سورة العنكبوت 029 - الدرس (16): تفسير الأيات (61 – 69)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة العنكبوت 029 - الدرس (16): تفسير الأيات (61 – 69)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة العنكبوت

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة العنكبوت - (الآيات: 61 - 69)

01/03/2012 17:34:00

سورة العنكبوت (029)
 
الدرس (16)
 
تفسير الآيات: (61 ـ 69)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
        الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لاعلم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
        أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السادس عشر والأخير من سورة العنكبوت ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
 
 التناقض الفكري عند الكفار :
      
        هذا السؤال أيها الإخوة لو سألت أي إنسان : من الذي خلق الكون ؟ لأجابك إجابة عفوية : الله سبحانه وتعالى ! كأن الله عز وجل من خلال هذه الآية يبين التناقض الفكري الذي يقع فيه الكفار ، هم من جهة يؤمنون أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق السماوات والأرض ، ومعنى خَلَقَ السماوات والأرض أي أن الأحوال التي تكون عليها الأرض بيد الله .
    إذاً : الأمطار بيد الله ، إنبات النبات بيد الله ، الينابيع بيد الله ، تكثير الحيوانات الأهلية بيد الله ، أي الرزق بيد الله ، والإنسان في أكثر اهتماماته معني بوجوده ورزقه ، فإذا كان وجودك بيد الله ، ورزقك بيد الله ، فإلى أين تذهب ؟ كيف تنصرف عن الله إلى ما سواه ؟ هذا سؤال كبير جداً .
    إذا كان هناك واحد من أهل الدنيا يقر أن هناك إلهاً غير الله ، هنا نناقشه ، أما إذا كان كل إنسان يجيب إجابة عفوية على الفطرة أن الله هو الخالق ، وهو الرب وهو المسيّر ، خلق الكون وخلق الأرض ، ومن لوازم الخلق خلق الأمطار ، وأنبت النبات ، وجعل هذا الجو ، خلق الهواء ، وخلق الماء ، كل هذا الذي نحن نستعين به ، أو تقوم عليه حياتنا إنما هو بيد الله .
    فإذا آمن الإنسان أن الله هو الخالق ، وهو المربي ، وهو المسيّر ، وأن الإنسان قائم في وجوده على فعل الله عز وجل ، فإلى أين يذهب ؟ مَن يعبد ؟ إني والإنس والجن لفي نبأ عظيم ، أخلُق ويُعبَد غيري ، وأرزق ويُشكَر سواي ، وُجودك ورزقك بيد الله عز وجل ، إلى أين تذهب ؟ إلى أين تنصرف ؟ أيةَ جهة تعبد ؟ هل من جهة في الكون كله مؤهلة أن تعبدها إلا الله عز وجل ؟ ولئن سألتَ هؤلاء الكفار المعرضين المكذبين ، هؤلاء الذين ردوا دعوتك هؤلاء الذين سخروا من هذه الدعوة :
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾
 
 عظمةُ القدرةِ : وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
 
الشمس والقمر :
        لو أن الشمس انطفأت فجأة لأصبحت الأرض قبراً جليدياً ! لأصبحت الحرارة على الأرض ثلاثمئة وخمسين درجة تحت الصفر ! انتهت الحياة .
    إذاً : ربنا عز وجل جعل هذه الشمس ضياءً لنا ، ودفئًا لنا ، وجعلها تنظيماً لحياتنا ، وجعلها تعقيماً لها ، لها وظائف صحية معقِمة ، وهي تضيء لنا ، وتدفئنا ، وتنظم حياتنا .
    طبعاً عن طريق الشمس ، ودورة الأرض حول الشمس يكون الليل والنهار ، نعلم عندئذٍ عدد السنين والحساب .
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾
 
    الشمس مسخرة ، والقمر مسخر ، والكون كله مسخر لهذا الإنسان ! من باب أولى أن المسخَّر له أكرم من المُسَخَّرْ ، فأنت أيها الإنسان سُخِرت لك السماوات والأرض ، فأنت موجود في الدنيا لمهمة خطيرة ، أَعَرفْت هذه المهمة ؟ إن لم تعرفها فالندامة عظيمة !
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
 
 لا قيمة لإيمانٍ لا تؤكده أعمال صالحة :
 
    إذا آمنت بالله فما قيمة هذا الإيمان إن لم تؤكده الأعمال ؟ ما قيمة هذا الإيمان إن لم تترك هذا الشيء امتثالاً لأمر الله ؟ وإن لم تفعل هذا الشيء تنفيذاً لأمر الله ، وإن لم تصل هذا الإنسان رغبة بما عند الله ، تصل وتقطع ، وتغضب وترضى ، وتعطي وتمنع ، وتأتمر وتنتهي ، هذه من لوازم الإيمان بالله عز وجل ، فمن لم يكن له عمل يجسِّد إيمانه بالله عز وجل فما قيمة هذا الإيمان ؟ ماذا فعلت أنت ؟ إذا كانت الشمس ساطعة ، وقلت : إنها ساطعة ، ماذا أضفت ؟ لو أنك قلت : إنها ليست ساطعة ، لكن هي ساطعة ، وإذا قلت : هي ساطعة ، فهي ساطعة ، ماذا فعلت ؟ لم تفعل شيئاً إن لم تأخذ موقفاً ، هكذا قال الله عز وجل :
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
( 72 سورة الأنفال)
 
 موقف الإنسانِ تجسيدٌ لإيمانه :
 
    الموقف الذي تأخذه يجسّد إيمانك ، وإلا فالإيمان غير كافٍ ، كل منا يظن أنه مؤمن ، ولكن المقياس الدقيق هو أن الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله فلا قيمة له ! الإيمان الذي لا يحملك على أن تأتمر بأمر الله ، وأن تنتهي عما نهى عنه الله ، الإيمان الذي لا يحملك على أن تعطي امتثالاً لأمر الله ، وعلى أن تمنع خوفاً مما عند الله من عقاب ، الإيمان الذي لا يحملك على أن تتقرب إلى الله ما قيمة هذا الإيمان ؟ العمر ثمين جداً ، نحن في وقت عمل ، في دار الحياة الدنيا هي دار عمل وانقطاع ، فهي دار عمل وسوف تنتهي ، والآخرة دار جزاء وخلود .
    إنّ كل ثانية من حياتنا غالية جداً ، وحتى لا يقع الإنسان في أوهام يظن أنه مؤمن ، وهو ليس كذلك ، نقول له : راجع نفسك ، راجع حساباتك ، حاسب نفسك حساباً عسيراً ، حتى يكون حسابك يوم القيامة يسيراً ، راجع أيامك يَوماً يوماً ، هذا اليوم ماذا فعلت ؟ ما الشيء الذي قربني إلى الله عز وجل ؟ هل تعلمت علماً زادني قرباً من الله ؟ هل عملت عملاً زادني قرباً منه ؟ لا يرقى الإنسان إلا بشيئين : بالعلم والعمل ، هل تعلمت شيئاً من كتاب الله ؟ هل تعلمت شيئاً من حديث رسول الله ؟ هل عرفت بعض الأحكام الفقهية الضرورية في تعاملك مع الناس ؟ هذا هو العلم .
    ماذا فعلت بهذا العلم ؟ هل علمت هذا العلم ؟ هل بينته للناس ، هل رعيت أرملة ، هل رعيت مسكيناً ؟ هل عطفت على يتيم ؟ هل بررت أمك وأباك ؟ هل أحسنت إلى جيرانك ؟
النبي عليه الصلاة والسلام قال :
(( لا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً ، ولا بورك لي في يوم لم أزدد فيه من الله قرباً )) .
[الجامع الصغير عن عائشة بسند فيه ضعف]
 
وجوبُ محاسبة النفس :
 
    هذا الذي يجيبك عفواً ، الله الذي خلقنا ، هو يسأل سؤالاً كبيراً : ماذا فعلت من أجله ؟ ما الذي يجسد إيمانك به بوجوده ، وربوبيته وألوهيته ، وبأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى ؟ ماذا فعلت ؟
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾
 
 
    كلام طيب ، كلام مقبول ، ولكن العمل لا يؤكده ، الشيء الذي أتمناه على كل أخ كريم أن يعلم أن الله عز وجل ينظر إلى عمله ، وإلى قلبه ، أما شكله فلا ينظر إليه .
(( إن الله لا ينظر إلى صوركم ، وإنما إلى قلوبكم ، وأعمالكم )) .
[ مسلم عن أبي هريرة]
    فلذلك على الإنسان أن يبادر إلى طاعة الله عز وجل ، وألا يرضى بإيمان لا يحمله على طاعة الله ، بل يمتحن إيمانه ، ماذا قال عليه الصلاة والسلام ؟ قال :
(( من قال : لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة ، قال : وما حقها ؟ قال : أن تحجزه عن محارم الله )) .
[الترغيب والترهيب عن زيد بن أرقم بسند فيه مقال ]
    من علامة المؤمن أنه يقلق ! كما قال بعض التابعين : " التقيت بأربعين صحابياً صاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم واحد إلا ويظن أنه منافق " ! أي يحاسب نفسه حساباً عسيراً ، كيف عبادتي ؟ هل هي كما يرضي الله عز وجل ؟ كيف صلاتي ؟ كيف كسبي للمال ؟ سؤال دقيق ، هذا الذي يقول لك : لا تدقق ، هو جاهل .
 
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ¯عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
(سورة الحجر)
هذا الحديث الذي أتلوه عليكم كثيراً :
(( يحشر الأغنياء أربع فرق يوم القيامة ، فريق جمع المال من حرام وأنفقه في حرام ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حلال وأنفقه في حرام ، فيقال : خذوه إلى النار ، وفريق جمع المال من حرام ، وأنفقه في حلال ، فيقال : خذوه إلى النار ، أما الذي جمع المال من حلال ، وأنفقه في حلال ، يقال : هذا قفوه فاسألوه )) .
[ ورد في الأثر]
 
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ¯عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
 
    فأن تقول : أنا مؤمن ، هكذا على الفطرة ، بشكل عفوي ، وليس في عملك ، وفي كسبك للمال ، وإنفاقك للمال ، ولا في تجارتك ، ولا صناعتك ، ولا وظيفتك ، ولا مهنتك ، ولا حرفتك ، ولا تعاملك مع أهلك وأولادك ، وجيرانك والمسلمين ما يؤكد هذا الإيمان ، فهذا ليس بالإيمان !
        عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
             (( جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا ؟ قَالَ : أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ  )) .
(مسند الإمام أحمد )
    المؤمن قلق ، يراجع نفسه ، له ساعة يخلو بها مع ربه ، له جلسة ، يحاسب نفسه ، فيه مخالفات ، و فيه معاصٍ ، كلمة قلتها ليست مناسبة ، مبلغ من المال فيه شبهة ، حساب معلق مع زيد ، وحق معلق مع عبيد ، هل عليّ أشياء لم أقم بها وهي من الواجبات الدينية ؟ هذا الحساب الدقيق من علامة المؤمن أنه يحاسب نفسه حساباً دقيقاً .؟
 
لا لازدواجية المعايير :
   
ربنا عز وجل يظهر لنا التناقض .
        الحقيقة أيها الإخوة الأكارم ، لو أن الإنسان سار في الطريق عارياً كما خلقه الله ، أليس في هذا العمل جنون واضح ؟ ألا يظهر الإنسان بأبشع صورة لا يتمناها ؟ لو أنه سار في الطريق عارياً ، هل تصدقون أن في الحياة العقلية والفكرية ما هو أبشع من أن تسير عارياً ! إنه التناقض ، إنه ازدواجية المقاييس ، أنت حينما ترى ابنك في محلك التجاري يُزمع أن يحمل شيئاً ، فتصيح به : لا تحمل هذا من أجل ظهرك ، أخاف عليك ، فإذا كان عندك عامل ، وحمل فوق طاقته ، تقول له : أنت شاب احمل ! هذا التناقض أبشع من أن تسير عارياً في الطريق ، تناقض فكري ، أن تقيس الناس بمقياس ، وأن تقيس نفسك بمقياس ، إذا أصابتك المصيبة تقول : هذه ترقية ، فإذا أصابت غيرك مصيبة تقول : هذا عقاب ، من أدراك أنه عقاب ؟ هذا تناقض .
    أن تعامل ابنتك بطريقة لا تعامل بها زوجة ابنك في البيت ، هنا العطف والتسامح ، والتساهل والشفقة ، وهناك الحساب الدقيق ، تناقض هذا أبشع من أن تسير عارياً في الطريق !
    لذلك التناقض الذي ظهر هنا :
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾
 
    كلام طيب وجيّد ، إذاً لِمَ لا تطيع الله عز وجل لِمَ لا تأتمر بأمره ؟ لِمَ تطلق لشهواتك العنان ؟ لِمَ تكسب المال من هنا أو من هنا بلا حساب دقيق ؟ لِمَ لا تقوم بالعبادات كما أراد الله عز وجل ؟ هذا التناقض .
    لذلك أيها الإخوة ، ليحرص كل منا على أن لا يتناقض مع ذاته ، ليكن صادقاً مع نفسه ، إذا كان صادقاً مع نفسه أحبه الله ، لا تستخدم مقاييس متعددة ، استخدم مقياساً واحداً ، قس نفسك ، وقس الناس بميزان واحد ، والله الذي لا إله إلا هو إنّ ميزانًا واحد لو طبقه الناس لاختفت كل مشكلاتهم : عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ، وانتهى الأمر .
    إذا كنت وراء طاولة في دائرة حكومية هل ترضى إذا كنت تراجع في قضية موظفاً ، هل ترضى أن يهمل طلبك ؟ هل ترضى أن يسوّف طلبك ؟ هل ترضى أن يعقّد عليك الأمر ؟ هل ترضى أن يبتز مالك ؟ إذا كان هذا يؤلمك لا تفعل هذا مع الناس ، وإن كنت مريضاً هل ترضى من هذا الطبيب أن يكبر عليك الأمر ؟ أن يوهمك بخطورة مرضك ليبتز مالك ؟ إذا كنت طبيباً فلا تفعل هذا ، هل ترضى إذا أتيت إلى محام أن يوهمك أن دعواك رابحة ، وهي ليست كذلك ؟ ليأخذ جزءاً من مالك ! فإذا كنت محامياً فلا تفعل ذلك .
    قضية التناقض كما لو أن الإنسان سار عارياً ، كيف أنه محتقَر ، يقال له : مجنون ، وكذلك الذي يقيس الناس بمقياس ، ويقيس نفسه بمقياس ، يقيس أولاد الناس بمقياس ، ويقيس أولاده بمقياس ، هنا يعطي وهنا يمنع ، هنا يبالغ في الرفاه ، وهنا يقنّن ، لا تستخدم مقياسين اثنين حتى يحبك الله عز وجل ، هؤلاء المتناقضون قال تعالى عنهم : 
 
﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾
    أين أنتم ذاهبون ؟ إلى من تلتفتون ؟ إلى من ترجون ؟ من تخافون ؟ هذا الذي يخشى غير الله ، يرجو غير ، الله يعطي لغير الله ، يمنع لغير الله ، هذا متناقض مع نفسه .
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ﴾
 
صورٌ مِن عظمة الله عز وجل : 
 
1 – إنزال المطر من السماء :
    حينما تنحبس السماء ، ينحبس ماء السماء ، هل في الأرض كلها جهة مهما علت بإمكانها أن تصدر قراراً بإنزال المطر ؟ ألا ترى أن الناس جميعاً مفتقرون إلى الله عز وجل ؟ ما أرى واحداً في الأرض في سنوات القحط والجفاف إلا ويقول : يا رب أغثنا ، كبير وصغير ، وعالم وجاهل ، وقوي وضعيف ، يا رب أغثنا ، ربنا يعلمنا ، والنبي عليه الصلاة والسلام يؤدبنا ، من أدب النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقول :
(( اللهم أرنا نعمك بكثرتها لا بزوالها )) .
[ ورد في الأثر ]
    ينبغي إذا كنت صحيح البنية ، موفور المال أن تسجد لله عز وجل شكراً ، لأنك إن لم تعرف هذه النعمة بوفرتها ، فلا بد من أن تعرفها بفقدها .
2 – إحياء الأرض بعد موتها :
من نزّل من السماء ماء فأحيا بها الأرض بعد موتها ؟ هذه الأرض الميتة القاحلة ، هذه الأشجار اليابسة ، هذه التلال الجرداء مفتقرة إلى ماء السماء ، من نزَّل من السماء ماءً فأحيا بها الأرض بعد موتها ؟ أرض ميتة .
 
﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ﴾
( 5 سورة الحج)
فنبت الكلأ .
مرة قال لي أحدهم : نزلت أمطار كنا في أشد الحاجة إليها ، قال : والله هذه الأمطار قيمتها عشرات الملايين ، بل قريبا من ألف مليون ! قيمة هذه المطار في الوقت المناسب ، لذلك فإن الإنسان يرى نعمة الله دائماً ، لا يرى منخفضاً جوياً متمركزاً فوق قبرص باتجاه الشرق الأوسط ، سرعته مئتان كيلو متر بالساعة ، يرى رحمة الله متجهة للشرق الأوسط ، لا يرى أن المنخفض عارض طبيعي ، يرى أن إنزال الأمطار بيد الله ، وأن حبسها بيد الله ، وأن الله إذا حبسها لا يعني ذلك نقصاً في القدرة ولا عجزاً ، ولكن تأديباً وعلاجاً .
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
على ماذا ؟ الآية هكذا :
﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾
 
 الحمدُ للهِ على كل شيء :
 
    وقف جائز بعدها ، قال بعض المفسرين : الحمد لله على أن الحق واضح كالشمس ، إذا كنت أنت مع الله معك الحجة والبينة ، وؤلاء المعرضون هؤلاء البعيدون هؤلاء المكذبون لا يستطيعون أن يكذبوا الحقائق الكبرى ، إنهم يصدّقونها ، ولا يستفيدون منها ، الحمد لله الذي عرفت الله ، وسرت على أمره ، الذي عرفت الله ، واهتديت بهداه ، الحمد لله هكذا .
أنت مع الحق ، أنت إذا فكرت في هذا الكون وتلوت هذا القرآن وفهمت هذا الكتاب المقدس ، وعرفت أن ما جاء به النبي من عند الله ، هل تعلم من أنت ؟ أنت مع الحق الذي لا يتكرر ، ولا يتعدد ، حق واحد أنت معه .
الناس رجلان : مؤمن وغير مؤمن ، فإذا كنت مع المؤمنين ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، إذا كنت مع من عرفوا الحقيقة الأولى والأخيرة فـ :
 
﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾
    ولو عقلوا لعرفوا ، ولو عرفوا لحمدوا ، وما الإنسان إلا عقل يدرك ، وقلب يحب ، وأرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً ، سنسميه كسبا كبيرا ، لا يعدله كسب في الدنيا ، أن تعرف الله عز وجل ، وأن تهتدي بهديه ، وأن تسير في طريق الجنة ، هذا هو الغنى ، هذا هو الفوز والنجاح والفلاح ، هذا هو الغنى كما قال سيدنا علي : << الغنى والفقر بعد العرض على الله >> ، كسب كبير .
(( ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتُّك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء )) .
[ ورد في الأثر ]
 
 كل شيء في الدنيا ينتهي بالموت :
 
    تقول لي : أنا فقير ، دخلي محدود ، بيتي صغير ، أو بالأجرة ، وظيفتي سيئة ، في بيتي مشكلات ، لو أن المشكلات كلها اجتمعت على إنسان ، وعرف الله ، واستقام على أمره فهو الرابح الأول ، ماذا قال سيدنا علي كرم الله وجهه ؟ قال : << يا بُني ، ما خيرٌ بعدَه النار بخير ، وما شرٌ بَعْدَه الجنة بشر ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية >> .
    كل المشكلات تنتهي بالموت ، وما بعد الموت سعادة أبدية ، وكل ما في الدنيا من مباهج تنتهي بالموت ، وما بعد الموت شقاء أبدي ، لذلك كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله ، وكفاك سعادة أنك في طاعته ، وربنا عز وجل يقول :
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
(سورة القصص)
أهذا يوازي هذا ؟
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾
 
 
 
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾
    ما من شيء أعظم عند الله عز وجل ، وما من نعمة وهبها الله لك أعظم من هذا العقل ، به ترقى ، وبه تشقى ، به تكسب ، وبه تخسر ، فمن  أعمل عقله في معرفة الله وطاعته سعد به ، ومن استخدم عقله في جمع المال فقط ، أو في الإيقاع بين الناس ، أو في جمع الناس حوله لتأمين مصالحه من دون أن يتقي الله عز وجل فهو الخاسر الأكبر .
 
 فلسفة الحياة وحقيقتها : لهو ولعبٌ :
 
    يا أيها الإخوة الأكارم ، اسمعوا من الله عز وجل إلى توضيحٍ لحقيقة الدنيا : إذا قرأ الإنسان القرآن لماذا يسعد ؟ لأن في القرآن الكريم فلسفة الكون والحياة والإنسان ، هذه الآية من فلسفة الحياة وحقيقتها ، الله سبحانه وتعالى واهب الحياة ، خالق الكون يقول لك :
 
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
  كلمة ( هذه ) اسم إشارة ، ومن معانيها التحقير ، وما هذه الدنيا بمالها ونسائها ، ومراكزها ومتعها ، وشهواتها ومباهجها ، وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو .
 
ما هو اللهو ؟!
    ما هو اللهو ؟ الشيء الذي يشغلك عن شيء خطير ، الشيء الحقير الذي يشغلك عن شيء خطير ، هذا هو اللهو .
    إذا جلس طالبان يلعبان الورق ليلة الامتحان ماذا نسمي لعب الورق ؟ نسميه لهواً ، لأنهما أُلهِيا بشيء حقير عن شيء خطير .
    إذا دخل إنسان ليشتري منك بضاعة بمئة ألف ، وأنت انشغلت عنه بقراءة قصة سخيفة ، قلت : ليس لدي وقت ، فهذا لهو ، الشيء الحقير إذا شغلك عن شيء خطير فهو لهو ، الدنيا كلها بما فيها من مال ، ومن بيوت فخمة ، من مزارع ، من مركبات ، من نساء ، من أطعمة وأشربة ، من حفلات ، من نزهات ، من رحلات ، من سرور ظاهري ، من لذائذ ، من متع رخيصة ، من ملهيات ، من مسلسلات ، الدنيا كلها وصفها الله عز وجل بكلمة واحدة قال :
 
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ﴾
 
ما هو اللهو ؟!
    ما هو اللعب ؟ الشيء الذي لا جدوى منه ، لو فرضنا فريقان لعبا كرة القدم ، وانتصر هذا على ذاك ، ماذا فعل الأول ؟ وماذا فعل الثاني ؟ في الحقيقة كلها أشياء معنوية ، الشيء الذي لا طائل منه ، الشيء الذي لا جدوى منه ، الشيء الذي لا هدف له ، الشيء الذي ينقضي بانقضائه ، ويزول بزواله ، هذا اللعب ، ربنا سبحانه وتعالى وصف الحياة الدنيا بصفتين : إما أن تشغلك عن شيء خطير ، إما أن يكون الشيء حقيراً ، ويشغلك عن شيء طير ، وإما أن تعمل عمل لا فائدة منه ، حركة طائشة ، حركة بلا هدف .
 
﴿ وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾
 
 وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ
 
    الحيوان مصدر الحياة ، حياة لا موت بعدها ، شباب لا هرم بعده ، لذة لا شقاء بعدها ، الحياة الخالصة من كل نغص ، من كل شائبة ، من كل شيء مقلق .
   
﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ﴾
 
    في قوله تعالى : ]وَمَا هَذِهَ [ ، اسم الإشارة هذا يعني التحقير ، وليس ضمير فصل :
 
﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
 
    الحيوان مصدر مبالغة للحياة ، حياة لا نغص فيها ، حياة لا هم فيها ، حياة لا حزن فيها ، حياة لا قلق فيها ، حياة لا انقطاع لها ، حياة لا خروج منها ، حياة لا مزعجاً فيها .
 
 
 ﴿ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾
 
لو علموا ما عند الله من سعادة أبدية لأقبلوا عليها .
 
مع تناقض آخر من تناقضات أهل الدنيا : الإخلاص في الشدة والشرك عند الفرَج :
 
الآن مع تناقض آخر من تناقضات أهل الدنيا :
 
﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾
 
الآية بين منطوقها ومفهومها :
 
    طبعاً الآية لها منطوق ولها مفهوم ، الإنسان في حالة السراء ، في الضيق ، في المرض ، في الفقر ، عدو خطير يهدده ، هم كبير يقلقه ، مصيبة كبيرة تنزل بساحته ، مرض لا ينيمه الليل مثلاً .
 
﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾
 
    إذا أزيح عنه هذا المرض ، أو زال عنه هذا الخوف ، أو زال عنه هذه المصيبة يعود إلى شِرْكه ، وإلى كفره ، وإلى عناده ، وإلى معاصيه ، وإلى شهواته ، هذا موقف مخزٍ في الإنسان ، أن يعرف الله في الشدة ، وأن ينساه في الرخاء ، أن يعرفه في إقبال الدنيا ، وينساه في إدبار الدنيا ، أن يعرفه في المرض ، وينساه في الصحة ، أن يعرفه في الخوف ، وينساه في الأمن ، أن يعرفه في الفقر ، وينساه في الغنى ، أن يعرفه أمام مصيبة تقع به ، وينساه إذا زالت هذه المصيبة ، هذه الآية لها منطوق ولها مفهوم ، ليس شرطاً أن تركب سفينة وأن يهتاج البحر بك ، وأن تصبح هذه السفينة كريشةٍ في مهب الريح ، وتقول عندها : يا رب ليس لنا إلا أنت ، لا ، يشبه ركوب السفينة مرض ، يشبه ركوب السفينة عدو يهددك ، يشبه ركوب السفينة شيء مقلق ، شبح مصيبة .
 
﴿ فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾
 
    فلذلك يجب على الإنسان أن يعرف الله في السراء والضراء ، وفي الصحة والمرض والغنى والفقر ، والقوة والضعف ، وفي كل أحواله وأطواره يجب أن يعرف الله .
 
﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
 
لغة التهديد : لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ
 
    هذه اللام لام الأمر ، فإذا أمرك الله بشيء يكرهه لك فإنما هو يهددك ، هكذا قال المفسرون ، فإذا أمرك الله بشيء يكرهه لك فإنما هو يهددك ، فاكفر بالله ، وسوف ترى ، وتمتع ، ماذا قال سيدنا إبراهيم ؟
 
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آَمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
(سورة البقرة )
        إذا رأيت إنساناً غارقاً في المعاصي والشهوات ، وهو في بحبوحة ، وهو في قوة ، ويملك زمام الأمور ، ويقول : أنا وأنا ، فهذا شيء ليس مفخرة له ، قال تعالى :
 
﴿ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
 
    بعضهم يقول : يا أخي ، أهل الغرب هؤلاء غارقون في المعاصي ، غارقون في الرذيلة ، غارقون في الزنى ، وفي شرب الخمر ، وهم أقوياء ، هم يفعلون ما يشاءون ، هكذا يظنون ، فأجبهم بقوله تعالى :
 
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾
(سورة الأنعام)
 
﴿ لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾
    أي اكفروا ، أمر تهديد ، من هو الفائز ؟ منهو الرابح ؟ من هو السعيد ؟ من هو الناجي ؟ من هو المفلح ؟ من هو المتفوق ؟ فسوف يعلمون ، افعلوا ما شئتم وسوف تعلمون من هو الذي سيلقى عقاباً ، ومن هو الذي سيلقى جزاءً .
 
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾
 
نعمة الأمن في الحرم :
 
    هؤلاء كفار مكة ، ينعمون في بلد آمن من حولهم الناس يُتَخَطَّفون ، يُغار عليهم ، تسلب أموالهم يعتدى على نسائهم ، وهم في مكة آمنون مطمئنون .
 
﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾
(سورة قريش)
الذي وفّر لهم هذا البلد الآمن ، يكفرون به ، ويؤمنون بأصنام من صنع أيديهم ، نحتوها بأيديهم ، وينسبون لها كل خير ؟
 
إسقاط على واقعنا :
 
    نحن ما علاقتنا بهذه الآية ؟ الذي منحك هذه الصحة ، الذي أعطاك هذه الزوجة ، هؤلاء الأولاد ، هذا البيت تسكنه هذه الحرفة تعمل بها ، هذه القدرات تكسب بها رزقك ، هذا الإله العظيم تكفر به ، وتعرض عن أمره ونهيه ، وتقبل على إنسان لا يملك لك من الله شيئاً ؟ لا ينفعك ، ولا يضرك ، القرآن له منطوق وله مفهوم ، له معنى متعلق بسبب نزوله ، وله معنى واسع جداً .
       
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ﴾
 
 
 إيّاكم وكفر النعمة !!!
 
        مانح الحياة ، ومانح الوجود ، مانح الصحة ، ومانح هذه الأجهزة ، هذا السمع ، هذا البصر ، هذا الفكر ، هذا اللسان ، هذه الأطراف ، هذه الأصابع ، هذه الأوعية ، والشرايين ، و الأعصاب ، و العضلات ، و القدرات ، هذه الإمكانات ، هذا البيت ، هذه الزوجة ، هؤلاء الأولاد ، هذا الذي منحك كل هذه النعم تكفر به ؟ ولا تعبأ بأمره ونهيه ، وتدير ظهرك لكتابه ، وتقبل على إنسان ضعيف مثلك ، لا يملك لك نفعاً ولا ضراً .
      
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آَمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ¯وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾
 
 أشدُّ الناسِ ظلماً الذي يفتري على الله كذباً :
 
        أشد الناس ظلماً لنفسه ، أشد الناس خسارة ، أشد الناس ندماً يوم القيامة، من افترى على الله كذباً ، يقول لك : الله لن يحاسبنا ، افترى على الله كذباً ، أو قال لك : لا تعرف ، لعلك تطيعه طوال حياتك فيضعك في جهنم ، أهكذا الله عز وجل ؟ لعلك تعصيه كل عمرك فيضعك في الجنة ، يقول لك : ليس هناك قاعدة ، وهذا الكتاب أليس قاعدة ؟ هذا افترى على الله كذباً ، أو افعل ما بدا لك ، يفهم الشفاعة التي هي ثابتة في الكتاب والسنّة ، يفهمها فهماً ساذجاً ، افعل ما شئت ، والنبي يشفع لك ، هذا افترى على الله كذباً ، أو أن الخمر ليست محرمة ، الله أمرنا أن نجتنبها فقط ، ولم يحرمها ، هذا الذي يفتري عقيدة زائفة ، يفتري حكماً باطلاً ، يفتري توجيهاً مغلوطاً ، هذا الذي يفهم القرآن فهماً خاصاً به بلا أصول ، بقراءة عصرية ، هذا الذي يفهم كتاب الله عز وجل فهماً خاصاً به ، من دون دليل ، من دون أصول :
       
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ ﴾
 
        إما أن يخترع شيئاً باطلاً يغطي به شهواته ، وإما أن يرد الحق لا يقبله .
     
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾
 
 وعيدٌ للمفترين :
 
        هذا الجواب ، هذا الذي يفتري على الله كذباً ، أو هذا الذي يرد الحق إذا جاءه ، هذا مصيره في جهنم .
 
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ﴾
 
        أما الآية المطمِئَنة الأخيرة في هذه السورة :
        
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾
 
 وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
 
        طاقته ، نشاطه ، تفكيره ، وقته ، خبرته ، علمه ، عضلاته ، كل شيء يملكه أنفقه في سبيل الله ، بذل غاية الجهد ، بذل كل ما يملك فينا في سبيلنا في سبيل معرفتنا في سبيل طاعتنا في سبيل التقرب إلينا في سبيل نيل رضائنا .
     
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾
        وقته ، إمكاناته ، ماله ، صحته ، مكانته ، وجاهته ، ذكاءه ، معلوماته ، كل عضلاته ، كل خبراته ، علمه ، وحرفته ، كل شيء بذله رخيصاً في سبيل الله ، في سبيل معرفتنا ، في سبيل طاعتنا ، في سبيل التقرب إلينا ، في سبيل نيل رضائنا .
       
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا ﴾
 
 أنواع الجهاد : جهاد النفس والشيطان وأعداء الله :
 
        قال بعض العلماء : هناك ثلاثة أنواع للجهاد : أن تجاهد النفس والهوى ، وهذا أعظم أنواع الجهاد ، وأن تجاهد الشيطان ، وأن تجاهد أعداء الله عز وجل .
       
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
 
 جائزة المجاهد في سبيل الله :
 
        هؤلاء الله عز وجل يطمئنهم ، لا بد من أن تصلوا إلينا ، لا بد من أن نعينكم على طاعتنا ، لابد أن نعينكم على بلوغ رضائنا .
       
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
 
        ابشروا ، سبلنا هي السبل الموصلة إلينا ، سبيل الطاعة ، سبيل الرضوان ، سبيل الجنة ، سبيل السعادة ، سبيل السلم ، أن تكون في سلام مع الله ، ومع الناس ، سبيل الحمد ، هذه السبل كلها لله ، والسبل إلى الله كثيرة ، سبيل لطاعته ، سبيل لتقواه ، سبيل لمرضاته ، سبيل للفوز بجنته ، سبيل لمحبة أنبيائه ورسله ، سبيل لأن تسعد بقربه .
      
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
 
 معية الله للمحسنين :
 
بين المعية الخاصة والمعية العامة :
       وهذه كما قلت في الخطبة اليوم : هذه المعية الخاصة ، وفرق بين المعية العامة والخاصة ، الله مع كل مخلوق ، هذه المعية العامة ، وهو معكم أينما كنتم ، ولكن له معية خاصة ، هو مع الصابر ، مع المتقي ، مع المحسن ، مع المؤمن ، معه بالنصر والتأييد ، والتوفيق والحفظ ، هذه المعية الخاصة ثمنها أن تكون محسناً مع من ؟ مع كل الخلق ، بقولك محسن ، بعملك محسن ، بحرفتك محسن ، بوظيفتك محسن ، بتجارتك محسن ، بصناعتك محسن ، بكل شيء تفعله ، في بيتك محسن ، مع جيرانك محسن ، مع الخلق كلهم محسن معهم .
        
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
 
        ومن السذاجة والغباء ، وضيق العقل والحمق أن تظن أن معية الله تنالها بلا ثمن أو بثمن بخس .
 
﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾
 
(سورة المائدة)
       هذه معية الله عز وجل ، فالإنسان لا يطمع بمعية الله بلا ثمن أو بثمن بخس سخيف، ألا إن سلعة الله غالية ، وطلب الجنة من دون عمل ذنب من الذنوب .
        
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
 
 هذه الآية بشارة لكل مؤمن :
 
         والله الذي لا إله إلا هو ، هذه الآية وحدها فيها بشارة كبيرة لكل مؤمن ، أيها المؤمن : مادام همك أن تعرفنا ، مادام همك أن تطيعنا ، مادام همك أن تتقرب إلينا ، مادام همك أن تبذل كل شيء من أجلنا ، فأبشر ، فإنك سوف تصل إلينا ، وتهتدي إلى سعادتك وجنتك ، ومعية الله عز وجل ثمنها أن تكون محسناً .
 
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾
(سورة القصص)
        يجب أن تكون محسناً ، يجب أن يفتقدك الناس إذا غبت عنهم ، إذا دخلت البيت يجب أن يكون عند أولادك عيد ، لأنك محسن ، فإذا كنت قاسياً عليهم ، فإذا كنت بخيلاً يتوخى الأولاد أن لا تكون بينهم ، فكنْ محسنا في عملك ، في دائرتك ، في متجرك ، في مصنعك ، في دكانك ، في زراعتك ، في أي شيء ، محسن مع الوالدين ، مع الزوجة ، مع الأقارب ، مع الجيران .
    
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا ﴾
 
        بذلوا كل جهدهم ، كل طاقتهم ، كل علمهم ، كل خبرتهم ، كل عضلاتهم ، كل وقتهم ، كل شبابهم فينا ، من أجل معرفتنا ، وطاعتنا ، والتقرب إلينا .
     
﴿ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾
 
        سبل السعادة والسلام ، والأمن والراحة والرضوان ، والفوز والنجاح والفلاح .
   
﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾
 
       هذه الآية تكفي كل مؤمن ، ولتكن في قلبه دائماً ، ولتكن في ذهنه دائماً ، وهي ختام هذه السورة الكريمة التي هي سورة العنكبوت ، والحمد لله أولاً وآخراً .
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب