سورة لقمان 031 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 03)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة لقمان 031 - الدرس (1): تفسير الأيات (01 – 03)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة لقمان

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة لقمان- (الآيات: 01 - 03)

28/03/2012 18:44:00

سورة لقمان (031)
 
الدّرس (1)
 
تفسير الآيات: (1 ـ 3)
 
 
 
لفضيلةالأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
  
  
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الأول من سورة لُقمان :
بسم الله الرحمن الرحيم
       
 
﴿ الم ¯تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ¯هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾
 
 الكون طريق لمعرفة الله ، والقرآن سبيل لعبادته :
 
أيها الإخوة ، أولاً : كما تعلمون أن الكون كلَّه في كفَّة ، وأن كتاب الله في كفَّة ، والدليل أن الله عزَّ وجل يقول :
 
﴿    الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .
(سورة فاطر: من الآية 1)
وفي آيةٍ ثانية يقول :
 
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا .
(سورة الكهف1  )
الكون طريقٌ لمعرفة الله ، والكتاب طريقٌ لعبادته ، هذا الإله الذي خلق الكون له أمرٌ ، ونهيٌ ، وتوضيحٌ ، وتعريفٌ ، وتبيينٌ ، وتفصيلٌ كلُّه في القرآن ، لذلك ليس في حياة الإنسان كلها شيءٌ أهم ولا أعظم من أن يفهم كلام الله ، لأنه خطاب الله لهذا الإنسان ، فالله هو الذي خلق المجرَّات ، خلق السماوات ، خلق الأرض ، خلق الموت والحياة ، خلق الحيوان والنبات ، خلق الشفاء والأمراض ، الذي خلق كل شيء ، والذي بيده كل شيء ، والذي إليه مصير كل شيء هذا كلامه ؛ فيه توضيح وتعريف ، وتبيين وتنبيه ، وتحذير وتبشير ، ووَعد ووعيد ، وتطمين وتخويف .
 
 ليس شيء يعلو على كتاب الله :
 
إذاً : ليس في حياة الإنسان كلها كتابٌ يعلو على هذا الكتاب ، أو ليس في حياة الإنسان كلِّها اهتمامٌ يجب أن يزيد على اهتمامه بهذا الكتاب ، لأن الإنسان كائن من أعلى الكائنات ، مخلوق أول ، الله عزَّ وجل أودع فيه من عجائب الكون ..
أتحسبُ أنَّكَ جُرْمٌ صغير    وفيك انطوى العَالَم الأكبرُ
***
 
العقل : 
 
الحديث عن عقل الإنسان لا ينتهي في سنوات ، فالعقل البشري أعظم ما في الكون ، بل إن العقل البشري على عظمته عاجزٌ عن فهم ذاته ، فالجانب العقلي في الإنسان ، هل تغيَّر وضعُ الحيوانات كلها منذ أن خُلِقَت وحتَّى الآن ؟ هيَ هي .
1 – مجال العقل الاجتهادُ الدنيوي :
أما الإنسان فحينما استخدم العقل لا في معرفة الله ؛ ولكن في حياته الدنيا ، في تطوير حياته ، أين سَكَن ؟ وماذا ركب ؟ وكيف اتصل ؟ وكيف صعد إلى أعلى السماوات ؟ كيف وطأت قدمه على القمر ؟ وكيف غاص في أعماق البحار ؟ وكيف نقل الصورة ونقل الصوت ؟ وكيف اخترع هذه الأجهزة .
2 – مساهمة العقل في الإنجازات الحضارية :
فمنركب طائرةً مثلاً ثلاثمائة راكبٍ يركبون ، يأكلون ويشربون وهم في أطباق السماء، هذا أحد إنجازات العقل الذي أودعه الله فينا ، فالإنسان عنده عقل ، فهو طاقة خطيرة جداً إن وجِّهَت فعلت المعجزات ، وإن وجِّهَت نحو الشر فعلت الكوارث ، والحديث عن الأسلحة الحديثة ، والكيماويَّة ، والقنبلة العنقودية ، والقنبلة الذكيَّة ، وأشعَّة الليزر ، ليست عنا ببعيد ، هذا كله من إنجاز العقل حينما أراد أن يدمِّر أخاه الإنسان ، فأعظم ما في الكون هو هذا العقل الذي أودعه الله في الإنسان ، إما أن يرفعه إلى أعلى عليين ؛ وإما أن يهبط به إلى أسفل سافلين .
        الحديث عن العقل بمعنى الفكر ، عن إمكاناته ، عن طاقاته ، فمكان الذاكرة لا يزيد على حبَّة العدس ، هذا المكان يختزن أكثر من سبعين مليار صورة في عمر يزيد على ستين عاما ، وتستدعيها متى تشاء ، فهي مُبرمجة ، مؤرشفة ـ باللغة الحديثة ـ يمكن أن تختزن هذه الصورة في مكان بعيد لا تحتاجها ، أو في مكان قريب ، تقول : هذا الوجه ألمحه ، وهذا الصوت أعرفه ، وهذه الرائحة شممتها ، وهذه الأكلة أكلتها ..
أتحسبُ أنَّكَ جرْمٌ صغير    وفيك انطوى العَالَم الأكبرُ
***
أنت الكائن الأول ، أنتالمخلوق الأول ، المخلوق المكرَّم ، فالحديث عن عقلك لا ينتهي ، وكل ما تراه عينك في هذه الأرض من إنجازات تسمى حضارية ، هي ثمرة من ثمار العقل حينما توجَّه إلى الدنيا ، أما إذا توجَّه هذا العقل إلى معرفة الله .
إن عقل الإنسان فيما يبدو أسعد بعض البشريَّة ، أسعد الأغنياء ، أجهز ، يقول لك : وأنا في السيارة أبعث رسالة مصوُّرة إلى أي مكان في العالَم ، بواسطة جهاز نقل الصور في السيارة ، وأنا أتصل ، فهذا العقل البشري أسعد بعض الناس ، أو أسعد الأغنياء ، ولكن إذا اتجه هذا العقل إلى معرفة الله سَعِدَ صاحبه إلى أبدِ الآبدين .
)) إن الله لما خلق العقل قال له : أقبل فأقبل ، ثم قال له : أدبر فأدبر ، فقال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك ، فبك آخذ ، وبك أعطي )) .
[ ورد في بعض الآثار ، راجع كشف الخفاء]
الحديث عن العقل ذو شجون ، المعرفة الإنسانيَّة ، أنواع العلوم التطبيقيَّة والمحضة ، هذا الذي تراه عينك في كل موضوع آلاف المراجع ، آلاف المصادر ، علماء ، بحوث ، تجارب ، هذا العقل ، هذه الطاقة الهائلة صُرِفَت إلى الدنيا ، فكانت هذه ثمراتها ، فلو صُرِفَت إلى الآخرة فما تكون ثمارها ؟ سعادة أبدية .
 
سعادة النفس وشقاؤها  سرٌّ من أسرار الخَلق :
 
وهذه النفس البشريَّة ، وما فيها من مشاعر ، من أحاسيس ، كيف تغضب ، كيف ترضى ، كيف تسعد ، كيف تشقى ، كيف تخجل ، كيف ينشأ فيها الصراع ، عالَم قائم بذاته ، عِلم النَفْس لازال في البدايات ، لازال يحبو،علم النفس ، ولقد ألَّف رجل كتاباً وسمَّاه .. الإنسان ذلك المجهول .. لا تزال هذه النفس ذات طبيعةٍ مجهولة .
امرأةٌ في بلدٍ أوروبي ، وهي في المطبخ ترى ابنها قد دُهِس ، وهو في باريس ، تصف الحادث وصفاً دقيقاً ، رأته بعينها ، وبعد أيامٍ جاء نعشه إلى البيت مع تقريرٍ تفصيلي بالحادث كما رأته هي ، كيف ؟ لا أحد يدري ، سَمُّوا هذه الظاهرة التخاطر النفسي ، سيدنا عمر وهو على المنبر رأى سارية خلف الجبل في بلاد فارس ، فقطع الخطبة وقال : << يا ساريةُ الجبلَ الجَبلَ >> ، سيدنا سارية قال : << أسمع صوت أمير المؤمنين يحذِّرنا الجبل >> ، فسِّروا ذلك ! لا نعرف ، لا يوجد تفسير ، الحادثة وقعت ، لكن ما تفسيرها ؟ الله أعلم ، لا تزال النفس في غموض شديد جداً .
 
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
 
أما الروح فلا نعلم عنها شيئاً ، ولكن آثارها واضحةٌ جداً ، الإنسان يفكِّر ، يحل معادلة ، يحل مسألة ، يخطِّط ، يؤسس بفكره ، يهيِّئ كلمة ، يتذكَّر ، يتصوَّر ، يتخيَّل ، يراجع موضوعاً ، يأكل فيه الغدد اللعابيَّة ، المريء ، المعدة ، الأمعاء ، البنكرياس ، الغدد الدرقية ، النخاميَّة ، الكبد ، العضلات ، القلب ، فأعقد آلة في الكون هو الإنسان ، لو قُطِعَ عنه إمداد الله عزَّ وجل ، أو سُحِبَتْ منه الروح ، يضع أهله له لوحين من الثلج في نفس اليوم لكي لا تفوح رائحته ، الدنيا شديدة الحرارة ستفوح رائحته ، لا نستطيع ، قبل دقيقتين كان مصدر حيويَّة في البيت ، كان في البيت يتكلَّم ، ويمزح ، ويضحك ، ويعطي أوامر ، ويستقبل ضيوفاً ، ويصدر توجيهات ، والناس بين يديه خاضعون ، ما الذي حدث بعد ذلك ؟ صار يحتاج إلى لوحين من الثلج ، هذه هي الروح ..
 
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾ .
(85سورة الإسراء )
لا نعلم شيئاً عن الروح ، بالروح الكبد يقوم بخمسة آلاف وظيفة ، فإذا انسحبت الروح يصير ( كيلو سوداء ) ثمنه ثمانون ، أو تسعون أو مئتا ليرة .
بالروح ترى العين ثمانمئة ألف لون أخضر مع التفريق بين الدرجات ، بين درجتين ، بدون روح توضع العين ، أو عين الدواب توضع في القمامة ، فليس لها استعمال إطلاقاً ، بالروح هذا الدماغ يخترع  يكتشف ، يُحَلل ، يركِّب ، من دون روح يصبح نخاعاً ثمنه كذا ، من دون روح .
 
جسم الإنسان سرٌّ أيضاً :
 
جسم الإنسان كما قلت لكم سابقاً : فيه حديد يصنِّع مسمار واحد ، وفيه كلس يطلي بيت دجاج ، وفيه مواد تصنِّع لوح صابون ، وبالمئة سبعون من وزنه ماء ، فالإنسان كمواد لا يزيد ثمنه على خمس وعشرين ليرة .
أمّا أنْ يأتي إنسان كالأنبياء العظام يقلبون وجه التاريخ ، يبثّون الفضيلة ، والهدى في الأرض ، فهل هناك إنسان وحده في ربع قرن يفعل كما فعل النبي ، حيث عمَّ الإسلام في الخافقين ، فالإنسان عظيم ؛ أما الإنسان الخاسر فهو الذي لا يعرف قيمة نفسه ، هوالذي يعيش على هامش الحياة ، هو الذي يأتي ويقول : نعيش لنأكل ، هذا مستوى منخفض جداً ، هناك مستوى أعلى يقول : نأكل لنعيش ، وهذا مستوى فيه جهل ، أما المؤمن فيقول : نعيش لنعرف الله ، ولنعمل عملاً صالحاً يسعدنا إلى الأبد .
هذا الإنسان روحه سِر ، نفسه سرّ ، جسمه لا يزال الطب في بحوث جبَّارة ، ولم يتقدَّم إلا إلى القليل ، لا زال القلب سراً ، الأعصاب سر .
 
طبيعة الموت سِرٌّ :
 
لا تزال طبيعة الموت سرَّاً ، فما هو الموت ؟ توقُّف القلب ؟ لا ، الآن يوصلون الأوعية عن طريق قلب صناعي ، الدم يجري في الجسم إلى ما شاء الله ، والإنسان مَيِّت ، ليس توقُّف القلب هو الموت ، يا ترى توقُّف نشاط الدماغ ؟ ربَّما ، فكلمة ( ما الموت ؟ ) إلى الآن غير معروفة .
فما هو المنام ؟ الإنسان ينام في غرفة قميئة مظلمة ، يرى نفسه في جنان مع أحبابه ، يقوم من الفراش وهو من أسعد الناس ، فما الذي حدث ؟ قد ينام رجلان في غرفةٍ واحدة ، فيرى إنسان نفسه مع الثعابين ، ومع الوحوش ، ومع أعدائه ، وقد وقع من على سطحٍ  ، وقد دهسته سيارة ، وقد نُقِلَ إلى مكانٍ بعيد ، وقد مات ابنه فيبكي في الليل ، وإنسان آخر يرى نفسه من أسعد الناس ، وهو نائم ، فما هو النوم ؟ ما هو الحُلُم ؟ ما تفسير هذه الأحلام ؟
 
 
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا .
(سورة الإسراء(8)
 
 لا بد للإنسان من كتاب ومنهج :
 
فإذا تحرَّك الإنسان من دون علم سيغلط ، وسيتحرَّك حركة عشوائيَّة ، وسيأخذ ما ليس له ، وسيطغى ، وسيعتدي ، إذاً لابدَّ من منهج ، لابدَّ من كتاب ، لابدَّ من توجيه ، لابدَّ من افعل ولا تفعل ، لابدَّ من هذا الشيء حلال وهذا حرام ، هذا يجوز وهذا لا يجوز ، هذا ينبغي وهذا لا ينبغي ، هذا يُرضي الله وهذا لا يرضي الله .
إن الإنسان بلا كتاب لا يساوي شيئا ، والدليل أن الله سبحانه وتعالى قال :
 
 
﴿الرَّحْمَنُ¯عَلَّمَ الْقُرْآنَ¯خَلَقَ الإِنسَانَ¯عَلَّمَهُ الْبَيَانَ .
(سورة الرحمن1-4 )
 
 عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ
 
         يا رب ، أيعقل أن تعلِّم الإنسان القرآن قبل أن تخلقه ؟ لا ، يخلقه ويعلِّمه ، ولكن قدَّم القرآن على خلق الإنسان ، لأن حياة الإنسان من دون قرآنٍ لا معنى لها ، حياة حيوانيَّة ، حياة عشوائيَّة ، تخبُّط ، تحرُّك أعمى نشاط فارغ ، نشاط غير هادف ، إذاً لا شيء في الحياة كلها يعلو على فهم كلام الله ، فحينما تأتي إلى مجلس علمٍ لتفهم كلام الله إياك أن تتوهَّم أنك استهلكت الوقت ، إنَّك تفعل المهمَّة التي من أجلها خُلِقْتَ ، إياك أن تتوهَّم أنك حينما تترك العمل فتأتي إلى حضور هذا الدرس ، لا ، هذا هو العمل الأول ، هذا هو العمل الذي لا يعلو عليه عمل ، أن تفهم منهجك ، كلام الخالق ، أي كتابٍ على وجه الأرض فيه الحق وفيه الباطل ، فيه الخطأ والصواب ، فيه الجيد والسيئ ، فيه الصحيح وغير الصحيح ، فيه الصالح والطالح ، كتاب فيه انسجام وكتاب فيه تناقض ، فيه بحث وافٍ وبحث غير وافٍ ، فيه معالجة عميقة ومعالجة سطحيَّة ، هذا شأن كتب البشر ، لكنك إذا أقبلت على كتاب الله لا ريب فيه ، لا خلل ، لا نقص لا سطحية ، لا بساطة ، لا تناقض ، لا انحراف ، لا مبالغة ، لا تصغير ، لا تهويل ..
 
﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ .
(سورة البقرة  2   )
كيف أن الكون كاملٌ في خلقه ، كيف أن الله عزَّ وجل يقول :
 
 
﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ .
(  88   سورة النمل )
إذا رأيت عظمة الخالق في خلقه فهذا كلامه ، ففي هذا الكلام من العظمة والدقَّة والوضوح والنفع والخير بقدر ما في هذا الكون من إتقان ، هذا كلامه ، فلذلك الذي دعاني لهذه المقدِّمة أن الله عزَّ وجل يقول :
      
﴿ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾
 
 الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
 
      هذا الكتاب حكيم ؛ حكيم في حجمه ، لو أن هذا القرآن سبعة آلاف صفحة ، لو أن فيه تفصيلات دقيقة جداً لَمَلّت النَفس ، لو أن فيه موضوعات مبوَّبة ، تقول : هذا الموضوع لا تتفاعل نفسي معه ، إنه منسَّق تنسيقا من عند الخالق ؛ فيه آياتٌ كونيَّة ، آياتٌ توجيهيَّة ، آياتٌ فيها بُشرى ، آياتٌ فيه إنذار ، صورٌ من أهل الجنَّة ، صور من أهل النار ، تشريعٌ حكيم ، أخبارٌ صادقة ، حديثٌ عن المستقبل ، موضوعات يأخذ بعضها برقاب بعض ، كلها من أجل أن تتعرَّف النفس إلى ربِّها ، كل هذه الموضوعات من أجل أن تأخذ بيدك إلى الله .
لذلك لا شيء في حياتك كتأسيس عمل ، وتأسيس مشروع ، وإقدام على زواج ، وتحضير لشهادة عُليا ، لا شيء في حياتك يعلو على أن تفهم كتاب الله لأنه منهجك ، والإنسان بلا منهج لا معنى له ، وليته لا معنى له بدون كتاب ، ولكنه سوف يخطئ ، وسوف يتجاوز ، وسوف يقتحم ، وسوف يطغى ، وسوف يبغي ، أما إذا عرف حدوده ، عرف حدَّه فوقف عنده ، عرف التوحيد ، عرف معنى لا إله إلا الله ، عرف معنى خَلْقِهِ في هذه الدنيا ، عرف سرَّ وجوده .
فيا أيها الإخوة الأكارم ، كلَّما تاقت نفسي إلى موضوعٍ آخر غير القرآن الكريم لا أجد موضوعاً أجدى ، ولا أنفع ، ولا أقوى ، ولا أقوم من كلام الله عزَّ وجل ، كلام خالق الكون ، قال :
      
﴿ تِلْكَ ﴾
 
 القرآن معجزة إلى قيام الساعة :
 
وهذا من رحمة الله بنا ، أن الأنبياء جميعاًَ أتوا بمعجزاتٍ حسيَّة ، فالعصا صارت أفعى، هذه من رآها ؟ رآها نفرٌ قليل ، وأصبحت خبراً يروى ، سيدنا عيسى أحيا الميِّت ، ولكن من رآه فعل هذا ؟ نفرٌ محدود ، ثم أصبح خبراً يصدَّق أو لا يُصدَّق ، بحسب إيمان الإنسان ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بمعجزةٍ هي بين أيدينا ، منذ أن جاء وإلى قيام الساعة ، هذه المعجزة بين أيدينا ، اقرأ وتأمَّل ، اقرأ ودقِّق ، اقرأ وتدبَّر ، هل في الأرض كلها كتابٌ يمضي على نزوله من السماء خمسة عشر قرناً ، والعلوم تقدَّمت في هذه الحقبة تقدُّماً مذهلاً .
 
 موافقة العقل والفطرة للقرآن :
 
إن بعض العلماء يقول : " إن التقدُّم العلمي كله للبشريَّة منذ أن وجِدَت وإلى قبل خمسين عاماً في كفَّة ، ومن خمسين عاما وحتى الآن في كفَّة ثانية " ، ومع ذلك لم يظهر لا في علم الفلك ، ولا في علم الطب ، ولا في علم الجيولوجيا ، ولا في علم النبات ، ولا في علم الحيوان ، حقيقةٌ علميَّةٌ قطعيَّةٌ تتصادم مع آيةٍ قرآنيَّة ، هذا لأنه كلام خالق الكون .
دائماً وأبداً أقول لكم : هذا الخالق العظيم ، الكون خلقه ، والقرآن كلامه ، والحوادث أفعاله ، والعقل مقياسه أودعه فينا ، والفطرة أيضاً خَصِيصَةٌ خصَّ الإنسان بها ، فيجب أن يلتقي الكون مع القرآن مع العقل مع الفطرة مع الحوادث ، هذا الانسجام لابدَّ منه ، ما يفعله الله موجود في القرآن ، وما في القرآن يفعله الله ، وما يفعله الله وما في القرآن يقرُّه العقل ، وما يقرُّه العقل ترتاح له الفطرة ، فالحوادث والخلق والكتاب والعقل والفطرة من أصلٍ واحد ، من عند الله ..
       
﴿ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾
 
 معنى : الحكيم :
 
1 – موضوعات القرآن تامة عددا :
       ومعنى حكيم ، مثل قريب .. هذه الثريَّا ، يمكن أن يكون ارتفاعها بعشرات الأماكن ، بدءاً من السقف وحتى الأرض ، لو كانت على الأرض فهذا المكان ليس حكيماً ، لأن الثريا أخذت مساحةً منه ، وآذت العيون ، لو ارتفعت قليلاً لما أمكن السير تحتها ، لو ارتفعت قليلاً لسار من تحتها القصير ، ولارتطم بها الطويل ، لو كانت في السقف لبَعُدَ نورها  ، هناك مئة احتمال ، وعلى مستوى السنتيمترات ألف احتمال ، لكن في هذا المكان تقول : في هذا المكان حكيم ، فالممكن متعدِّد ، أما هذا المكان فهو الراجِّح ، ولا راجح بلا مُرَجِّح ، معنى هذا أن هناك جهةٌ حكيمةٌ قدَّرت هذا ، فكما أن خلق الله فيه حكمةٍ بالغة ، كذلك كلامه فيه حكمةٍ بالغة ، أي أن مجموع الموضوعات التي عالجها القرآن الكريم مجموعٌ تام ، يغطي كل شؤون حياة الإنسان .
2– موضوعات القرآن كاملة نوعا :
إن طريقة معالجة أي موضوع طريقةٌ كاملة وافية ، لا فيها اختصار مخل ، ولا فيها إطناب ممل ، كتابٌ حكيم ، طريقة عرض القصص فيها حكمة بالغة ، طريقة إيراد الأوامر والنواهي فيها حكمة بالغة ، طريقة تحريم الخمر بالتدريج فيها حكمة بالغة ، سكوته عن أشياء فيه حكمةٍ بالغة ، تفصيله في أشياء فيه حكمةٍ باللغة ، إيجازه في أشياء فيه حكمةٍ بالغة ، تجاوزه عن أشياء فيه حكمةٍ بالغة ، لو أن هناك وقتاً طويلاً ، لو تناولت القصص القرآنيَّة ، والآيات الكونيَّة ، ولكن لماذا اختار ربنا عزَّ وجل هذه الآيات الكونيَّة من بين آلاف ملايين الآيات ؟ لحكمةٍ بالغة ، لماذا عرض علينا هذه القصَّة بهذه الطريقة ؟ لحكمةٍ بالغة ، لماذا جاءت الأوامر هكذا ؟ لحكمةٍ بالغة ..
      
﴿ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾
 
      فكِّر ، تدبَّر ، تشعر أن هذا الكلام كلام خالق الكون ، وأن هذا الكلام يحتاج منك كل وقتك ، وكل جُهدك ، وكل طاقتك ، وكل قلبك ، وكل اهتمامك ، قال هذا الكتاب :
       
﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾
 
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ
 
1 – معنى الهدى :
        ما معنى كلمة هدى ؟ أخي هديته إلى البيت ، معنى هديته أي هناك إنسان يدل إنسانا ، هناك جهتان ، كلمة هدى فيها جهتان .
مثلاً إذا قلنا : تجارة ، كلمة تجارة كلمة واحدة ؛ ولكن من مقتضياتها بضاعة ، وشراء ، ومبيع ، وربح ، حينما تقول : تجارة ، أي اشترينا سلعةً ، وبعناها بسعرٍ أعلى ، وربحنا فارق السعرين ، أليس كذلك ؟ الآن إذا قلت : هدىً ، كلمة هدى تعني أن جهةً دلَّت جهةً ، لا يكفي جهتان ، جهةً دلَّت جهةً هذا كلام ناقص ، ما إتمامه ؟ على ماذا دلَّت ؟ جهة دلَّت جهة على شيء ، أي أن الدلالة الموصلة إلى المطلوب ، فكلمة هدى تعني أن خالق الكون دلَّ المخلوق على هدفٍ يُسْعِدُهُ ، خالق الكون دلَّ مخلوقاته على هدفٍ ثابتٍ يسعدهم في دنياهم وفي أخراهم ، هذا هو الهدى .
2 – الخالق هو الذي يدل خلقه على الخير :
ولكن الذي يَدُل ، من هي الجهة المؤهَّلةٌ أن تدلَّ الخلق ؟ فهل يصح لإنسان أن يهدي إنساناً في معزل عن هدى الله عزَّ وجل ؟ لا يصح ، الإنسان جاهل ، وعاجز ، وأُفُقُه محدود ، وعلمه محدود ، له مصالح ، فمثلاً لو قلت لإنسان لا دين له : دُلَّني على قماشة مناسبة ، يدلَّك على الكاسدة ، لأنه يريد أن يصرِّفها ، هل يصح لإنسان في معزل عن كتاب الله أن يهدي الناس ؟ فهل هناك هدى أرضي ، الجواب : لا ، فلا توجد جهة في الأرض بإمكانها أن تهدي لأنها عاجزة ، لأنها محدودة ، لأن آفاقها محدودة ، لأنها ليست خبيرة بطبيعة النفس البشريَّة ، لأن لها مصالح ، لأن لها قضايا ، لأنها طرف ، إذاً لا يمكن للهدى إلا أن يكون سماوياً .
3 – محدودية المخلوق تدل على محدودية أساليبه وأهدافه :
وحينما كان الهدى أرضياً رأيتم بأعينكم كيف يتصارع الناس ، ويتقاتلون ، وهذه الأهداف التي بقيت سنوات وسنوات أصبحت أهدافاً غير صحيحة ، وتلاشت بعد سبعين عاماً ، فإذا اخترع الإنسان لنفسه هدى ، إذا اخترع أهدافاً ، إذا رسم الإنسان أهدافاً ، وسار نحوها فهناك مغالطة كبيرة ، قد يكتشف بعد قرون أنه كان واهماً ، وأن هذا الكلام مخالفٌ لطبيعة النفس البشريَّة ، قد يكتشف بعد فوات الأوان ، وبعد أن يدفع الثمن باهظاً ، وبعد أن يدفع الغالي والرخيص يكشف أنه كان واهماً ، وأنه كان مخطئاً ، وأنه كان جاهلاً ، وأحداث التاريخ بين أيديكم ، هؤلاء الذين ابتعدوا عن الله وقالوا : لا إله ، ووضعوا أهدافاً أرضيَّة وساروا نحوها ، بعد سبعين عاماً رأوا أن هذه الأهداف غير صحيحة ، وأنها باطلة ، وأنها تشقي ، ولا تسعد ، أليس كذلك ؟
4 – وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ
إذاً : الهدى لا يمكن إلا أن يكون من الله ، لماذا ؟ لأن الله عزَّ وجل يقول :
 
﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ .
(سورة فاطر14)
لو أن عندك آلة غالية الثمن،أو عقلاً إلكترونياً ، جهازاً معقداً جداً صنعته أرقى شركة ، أيعقل أن تذهب إلى بائع الخضار في حَيِّك تقول له : تعالَ أخبرني عن طريقة عمله ، أو عن طريقة صيانته ، لا ، مع احترامنا الشديد لأي إنسان ، لكن هذا الإنسان ليس مؤهلاً أن يعرف دقائق هذا الجهاز .
 
﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ .
(سورة الفرقان14  )
أنت في شؤونك لا يمكن أن ترجع لإنسان ما ، وتقول له : دلني ماذا أفعل ؟ هذاالذي تسأله لا يعرف شيئاً ، هذا إنسان مثلك ، يجب أن تسأل خالق الكون ، يجب أن تسأل الصانع ، يجب أن تسأل الخبير ، يجب أن تسأل المُصَمِّم ، فأحياناً إذا كانت السيارة غالية جداً ، يقول لك : أخذتها على مركز الصيانة الذي أسسته الشركة الصانعة ، لها فرع ، لأن فيهاخبرة ، إذا كان الإنسان مركبته غالية عليه يأخذها إلى الخبير ، إلى الجهة الصانعة يسألُها ، وإذا كان جسمه فيه خلل يسأل عن أحسن طبيب ، عن أحسن اختصاص ، عن اختصاصه ، وعن شهاداته ، وعن خبراته ، وعن تجاربه ، وعن عمر تجاربه ، فهذه النفس تسلمها لمخلوق ، تسلمها لكتاب تقرأه ، تسلمها لجهةٍ في الأرض تخطط لك .
 
﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ .
(سورة الفرقان14)
هذا الكتاب هدىً ، معنى هدىً أن هناك جهة تَهْدِي ، وجهة تُهْدَى ، وهدف ، هذا الهدف إذا كان من وضع الخالق فهو هدف ثابت ، ليس فيه مفاجآت ، وأنا أؤكد لكم أن أي إنسان يضع لنفسه هدفاً ، هو يضعه ، أو يسمح لإنسان آخر ، أو لجماعة ، أو لجهة أن تضع له هدفاً ، ويسير نحوه ، لابدَّ من أن يصعق في مرحلةٍ من مراحل حياته حينما يكتشف أن هذا الهدف باطل ، وأن هذا الهدف غير مسعد ، وأن هذا الهدف لا يوصل ، وأن هذا الهدف كان سخيفاً ، وكان قميئاً ، وليس يليق بالإنسان أن يسعى إليه ، أما إذا طلب الإنسان من الله عزَّ وجل أن يضع له الهدف ، فالله عزوجل قال لك :
 
﴿وَالْعَصْرِ¯إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر¯إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
(سورة لعصر1-3)
يا عبدي ، افعل ما شئت ، فأنت في خسارة ، لأنك وقت ، والوقت يمضي ، لأنك بضعة أيام ، ولابدَّ من أن تمضي ، افعل ما شئت ، فأي عملٍ لا يتصل بإيمانك بي ، وبعملك الصالح ، وبالدعوة إلي ، وبصبرك على أمري فهذا عملٌ خاسر .
يمكن أن تتملك أكبر شركة في العالم ، وأنت في خُسر ، يمكن أن تصل إلى أعلى منصب في العالم وأنت في خُسر ، يقول لك : حصل اضطراب بنظم القلب ، وكان قد سَيَّر الجيوش ، حَرَّك ثلاثين دولة ، ثم أصابه اضطراب بنظم القلب ، لآن إنسان ضعيف .
 
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر¯إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ .
       فهدى ..
الملخص : ليس في الأرض كلها جهةٌ تستطيع أن تهدي ، لأنها لا تستطيع ، لأن مقوماتها لا تمكِّنها من ذلك ، أو لأنها لا تريد ، لو استطاعت لا تريد ، لكن خالقك هو الذي يهديك ، فلذلك :
 
﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا .
(سورة الكهف28)
 
﴿ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾
 
(سورة لقمان : من الآية 15)
 
 اتّبعوا سبيل الله ولا تتبعوا سبل الناس :
 
ارجع إلى من أناب إلي ، اتبع سبيل من عَرَّفَكَ بهذا الكتاب ، لا يوجد إنسان في الأرض يحق له أن يقول لك : هذا من عندي ، من أنت ؟ أنت مثلي عبدٌ لعبد ، لا يحقُّ لإنسان إلا أن يقول لك : قال الله عزَّ وجل ، أنا عبد ، إلا أن يقول لك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا حديث صحيح ، قاله النبي فقط ، أما أن يقول لك إنسان : هذه من عندي خذها ، فمن أنت ؟ هذه ضعها برقبتي ؟ من أنت ، هذه بذمتي ، وبرقبتي ، وضعها في الخُرْج ، ولا تسأل، وأنا أقول لك هكذا ، من أنت ؟
 
قصص من حرص السلف على عدم اتباع أقوال الرجال المخالفة للشرع : 
 
1 – مع الفاروق عمر بن الخطاب :
ألم يقل سيدنا عمر لأحد ولاته عندما جاءته رسالة منه يقول فيها : << إن أناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم ، لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسهم بالعذاب ، فإن أذنت لي فعلت >> ،  قال له سيدنا عمر : << يا سبحان الله ! أتستأذنني في تعذيب بشر ـ من أنا ؟ ـ وهل أنا لك حصنٌ من عذاب الله ؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله ، من أنا حتى تستأذنني في تعذيب بشر ؟ قال له : " أقم عليهم البينة ـ أليس معك دليل ، إثبات قطعي ، حجة ، مستمسك ـ أقم عليهم البينة ، فإن قامت فخذهم بالبينة ، فإن لم تَقُم البينة عليهم فادعهم للإقرار ـ للاعتراف ـ فإن أقروا فخذهم بإقرارهم ، فإن لم يقروا فادعهم لحلف اليمين ، فإن حلفوا فأطلق سراحهم >> ـ فليس هناك سوى هذه الثلاث قنوات مسموح بها ، إمَّا البينة ، أو الحلف ، أو الإقرار ، أو حلف اليمين ـ وايم الله لأن يلقوا الله بخياناتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم >>  .
2 – مع الحسن البصري :
سيدنا الحسن البصري كان عند أحد ولاة بني أمية ، كان والياً ليزيد ، جاءه توجيه من يزيد فيه انحراف ، أو فيه مخالفة لأمر الله عزَّ وجل ، فالوالي احتار ، وعنده الحسن البصري ، قال له : " ماذا أفعل ؟ " ، والله قال له كلمة تكتب بماء الذهب ، قال له : " إن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله " .
 
 لا أحد يردُّ عنك قضاء الله :
 
إذا أطعت الله عزَّ وجل فإنه يحميك من يزيد ، ولكن إذا أطعت يزيد وعصيت الله فإن يزيد لا يستطيع أن يحميك من الله .
فهذه اجعلها في أعماقك ، أي إنسان ، زوجتك ، لو أطعتها في معصية لا تستطيع أن ترد عنك مرضاً عُضالاً ، هي تبكي فقط ، صديقك ، شريكك ، أعلم منك ، لو أطعته في معصية هؤلاء جميعاً لا يستطيعون أن يردوا عنك شيئاً أراده الله ، قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس : ((  وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ )) .
[ سنن الترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ]
 
من كمال التوحيد العلاقة مع الله وحده : 
 
روعة الإيمان أن علاقتك مع جهة واحدة ، مساكين أهل الدنيا ، متمزقون ، علاقته مع فلان وفلان ، إذا أرضى فلاناً يغضب فلان ، يقول : يجب أن أزوره ، ولا يراني ، إن زار فلانا ، وعلم فلان يغضب مني ، إن قدم نحو زيد يغضب عُبيد ، إن أعطى فلاناً يغضب عِلاَّن ، هناك تمزق ، أما المؤمن فعلاقته مع جهةٍ واحدة ..
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ قَالَتْ : إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
(( مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ )) .
[الترمذي]
هذا هو التوحيد ، فأقول لك بصراحة : العلم كله في التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، التوحيد أن ترى الله في كل شيئاً ، وأن لا ترى معه شيء ، أن تراه في كل شيء ؛ في كل تصرُّف ، في هطول الأمطار ، في شُح السماء ، وفي إقبال الدنيا ، وفي إدبارها ، في الصحة ، في المرض ، في القوة ، في الضعف ، في الالتقاء ، في التفرُّق ، أن ترى الله في كل شيء ، وأن لا ترى معه شيئاً ، هذا هو التوحيد .
      
﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾
 
 البداية بالهدى والنهاية بالرحمة :
 
الهدى البداية ، فإذا وصلنا إلى نتيجة لا يمكن لجهةٍ في الأرض أن تقدم لك الهدى ، الهدى من خصائص الله عزَّ وجل ، من خصائص الصانع ، الخالق ، المُصَمِّم ..
 
﴿  يَا أََيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ .
لماذا ؟
 
﴿              الَّذِي خَلَقَكُمْ .
(سورة البقرة : من الآية 21 )
      لأنه هو الخالق ، لا توجد جهة تستحق العبادة .
المناسبة وليس في الكون كله جهة تستحق أن تهبها حياةً ، ولا أن تهبها عمرك ، ولا أن تهبها قوَّتك ، ولا أن تهبها شبابك ، ولا أن تهبها علمك ، إلا الله عزَّ وجل ، هو أهل التقوى وأهل المغفرة ، فهل من المعقول لإنسان يقدم كل حياته لإنسان ؟! هذا الإنسان ماذا يفعل معه ؟ لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً ، فالهدى الدلالة ، فما هي النهاية ؟ البداية الانتساب للجامعة ، النهاية طبيب ، البداية فتح محل تجاري ، النهاية أصبحت غنياً ، نريد النتائج ..
      
﴿  وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾
 
 
البداية الهدى والنهاية الرحمة ، فإذا سرت على دلالة الله عزَّ وجل تجلَّى الله عليك بالرحمة ، فأسعدك في الدنيا والآخرة ، فأنت منتهى آمالك ، منتهى مطالبك ، تحب وجودك ، وسلامة وجودك ، واستمرار وجودك ، وكمال وجود ، هذه رحمةٌ الله عزَّ وجل تحتاج إلى هدى .
 
المراقبة سبيل للهدى : 
 
يجب أن تعلم علم اليقين أن أية حركة تتحركها هي في علم الله تعالى .
مثلاً لو فرضنا إنساناً يتناول الطعام في بيته ، وفي قميصه زر مقطوع ، لا يهمه ذلك ، أو كان جالساً جلسة غير نظامية ، أما لو كان في عقد قران ، ويُصوّر تراه يعتدل على الفور ، لا يفتح فمه في أثناء التصوير ، بل يغلقه ، لماذا ؟ لأن هذه مسجلة عليه ، يعرضونه ، لماذا فلان جالس هذه الجلسة ، لا ، هذه الجلسة ليست جيدة ، فإذا حضرت عقد قران تصحح وضعك ، يقول لك : يصورونني ، يجب أن تعلم أن أي حركة ، وأي سكنة ، وأي موقف ، وأي غضب ، وأي رضا ، وأي إعطاء ، وأي منع ، وأي تساهل ، وأي تفلُّت ، وأي انضباط كله مسجل إلى الأبد ..
 
﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .
(سورة الإسراء14 )
جاءوا بجهاز تصوير راداري لمخالفات السير ، جاءوا به حديثاً ، ووضعوه بطريق المطار ، ضبطوا سائقا بمخالفة سرعة زائدة ، فأحبوا أن يمتحنوه ، أنك أنت كنت في المطار يوم كذا وكنت ، مخالفاً السرعة ، الله يصلحه ويهديه ، حلف بدينه ، بربه ، لم يكن بالمطار إطلاقاً ، تفضل الصورة ، أليست هذه السيارة ملكك ، هذه التاريخ عليها مع الصورة ، فسكت .
هكذا الآخرة ، إنها كشريط مسجل بالصورة والصوت ، ألم تفعل كذا ؟ ألم تقف هذا الموقف ؟ ألم تنظر إلى فلانة من ثقب الباب ؟ عليك تصوير ، ولا تدري بنفسك ، أنت تتصور ، ألم تفعل كذا ؟ ألم تُضِف الماء للحليب داخل بيتك ؟ ألم تقل كذا وأنت في هذا ليس صادقاً ؟ فأين أنت ذاهب ؟ كله مسجل ، لذلك الإيمان أن ترى أن الله معك ، الإيمان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فهو يراك ، هذا الإيمان ، تحت المراقبة .
والله إذا عرف الإنسان نفسه أنه مراقب تجده يأخذ احتياطات بالغة جداً ، فإذا كان في طريق يقول لك : هذا لا أريد أن أمشي فيه ، فأي شيء تجده قد أخذ احتياطا بالغا ، إذا راقبك إنسان تجد أنك ضابط للسانك ، و ضابط حركاتك ، وسكناتك ، وكلماتك ، وهاتفك ضبطته كله ، فكيف لو راقبك الواحد الديان ؟ فأنت تحت المراقبة ، في بيتك ، مع أولادك ، مع زوجتك ، وأنت تأكل ، أكلت اللحم وحدك ، ألا يراك الله ؟ يا ترى أطعمت من حولك بالعدل ؟ كنت موضوعياً ؟ .
فكلمة هدى إذا عرفت أن الله يطلع عليك استقمت ، فإذا استقمت جاء التجلي ، شعرت بسعادة ، شعرت بسرور ، شعرت برقي أنك إنسان كريم على الله عزَّ وجل ، مخلوق مكرَّم ، مخلوق عالي المقام ، جالس لمهمة خطيرة جداً ، جاء الله بك إلى الدنيا كي تتعرف إليه ، كي تهدي خلقه ، تجد عملك موظَّف لله ، مصلحتك ، فلا يوجد عندك أخذ ما ليس لك ، لا ، فهذه مصلحتك بخدمة المسلمين ، تربح وتعيش ، لكن الهدف الأول أن تخدم المسلمين ، وأن تنفق على نفسك أهلك .
الطبيب لخدمة المسلمين ، والمهندس ، والمدرس ، والبائع ، والصانع ، والعامل ، دخلت بيتك ، هذا البيت ليس للمتعة ، لهداية الزوجة والأولاد والبنات ، هؤلاء خلفاؤك من بعدك ، هؤلاء عملك الصالح ، هؤلاء استمرارٌ لك بعد مماتك ، فإذا خلف الرجلُ ابنا متفوقا في العلم الديني مثلاً ، إذا كنت قد تركت أثراً كبيراً ، فأنت تعيش في زمن دقيق جداً ، كل شيء مسجل عليك ، فإياك أن تضِّيع ساعةً ، أو دقيقةً ، أو ثانيةً ، هدىً ، البداية الهدى ، والنهاية الرحمة .
إنّ كلمة رحمة فيها كل شيء ، تبدأ من الطمأنينة إلى الاستقرار النفسي ، والشعور بالسعادة والشعور بالقرب من الله عزَّ وجل ، والشعور بالتفوق والفلاح ..
 
     
﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾
 
الإحسان :
 
مجالات الإحسان :
هل أنت محسن ؟ أيضاً كلمة جامعة مانعة ، أحسنت في إيمانك ، أحسنت في عقيدتك ، أحسنت في استقامتك ، أحسنت في خدمتك ، أحسنت في مهنتك ، أحسنت في أُبوَّتك ، أحسنت في أخوَّتك ، أحسنت في بنوَّتك ، أحسنت مع جيرانك ، أحسنت مع زبائنك ، أحسنت مع نفسك ، أحسنت مع الحيوان حينما ذبحته ، هل جعلت السكين حاداً ، قال له : هلا حجبتها عن أختها ؟ أحسنت مع الحشرات حينما قتلتهم ، عذبتهم أم قتلتهم قتلاً سريعاً ، أحسنت مع الطبيعة ، هل لوَّثت البيئة ، فالمحسن لو قام بنزهة وأكل ، يجمع الفضلات في كيس ، ويأخذها معه ، أما أن يرمي القشور ويمشي فإنه ليس محسنًا !! كلها محلات جميلة ، كلها بقايا طعام وقشور ، هذا العمل ليس إحساناً ، كلمة محسن بدءاً من عقيدتك ، مروراً بعبادتك ، واستقامتك ، وعملك الصالح ، ومهنتك ، وبيتك .
 
﴿ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ﴾
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب