سورة السجدة (032)
الدرس (5)
تفسير الآيات: (15 ـ 21)
لفضيلة الأستاذ
محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة الأكارم ، مع الدرس الخامس من سورة السجدة ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون﴾َ
( سورة السجدة )
طريق الإيمان بالله هو الإيمان بآياته :
الحقيقة أن طريق الإيمان بالله هو الإيمان بآياته ، لأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ، ولكن تعرفه من خلال خلقه ، فالإيمان بآياته طريقٌ إلى الإيمان به ، وكيف تؤمن بآياته ؟
أنواع السجود : سجود الاضطرار وسجود العبادة :
1 ـ سجود الاضطرار :
إذا ذُكِّر الإنسان بآيات الله خرَّ ساجداً ، والسجود له معنيان : سجود اضطرار ، وسجود عبادة ، أي مخلوقٍ على وجه الأرض شاء أم أبى ساجدٌ لله سجودَ اضطرار ، أنت مفتقرٌ إلى الهواء ، مضطرٌ إليه ، مفتقرٌ إلى الماء ، مضطرٌ إليه ، ولو أن الله سبحانه وتعالى منع عنك الهواء لانتهت حياتك ، ولو منع الماء الذي يحتاجه كل شيءٍ في كل شيء لهلك كل شيء ، مادام كل شيء يحتاجه في كل شيء ، إذاً الخلق كلُّهم ساجدون لله عزَّ وجل سجود اضطرارٍ وافتقارٍ وحاجة ، هذا السجود لا تعنيه الآية ، أيُّ مخلوقٍ حتى الكفار ، حتى الذين أنكروا وجود الله عزَّ وجل مفتقرون إليه في قيامهم ، في قعودهم ، في نومهم ، في صحوهم ، في عملهم ، في حركتهم ، في هضمهم ، في حركة قلوبهم ، في مرونة شرايينهم ، في ميوعة دمائهم ، لو أن هرموناً قَلَّت نسبته في الدم ، هرمون التميُّع ، لأصبح الدم في الأوعية كالوحل ، وانتهت حياة الإنسان ، لو أن هرمون التجلط قَلَّت نسبَتُه لخسر الإنسان دمه كله مِن جُرحٍ طفيف ، إذاً أنت مفتقرٌ إلى حالةٍ معتدلة بين الميوعة والتجلُّط ، أنت مفتقرٌ إلى مرونة الشرايين ، أنت مفتقرٌ إلى حركة القلب ، أنت مفتقرٌ إلى حركة العضلات ، إلى ناقلية الأعصاب ، مفتقرٌ إلى كأس ماء ، إلى نسمة هواء ، إلى طعامٍ ، إلى شرابٍ ، إلى زوجةٍ ، إلى عملٍ، إلى مأوى ، إلى ثياب ، الحاجات التي أنت في أمَسّ الحاجة إليها لا تُعدُّ ولا تُحصى ، وكلُّها بيد الله عزَّ وجل ، بدءاً من خلاياك ، إلى أجهزتك ، إلى أعضائك ، فكل الخلق ساجدون لله سجود افتقار ، سجود اضطرار ، سجود حاجة .
2 ـ سجود العبادة :
ولكن السجود الراقي السجود الذي تُؤجَرُ عليه ، السجود الذي يَرقى بك ، السجود الذي يجعلك في الآخرة من المقرَّبين ، هو سجود العبادة أن تأتيَّه طوعاً لا كرهاً ، أن تأتيَّه مختاراً لا مجبراً ، أن تأتيَّه بمحض إرادتك ، أن تأتيَّه مُحباً لا خائفاً ، فلذلك المؤمنون الذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم خروا سجدا .
سمعوا عن آيات الله : عن آية الشمس ، آيةٌ دالةٌ على عظمته ، كيف أن الشمس تتسع لمليون وثلاثمئة ألف أرض ، وأن الأرض إذا أُلقيت فيها تبخَّرت في ثانيةٍ واحدة ، وأن حرارة الشمس على سطحها ستة آلاف درجة ، و أما في باطنها فعشرون مليون درجة ، وأنَّ الشمس منذ خمسة آلاف مليون عام هي متألقةٌ تَنشر الحرارة ، والدفء ، والضوء ، هذا الإمداد المستمر ، بيد من ؟ والقمر كذلك ، والمجرَّات كذلك ، فكلَّما تُلِيَت عليه آيةٌ من آيات الله خرَّ ساجداً لله لا سجود اضطرار ، ولكن سجود عبوديةٍ لله ، سجود إقرارٍ بفضل الله ، سجود تعظيمٍ لخلق الله ، هذا السجود هو الذي كُلَّفنا به ، سجود العبودية ، لا سجود الاضطرار ، فهؤلاء هم المؤمنون :
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا ﴾َ
( سورة السجدة : آية " 15 " )
مَن ذُكِّر بآيات الله فآمن فهو المؤمن الحقيقي :
قد تدرسُ دراسةً عالية ، قد تنالُ درجةً جامعية ، قد تنال درجة الدكتوراه في العلوم الطبيعية ، وكلَّما قرأت شيئاً من آيات الله الدالَّة على عظمته لم تسجد ، ولكن رأيت أن هذه الظواهر ظواهر طبيعيةٌ تحكمها قوانين ، فأنت مع أنك قرأت هذه الآيات ، وتبحَّرت فيها ، وغُصْت في أعماقها ، لكن لم تعبر بها إلى الله عزَّ وجل ، لم توظِّفها في معرفة الله ، فهذه المطالعة ، وهذه الدراسة لا قيمة لها ، فالكون جسرٌ يجب أن تعبر عليه إلى معرفة الله ، فإذا بقيت على الجسر ما استفدت من هذا العلم شيئاً ، لذلك :
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً ﴾َ
(سورة السجدة : آية " 15 " )
أي أنَّه كلَّما ذُكِّر المؤمن بآيةٍ من آيات الله اذكر وتفكَّر، وآيات الله بثَّها الله في كل مكان ، قال تعالى :
﴿وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ﴾
( سورة الذاريات )
في الجسد آيات ، في الطعام آيات ، في الشراب آيات ، في البحار آيات ، في السماء آيات ، في الأسماك آيات ، في الأطيار آيات ، وأقرب آيةٍ إليك جسدُك ، أقرب آيةٍ إليك نفسك التي بين جنبيك ، أقرب آيةٍ إليك أعضاؤك ، حواسك ، أجهزتك ، أنسجتك ، طباعك ، نظام حياتك ، زواجك ، إنجابك ، هذه كلها تحت سمعك وبصرك ، فلذلك علامة المؤمن الصادق أنه إذا اطلع على آيةٍ من آيات الله الدالة على عظمته ، إذا قرأ عن آيةٍ من آيات الله ، إذا سمع آيةً من آيات الله خرَّ لله ساجداً سجود عبادة لا سجود اضطرار ، لذلك تُعدُّ آيات الله التي بثَّها في الكون أقرب طريقٍ وأوسع باب ، ومن خلال هذه الآيات يمكن أن تصل إلى معرفة الله لقول الله عزَّ وجل :
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
( سورة آل عمران )
التطبيق العملي لهذه اللآية :
هؤلاء المؤمنون أيها الإخوة ، وأنا أتمنى على كل أخٍ كريم ، وهذا من التطبيق العملي لهذه الآية ، أتمنى على كل أخٍ كريم أن يكون له مع الله جلسة ، هذا الذي فعله النبي في غار حراء ، هذه جلسات التأمُّل في آيات الكون جلساتٌ لا بدَّ منها ، يمكن أن تفعلها كل يوم لوقتٍ قصير ، يمكن أن تفكِّر في أيِّ شيءٍ حولك ، لأن الله يأمرك ، وهذا أمر إلهي .
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾
( سورة عبس)
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾
( سورة الطارق )
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
( سورة يونس : آية " 101 " )
﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾
( سورة الفاشية )
التأمل في خلق السماوات والأرض عبادة :
هناك دعوةٌ واضحةٌ ، جليةٌ متكررةٌ ، مركَّزٌ عليها في القرآن الكريم إلى التأمل في الكون ، فلابدَّ من أن يكون التفكُّر عبادة ، بل إن بعض العلماء يجعلها أول عبادة ، بل قبل عبادة الصلاة ، لأن تفكر ساعةٍ يعدِل عبادة سبعين عاماً .
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
( سورة الزمر: آية " 67 " )
إذاً :
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا ﴾
فلو قرأت كتاباً في الطب ، أو قرأت كتاباً في العلوم الطبيعية ، كتاباً في التشريح ، كتاباً في الفيزياء ، كتاباً في الكيمياء ، كتاباً في الفلك ، ولم تر يد الله عزَّ وجل ولا حكمته ، ولم تر علمه ، ولم تر قدرته ، بل رأيت ظواهر طبيعيةً تحكُمها قوانين هي علاقاتٌ ثابتة بين متحولات ، إذا نظرت إلى الأمور هكذا ، فهذه نظرةٌ لا تعنيها هذه الآية ، يجب أن ترى يد الله ، يجب أن ترى من خلال الكون قدرة الله ، علم الله ، رحمة الله ، لطف الله ، خبرة الله هذه:
﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً ﴾
ألا يمكن أنك إذا علمت سراً من أسرار الخلق أن يخشع قلبك ؟ أي يقْشَعَر جلدك ؟ أن تلين أعضاؤك خشوعاً لله عزَّ وجل ؟ هذا الإدراك الجلي لآيات الله الدالة على عظمته يُجَسِّدها خضوع الإنسان لله ، واتجاهه نحو السجود .
﴿ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
( سورة السجدة )
أما معنى :
﴿ وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾
معنى التسبيح بحمد الله :
1 – المعنى السلبي للتسبيح :
التسبيح بحمد الله .. تسبيح من فعل سبَّح ، والتسبيح بالتعريف الدقيق هو تنزيه الله عزَّ وجل عن كل ما لا يليق به ، هذا معنى سلبي .
2 – المعنى الإيجابي للتسبيح :
المعنى الإيجابي : هو تمجيد الله ، فالتسبيح تنزيهٌ وتمجيد ، أن تنفي عنه كل صفات النقص ، وأن تثبت له كل صفات الكمال ، أن تقول : سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ، وأن تقول : ما أرحم الله عزَّ وجل ، ما أحكمه ، ما أقواه ، ما أغناه ، أن تجول في أسمائه الحسنى ، وصفاته الفُضلى تسبيح ، وأن تنزِّهه عن كل ما لا يليق به ، هؤلاء المؤمنون الصادقون إذا عاينوا آيةً سجدوا لله وسبحوه .
من آيات الله الكونية :
1 ـ خاشية الماء :
فمن منا يصدِّق أن الحياة على الأرض متوقفةٌ على خاصةٍ في الماء ؟ هذه الخاصة لو أنها أُلغيت لأُلغيت معها الحياة ، الماء شأنه شأن كل العناصر ، إذا سخَّنته تمدد ، فإذا برَّدته تقلَّص، شأنه شأن كل العناصر ، الحرارة من شأنها أن توسِّع الفراغات البينية بين الذرات ، إذاً إذا سخَّنت جسماً زاد حجمه ، هذا معنى قول العلماء : المعادن تتمدد بالحرارة ، فإذا رفعت الحرارة لأنَ المعدن ، فإذا زدت الحرارة صار المعدن سائلاً ، فإذا زدت الحرارة صار المعدن غازاً ـ وهذا إلى حدٍ ما شيء نظري ـ صار المعدن غازاً ، فإذا برَّدت الغاز صار سائلاً ، فإذا بردت السائل صار صلباً ، يوجد هواء سائل ، ويوجد غاز صُلب ، هذا متعلقٌ بالحرارة ، لكن هذا الماء شأنه شأن كل المعادن والعناصر إذا سخَّنته تمدد ، فإذا برَّدته تقلَّص ، إذا برَّدته من درجة عشر إلى درجة ثمانٍ ، سبع ، ست ، خمس ، أربع تنعكس الآية ، بعد درجة ( + ) أربع يزداد حجمه ، وهذا تعرفونه في الثلاجات ، إذا ملأت قارورة ماء ، وأحكمت إغلاقها ، ووضعتها في غرفة التبريد فإنها تنفجر ، تتكسر ، لأن الماء إذا برد دون ( + ) أربع يزداد حجمه ، لولا هذه الظاهرة لما قامت حياةٌ على وجه الأرض ، كلما تجمد الماء في المحيطات حسب القاعدة السابقة قلَّ حجمه ، وازدادت كثافته ، وغاص في أعماق البحار ، جاءت طبقةٌ ثانية تجمدت ، وغاصت ، إلى أن تُصبح البحار كلُّها متجمِّدة ، فإذا تجمَّدت انعدم التبخُّر ، وانعدمت الأمطار ، وماتت النباتات ، ومات الحيوان ، وانتهت حياة الإنسان ، فهل تصدقون أن حياة الإنسان على وجه الأرض ، وحياة كُلِّ كائنٍ حي أساسها هذه الظاهرة ؟
2 ـ العين البشرية :
هل تصدقون أن في ماء العين مادةً مضادةً للتجُّمد ، إذْ لو أن إنساناً سكن في أقاصي الشمال ، وكانت الحرارة دون السبعين تحت الصفر ، بإمكانه أن يُغَطِّي كل شيءٍ في جسمه خوف البرد إلا عينيه من أجل أن يرى طريقه ، فلو أن هذه الحرارة المنخفضة لامست غشاء العين لتجمد ماء العين فوراً ، لذلك أودع الله في ماء العين مادةً مضادةً للتجمد ، هذه الآيات ، آياتٌ في العين .
3 ـ جسم الإنسان :
آياتٌ في الأذن ، آياتٌ في القلب ، ثمانية آلاف لترٍ تُضَخ في اليوم الواحد ، عضلةٌ تعمل تقلُّصاً وانبساطاً ثمانين عامٍا أو مئة عامٍ دون كللٍ أو مللٍ ، كيف تستريح هذه العضلة ؟ من دون صوتٍ ، من دون ألمٍ ، من دون إزعاجٍ ، هذا خلق الله .
فجسم الإنسان أيها الإخوة ، والله الذي لا إله إلا هو ، في جسم الإنسان من الآيات الصارخة الدالة على علم الله ، وعلى قدرته ، وعلى حكمته ، وعلى رحمته ، وعلى قدرته الشيء الكثير ، لذلك ما لهذا الإنسان غافلٌ عن معرفة الله ؟ غارقٌ في ملذاته ؟ قال تعالى :
﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾
( سورة الذاريات )
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ¯مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ *مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ¯ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾
( سورة عبس )
4 ـ معجزة تقلّص الرحم :
الولادة شيءٌ مُعْجِز ، الرحم يتقلَّص تقلصاتٍ لطيفة في أثناء الطلق ليدفع الجنين إلى خارج الرحم ، فإذا ما خرج الجنين تقلَّص الرحم تقلُّصاً فجائياً حاداً بحيث تغلق كل الأوعية التي تمزَّقت ، وانفتحت ، فلو كان التقلُّص الآخر رخواً لماتت الأم من النزيف ، من أعطى هذا الرحم هذه القدرة على التقلُّص المتزامن التدريجي والتقلُّص القاسي المفاجئ ؟
﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ﴾
( سورة عبس )
5 ـ توازن الهواء والأوكسجين :
أيها الإخوة الأكارم ، هكذا كيفما تحركت ، الهواء الذي تستنشقه كيف يتحقق توازنه ؟ آيةٌ عظمى من آيات الله ، كيف أن النبات يأخذ غاز الفحم ، ويطرح الأكسجين ؟ وكيف أن الإنسان يأخذ الأكسجين ، ويطرح غاز الفحم ؟ هذا التوازن في نِسَب الغازات في الهواء توازنٌ معجز ، هذا الماء من آيات الله الدالة على عظمته ، هذه المعادن ، هذه أشباه المعادن ، هذه المواد العضوية ، هذه الكائنات الحية .
6 ـ السمك والطيور :
مليون نوع من السمك في البحر ، مئة مليار طائر في سماء الأرض ، والبشر جميعاً خمسة مليارات ، وكل طائرٍ له من الأجهزة ما لا ترقى إليه أعظم طائرةٍ موجودةٍ الآن .
7 ـ معمل الورقة الخضراء :
الورقة الخضراء ؛ إن أعظم معملٍ صنعه الإنسان ، والله قرأت هذه الكلمة في مجلةٍ علميةٍ ليس هدفها أن تُعَرِّف بالله إطلاقاً .. تقول هذه المجلة : إن أعظم معملٍ صنعه الإنسان يبدو تافهاً أمام الورقة ، تأخذ المعادن ، وتأخذ الماء من باطن التربة ، ويصعد الماءُ نحو الأعلى على عكس نظام الجاذبية ، الورقة فيها من اليخضور ، ومن الحديد ، ومن الآزوت ، ومن الفوتون ـ الطاقة الشمسية ـ ما يصنع مع المعادن والماء سائلاً هو السائل الذي يعودُ من الورقة ليصنع الجَذر والساق والأوراق ، والثمار ، والأزهار ، شيءٌ معجز ، سائلٌ واحد يصنع أشياء كثيرة من طبيعةٍ واحدة .
8 ـ نمو الشجرة :
هذا النُسغ الصاعد ، لو أن الشجرة نمت عرضاً لضاقت لمعة هذه الأوعية ، لذلك هي مدعَّمةٌ بأليافٍ حلزونية ، والنُسغ النازل من حينٍ إلى آخر فيه مصافٍ ، فيه حلقات تصفية ، شيءٌ يأخذ بالألباب ..
﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾
( سورة فاطر : آية " 28 " )
لذلك :
﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
( سورة السجدة )
معنى :
﴿ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾
معنى : لَا يَسْتَكْبِرُونَ
أي إذا رأى أمراً إلهياً يقول : أنا قانع بأني غير قانع بوجود يوم آخر ، الأمر لا يتناسب مع الزمان ، ماذا أفعل بكذا ؟ هذا الموقف المتردد ، هذا الموقف المُستعلي ، هذا الموقف الفاحص ، لا يطبِّق الأمر إلا إذا انجلت له حكمته ، كأنه يناقش خالقه نِداً لند ، هذا هو الاستكبار ..
﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ *تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ
1 ـ معنى المضاجع :
المضاجع : الأسرة الوثيرة ، الفُرُش الأنيقة ، المُلاءات النظيفة ، الجو الهادئ ، التبريد ، غرفة النوم تدعو الأجساد إلى الراحة ، تدعوها إلى الاسترخاء ، إلى الاستلقاء ، إلى أن تغوص في فراشٍ وثير ، لكن هؤلاء المؤمنين الصادقين ..
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾
( سورة السجدة : آية " 16 " )
2 ـ معنى : تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ :
يستيقظون لصلاة الفجر ، يستيقظون لذكر الله ، يستيقظون لصلاة التهجُّد ، يتلون كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار ، يمرِّغون جباههم في أعتاب الله ، يناجون الله عزَّ وجل .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ ، أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ ؟ )) .
( مسند أحمد )
رب العالمين في جلاله وعليائه يسألك : ألك عندي حاجةٌ يا عبدي ؟ أتريد مني شيئاً ؟ أتحب أن أغفر لك ذنوبك ؟ أتحب أن أتوب عليك ؟ أتحب أن أعطيك سُؤلك ..
إلى متى أنت باللذَّات مشـغـولُ وأنت عن كل ما قدمت مسؤولُ
* * *
(( إِذَا مَضَى ثُلُثُ اللَّيْلِ ، أَوْ نِصْفُ اللَّيْلِ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا جَلَّ وَعَزَّ فَقَالَ : هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَهُ ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَهُ ؟ )) .
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾
يصلون صلاة العشاء ، وصلاة الوتر ، وقد يُصلُّون قبل النوم ركعتين ، وقد يصلون بعد الاستيقاظ قبل الفجر ثماني ركعات قيام الليل ، يصلون آناء الليل وأطراف النهار ، يتوجهون إلى الله بالدعاء ، يناجونه يبتهلون إليه ، هذه العلاقة الطيبة مع الله عزَّ وجل هي سرُّ الدين ، أساس الدين هذه الصلة ، أساس الدين هذه المُناجاة ، أساس الدين هذا الدعاء ، الدعاءُ مخُّ العبادة ، هل الإنسان يرضى أن يستمتع بنومٍ عميقٍ لذيذٍ لذيذ ، وأن ينسى ساعات السحر ؟
فقم نحـونا في الـليـل لا تـخـش وحشـتنا فالأنس فـي طــيب ذكرنا
وعـن ذكرنا لا يشــغـلَّنك شاغلٌ وأخلص لنا تلقى المســرة والهــنا
وسلم إلينا الأمر في كـلِّ مـا يكون فما القـرب و الإبـعـاد إلا بأمــرنا
فيا خجلي منه إذا هـو قـال لـي أيــا عـبـدنا مـا قـرأت كتـابنـا
أما تسـتحي منا ويكفيك ما جـرى أما تختشـي مــن عتـبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجـعاً و تنـظــر مـا بـه جـاء وعـدنـا
***
إلى متى أنت بالـلذات مشـــغول وأنت عــن كل ما قدمت مــسؤول
***
في القرآن آية إذا قرأها المؤمن قراءةً صحيحة يجب أن يقشعر جلده :
﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾
( سورة الحديد : آية " 16 " )
إلى متى يا أخانا أنت شارد ؟ إلى متى أنت في غفلة ؟ إلى متى أنت في جفوة ؟ إلى متى أنت في فتور ؟ ألا تشتاق إلى الله عزَّ وجل الذي أنعم عليك بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الإرشاد ، أنزل على نبيِّه هذا الكتاب منهجاً لك ، دستوراً لك ، خلقك لجنةٍ عرضها السماوات والأرض ؟
هذا معنى :
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾
للآية معنى خاص ومعنى عام :
أي لا يرتاح للنعيم ، فهو نعيم مؤقَّت ، هذه الآية لها معنى خاص ، ولها معنى عام .
1 – المعنى الخاص :
خاصها : المقصود به الفراش ، النوم لذيذ ، والنوم شهوةٌ تعارض أداء العبادات ، لذلك فالمؤمن دائماً يتجافى جنبه عن المضاجع ، يدعو الله خوفاً وطمعاً .
2 – المعنى العام :
المعنى الأوسع : أي لا يركن للدنيا ، يرى أن الدنيا مؤقتة ، دار مرور ، وليست دار استقرار .
الدنيا حلوة بطاعة الله :
ما لي وللدنيا إنني فيها كعابر سبيل ، كن في الدنيا كأنَّك مسافر ، خُذ من الدنيا ما شئت ، وخذ بقدرها هماً .. فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه ، وهو لا يشعر ، عش ما شئت فإنك ميت ، وأحبب ما شئت فإنك مفارق ، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به ، هذه الحياة الدنيا حلوةٌ جداً إذا أمضيتها في طاعة الله ، أمضيتها في طلب العلم ، أمضيتها في التقرُّب إلى الله ، أمضيتها في الاستقامة على أمر الله ، أمضيتها في خدمة الخلق ، فهذه الحياة الدنيا من دون ذكر لله تافهةٌ لا قيمة له ، حتى إن بعضهم قال : " مساكين أهل الدنيا ، جاءوا إلى الدنيا ، وخرجوا منها ، ولم يذوقوا أطيب ما فيها ، إنه ذكر الله وما والاه " ، لذلك قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ ، فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ )) .
( مسند أحمد عن معاذ بن جبل )
قد يتنعَّم الإنسان ، أما أن يجعل النعيم قصده الأساسي ، وشغله الشاغل ، ومَحَطُّ رحاله ، ومنتهى آماله ، ولا بفعل شيئاً مما يرضي الله عزَّ وجل فهؤلاء وصفهم الله بأنهم غافلون ؛ والغافلون كالأنعام ، بل هم أضل .
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ﴾
( سورة يونس )
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾
( سورة التوبة )
خالق الكون يقول لك : متاعٌ قليل :
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ *