إن لك قريناً تدفن معه وهو حي ، ويدفن معك وأنت ميت ، إن كان كريماً أكرمك ، وإن كان لئيماً أسلمك ، ألا وهو عملك .
أنا أقول : بُطولة ، لأن الإنسان يتخيلها بجمع المال ، يتخيلها بالقوة يتخيلها بالسيطرة ، يتخيلها بالبيت الفخم ، يتخيلها بالزوجة التي تروق له يتخيلها بأولاد نجباء ، يتخيلها بالرحلات ، يتخيلها بالحفلات ، يتخيلها بإنفاق المال ، يتخيلها بكسب المال الوفير ، يتخيلها بالعزة والسلطان ، هكذا يتوهم الإنسان دنياهُ ، ولكن الدنيا زائلة ، أقول : البطولة :
ليس من يقطع طرقاً بطلاً      إنما من يتقي الله بطل
***
 أقول لك : يا أخي ، هذا بطل في الجري ، هذا بطل في اللعبة الفلانية ، هذا بطل في رفع الأثقال ، إذا قلت : البطولة من هذا النوع فليست من ميزة للإنسان إلاّ وفي غير الإنسان ما يسبقه بها ، هذا الذي يفتخر بحاسة شمه هناك حيوان أترفع عن ذكر اسمه تفوق حاسة شمه الإنسان بمليون مرة ، الذي يفتخر بحدة بصره ، النسر يرى ثمانية أضعاف ما يراه الإنسان ، فما من صفة يمكن أن تعد بطولة في الإنسان إلا وفي الحيوان ما يسبقه بها ، إذاً : بطولة الإنسان بمعرفة الله ، خلقتُ كلَّ ما في الكون من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عمّا افترضته عليك .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
هذا الذي قال : وكأني بأهل الجنة يتنعمون ، وكأني بأهل النار يتصايحون ، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام :
(( عرفت فالزم )) .
[ ورد في الأثر ]
 
4 ـ العاقل اللبيب يرى الشيء بتجربته قبل وقوعه :
 
مَثَلاً : ترى طالباً يمضي وقته بلا دراسة ، مع أصدقاء السوء في سهرات لا طائل منها ، في القيل والقال ، في لعب النرد ، أنت كإنسان عاقل حكيم عندك خبرة في الحياة ، فإنك ترى مستقبله تعيساً ، الآن يرتدي ثياباً أنيقة ، لكنّك تعلم أنه إذا لم يبنِ مستقبله بنفسه ، إن لم يهتم بتحصيل شيءٍ يعينه على مواجهة الحياة ، فربما رأيته في مستقبل حياته في عمل لا يُرضي ، وفي فقر مدقع ، وفي زاوية مهملة في الحياة ، فصاحب الخبرة والتجربة ، يرى الشيء قبل أن يكون ، يرى ما ينبغي أن يكون قبل أن يكون ، هذه يسميها الناس الرؤية المستقبلية ، ترى المرابي مصيره الدمار ، يرابي وتنمو أمواله ، ويزداد إنفاقه ، وتعلو مكانته ، ويغير بيته ، ويغير مركبته ، وينتقل من بلد إلى بلد ، وهو يقول : أنتم الأغبياء ، أنا الذي جمعت هذا المال من طريق حرام ، لكني تفوقت عليكم ، ما هو إلا وقت يسير حتى تأتي ضربة الله القاصمة فتذهب به ، وبماله .
إن المؤمن يرى النتيجة ، يرى وعدَ الله حقاً ، لأن وعد الله حق لا مرية فيه ، إذا وُعد المرابي بتدمير ماله فوعد الله حق ، وإذا وُعد الشاب المؤمن الصالح المستقيم بحياة طيبة فوعد الله حق ، وإذا وُعدت المرأة المؤمنة بزوج صالح فوعد الله حق ، وإذا وعد الرجل الفاسق الفاجر بزواج تعيس فوعد الله حق ، يعني أيّ وعد وعده الله عز وجل فهو حق ، ولا بد من أن يقع ، زوال الكون أهون على الله من ألاّ يقع ، فلا بد من أن يقع ، ولذلك البطل هو الذي يصدق كلام الله عز وجل .
أذكرَ قصة رجل قرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام :
(( بَشَّرْ الزاني بالفقر ولو بعد حين )) .
[ ورد في الأثر ]
وجاءه خاطب لابنته ، وكان في مستوى من الغنى يفوق حد التصور ، فرفض أن يزوجه ابنته ، قال له لماذا ؟ قال له : أنت في النهاية فقير ، يعلم أنه منحرف الأخلاق ، قال : كيف ذلك  ؟ قال : فأنا أصدق النبي عليه الصلاة والسلام ، فبدأ يسخر ، ويضحك من هذا الوعد ، ولم تمضِ أعوام عدة ، حتى هبط دخله ، وذهب ماله ، ولم يمت إلا ماداً يده للناس ، بَشّرْ الزاني بالفقر ولو بعد حين ، بشر القاتل بالقتل ، والمرابي بدمار ماله ، مَن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله ، البطولة أن تقرأ هذه الوعود الإلهية في القرآن ، أو الوعود النبوية في السنة .
مثلاً : الأمانةُ غنىً ، فوعدَ النبيُ الأمينَ بالغنى ، وإذا وعد المنافق بالصغار ، وعد الصادق بالعز ، وعد المصلي ببركة الوقت ، ابحث عن وعود الله عز وجل ، بالقرآن والسنة ، وكن كسيدنا سعد بن أبي وقاص ، حينما قال : << وما سمعت حديثاً من رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا علمت أنه حق من الله تعالى >> .
 
5 ـ العاقل يكشف في القرآن والسنة قوانين معاملة الله للعباد :
 
مثلاً : زواج توافرت له كل أسباب النجاح ، شاب وسيم ، صاحب معمل بيته فخم ، دخله كبير ، صحته جيدة ، تزوج فتاة في مستواه ، هذا الزواج بمقاييس الأرض توافرت له كل أسباب النجاح ، إن لم يبنِ على طاعة الله ، تولّى الشيطان التفريق بين الزوجين ، على الرغم من كل وسائل النجاح لهذا الزواج ، لكنّه كثيراً ما ينتهي بالطلاق ، وبالخصومة  وبالشقاق ، وبالملاعنة ، وبالضرب ، وبالشتم ، لأن الشيطان يتولّى التفريق بين الزوجين ، إذا بني زواج على طاعة الله عز وجل ، وقد يكون هذا الزوج  مفتقراً ، إلى كل أسباب نجاح الزواج ، فلا بيت ولا دخل ، ولا عمل ، ومع ذلك إذا جاءت رحمة الله ، وشملت هذين الزوجين بالعناية ، نما هذا الزواج ، وازداد الوئام بين الزوجين  وانبسطت لهما أسباب السعادة ، وهناك قوانين يجب أن تضع يدك عليها ، هي بطولة أيضاً ، أن تكشف القوانين التي يعامل الله بها عباده ، فإنسان ترفّع عن المال الحرام يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن الله سبحانه وتعالى لابد من أن يكرمه بمال حلال قريباً أو بعيداً ، وكلما سمعت قصة تؤكد هذه الحقيقة فلتقلْ : يا رب لك الحمد ، هذه عدالتك ، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبطاعتك عن معصيتك ، وبفضلك عمن سواك .
إذاً : إن وعد الله حق ، وعد الله حق في مغادرة الدنيا ، لابد من أن نغادرها ، قال :
 
﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
 
6 ـ اعرف الحقيقة وأنت شابٌّ :
 
لا ينبغي أن تروها بحجم أكبر من حجمها ، أن تظن المال كل شيء ، لا ، بل هو شيء ، في وقت من الأوقات تراه شيئاً ، وعند مغادرة الدنيا تراه لا شيء .
 
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ(25)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ﴾
(سورة الفجر : 24 ـ 26)
رجل كان عنده ملاهٍٍ ، ودور قمار ، مطاعم فخمة ، وهو على فراش الموت ، بلغت ثروته قريباً من ألف مليون ، حينما أيقن بمغادرة الدنيا ، وأيقن بأن مصيره ليس كما ينبغي ، طلب أحد أهل العلم ، وقال له : ماذا أفعل ؟ سامحه الله ، قال له : والله لو أنفقت هذا المال كله لا تنجو من عذاب الله ، كله محصّل بطريق غير مشروع ، من قمار ، من ملاهٍ ، من حفلات لا ترضي الله عز وجل ، استيقظ بعد فوات الأوان :
﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
 حينما كان شاباً يطرب لهذا المبلغ الضخم ، يُسكره هذا الربح الوفير ، فلما شارف على دخول القبر ، الآن عرف الحقيقة ، فلذلك اعرف الحقيقة قبل فوات الأوان ، قبل أن تقول :
﴿ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ﴾
 اعرف الحقيقة وأنت شاب ، من أجل أن تشكل حياتك وفق الأسس الصحيحة ، اعرف الله وأنت شاب ، لكي تختار حرفة شريفة ، ولكي تختار زوجة صالحة ، ولكي تربي أولادك تربية صالحة :
﴿ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
 أن تغتر بالدنيا ، أيْ أنْ تراها بحجم أكبر من حجمها .
مثلاً : رأى شخصٌ عُلبةً في الطريق ، علبة أنيقة جداً ، وقد لفت بورق فخم ، وعليها شريط حريري ، تُرى ساعة ، ترى سوار ، ترى لؤلؤ ، ذهب به الخيال إلى أن في هذه العلبة شيئاً ثميناً ، فلما فتح هذه العلبة وجد فيها كُناسة محل تجاري ، فقال : وا أسفاه ، أدرك الحقيقة المرة ، وكذلك الدنيا ، نُعلق عليها الآمال ، وقد يأتي ملك الموت قبل أن نَسكن هذا البيت ، وقبل أن نتزوج ، وقبل أن نسافر ، وقبل أن نقطف ثمار أتعابنا ، إنسان فتح دار سينما ، وجمع أموالاً طائلة ، كان ابن أخته أحد طلابي ، قال لي : حضرت نزع خالي ، صار يبكي ويقول : أنا حصلت الملايين لأنفقها في خريف عمري ، وأستمتع بها ، هذا المرض قد عاجلني ، ولم يسمح لي أن أستمتع بهذا المال الذي حصلتُهُ في هذه الدار ، وصار يبكي ، فلذلك :
﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
إذا كسبت المال من حلال فلا شيء عليك ، وأنفقته في حلال فلا شيء عليك ، أنا أقول : هذا الذي يضحي بآخرته من أجل دنياه ، هذا الذي يضحي بالحياة الأبدية من أجل سنوات معدودة ، هذا الذي يبيع دينه ، بعرض من الدنيا قليل ، فهو في خسارٍ وبوارٍ .
خطر في بالي من أيام إذا كان الواحد ـ وهذا مثلٌ افتراضيٌ ـ معه خمسة ملايين دولار ، وشعر ببرد شديد ، فأشعل بها ناراً ، وتدفأ بها ، أيكون رابحاً بهذا العمل ؟ خمسة ملايين تساوي 250 مليون ليرة ، تأخذ أفخر بيت ، أفخر مركبة ، أفخر مزرعة ، أفخر عمل ، تدفأت بها خمس دقائق ، هذا مَثَلُ الذي اشترى بآيات الله ثمنا قليلاً .
 
﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾
(سورة التوبة : 9)
باع دينه وآخرته بعرض من الدنيا قليل ، باع هذه الحياة الأبدية بسنوات معدودة ، مشحونة بالتعاسة والشقاء :
﴿ فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
 أما القسم الثاني :
﴿ وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾
 
وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ
 
1 ـ الغرور هو الشيطان :
 
العلماء قالوا : هو الشيطان ، لأنه يعدكم بالفقر ، يوقع بينكم العداوة والبغضاء ، يعدكم ويمنيكم .
﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾
(سورة النساء : 120)
الشيطان يوسوس ، الَمَلك يُلهم ، فإذا استمعت إلى وسوسة الشيطان فقد خسرت كل شيء ، لأن مهمته أن يضلك عن سبيل الله ، قال تعالى :
 
﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾
(سورة الكهف : 50)
هذا الذي رفض أن يسجد لأبيكم تكريماً له ولكم أتَتّخذونه ولياً لكم ، بَلْ تتخذونه هادياً لكم إلى جهنم :
﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾
آية دقيقة جداً ، إذاً الغَرور هو الشيطان  .
 
2 ـ كيف نغتر بالله عز وجل ؟
 
يطالعنا سؤال الآن ، يمكن أن نغتر بالدنيا ، فنراها بحجم أكبر من حجمها الحقيقي ، فكيف نغتر بالله عز وجل ؟ هل يعقل أن الله أقلّ مما تظن ؟ مستحيل ، لكن الدنيا ممكن ، الدنيا هي أقلّ مما تظن ، لكن كيف تغتر بالله عز وجل ؟ العلماء قالوا : تغتر بالله إذا طمعت في رحمته ، ولم تستجب لأمره ، إذا طلبت الجنة بلا عمل ، إذا أقمت على معصية ، ورجوت الله أن يعفو عنك ، إذا أكلت المال الحرام ، وقلت : أنا تبت إلى الله يا رب ، فَرُدّ المال إلى أصحابه ، أن تغتر بالله أن تطمع بعفوه من دون أن تتوب ، أن تطمع بجنته من دون أن تستعد لها ، أن تطمع بعطائه من دون أن تدفع ثمنه ، هذا هو اغترارك بالله عز وجل .
هل من الممكن أن تدخل إلى بائع سجاد ، وتطلب منه أفخر سجاده عنده ، وثمنها أربعون أو خمسون ألف ، هل تدفع له عشر ليرات ثمناً لها ؟! ماذا يفعل بك بعد أن أتعبته ساعة أو ساعتين ؟
فهذا الذي يطلب الجنة بركعتين ، وليرتين وهو مقيم على معاصي الله عز وجل هذا مغتر بالله عز وجل ، هذا هو الاغترار بالله عز وجل ؛ أن تظن أن هذا القاضي العادل يرتشي ، أن تظن أن هذا الأستاذ العظيم يعطيك الأسئلة مقابل مبلغ من المال ، هذا اغترار به ، لن يفعل هذا أبداً .
 
﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
(سورة النحل : 60)
 
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
 
3 ـ الشيطان أول عدوٍّ للإنسان :
 
الله عز وجل ينبئنا ، ويؤكد لنا ، ويبين لنا أن الشيطان لنا عدو ، عدو لدود ، يعني يتمنى دمارنا ، يتمنى ضلالنا ، يتمنى شقاءنا ، يتمنى انحرافنا ، يتمنى أن نقع في المعاصي ، يتمنى أن تكون الخلافات في البيت ، كلكم يعلم أن الإنسان إذا دخل بيته ولم يسلم ، قال الشيطان لإخوانه : أصبتم المبيت ، نحن اليوم نائمون هنا ، وإذا جلس إلى الطعام ، ولم يسمّ الله قال : أصبتم العشاء ، فإذا دخل ولم يسلم ، وجلس إلى الطعام ، ولم يسمّ الله يقول الشيطان لإخوانه : أصبتم المبيت والعشاء ، تجد بعض البيوت فيها شياطين ، خصومات ، مشاحنات ، صياح ، كيد ، كلمات قاسية ، في هذا البيت شيطان يعمل ، لذلك الغيبة تَفصم العرى تفتت الصلات ، وهي من الشيطان ، والنميمة من الشيطان ، والاستعلاء من الشيطان ، والسخرية من الشيطان ، والبذاءة من الشيطان ، والمزاح الرخيص من الشيطان :
﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾
 
4 ـ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ
 
هذا الذي يستجيب لوساوس الشيطان كأنه يستجيب إلى عذاب النار ، يستجيب إلى دماره ، وفي الدنيا الذي يرتاد دور القمار ، ويبيع بيته ، ومركبته ، ومحله التجاري ، ويغدو فقيراً خلال أيام ، فحينما توجه لهذه الدار فقد توجه إلى الدمار ، وحينما توجه إلى هذه الدار توجه إلى الفقر ، حينما توجه إلى هذه الدار توجه إلى الإفلاس ، فالذي يستجيب لدعوة الشيطان ولوسوسته هذا حاله ومآله .
الإنسان أحياناً يشعر أن في نفسه صراعاً ، قد يسمع أو قد يشعر أن هناك مَن يقول له : افعل ، خذها ، لا أحد يراك ، وهناك مَن يقول له : لا تفعل  إياك أن تعصي الله ، الإلهام الطيب من المَلَك ، والوسوسة من الشيطان ، والإنسان بين إلهام ملَك وسوسة شيطان ، فإياك أن تستجيب للشيطان ، بل استجب للملك .
 ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾
 
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
 
1 ـ الله العظيم يقول عن عذابه : إنه شديد :
 
عذابٌ شديد ، من يقول : شديد ؟ هو الله سبحانه وتعالى ، العظيم يقول : عذابُ شديد ، فإذا قال لك طفل : سأضربك ضرباً شديداً ، طفل عمره سَنَتَان ، كم تكون ضربته ، بحسب قوته ، فكلمة شديد تنسب إلى القائل دائماً ، إذا قال لك : أنا معي مال كثير ، وكان شاباً ليس له دخل ، كثير معه مائة ليرة ، بحسب قلة دخله ، أما إذا قال لك الغني : أنا معي مال كثير فالكلام ينسب لقائله دائماً ، فإذا قال الله عز وجل :
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ﴾
فقوله الصدق والحق ، والعذاب حقاً شديد .
 
2 ـ العذاب الشديد أنواع كثيرة في الدنيا :
 
حدثني أخ طبيب يعالج مريضاً مصاباً بمرضين ؛ مرض في معدته ، ومرض في قلبه ، كل أدوية القلب تؤذي المعدة ، وكل أدوية المعدة تؤذي القلب ، وقف الأطباء حيارى ، عذاب شديد .
أحياناً تواجهني مصيبة واحدة ، فالإنسان يكرس كل طاقاته لمواجهتها ، يقول لك : حاصرتها ، وربنا عز وجل حينما يقرر أن يصيب الإنسان بعذاب شديد يبتليه بالفقر ، وبالمرض ، ليس معه ثمن الدواء ، وقد يبتليه بالشقاق الزوجي مع مرضه وفقره ، هو وزوجته في خصام شديد ، وقد يبتليه بمشكلة خارج بيته ، وقد يبتليه بعدة مصائب في آن واحد ، فالإنسان أحياناً ربما استطاع أن يواجه مصيبة واحدة ، أو مصيبتين ، ولكن إذا أراد الله عز وجل أن يصيبه بعذاب شديد ، تأتيه الشدائد من كل جانب ، وتستحكم حلقاتها .
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾
 
3 ـ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
 
المغفرة شفاء ، والأجر الكبير هو العطاء ، شفاء وعطاء ، تخلية وتحلية ، تطهير وإكرام ، عفوٌ وبلوغُ المرام :
﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾
 والكبير يقول لك الأجر كبير ، الآن إذا قال لك فلان : سيهديك هدية من فلان ؟ فلان صديقك ، من أصحاب الدخل المحدود ، فهي هديته رمزية ، إذا كان الصديق إنساناً كريماً وغنياً ، وسيهديك هدية ، تقيسها بغناه وكرمه ، فإذا قال الله عز وجل :
 
﴿ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾
خالق الكون الكبير المتعالي يقول لك : الأجر كبير ، لذلك : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ )) .
[ متفق عليه ]
أما الشيء الذي يعد مصيبة المصائب فهو قوله تعالى :
 
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾
 
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا
 
1 ـ مصيبة المصائب :
 
     يعني أن يفعل الإنسان المعصية ، ثم يتساءل : أهذه معصية ؟ هذا شيء مؤلم جداً ، لكن الفرق كبير بين من يعصي الله ، ويعلم أنه يعصيه ، وبين من يعصي الله ، ويعلم أنه على صواب ، وأن هذا هو عين الذكاء ، وأن هذا هو عين الفلاح ، وأن هذا هو عين التفوق ، يعصي الإله ، ويرى نفسه مصيباً في هذه المعصية ، هذه مصيبة المصائب ، أن تفعل السيئات ، وأنت تعتقد أنك تفعل الصالحات ، أن تأكل المال الحرام ، وتعد هذا ذكاء ومهارة منك ، أن توقع بين الناس ، وتعد هذا حيلة محكمة بيدك ، أن تبني مجدك على أنقاض الناس ، وتعد نفسك أذكاهم جميعاً ، أن تستغل الناس لمآربك الشخصية ، وتعد هذا تفوقاً منك ، أن ترى الشر خيراً ، وأن ترى الخير شراً ، أن ترى الحق باطلاً ، وأن ترى الباطل حقاً ، أن ترى الإساءة إحساناً ، وأن ترى الإحسان إساءة ، أن ترى الضعف صفةً أخلاقيةً ، وأن ترى الأخلاق ضعفاً في الإنسان ، أن ترى أن المعتدي هو الذكي ، وهو الذي يستحق الاحترام ، إنها مصيبة ؛ أن تفعل السيئات وأنت لا تدري ، تقول : ماذا فعلت ؟ لذلك : 
 
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾
 
2 ـ الإيجاز القرآني : كمن كان عمله صالحاً :
 
     كمن كان عمله صالحاً .
     في القرآن إيجاز :
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾
      كمن كان عمله صالحاً ، وابتغى به وجه الله عز وجل ، هل يستويان :
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ ﴾
(سورة السجدة : 18)
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾
(سورة الجاثية : 21)
مستحيل .
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
(سورة القلم : 35 ـ 36)
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
(سورة القصص : 61)
مستحيل .
إذاً :
 
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
 
4 ـ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
 
الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري :
 
الإضلال هنا إذا عُزي إلى الله عز وجل كما تعلمون سابقاً هو إضلال جزائي ، مبنيٌّ على ضلال اختياري ، كما لو أن رئاسة جامعة رأت طالباً لم يدفع القسط ، ولم يداوم ، ولم يشترِ الكتب ، ولم يتعرف إلى أيّ مدرس ، كل هذه الأفعال الإرادية تعني أنه لا يريد أن يلتحق بهذه الجامعة ، فصدر قرار بفصله وترقين قيده ، فهذا القرار الذي صدر بفصله وترقين قيده ، هو قرار جزائي ، أساسه موقف اختياري من الطالب ، هذا واضح تماماً ، قرار رئاسة الجامعة هو قرار جزائي ، جزاء عدم التحاقه بالجامعة ، وعدم قراءته للكتب ، وعدم تقديمه للامتحان  جزاء تقصيره الاختياري ، فكلما عُزي الإضلال إلى الله عز وجل فهو إضلال جزائي مبني على ضلال اختياري :
 
﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب