سورة لقمان 031 - الدرس (9): تفسير الأيات (20 – 21)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة لقمان 031 - الدرس (9): تفسير الأيات (20 – 21)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة لقمان

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة لقمان- (الآيات: 20 - 21)

15/04/2012 15:53:00

سورة لقمان (031)
 
الدرس (9)
 
تفسير الآيات: (20 ـ 21)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
  
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس التاسع من سورة لقمان ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾
 
 ربطُ الآية بما قبلها من الآيات :
 
 نصبُ الآيات الكونية الدالة على الله :
 
أيها الإخوة ، قبل هذه الآيات وردت قصة لقمان عليه السلام ، وقبل قصة لقمان قال الله عز وجل بعد أن تحدث عن آياته في الكون :
 
 
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
 
       
﴿ أَلَمْ تَرَوْا ﴾
 
إذاً : هذه الآية مرتبطة بالآيات التي وردت قبل قصة لقمان ، وهؤلاء الظالمون الذين هم في ضلال مبين ألم يروا ، معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى نصب في الأرض وفي السماوات آيات واضحة صارخة مبينة دالة على وجوده ، وعلى وحدانيته وعلى كماله .
       
﴿ أَلَمْ تَرَوْا ﴾
 
الآن بعد أن كان الخطاب خطاب غائب :
 
 
﴿فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
 
         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا ﴾
 
 دعوة قرآنية إلى التدبر والتأمل والرؤية :
 
أيها الظالمون ، والجاحدون ، والمنكرون ، والمعرضون ، والمنغمسون في شهواتكم ، ألم تروا .
يا ترى هل الكافر يرى الشمس ؟ يراها بعينه .
1 – الرؤية البصرية والرؤية القلبية :
ولكن الرؤيا هنا مقصود بها رؤية القلب ، لأن الرؤية نوعان : رؤية بصرية ، ورؤية قلبية.
          رؤية البصر تنصب مفعولاً به واحداً ، تقولرأيت الشمس فإن قلت ساطعة حال ، أما رؤية القلب تنصب مفعولين ، تقول : رأيت العلم نافعاً ، نافعاً مفعول به ثانٍ .
2 – الرؤية البصرية وأثرها في التأمل :
المقصود هنا الرؤية القلبية ، طبعاً الكافر والجاحد والمعرض والفاسق والفاجر كلهم يرى الشمس ، ويرى القمر ، و الجبال ، هذه النعم التي أنعم الله بها علينا يتمتع بها الكفار أيضاً ، يرونها بأعينهم ، ويسمعون أصواتها بآذانهم ، ويلمسونها بأيديهم ، يتذوقونها بألسنتهم ، فأهل الدنيا يتمتعون بكل النعم ، ولكنهم لا ينتقلون منها إلى المنعم ، ولا يرون صاحب النعمة ، ولا الذي أنعم عليهم ، جاءت هذه الآية لتحض المعرضين الجاهلين المنكرين على أن يروا بقلوبهم حقيقة هذه النعم ، منشأ هذه النعم ، صاحب هذه النعم .
         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ ﴾
 
 أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ
 
1 – معنى التسخير :
معنى سخر ، التسخير في أدق معانيه : أن يقهر الفاعل في أداء الفعل وفق مراد القاهر ، الشمس مقهورة على أن تشرق ، ولا تملك ألا تشرق ، لأنها مسيرة ومسخرة ، أما الإنسان فيؤمر ، ولا يأتمر ، يُنهى فلا ينتهي ، والإنسان مخير ومكلف ، أمره الله بأوامر ونهاه عن أمورٍ ، فإما أن يأتمر أو لا يأتمر ، إن ائتمر قبض الثمن ، وإن لم يأتمر دفع الثمن ، فلذلك ما سوى الإنسان والجن الخلق كلهم مقهورون على تنفيذ ما أمروا به ، لذلك :
 
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا .
( سورة الأحزاب72)
الكون كله بمجراته وكازاراته ، وكواكبه ونجومه ، ومذنباته وشموسه وأقماره ، والأرض كلها ، ما فيها ، وما عليها ، وما فوقها ، وما تحتها ، المواد الصلبة والغازية والمائعة ، والنباتات والحيوانات ، والجمادات كلها مسخرة ، وكل عنصر ، وكل حيوان ، وكل مخلوق مقهور على أن يفعل ما أمره به قاهره ، وهو الله عز وجل ، فالله عز وجل جعل هذا الكون مسخراً للإنسان .
2 – أمثلةٌ لأنواع التسخير :
 
الحـديد :
أما معنى التسخير مثلاً : فلو أن الله عز وجل جعل الحديد كتلاً صافية في الأرض ، فالحديد قد يوجد بكميات كبيرة جداً وبمساحات شاسعة جداً ، ولكن كونه موجودا على شكل حديد صافٍ لا يمكن أن يسخر لنا ، أما حينما وجد الحديد على شكل فلزات فهذا الشكل الذي جعله الله فيه هو مسخر لنا ، وبإمكان الإنسان أن يجمعه ، ويضعه في فرن عالٍ ، وأن يصهره ، وأن يقسمه إلى حديد صلب ، وإلى حديد مطاوع ، وإلى حديد فولاذي ، وإلى أنواع أخرى ، إذاً : طريقة خلق الحديد في الأرض طريقة جعلته فيها مسخر للإنسان .
المـياه :
والمياه الجوفية جعلها الله على أبعاد تتناسب مع قدرات الإنسان ، هذا موضوع طويل .
البـذر :
مثلاً البذر ، طريقة خلق البذرة من رشيم مؤلف من سويق وجذير ، ومحفظة للغذاء ، ومن قشرة إن جاءتها الرطوبة والضوء والحرارة تنبت ، طريقة خلق البذر طريقة تجعل من الإنسان قادراً على أن يستفيد منها .
البـقرة :
والبقرة مثلاً : جعل الله عز وجل ما تستهلكه من طعام أقلّ مما تنتجه ، لذلك سعى الإنسان إلى تربية الأبقار ، وجعلها مذللة ، لو أنها تجنح كالضبع أو كالذئب أو كالحيوان المفترس فكيف يرعاها ؟ وكيف يجعلها في حظيرة ؟ لذلك فالبقرةمسخرة ، والدواب ، والجمل ، والأغنام ، والنباتات .
الفاكهة :
الله عز وجل جعل هذه الثمار بقوام تناسب طبيعة الإنسان ، ولو أن التفاحة لها قوام صخري فكيف نأكلها ! وجعل هذا الغذاء مناسباً لطبيعة الإنسان ، وجعل طعمها محبباً ، ورائحتها محببة ، وشكلها محبباً ، وجعل خصائصهامتناسبة مع حاجات الإنسان .
ولو أن البطيخ مثلاً جاء كالطماطم في قشرة رقيقة ليس مسخراً لنا ، لكن هذه القشرة السميكة تجد شاحنة تحمل خمسة أطنان من البطيخ ، والذي في الأسفل لا يتأثر ، والشكل الكروي شكل متين يقاوم الضغط ، والقشرة سميكة داخل البطيخ ، وقوامه هش يتناسب مع طبيعة الصيف ، ومع حاجة الإنسان .
ولو تأملت في كل فاكهة ، وفي كل محصول ، وكل شيء خلقه الله عز وجل تشعر أنه مسخر ، فالأشجار ، والأنهار ، البحار كلها مسخرة ، بل إن الإنسان الذي استخدم كل شيء في الطبيعة استخدامه لما في الطبيعة هو ترجمة لتسخير الكون للإنسان .
الهواء :
والهواء مسخر جعله يركب الطائرات على متن الهواء .
البحــر :
والبحر مسخر ، لولا أن في البحر قانون أرخميدس التي كشفها هذا العالم ، وهو أن الماء متماسك تماسكاً يرفض دخول الأجسام فيه ، فإذا دخلت دفعها نحو الأعلى بقوة تناسب وزن الماء المزاح ، هذا قانون أرخميدس ، ولولا هذا القانون لما سارت باخرة في البحار ، فالبحار مسخرة ، بقانون أرخميدس جعلت البحار همزة وصل ، وليست فاصلاً بين القارات ، بالعكس لو أردت أن تنشأ طرقاً بين القارات لكلفك هذا ألوف الملايين ، أما البحر فكله طريق ، والبحر يحمل حمولات كبيرة جداً ، والآن يقولون لك : ناقلات النفط تحمل مليون طن ، والآن تجد البواخر مدنًا بأكملها تحمل آلاف السيارات والقطارات والمحاصيل ، إذاً : البحر مسخر ، والهواء مسخر ، وطبيعة الهواء تتناسب مع حاجة الإنسان ، والضغط الذي فوق الإنسان ضغط يتناسب مع حياته ، فلو رفع الضغط لانفجرت كل أوعيته .
المياه الجوفية :
لو فكرت في كل شيء لوجدت أن كل شيء مسخر للإنسان ، هذه المياه الجوفية لولا أنها تخرج على شكل ينابيع كيف نستفيد  منها ، إذاً :
         
        ﴿ أَلَمْ تَرَوْا ﴾
 
أيها الجاحدون ، لأن الكلام عاد إلى :
 
 
﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
 
         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ﴾
 
 علّة خَلق السماوات والأرض :
 
1 – تسخير الكون للإنسان :
فهذه اللام في ( لكم ) لام التعليل ، علة خلق السماوات والأرض أنها مسخرة لكم إكراماً وتعريفاً ، والكون مسخر لهذا الإنسان تسخير تعريف وتسخير إكرام .
2 – المسخَّر له دائماً أكرم من المسخَّر :
وشيء آخر ، هذا التسخير من معانيه الأخرى أن المسخَّر له دائماً أكرم من المسخَّر ، إذاً : أنت المخلوق الأول ، وأنت المكرم ، لأن الكون كله مسخر لك ، لكن ألا تسأل هذا السؤال : إذا كان الكون مسخراً لك فأنت لست مطالباً بشيء ؟ إذا أعطاك والدك كل ما تحتاج لتكون طبيباً ، منحك الأموال ، وسخر لك المدرسين ، ومنحك الميزات ، كل هذه الميزات تنالها ، ولا تشعر أنك مسؤول ، غير أنه مطلوب منك شيء ، هنا السؤال ، إذا كانت المجرات مسخرة لي ، والأفلاك ، وكل ما في الأرض وكل حيوان ، وكل طائر مسخرٌ لي ، إذا كان كل ما في البحار مسخراً لي ، وأنا لماذا خلقت ؟ هنا يأتي الجواب : عبدي ، خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما فرضته عليك .
الشيء الآخر ، أن الله عز وجل يقول :
         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ ﴾
 
3 – ليس ذكاء الإنسان هو الذي سخّر الطبيعة :
هذا تسخير الله عز وجل ، وقد يتوهم أيام أهل الدنيا أن الإنسان بذكائه استطاع أن يسخر الطبيعة أو يستغل الطبيعة أو يقطف ثمارها ، هذا كلام الشرك ، لولا أن الله أعطاك عقلاً أو فكراً هل بإمكانك أن تستفيد من شيء ، انظر إلى مجتمع الحيوانات ، هل تجد القرود استغلت ما في الطبيعة ؟  نمط حياتهاً هوَ هو منذ أن وجدت وحتى الآن ، وكل مجتمع حيواني هل ارتقى ! أما الإنسان بما أودع الله فيه هذا الفكر الذي يعد أثمن ما في الوجود ، بل أثمن عطاء وهبه الله للإنسان ، هذا الفكر اكتشف الإنسان البترول ، واخترع المركبات ، وأوجد المواصلات ، وبنى البيوت ، ونسخ القماش ، وتفنن في زراعة المزروعات .
إذاً : كل ما ترونه من إنجاز ـ إن صح التعبير ـ حضاري هو من حصيلة هذا الفكر الذي أودعه الله فينا ، إذاً : لولا أن الله أعطانا فكراً لما أمكننا أن نسخر الطبيعة لمصالحنا ، هذا التسخير بفضل الله عز وجل وبعلمه وبإذنه .
3 – ماذا تفعل لو أن المواد في الطبيعة لا تستجيب لعملك ؟
وشيء أخر ، لو أعطاك فكراً وطبيعة المواد في الطبيعة لا تستجيب لك ماذا تفعل ؟ الصخر لا يتفتت ، واللهُ عزوجل خلق الصخر ، وخلق فيه خاصة التفتت ، بل علّمك أن تضع فيه ماء ، وأن تجمد الماء فيتصدع الصخر ، إذاً : علّمك كل شيء عن طريق الفكر ، وعن طريق خواص المواد ، ولو أن هناك فكراً متفوقاً جداً وطبيعة المواد لا تستجيب لك فالتسخير لا يقع ، ولو أن المواد تستجيب لك لكنك لم توهب هذا الفكر ، فالتسخير لن يقع .
إذاً : ما وقع التسخير إلا بفضل شيئين : بفضل طبيعة المواد ، وأفضلُ مثلٍ الحديد ، لو كان الحديد كتلاً من الحديد الخام الصلب الصافي يستحيل استخراج الحديد ، ولكن الله جعل الحديد فلزات مع التراب تجمعه كما تجمع التراب ، ثم تجعله في فرن تزيح الشوائب ، وتبقي الحديد مصهوراً ، عندئذ تصنعه على درجات .
إذاً : التسخير يقتضي وجود طبيعة خاصة لموادّ تقبل التسخير ، والتسخير يقتضي وجود جهاز في الإنسان يعرف كيف يسخر هذه المواد له  .
4 – موقف الإنسان من تسخير التعريف وتسخير التكريم :
إذاً : التسخير هو تسخير تكريم وتسخير تعريف ، هذا الكون خلق على هذه الشاكلة من أجل أن تعرف الله من خلاله ، وأن تشكره من خلاله ، وأن تعرفه ، ولذلك جاء في الآيات الأخرى :
 
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا .
( سورة النساء 147)
أنت أمام مهمتين كبيرتين جداً : أن تشكره ، وأن تؤمن به ، أو أن تؤمن به ، وأن تشكره ، فإن آمنت به ولم تشكره فهناك مجال للمعالجة ، وإن شكرته ولم تؤمن به فهذا شيء مستحيل ، مستحيل أن تشكره من دون أن تؤمن به ، وإن آمنت به ولم تشكره فما حققت عبوديتك لله عز وجل ، فلذلك يقول الله عز و جل :
 
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ .
          أي إن آمنتم ولم تشكروا فسوف يعذب الإنسان ، إن شكر ولم يؤمن فهذا مستحيل عقلاً ، أن تتجه إلى شكر جهةٍ لا تؤمن بوجودها ، وهذا كلام غير منطقي .
إذاً : الكون مسخر تسخير تعريف ، ومسخر تسخير تكريم ، أنت من خلال تسخير التعريف عليك أن تؤمن ، ومن خلال تسخير التكريم عليك أن تشكر .
مثلاً : لو أن صديقاً لك يصنع أجهزة إلكترونية بالغة الدقة ، ولها فوائد جليلة ، فإذا قدم لك أحد هذه الأجهزة هدية ، وليكن هاتفاً مثلاً ، فأنت أمام هذا الهاتف تنتابك مشاعر متنوعة ، أبرزها ما أدقّ صنعه ، ما أجلّ فائدته ، حلّ لي هذه المشكلة ، وهذه المشكلة ، الآن أستطيع أن أتصل بشكل آلي كلما ظهر أن الخط مشغول أعاد الاتصال ، أنت مشغول بقضية ثانية ، والله هذه ميزة كبيرة ، إذا اتصلت بهذا اشخص يظهر الرقم على الشاشة ، فإن كنت مخطئاً تعيد الرقم مرة ثانية ، إن جاءتني مكالمة أعرف من الذي اتصل بي ، فإذا رغبت ألا أجيبه لا أجيب ، وإذا أردت أن أتصل في مكالمة خارجية مثلاً يقول لي كم دقيقة ، إذا قدم لك جهازا من هذا النوع فيه ذاكرات كثيرة جداً ، ستون ذاكرة مثلاً ، فهو يجيب عنك في أثناء غيابك ، تلقنه جملة يجيب بها عنك ، يسجل كل مكالماتك في أثناء غيابك ، إذا كنت في بلد آخر ، واتصلت بهذا الجهاز يسمعك كل المكالمات التي جاءتك خلال أيام ، فأنت تتابع قيمة هذا الجهاز ودقته والفوائد الكبيرة التي استمتعت بها ، واستفدت منها ، ألا ينتابك شعور : ما أدقّ صنع هذا الجهاز! ما أعظم هذا المهندس الذي اخترعه ! وما أدقّ تفكيره ! ما أدقّ  جزئياته ! تسبح بتعظيم مخترعه ، هذا شعور .
ثم إن هذا الجهاز غالٍ جداً ، قدم لك هدية مجانية ، تشعر بامتنان تجاهه ، هذا مثل مبسط ، ولله المثل الأعلى ، مثل مبسط لجهاز بالغ التعقيد ، عظيم الفائدة ، غالي الثمن ، قدم لك هدية ، فهذا الجهاز سخر لك تسخير تعريفبمستوى المهندس الذي اخترعه ، وتسخير  تكريم لأجل أن تحبه ، فإن لم تعظم ، وإن لم تحب في وقت واحد فقد بعدت عن الهدف الذي خلقت له ، يجب أن تحب ، ويجب أن تعظم ، دقة الجهاز يجب أن تحملك على أن تعظم صانعه ، وقيمة الجهاز وكونه قد أهدي لك ، ويجب أن تحملك على أن تحبهوأن تشكره ، وهذا معنى قول الله عز وجل :
 
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ   .
يجب أن تؤمنوا ، وقدم الشكر على الإيمان ، لأن الإيمان بلا شكر لا معنى له ، ولا قيمة له ، إن كان لا بدّ من إيمان وشكر فالشكر هو ثمرة الإيمان ،بل هو النتيجة التي ترجى من الإيمان ، فلذلك :         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
 
 ما علاقة الإنسان بالمجرات ؟
 
فقد يقول قائل : ما لي بهذه المجرة التي تبعد عنّا ستة عشر ألفَ ألف مليون سنة ، وما علاقتي بها ، وكيف أنها مسخرة  لي ، هذا كلام يقوله إنسان محدود التفكير ، يعني أنت ما علاقتك بالشمس ؟ علاقتك متينة جداً ، وربما كانت الشمس اتساق حركتها بسبب محلها من النجوم متوازنة معها في الحركة وفي التجاذب ، خالق الكون يقول لك :
         
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
 
هذه ( ما ) تفيد استغراق كل شيء ما في السماوات وما في الأرض  .
         
﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ﴾
 
 وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
 
1 – معنى أَسْبَغَ :
         ما معنى أسبغ علي النعمة ؟ يعني أتمها .
أحياناً تدعو إنساناً إلى بيتك ، تضعه أمام طعام لطيف منوع نفيس طيب متقن ، ومع الطعام كؤوس جميلة رائقة ، وصحون نظيفة ، وأدوات طعام جيدة ، ومقعد مريح ، والتهوية جيدة ، وباقة أزهار على المنضدة ، فإسباغ النعمة إتمامها ، وقد نعطره ، وقد تدعوه إلى أن يغسل يديه ، وقد تعطيه العطر والمنديل لينشف يديه ، وقد تجعل له مع بعض الطعام شراباً يروق له ، وقد توصله إلى بيته بعد ذلك ، وقد تقدم له هدية ، فإسباغ النعمة إتمامها .
2 – صوَرٌ من إسباغ النِّعمِ :
فالله عز وجل ما خلق القمح فقط ، بل خلق القمح والشعير والمحاصيل كلها ، وخلق الورود ، والروائح العطرة ، والتوابل ، والمنكهات ، والمقبلات ، والعصافير ، وأسماك الزينة ، وأشياء تزيد على حاجاتك الأساسية ، وأشياء كي تسرّ بها ، والحدائق ذات البهجة ، والأصوات الشجية ، والروائح العطرية ، والمناظر الجميلة ، وغابات من أجل أن تمتع عينيك بها .
إذاً : إسباغ النعمة إتمامها ، فإعطاء التفصيلات ، والثانويات ، والمتممات ، والمحسنات الأحجار الكريمة ، كالماس ، فهل الماس يؤكل ؟! بل للمنظر فقط ، واللؤلؤ في البحار لماذا ؟ كي تستميل به قلب زوجتك ، خلق أشياء لا علاقة لها بحياتك اليومية ، لكن لها متعة فقط ، وهذا من باب إسباغ النعمة .
    
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
 
 معنى : ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
  
المعنى الأول :
 
لكن معنى باطنة ، الحقيقة النعم لما قال الله عز وجل :
 
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا   .
( سورة إبراهيم 34 )
في الآية دقة ، كيف أقول لك : وإن تعدّ هذه الليرة ، كلمة تعد تعني ليرات ، وإن تعد هذه الليرة معنى ذلك أن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في تعداد خيراتها وبركاتها تنقضي الحياة ، ولا تنقضي خيرات ، أو بركات نعمة واحدة ، كالعين ، والأذن ، واليد ، والمفاصل .
         
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ﴾
 
السرُّ في مجيء لفظ النِّعم جمعًا :
هنا جاءت نعم جمعاً ، المأوى نعمة ، والزوجة نعمة ، والأولاد نعمة ، والطعام نعمة ، وهذا اللباس والصوف والقطن نعمة ، والهواء إذا تحرك نعمة ، والأمطار ، والنباتات ، وكل شيء حولك من نعم الله عز وجل  .
 
﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا .
 
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
 
 بعض النعم الظاهرة والباطنة :
         
نعمة الديدان في الأرض :
ظاهرة واضحة ، وباطنة أنت لا ترى ما في الأرض ، الأرض فيها ديدان ، فلو أن النوع البشري أبيد عن آخره فسوف تبقى الحياة مستمرة ، لو كان خمسة آلاف مليون إنسان  ثم ماتوا فالحياة مستمرة ، أمطار ، ونباتات ، وحيوانات ، ولكن من يصدق أن الديدان في التربة لو أبيدت لتوقفت الحياة على وجه الأرض ، فهل تعرف هذه النعمة ؟ نعمة الديدان في التربة ، قرأت عنها بحثاً لا يكاد يصدق ، فالتراب يتحول إلى سماد عن طريق الديدان ، وتخليل التربة ، وتعديل الحموضة ، عشرون فائدة تقوم بها الديدان وبكميات كبيرة .
إنّ الإنسان في أثناء إصلاح حقل نباتي يجد دودة فيظنها مؤذية ، ولولا هذه الدودة لما نبت النبات ، ولما دخل الهواء إلى التربة ، ولا انقلب التراب إلى سماد ، ولا اعتدلت حموضة التراب ، إنه شيء عجيب جداً ، فالفوائد التي تقوم بها الديدان في التربة الزراعية لا تعد ولا تحصى ، وهذه لا يعلمها كثير من الناس .
البكتيريا :
والبكتيريا لا تراها أنت ، فبعض الجراثيم ضار ، وبعضها نافع ، وهي كائنات حيوية ، وحينما ألقيت قنبلة على هيروشيما توقفت التربة عن إنبات النبات ، لأنها أصبحت معقمة من البكتيريا ، وقد رأيت لوحة تعليمية وهي مكعب من التراب مرسوم في هذا المكعب عدد الكائنات الحية التي تعمل مسخرة لخدمة الإنسان ، فيها عشرون أو ثلاثون نوعاً من الكائنات ، كلها مسخرة لتهوية التربة ، ولجعلها صالحة لإنبات النبات .
العـقل :
إذاً : هناك نعم ظاهرة ونعم باطنة ، فالعقل نعمة باطنة لا يرى بالعين ، ولكن ترى أثاره ، فالعقل وما فيه من محاكمة ، ومن تصور ، وتخيل ، وتدبر ، وحكم ، ونقض للحكم ، ونشاط العقل نشاط رائع جداً ، فهذا لا يرى بالعين  .
إذاً : النعم الظاهرة ما تبدو لعامة الناس ، والباطنة ما لا تبدو لعامة الناس .
نعمة العين :
العين فيها ماء ، وهذا الماء يجب أن يتجدد ، وإذا تجدد لا بدّ من صنبور يغذي العين بماء جديد ، ويبعد الماء الزائد ، ولو أن هذه الفتحة ضاقت ، أو سدت فيزداد ضغط العين ، وإذا زاد ضغط العين ضاقت الشرايين المروية للعين ، عندئذ تقع مشكلات كبيرة ، فيقال لك : أول شيء افحص ضغط عينك ، وأنت تعلم أن هناك جهازاً بالغ التعقيد ، ماء العين يتجدد ، وهناك ماء يصب على هذا الماء ، وفتحة تصرف الزائد منه ، ومن تناسب ما يأتي وما يذهب يكون الضغط طبيعياً ، فإذا جاء الوارد أكبر من التصريف ارتفع الضغط ، وضاقت الشرايين ، ووقعنا في مشكلة العين ، فهذه نعمة لا تعرفها أنت .
نعمة ضغط القلب والشرايين :
          ونعمة الضغط ، القلب يضغط على الشرايين ، فمن جعل هذه الشرايين مرنة ، حيث إذا جاءها نبض القلب لمرونتها نبضت ، تجاوبت مع القلب ، فأصبح كل شريان قلباً آخر ، بما أن الشريان مرن جاءته النبضة فتوسع لها ، ولما توسع ومادام مرناً أراد أن يعود إلى سابق حجمه فانضغط ، لما انضغط اندفع الدم ، وكل قطعة في الشريان قلب آخر ، والقلب ينبض نبضة ، والشرايين تتابع هذا النبض ، وأنت لما تضع جهاز النبض على يدك والعقرب يشير إلى 8/12 ، 10/16 ، هل تعلم كم دقة هذه الأجهزة والأوعية التي في الجسم ، الضغط مهم جداً ، إذا ارتفع الضغط كان له أخطار كبيرة ، فمن صمم هذا الضغط ! ومن جعل هذه الشرايين مرنة ! ومن جعل بعض النباتات ، أو بعض الأغذية تساعد على بقاء هذه الأوعية مرنة ، وهو الزيت البلدي ! ومن فوائده أنه يحافظ على مرونة الشرايين والأوردة ، وهذا معنى :
         
﴿ أ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
 
عمليات العين المعقدّة :
من يدري أن الإنسان لما يشاهد شيئاً مخيفاً تجري عمليات معقدة جداً في جسمه لا يدريها ، فالعين تبصر ، والشبكية ينطبع عليها شكل الأفعى ، فتنقل هذا إلى الدماغ ، فيدرك أن هناك خطراً ، والدماغ ملك الجهاز العصبي .
الجهاز الهرموني :
أما الجهاز الهرموني فله ملكة أسمها الغدة النخامية ، وهي تأمر غدداً أخرى ، في مقدمتها الكظر ، أن أيها الكظر ، ضيق الأوعية الدموية حتى يتوافر الدم لطاقة جديدة للدفاع أو الهجوم ، فالخائف يصفر لونه ، وأمر آخر للقلب حتى يزيد ضرباته ، فيجري الدم بسرعة ، وأمر ثالث للرئتين ليزداد وجييها ، وأمر رابع للكبد ليطرح سكراً إضافياً في الدم ، هذه نعمة باطنة لا تدريها أنت ، رأيت شيئاً خفت منه فاصفر لونك ، ودق قلبك ، ولهثت ، فلو فحصنا الدم وجدنا فيه سكر زيادة ، وأنت لا تدري أنه حصل ذلك بأقل من لمح البصر ، فهذه نعمة باطنة .
نعمة التقلُّب في أثناء النوم :
          وأنت نائم تتقلب ، ما معنى تتقلب ؟ اللحم الذي فوق العظم يضغط على اللحم الذي تحت العظم وأنت نائم ، فلك جهاز عظمي ، ولك عضلات ، وشحوم فوق الجهاز العظمي ، وعضلات تحت الجهاز العظمي ، وهذه حينما تنضغط تَنضغط معها لمعة الأوردة والشرايين .
الله عزوجل أودع في الجسم أماكن ضغط ، وإحساسا بالضغط ، فتضعف التروية فالرِِّجل تخدّر ، أي أنّ التروية قلَّت ، فأنت نائم مستغرق في النوم تأتي هذه المراكز المضغوطة فتنبه الدماغ إلى أن هناك ضغطاً شديداً أضعف فتحة الشرايين ، فالدماغ يعطي أمراً بالتقلب ، فيتقلب النائم ستاً وثلاثين مرة ، وأنت لا تدري ، فهذه نعمة باطنة لا تعلمها أنت .
نعمة تجمُّع اللعاب في أثناء النوم :
وأنت نائم يتجمع اللعاب في فمك ، ويعلم الدماغ بذلك ، فيعطي أمراً للسان المزمار فيفتح ، ولسان المزمار من أعقد الأجهزة ، إذا أغلق فتحة المريء يفتح فتحة الرئتين ، فإذا أغلق فتحة الرئتين يفتح المريء ، بإحكام بالغ ، وأنت نائم .
طرفةُ العين :
طرفة العين ، كل دقيقة ست عشرة طرفة عين ، وأنت لا تدري ، الآن في بعض السيارات الحديثة إذا حصل مطر خفيف ففي  كل عشرين أو ثلاثين ثانية تطلع المسّاحة مرة وترجع ، فهل معها مؤقت ؟ معها جهاز معقّد ، الحركة المستمرة سهلة ، أما كل ثلاثين ثانية تطلع مرة وترجع ، فهذه العين يأتي الجفن فيمسح القرنية ، أحياناً نمسح البلور بمادة مذيبة ( سبيترو ) ، أو الخل ، فهذا الدمع فيه مادة مذيبة دائماً ، فالرؤيا شفافة تماماً بفضل الدمع ،  وهذه المسحة ، وأنت لا تدري .
نعمة السمع :
وهناك مليون نعمة في جسمك لا تعلمها أنت ، وأنت تمشي في الطريق ، وراءك سيارة ، زمّرت لك تتجه إلى اليمين هذه نعمة ، إذ في الدماغ جهاز معقد جداً يتلقى الصوت من الأذنين ، والصوت يا ترى إلى أي الأذنين وصل أولاً ، طبعاً فرق 1/ 1650 جزءًا من الثانية ، هذا الجهاز يحسب الفرق ، فإذا وصل الصوت إلى الأذن اليمنى قبل اليسرى بواحد من ألف وستمائة وخمسين جزءا من الثانية فالسيارة تكون نحو اليمين ، فتعطي أمراً للإنسان أن اتجه نحو اليسار ، وأنت لا تدري .
ومرة كنت أقود مركبة في طريق سفر ، وأمامي قطيع من الغنم ، فأطلقت البوق ، فانزاح نحو الجهة المعاكسة ، قلت : الجماعة عندهم نفس الجهاز ، ليس فقط عندنا ، انزاحت كل هذه الأغنام إلى الجهة المعاكسة .
إذا : هذا الفكر ، لو أنك أعملته في خلق الله عز وجل لرأيت العجب العجاب :
         
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
 
الحوين المنوي :
الحوين المنوي فيه خمسة آلاف مليون معلومة ومبرمجة ، سنة كذا يشتد صوته ، سنة كذا ينبت له شعر ، سنة كذا ينمو الصدر ، كل ذلك بالتسلسل ، وهي صفات دقيقة جداً مبرمجة ، هذا المعنى الأول لـ :
         
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
 
المعنى الثاني :
 
المعنى الآخر : الإكرام الظاهر معروف ، لكن الإنسان أحياناً شارد لاهٍ منحرف ، مقصر ، تأتيه مصيبة ، ظاهرها مزعج جداً ، إذ يحترق محل تجاري ، فتتلف البضاعة كلها ، ويتألم ألماً شديداً فينعصر قلب التاجر بهذه الخسارة ، وعلى إثر هذه المصيبة يبدأ الصلاة ، ويعود إلى الله عز وجل ، ويقلع عن ذنوبه ، فإحراق هذا المحل الذي كان بقضاء الله وقدره كان نعمة باطنة ، ولو سألت معظم المؤمنين لوجدت العجب العجاب .
أنا أكاد أجزم أن تسعين بالمئة ممن هم مستقيمون على أمر الله استقامتهم وعودتهم كانت بسبب معالجة إلهية حكيمة مصيبة .
ربنا عز وجل يبلو الإنسان في ماله ، أو جسمه ، أو في أولاده ، أو مع مَن هم فوقه ، أو مع مَن هم دونه ، أو يأخذ منه حريته لسبب أو لآخر ، فيخرج من السجن إنسان آخر تائب توبة نصوحاً ، هذه نعم باطنة أيضاً ، وهناك نعم لا تراها ، ونِعم في ظاهرها مؤلمة ، وفي ظاهرها مصائب ، وفقر ، لكن لو كان الإنسان منحرفاً ، وأمده الله بالنعم مع انحرافه إلى أن مات ، واستحق جهنم يوم القيامة يعتب على الله :
 
﴿ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ .
( سورة القصص 47)
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى :
 
﴿ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ .
( سورة فاطر 37 )
 ما هو النذير ؟ وهل النذير من النعم ؟
 
          النذير هو المصائب ، فالمصيبة رسول ، هناك رسول حقيقي ، وقرآن ، وعلماء ، ودعاة ، وكون ، وعقل ، وفطرة ، وحوادث ، وإلهامات ، ومنامات ، ومصائب ، وكلها تهدف إلى إيقاظ الإنسان ، إلى دفعه إلى باب الله عز وجل  .
وأنواع المصائب تجتمع على محور واحد من أجل أن يتضرع الإنسان ، هذا المعنى الثاني لـ  :
 
﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾
 
         
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾
 
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ
 
1 – معنى العلم في هذه الآية :
العلم هنا في رأي بعض المفسرين الحجج العقلية والمنطق ، لا نص ، ولا كتاب ، ولا حديث ، ولا فطرة ، بل العقل والمنطق ، ولا هدى ، الهدى الإلهام ، والله عز وجل يلهم إنساناً أن يفعل شيئاً ، هذه هداية الله .
 
﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ¯قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى .
سورة طه49-50)
2 – من أعظم المصائب المجادلة بغير علمٍ :
          والهدى الإلهام ، فإما أن تملك شيئا مستفاداً من العقل ، وإما أن تملك شيئاً مستفاداً منه من الإلهام ، وإما أن يكون معك كتاب سماوي منزل من عند الله عز وجل ، فالإنسان ربما لا يفهم كلام الله ، ولا يتمتع بإلهام من الله عز وجل ، ولا يملك منطقاً راجحاً ، ومع ذلك يجادل .
قال الإمام الغزالي : " ما جادلني جاهل إلا غلبني ، ولا ناقشت عالماً إلا غلبته " .
هناك حجة عقلية ، فأنا أقول : عندك نقل ، وعندك عقل ، وواقع ، وفطرة ، فالواقع يؤكد الدين ، وكذلك الفطرة ، والعقل ، والنقل ، ومن أي شيء أردت ، العقل مؤيد ، وكذلك الفطرة ، والنقل ، والواقع مؤيد ، فهذا الذي يجادل بغير علم أي حجة عقلية ، ولا هدى إلهام ، بعض المفسرين قال الهدى ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام ، فالكتاب من الله ، والسنة من رسول الله ، والمنطق من العقل ، فرجل ليس معه عقل راجح ، ولا حجة يقينية ، ولا كتاب منير ، ولا سنة ثابتة ، وهو يناقش ، أو ليس معه إلهام ولا عقل ولا واقع .
         
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا ﴾
 
قول متكرر للمقلّدين : بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا 
 
1 – العادات المخالفة للدين مرفوضة :
فهذه هي العادات والتقاليد ، والعوام يقولون : هكذا تربينا ، وهكذا نشأنا ، وهكذا علّمنا أبي ، فإذا تربيت ، ونشأت ، والبيئة والمحيط كان وفق الحق فأنعم وأكرم ، وأما إذا تربينا على الاختلاط ، ونشأنا عليه فهذا خلاف الدين ، وتربينا على الربا ، وعلى كسب مال حرام ، تقول : هكذا أبي علمنا ، وعلى المماطلة في الوعود ، تربينا على كذا وكذا ، هذا كلام مرفوض .
والعادات والتقاليد تأمر أن يقف العريس أمام المدعوات الكاسيات العاريات ، كلما قلت لهم هذا شرع ، وهذا أمر الله ، وهذا نهي الله ، يقال لك هكذا تربينا ، وهكذا العادات والتقاليد ، وهكذا آباؤنا وأجدادنا ، والمجتمع ، والواقع ، والعصر ، فهذه هي التقاليد وهي ليست شريطة، بل يجب أن تداس بالأقدام إذا خالفت أمر الواحد الديان ، وما قيمة التقاليد إذا كانت خلاف الشرع ؟
          مرة كنت في قرية فقالوا : إنهم أحياناً يحتاجون إلى مال لشراء علف لأغنامهم ، فيتجهون إلى تجار يشترون صوف الأغنام ، فإن كان الكيلو بسبعين ليرة يأخذونه بعشر ليرات ، فهذا ربا ، ومن أشد أنواع الربا ، بالمئة خمسمئة للموسم ، استغلال حاجة الراعي إلى أقصى الحدود ، فهكذا نشأنا ، وهذه بلادنا ، وهكذا تربينا ، وتعلمنا ، فإن لم يكن هذا موافقاً للشرع فليس مقبولاً ، فعلى الإنسان أن يجري مراجعة حسب أسرته وعاداته وتقاليده ، وكل شيء موافق للشرع أهلاً وسهلاً به ، أما إذا كان مخالفاً فيجب أن ننبذه إذا كنت مؤمناً بالله عز وجل .
طبعاً بيع السلم مشروع بالمناسبة ، وهو أحد أبواب الفقه ، كأن تشتري البضاعة وتدفع الثمن معجلاً وتأخذ البضاعة مؤجلاً ، هذه مشروعة لكن لها شروط ، إذا خالفت شروطها انقلبت إلى بيع محرم ، جئت بهذا كمثل ، وهذه المنطقة هكذا يتعاملون ، ومنطقة ثانية يؤجر بيته بلا أجرة ، يأخذ خمسمئة ألف ليرة مالاً يجمده ، ويتاجر به إلى أن يخرج المستأجر ، فهذه علاقة غير مشروعة ، من أين جئت بها ؟ هذا المال الضخم الذي تستثمره لمصلحتك مقابل إيجار بيت ، أو أحياناً ينتفع بالرهن ، وهذا أيضاً خلاف المشروع .
مع بُعدِ الناس عن الله عز وجل ظهرت علاقات مالية غير صحيحة ، في البيع والشراء ، وعلاقات اجتماعية،وعادات تقاليد ، فيجب أن نعيد الفحص لكل شيء ألفناه عن آبائنا وأجدادنا  .
         
﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾
 
 أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
 
لعل آباؤهم كانوا ضالين ، لعلهم كانوا جاهلين ، ولعل الشيطان تمكن من آبائهم ، ودعاهم عن طريق آبائهم إلى عذاب السعير أيليق بنا ذلك .
 
﴿ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب