سورة العنكبوت 029 - الدرس (15): تفسير الأيات (52 – 59)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة العنكبوت 029 - الدرس (15): تفسير الأيات (52 – 59)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 18 - رمضان - 1445هـ           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 41- اقتصاد الأسرة في ظل الأزمات- سامر خويرة -27 - 03 - 2024           برنامج من كنوز النابلسي 2: من كنوز النابلسي - رمضان - 160- كلية رمضان           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 18 - رمضان في ظلال ايات الرباط - الشيخ عيد دحادحة           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - رمضان الانتصارات - في ظلال بدر وفتح مكة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 370 - سورة النساء 135 - 135         

الشيخ/

New Page 1

     سورة العنكبوت

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة العنكبوت - (الآيات: 52 - 59)

29/02/2012 14:41:00

سورة العنكبوت (029)
 
الدرس (15)
 
تفسير الآيات: (52 ـ 59)
 
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
        الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين  .
        أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الخامس عشر من سورة العنكبوت ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى :
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
 
 من معاني شهادة الله بأحقية القرآن ورسالة النبي العدنان :
 
 
        هذه الآية أيها الإخوة لها معانٍ كثيرة ، في الدرس الماضي تحدثت عن بعض معانيها .
المعنى الأول :
        المعنى الآخر : هو أنك إذا كنت على حق ، يكفيك طمأنينة أن الله يعلم ذلك ، يكفيك شعوراً بالأمن والراحة أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، فإذا وحّد الإنسان استراح قلبه ، وإذا أشرك أصابه عذاب شديد ، لقول الله عز وجل :
 
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾
( سورة الشعراء )
        إن أعلى أنواع العلم أن توحد الله عز وجل ، نهاية العلم التوحيد ، إن كذبوك ، إن كنت على حق ، وهناك من سَخِر منك ، إذا كنت على حق ، وهناك من استخف بآرائك ، إذا كنت على حق ، والله سبحانه وتعالى راض عنك ، وهناك من يشكّك فيك ، هذه آية دقيقة جداً . 
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾
 
        لماذا ؟ لأن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، هو العليم ، لهذا يقول الإمام علي كرم الله وجهه : << من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به >> .
        حينما لا تستطيع أن تقنع الآخرين بأنك على حق ، أو حينما يتعنت الآخرون ، حينما يجحد الآخرون ، حينما ينكر عليك الآخرون ، كفاك فخراً وطمأنينة وشعوراً بالإنصاف أن الله يعلم نياتك ، ويعلم أنك على الحق .
 
﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾
( سورة الأنعام )
        هذا معنى آخر من معاني قوله تعالى : 
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾
 
 
المعنى الثاني :
        هو أن النبي عليه الصلاة والسلام رسول الله ، من الذي يشهد للنبي عليه الصلاة والسلام أنه رسول الله ؟ الله سبحانه وتعالى ، كيف شهد الله لسيدنا موسى أنه رسوله ؟ أعطاه معجزات ، أمسك بالعصا فإذا هي ثعبان مبين ، ونزَع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ، ضرب بعصاه البحر فإذا البحر طريق يبس ، هذه المعجزات الحسية شهادة الله عز وجل لرسوله موسى عليه السلام أنه نبيه ، وحينما أحيى سيدنا عيسى الميت ، وحينما أبرأ الأكمه والأبرص ، شهد الله عز وجل لسيدنا عيسى أنه رسوله ، فكيف شهد الله عز وجل لنبينا عليه الصلاة والسلام أنه رسوله ؟ لا بد من أن يعطيه شيئاً لا يستطيعه البشر ! لا بد من أن يكون معه دليل من خالق البشر ، إن معجزات الأنبياء السابقة كانت معجزات حسية ، والمعجزات الحسية تنقضي بانقضائها وتصبح خبراً ، فإما أن يُصّدق ، وإما أن لا يصدق ، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لكرامته على الله عز وجل ، ولأنه سيد الأنبياء والمرسلين ، ولأنه سيد ولد آدم ، ولأنه سيد الخلق وحبيب الحق ، أكرمه بمعجزة من نوع آخر ! أكرمه بمعجزة خالدة ، بإمكان أي إنسان جاء بعد النبي أن يكتشف بالدليل القطعي أن سيدنا محمداً هو رسول الله من خلال هذه المعجزة التي بين أيدينا ، معجزة النبي عليه الصلاة والسلام لم تكن معجزة حسية وقعت ، وانقضت ، وأصبحت خبراً يصدق أو لا يصدق ، إنها معجزة خالدة إلى يوم القيامة .
        الرسول الكريم قال : (( ألا ترضون أن يشهد الله لي بأني رسوله ؟! )) .
[ ورد في الأثر ]
          كيف ؟ هذا الكتاب الذي بين أيديكم .
 
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾
( سورة الإسراء )
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾
        القضية متسلسلة ومنطقية ، ما الذي يشهد لنا أن هذا الإنسان هو رسول الله ؟ إنه القرآن ، وما الذي يؤكد لنا أن هذا الذي بين أيدينا كلام الله ؟ هو الإعجاز ، إذاً بإمكانك عن طريق قراءة القرآن وتدبره ، والتأمل فيه أن تكتشف إعجازه ، فإذا اكتشفت إعجازه كان هذا القرآن دليلاً لك على أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسوله ، فإذا كان القرآن كلامه ، والنبي رسوله ، إذاً أنت ليس لك إلا أن تذعن لأمر الله عز وجل ، لذلك كل ما جاء به القرآن ، وكل ما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو من عند الله ، فإما أن تكون عبداً لله ، وإما أن تأبق عن عبادته !
 
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾
 
 
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
( سورة غافر )
        إن الطبيب مسموح له أن ينظر إلى أحد أعضاء المرأة لمعالجته ، لو أن عين الطبيب نظرت إلى مكان آخر لا يبعد عن المكان الأول إلا بعشرين سنتيمترا ، هل في الأرض كلها جهة تستطيع كشف خيانة هذه العين ؟ لا ، لكن الله سبحانه وتعالى قال :
 
﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾
 
     العين قد تخون ، قد تنظر إلى ما ينبغي ، قد تجعل بؤرة النظر إلى مكان آخر غير العضو الذي يعالجه الطبيب ، إذاً الله سبحانه وتعالى وحده يعلم ، يعلم كل شيء ، يعلم خائنة الأعين ، يعلم ما تخفي الصدور، يعلم السر ، ويعلم ما هو أخفى من السر ، هناك علانية تُعلنها ، وهناك سر تخفيه ، وهناك شيء يخفى عنك أنت ! إن الله يعلمه .
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً﴾
 
المعنى الثالث :
        الكتاب بإعجازه يشهد لنا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو رسوله ، والنبي عليه الصلاة والسلام يحدثنا عن ربه يقول كذا ، وكذا ، وكذا .
المعنى الرابع :
        المعنى الذي طرحته في الأسبوع الماضي : إن هذا القرآن أيضاً إذا شئت أن يشهد الله لك أنت أيها المؤمن أنه كلامه فإليك التفصيل !
     طبّق آية من آياته ، نفّذ أمراً من أوامره ، ثم انظر كيف أن الأحداث الخارجية ، وكيف أن القضاء والقدر يتجه لتحقيق الوعد الذي وعدك الله إياه في القرآن ! وسقتُ على هذا آيتين في الأسبوع الماضي .
 
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾
( سورة النحل )
     الحياة الطيبة التي هي من قدر الله عز وجل إنما هي شهادة الله لك ـ أيها المؤمن ـ أن هذا القرآن كلامه ، والمعيشة الضنك التي هي من قدر الله تعالى ، هي شهادة الله لك ـ أيها المؤمن ـ أن القرآن حق .
 
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾
( سورة طه )
     إذاً : هناك إعجاز في القرآن ، وهناك تأويل القرآن ، والتأويل هنا بمعنى خاص ، وهو أن يقع الوعد والوعيد ، وقوع الوعد والوعيد هو  تأويل القرآن ، إذا دُمّر مال المرابي فهو تأويل آية الربى ، إذا نما مال المتصدق فهو تأويل آية الصدقة ، إذا حفظ المال من التلف هو تأويل آية الزكاة ، إذا نجح الإنسان في الحياة في شتى الميادين هو تأويل قوله تعالى :
 
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾
( سورة طه )
     طمأنينة المؤمن التي يتميز بها عن الآخرين هو تأويل الله لقوله تعالى :
 
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
( سورة فصلت  )
        حينما يأتيك رزق من حيث لا تحتسب ، وأنت قائم على أمر الله هو تأويل قوله تعالى :
 
﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً﴾
( سورة الطلاق )
 
 خلاصة طرق معرفة أن القرآن والنبي العدنان من عند الله الرحمن :
 
     لذلك الأحداث الخارجية تؤكد آيات القرآن الكريم ، إذاً إما أن تنظر في آيات القرآن الكريم فترى فيه من الإعجاز اللغوي ، والإعجاز البلاغي ، والإعجاز البياني ، والإعجاز العلمي ، والإعجاز التشريعي ، والإعجاز الإخباري ، والإعجاز التاريخي ، والإعجاز الرياضي ، والإعجاز الحسابي ، وإما أن تتأمل الأحداث ، فإذَا هي تؤكد القرآن الكريم ، الأحداث الخارجية كلها تؤكد آيات القرآن الكريم .
     لذلك قيل : إنك إذا أردت أن تعرف الله عز وجل فتأمل في آيات الله الكونية ، وتفكر فيها تتعرف إليه ، وإن أردت أن تتعرف إلى الله تعالى تأمل في آياته القرآنية ، وإن أردت أن تعرف الله تعالى انظر إلى الأحداث الخارجية ، الأحداث الخارجية تؤكد لك أنه في السماء إله وفي الأرض إله ، وآيات القرآن تؤكد أنه كلامه ، والكون يجسّد أسمائه الحسنى وصفاته الفضلى .
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
 
 معنى علم الله عز وجل : يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
 
     كلمة ( يعلم ) كما قلنا في درس سابق : إن الله سبحانه وتعالى منزه حتى عن صفات الكمال التي تخطر في بالنا ، لأنه كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، أنت إذا رأيت هذا الكأس انتقل من هذا المكان إلى هذا المكان تقول : علمت بانتقاله ، لكن إذا أنت نقلته فهذا علم آخر ، علم الله من نوع آخر ، لا كعلم الإنسان ، فقد يراقب الإنسان شيئاً قد تحرك ، يقول : أعلم أنه يتحرك ، أعلَمُ أنه انتقل ، ولكن لا يقع شيء في الكون إلا بقدرة الله ومشيئته وبعلمه .
     فإذا قلنا : إن الله يعلم فالعلم له معنى آخر غير المعنى الذي يتبادر إلى أذهان الناس حينما يقولون : نعلم أو لا نعلم .
 
 
 ﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ ﴾
 
 ما هو الحق والباطل ؟
 
        ما الباطل ؟ ما تعريف كلمة الباطل ؟ الشيء الزائل ، والحق واحد ، ما تعريف الحق ؟ في الأصل الحق هو غير الباطل ، والحق هو غير اللعب ، لأن الله سبحانه وتعالى قال :
 
﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾
( سورة التغابن )
        فخلق السماوات والأرض ثابت بالحق ، الحق ملازم له ، وحينما نفى الله عز وجل عن خلق السماوات والأرض أن يكون هذا الخلق باطلاً قال تعالى :
 
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً﴾
(سورة ص)
 
﴿  وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾
( سورة الدخان )
        حينما نفى اللعب والبطلان عن خلق السماوات والأرض ، وأثبت أن خلق السماوات والأرض كان بالحق ، إذاً : ما الحق ؟ هو شيء مناقض للباطل ، والباطل هو الشيء الزائل ، فالحق إذاً : هو الشيء الثابت إلى الأبد ، هذا هو الحق ، اللعب هو العبث ، عمل لا جدوى منه ، أو لا هدف له ، يقول ربنا عز وجل :
 
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً﴾
( سورة المؤمنون )
 
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾
( سورة القيامة )
        فخلق السماوات والأرض ليس باطلاً ، أو ليس مؤقتاً ، لم يخلق الله السماوات والأرض للفناء ، بل خلق الإنسان للبقاء ، وخلق الكون تسخيراً من الله عز وجل لهذا الإنسان كي يعرف الله عز وجل .
     إذاً : الوقفة عند كلمة الباطل ، حينما تبني جداراً بلا قواعد ، تبني جداراً بلا شاقول ، حينما يبني إنسان جداراً بلا أصول ، فإن هذا الجدار لا بد من أن يقع ، جدار بالباطل ، والباطل لا بد من أن يقع .
        أحياناً ترى بأم عينك كيف أن الباطل لا يصمد أمام الحق ، وكيف أن الباطل ينتهي ، ويتداعى كبيت العنكبوت .
 
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ ﴾
 
 وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ :
       
ما هو الإيمان بالباطل ؟
        آمن بفكرة لم ترد في كتاب الله ، آمن بحقيقة أو بنظرية مناقضة لكتاب الله عز وجل ، سلك سلوكاً بعيداً عن منهج الله عز وجل ، أحل شيئاً حرمه الله هو باطل ، حرم شيئاً أحله الله هو باطل ، سلك طريقاً بعيداً عن طريق الله عز وجل هو باطل ، اعتقد شيئاً مخالفاً للعقيدة التي جاءت في كتاب الله هو باطل .
 
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ ﴾
 
        آمنت بالباطل عقيدة ، آمنت بالباطل سلوكاً ، آمنت بالبطل هدفاً ، آمنت بالباطل وسيلة ، أي شيء خارج عن كتاب الله وعن سنة رسول الله ، بل أيّ شيء خارج عن منهج الله هو باطل ، والحقيقة الهندسية كما تعلمون أن بين نقطتين لا يمر إلا مستقيم واحد ، فإذا زاح الخط عن الاستقامة التي بين النقطتين فهو خط مائل ، أو منحنٍ ، أو منكسر ، والباطل يتعدد ، أما الحق فلا يتعدد ، لهذا يقول الله عز وجل :
 
﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾
( سورة يونس )
     هناك حق ، وغير الحق ضلال قطعاً ، قال تعالى :   
 
﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ ﴾
 
 
        اعتقد شيئاً مخالفاً لكتاب الله ، سلك سلوكاً مخالفاً لسنة رسول الله ، أَلِفَ شيئاً لا يرضي الله ، ابتعَدَ عن شيء يحبه الله ، إذا خرج عن منهج الله اعتقاداً أو سلوكاً فقد آمن بالباطل ، فإذا آمن الإنسان أن هذا المال لا بد من أن يستثمر بفائدة ربوية ، هكذا منطق الحياة ، فقد آمن بالباطل ، وإذا استثمره بفائدة ربوية فقد سلك سلوكاً باطلاً ، فهذه الآية مطلقة ، والمطلق على إطلاقه ، وهذه الآية جامعة .
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
 
 استنباطات من قوله تعالى : أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
 
1 – خسارة أهل الباطل شاملة للدنيا والآخرة :
 
        أحياناً حينما يستخدم الإنسان كلمة ( خسر ) أو ( خسارة ) فلا بد من أن يصفَها ، خسر ماله ، خسر جهده ، خسر وقته ، خسر شيئاً ، خسر بيتاً ، خسر زوجة ، خسر صديقاً ، لكن كلمة الخسارة في كتاب الله جاءت غير مقيدة ، لهذا إن من أشد أنواع الخسارة أن تخسر الدار الآخرة .
        إن من أشد أنواع الخسارة أن تخسر رضوان الله عز وجل ، إن من أشد أنواع الخسارة ألا تعرف عن الله شيئاً ، إن من أشد أنواع الخسارة أن تكون دنياك عريضة عامرة ، وآخرتك خربة .
        إن من أشد أنواع الخسارة أن تأتي يوم القيامة بصيام وصلاة وزكاة ، وقد أكلت مال هذا ، وشتمت هذا ، وسفكت دم هذا ، وعيّرت هذا ، واستعليت على هذا ، فيأخذ هذا من حسناتك ، وهذا من حسناتك ، وهذا من حسناتك ، فإذا انقضت حسنات هذا الإنسان ، ولم تفِ بما عليه طرحت عليه سيئات الآخرين فيطرح في النار ! هذه خسارة .
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
 
2 – المؤمن لا يندم على شيء مِن الدنيا :
        المؤمن لا يندم على شيء فاته من الدنيا إطلاقاً ، لأن هدفه كبير ، هدفه أن يكون في رضوان الله ، لذلك تهون عليه الدنيا ، والدنيا هينة على أهل الإيمان ، عظيمة على أهل البطلان .
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
 
3 – العاقل يراجع معتقداته :
        لهذا مما يقتضيه العقل أن تراجع كل معتقداتك :
        ـ هل تعتقد شيئاً مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم ؟ هل تعتقد أن أصل الإنسان قرد ، مثلاً ؟ وهذا مخالف لما جاء في القرآن الكريم .
        ـ هل تعتقد أن تثمير المال بفائدة ربوية ضرورة ؟
        ـ هل تعتقد أن طبيعة العصر تقتضي الانطلاق ؟ والاختلاط والحيوية كما يدّعون ؟ هل تعتقد فكرة أو مذهباً أو نموذجاً أو سلوكاً مخالفاً لما جاء في القرآن الكريم ؟ هذا هو الإيمان بالباطل .
        ـ هل تعتقد أن المال هو كل شيء ؟ هذا هو الباطل .
        ـ هل تعتقد أن الذكاء هو كل شيء ؟ هذا باطل .
        ـ هل تعتمد على الأسباب هذا شرك ؟
        إن القضية تحتاج إلى مراجعة تصورات الإنسان ، ومعتقداته ، وما يقتنع به وتصرفاته .
 
﴿ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ¯وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾
 
 من صفات الأحمق والجاهل استعجالُ العذاب :
 
        دائماً من صفات الأحمق أنه يتحدى ، يستعجل ، متى العذاب ؟ ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ! هكذا يقول الكفار دائماً !
 
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾
        طبعاً عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، يقول لك : دع الله يأخذني ، ويميتني ، لا أريد هذه الحياة ، ادخل الجنة ، وأغلق الباب خلفك ، هذا استعجال للعذاب .
 
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾
 
     هناك آية أخرى ، يقول الله عز وجل :
 
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾
( سورة النحل )
 
 استعمال القرآن الماضي لشيء مستقبلي وأمثلة لك :
 
المثال الأول : أَتَى أمْرُ اللهِ فَلاَ تسْتَعْجِلُوه
        انظر لهذه البلاغة في الآية ، أتى كيف يستعجلونه ؟ هذا من إعجاز القرآن أتى ، لو أنك تنتظر صديقاً يقول لك : أبوك استعجله ، اتصل به بالهاتف ، قل له : تأخرت علينا ، هل يعقل أن يقول لك ابنك : لقد جاء فلان يا أبت ، تقول له : استعجله ، واتصل به بالهاتف ؟ جاء ، وانتهى الأمر ، دخل البيت ! ما معنى هذه الآية ؟ كيف أتى أمر الله ؟ وكيف ينهانا الله على أن نستعجله ؟
        في الآية إعجاز ، أمر الله لا محالة واقع ، القضية قضية زمن فقط ، وعد الله لا محالة واقع ، وعيد الله لا محالة واقع ، وعد الله بنصر المؤمنين لا محالة واقع ، وعيد الله بخذلان الكافرين لا محالة واقع ، وعد الله بحياة طيبة للمؤمن لا محالة واقع .
        إنّ أمر الله أيْ قضاؤه وقدره ، وقضاء الله وقدره إما مكافأة للمؤمن ، أو عقاب للمجرم .
[        إذاً : ]أَتَى أمْرُ اللهِ فَلاَ تسْتَعْجِلُوه قضية وقت ، مجيئه محقق ، فالقرآن يستخدم الفعل الماضي مكان الفعل المستقبل تحقيقاً لوقوعه ، كقوله تعالى :
 
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ﴾
( سورة المائدة )
المثال الثاني : أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ النَّاسِ
        هذا القول من الله تعالى لم يقع بعد ، هذا القول يقوله هذا النبي الكريم يوم القيامة ! ولكن حينما قال الله عز وجل :
 
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾
        عبر عن ذلك العلماء فقالوا : إن القرآن يستخدم الفعل الماضي مكان الفعل المضارع ، أو الفعل الاستقبال تحقيقاً للوقوع .
 
﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾
( سورة النحل )
 
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى﴾
 
( سورة العنكبوت )
        القضية ليست على استعجال هؤلاء ، لكل إنسان أجل ، هذا الأجل فيه حكمة بالغة ، هذا الأجل حكمته أن يأخذ الإنسان فيه أبعاده .
 
 
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾
( سورة الملك )
 
 الأبعاد الحقيقية للإنسان :
 
        إنّ الإنسان أحياناً لا يأخذ أبعاده الحقيقية ، ومطامِحه ، وأهدافه ، ورغباته ، وطاعته لله ، ومعصيته لله ، وورَعه ، وتفلّته ، وصبره ، وضجره ، وحلمه ، وغضبه ، وكرمه ، وبخله لعشر سنوات ، ولا يأخذ أبعاده إلا بفترة زمنية محدودة ، لهذا يقول الله عز وجل :
 
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
( سورة فاطر )
        عشتم عمراً كافياً ، أخذتم في هذا العمر أبعادكم ، فالقضية ليست على قول زيد أو عُبيد .
 
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ﴾
        ربنا عز وجل جعل لكل إنسان أجلاً محدداً ، مثلاً يقول الطالب لأستاذه : أسقِطني في صفي أستاذ ، الآن أسقطني ! لا ، ستسقط في الفحص ، معك مدة حتى شهر حزيران ، يقول الطالب : الآن أسقطني ، وضع لي علامة الصفر ! لا ، معك فترة ما ، فأولاً : يعطى الطالب فرصة لعله يدرس ، لعله يراجع نفسه ، لعله يعود عن هذا الاستعجال ، لعله يفكر ، لعله يتراجع .
        وثانياً : هناك نظام عام لا بد من أن يمضي عام دراسي ، يأخذ فيه الطالب كل أبعاده .
        إذاً :
 
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾
        ربنا عز وجل قال :
 
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ¯وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ¯وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾
(سورة الزمر)
 
 احذروا المحطات السبع الحتمية :
 
        اجتماعات ، أو إلى سهرات ، أو إلى زيارات ، أو ما شاكل ذلك ، نعود وننام ، ونستيقظ ، ونذهب ، ونعمل ، ونأكل ، وننام ، إلى متى هذا النمط الرتيب ؟ إلى ما لا نهاية ؟ كل يوم أفعل إلى ما شاء الله ؟ لا ، هل الخط البياني صاعد دائماً ؟ لا ، (( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا )) ، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا ؟ هناك مفاجآت في الدنيا ، والمفاجآت لا بد منها ، (( هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا )) ، فجأة جاءك المال الوفير ، هذا المال جاء على غير علم ، فاختل التوازن ، رفضت حياة التقشف ، ورفضت حياة الاستقامة ، رفضت حياة طاعة الله عز وجل ، مال وفير لا بد من أن تفعل كذا ، وكذا ، وكذا ، لا بد من أن تذهب إلى هذه الجهة ، وأن تسافر ، لا بد من أن تقتني هذا الجهاز ، وهذا الجهاز ، لا بد من أن تلتقي مع زيد أو عبيد ، لا بد من أن تسكن غير هذا البيت ، (( أَوْ غِنًى مُطْغِيًا )) ، أن يحملك المال على معصية الله ، أن يدفعك المال إلى الدنيا ، أن يدفعك المال إلى أن تعلو على خلق الله ، أن يدفعك المال إلى المعاصي والآثام ، أن يدفعك المال إلى الفجور .
        عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا : هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا ؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا ؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا ؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا ؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ؟ أَوِ الدَّجَّالَ ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
( سنن الترمذي )
     يستيقظ في صبيحة أحد الأيام فإذا ماله كله ذاهب ، وليس ذلك على الله بعزيز ، (( أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا )) ، يفسد حياة الإنسان ، (( أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا )) ، يجعله في أرذل العمر ، (( أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا ، أَوِ الدَّجَّالَ ، فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ ، أَوِ السَّاعَةَ ، فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) .
     لذلك قال :
 
﴿ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾
 
     العوام دائماً يستعيذون بالله من ساعة الغفلة ، فقد يتوهم الإنسان أن الله راض عنه ، وقد يكون الله غير راضٍ عنه ، الحبل مرخى ، يمرح ، ويفرح ، ويذهب ، ويأتي ، ويعود ، ويتكلم ، ويتبجح ، ويتطاول ، ويتعجرف ، ويستعلي ، ويتحدث عن نفسه ، وعن ماله ، وعن مغامراته ، وعن رحلاته ، وعن إقامته ، وعن ، وعن ، وعن .. فجأة أصابه مرض عضال !
 
﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً﴾
 
بين حياة المؤمن وحياة الكافر :
 
     أما المؤمن فلا ينتظر إلا الخير من الله عز وجل  .
 
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا﴾
( سورة التوبة51 )
     ما كتب الله لنا من خير ، فهناك فرق كبير بين حياة المؤمن وحياة غير المؤمن ، فحياة المؤمن فيها استبشار وأمل .
 
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
( سورة القصص 61)
     حياة الكافر فيها مفاجآت ساحقة ، فيها مفاجآت مدمرة ، فيها مفاجآت متعبة .
 
﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ¯يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾
أول استعجال لعذاب الدنيا .
 
يوم الحساب والعقاب :
 
وثاني استعجال لعذاب الآخرة .
 
﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾
جهنم مهيأة ، والقضية قضية وقت .
 
﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ¯يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
        فالإنسان المؤمن وهو في الدنيا حركاته محسوبة عليه ، سكناته محسوبة عليه ، مواقفه محسوبة عليه ، جوارحه محسوبة عليه ، لماذا نظرت ؟ لماذا لم تنظر ؟ لماذا تكلمت هذه الكلمة ؟ لماذا سكت عن الحق ؟ لماذا استمعت لهذا الشيء ؟ لماذا عبست في وجه فلان ؟ لماذا هششت لفلان وهو على باطل ؟ لماذا أَعطيت هذا ولم تعطِ ذاك ؟ لماذا منعت هذا ؟ لماذا وصلت فلانا ؟ لماذا قطعت فلانا ؟ لماذا غضبت ؟ لماذا لم تغضب ؟ كل هذا أنت محاسب عليه !
 
﴿ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ¯يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
        نحن الآن في دار عمل ، وغداً نقدم على دار جزاء وحساب .
 
 تشريف الإنسان بالعبودية :
      
        الآن اسمعوا أيها الإخوة :
 
﴿ يَا عِبَادِيَ ﴾
     ألا تقشعر جلودكم لهذه الكلمة ؟ لقد أضيف العباد إلى الله عز وجل ، إضافة تشريف ، لكرامة العباد على الله ، لأن الإنسان هو المخلوق الأول ، لأنه هو المخلوق المكرم .
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
 
تشريف المؤمنين بالإيمان :
 
     الله عز وجل يخاطب المؤمنين ، أما الكفار فما آمنوا به حتى يستمعوا إلى خطابه !
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
 
 معنى الآية :
 
        ما معنى هذا الكلام ؟ يا عبادي الذين آمنوا إياكم أن تعصوني ، لا بد من أن تطيعوني ، خلقتكم للعبادة ، فإذا كنتم في مكان تفتدون فيه بدينكم فارحلوا عن هذا المكان إلى مكان آخر تطيعون الله فيه .
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
 
لا تعبدوا غيري ، ]فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [ .
حينما يأتي المفعول به مقدماً فهو يفيد الحصر ، ، أي اعبدوا الله ، ولا تعبدوا أحداً سواه ، أطيعوا الله ، ولا تطيعوا أحداً سواه .
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
 
 
سبب نزول الآيات :
    
هذه الآيات كما يروي المفسرون : أنها نزلت في حض المؤمنين في مكة على الهجرة إلى المدينة .
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
 
 من لوازم الآية ومقتضياتها : الهجرة بمفهومها الواسع :
 
        إذا آثرتم أن تبقوا في بلدكم ، وتفتنون في دينكم ، هذه الحياة لا تدوم لكم ، لابد من الموت ! كل نفس ذائقة الموت ، فإذا آثر الإنسان الدنيا ، ثم ماذا بعد الدنيا ؟ أليس الموت ؟ ماذا بعد الغنى إلا الموت ، ماذا بعد الوجاهة العريضة إلا الموت ، ماذا بعد النجاح الكبير في الحياة إلا الموت ، ماذا بعد التفوق إلا الموت ، ماذا بعد أن تملك الدنيا ، وما فيها إلا الموت .
     
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
 
        إذا ضاق بك المقام هنا ، اذهب إلى هناك ، لذلك باب الهجرة قد انتهى من مكة إلى المدينة بعد الفتح .
        عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا )) .
( صحيح البخاري  )
        لا هجرة بعد الفتح ، الهجرة انتهت ، لكن الهجرة مشروعة بين كل مدينتين تشبهان مكة والمدينة وقت الهجرة .
        عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رَدَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ)) .
( صحيح مسلم )
 
 الغريمان الأساسيان للإنسان : الفقر والموت :
 
الحقيقة أن الإنسان يخشى شيئين ، أولهما : الموت ، والثاني : الفقر ، ولأن الأمر بيد الله وحده ، لذلك قطع الله أمر الموت ، وأمر الرزق عن العباد ، بمعنى أن أحداً من بني البشر لا يستطيع أن يؤثّر في أجلك ، ولا في رزقك ، لهذا قال عليه الصلاة والسلام :
(( كلمة الحق لا تقطع رزقاً ، ولا تقرب أجلاً )) .
[ورد في الأثر]
 
 مغزى الهجرة : فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
 
     هنا في الآية عندما دعا ربنا عز وجل هؤلاء المؤمنين في مكة إلى الهجرة ، ما الذي يخافون منه ؟ يخافون أن يموتوا في الطريق ! لأن قريشا كانت تترصد لهم ، ويخافون أن يفتقروا ، لأنهم إذا جاءوا إلى المدينة لا شيء عندهم ، كما يقول بعضهم : اقتلعوا من جذورهم ، تركوا أموالهم وبيوتهم وتجارتهم ، وجاءوا إلى بلد لا يعرفون أحداً فيه ، فربّنا عز وجل طمأن هؤلاء قال :
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
 
     يجب أن يكون شغلك الشاغل عبادة الله ، هدفك الأسمى أن تعبده ، هدفك الأكبر أن تعبده ، لا شيء يعلو على هذا الهدف ، لا شيء يقلق إلا أن تعبده .
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
 
     إن كنتم حقاً مؤمنين ، إن عرفتموني ، وعرفتم حقيقة الحياة ، وكيف أنها دار عمل ، وعرفتم حقيقة الآخرة ، وكيف أنها دار جزاء ، وعرفتم أبدية الآخرة ، وزوال الدنيا ، وشدة انقضائها ، إن عرفتم هذه الحقائق ، وعرفتم ما عندي من إكرام كبير ، وعرفتم ما بعد الموت للكفار من عذاب أليم .
 
﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ﴾
 
     عليكم أن تعبدوني بأي ثمن ! ولو كان الثمن أن تخرجوا من أرضكم !
 
﴿ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾
 
ولا تخافوا أن تكون الهجرة سبباً في موتكم ، لأن كل نفس ذائقة الموت ، الموت الذي تخافون منه ، لا محالة آت في الوقت الذي هو مقرر ، هذه الفكرة مريحة جداً ، لي عند الله أجل لا يزيد ولا ينقص ، لا يزيد ثانية ، ولا ينقص ثانية ، وهذا الأجل بتقدير الله عز وجل العليم الحكيم ، لهذا عندما قال أحد الشعراء :
إن الطبـيب له علم يُدل به إن    كان للناس في الآجال تأخير
حتى إذا ما انقضت أيام رحلته    حار الطبيب وخانته العقاقير
***
     كلكم يعلم أن الإنسان يكتَب نعيه أحياناً ، ويعيش ثلاثين عاماً بعد كتابة النعي ! وإنسان يرتجى طول عمره ، فإذا هو في ثوان معدودة أصبح من أهل القبور ! هكذا الحياة ، فقال :
 
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾
 
 المصير المحتوم :
 
        أنت مصيرك إلى الله عز وجل ، ماذا أعددت لهذا اللقاء ؟ ماذا هيأت له ؟ ماذا ادخرت له ، ماذا تزودت له ؟ بمَ تلقى الله إذاً ؟ لا صدقة ولا جهاد ، جهاد النفس والهوى ، فبمَ تلقى الله إذاً ؟
 
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾
 
        والله الذي لا إله إلا هو لو أدركنا حقيقة الموت ، جاء في بعض الآثار : أنه ما من بيت إلا ومَلكُ الموت يقف فيه في اليوم خمس مرات ! فإذا رأى أن العبد قد انقضى أجله ، وانقطع رزقه ألقى عليه غم الموت ! فغشيته سكراته ، فمن أهل البيت الضاربة وجهها ، والممزقة ثوبها ، والصارخة بويلها ، يقول ملك الموت : فيمَ الجزع ؟ ومما الفزع ؟ ما أذهبتُ لواحد منكم رزقاً ، ولا قرّبت له أجلاً ، وإن لي فيكم لعودة ، ثم عودة ، حتى لا أبقي منكم أحداً !
فو الذي نفس محمد بيده ، لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميتهم ، ولبكوا على أنفسهم ! أي أنهم ينسون أن يغسلوا الميت ! فإذا شُيع هذا الميت رفرفت روحه فوق النعش ، تقول : يا أهلي ، يا ولدي ، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي ، جمعت المال مما حلّ وحرم ، فأنفقته في حله وفي غير حله ، فالهناء لكم ، والتبعة علي !
فو الذي نفس محمد بيده لو ترون ما أنتم عليه بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوة - تذهب القابلية نهائياً - ولا شربتم شراباً ، ولذهبتم إلى الصُعدات تضربون وجوهكم ، وتزمون أنفسكم ، هكذا ورد في بعض الآثار .
 
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾
 
        هذا أخطر حدث في حياة الإنسان ، أخطر من الحياة والولادة ، لماذا ؟ الولادة فيها خيارات كثيرة أمامك ، أما الموت فليس فيه خيار ، فإذا سيق رجل للإعدام ، إذا بكى هل يخلصونه مما هو فيه ؟ البكاء والتوسل هل ينجيانه من الإعدام ؟ لا ، لو ضحك هل ينجو ؟ هذا ممر إجباري ، ضحكه كبكائه ، وصراخه كصمته ، وتوسله ككبريائه ، هذا الحكمُ لا بد من أن يقع ، لذلك قال ربنا عز وجل :
 
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ ﴾
( سورة الملك )
 
 الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ
 
     بدأ بالموت ، لأن حدث الموت أخطر في حياة الإنسان من حدث الحياة ، كمثل أول العام الدراسي ، فأوله سهل ، الفرص كلها واسعة ومفتوحة ، تدرس أو لا تدرس ، تهدر بعض الوقت أو تستغله ، تنتبه أو لا تنتبه ، تتشاغل ، تكتب ، تؤدي الواجبات ، تهملها ... هناك خيارات واسعة جداً ، ولكن دخولك على قاعة الامتحان يترتب عليه النجاح أو الرسوب ، الإكرام أو الإهانة ، هنا ضاقت الخيارات .
 
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ¯وَالَّذِينَ آَمَنُوا ﴾
 
 الوجه المشرق ليوم القيامة :
 
        لكن أيها الإخوة الأكارم ، استبشروا ، هذا كتاب إرشاد ، ربنا عز وجل يعطيك الصورة المخيفة ، ومعها الصورة المشرقة ، قال :
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً ﴾
        لننزلنهّم في جنة عرضها السماوات والأرض ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، لا فيها متاعب ، ولا خوف ، ولا فيها قلق ، ولا فيها كبر ، ولا فيها مرض ، ولا خصوم ، ولا أعداء ، ولا فيها مؤامرات على إنسان ، لا يوجد أي شيء أبداً ، بل فيها نعيم مقيم ! لنبوئنهم أي لنُنْزِلَنّهم .
 
 
﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾
 
فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ
 
سؤال : مَن هم العاملون ؟
 
             من هم العاملون الذين صبروا ؟ التكاليف كلها مكلفة ، أمرك بِغَضّ البصر ، أنت بغَضّ البصر تعاكس شهوتك ، أمرك بضبط اللسان ، ضبط اللسان فيه كلفة ، هذه حرام ، هذه غيبة ، هذه نميمة ، هذه
 
 بهتان ، هذه سخرية ، هذه كلمة فاحشة ، أمرك بضبط الأذن ، وبضبط اليد .
 
الجواب : هم الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون :
        فيا أيها الإخوة الأكارم ، ] الَّذِينَ صَبَرُوا[ ، صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن الشهوات ، صبروا على المصائب ، صبرٌ على الطاعة ، وصبرٌ عن المعصية ، وصبرٌ عند المصيبة ، صبرٌ تكليفي ، وصبر تكويني ، أمر ونهي ، تكليف وقضاء وقدر ، فالصبر عند المصيبة هو صبر على أمر تكويني ، والصبر على الطاعة ، أو عن المعصية هو صبر على أمر أو نهي تكليفي .
 
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾
        والصبر هو الإيمان كله !
        عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ تَبِعَكَ عَلَى هَذَا الأَمْرِ ؟ قَالَ : حُرٌّ وَعَبْدٌ ، قُلْتُ : مَا الإِسْلامُ ؟ قَالَ : طِيبُ الْكَلامِ ، وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ ، قُلْتُ : مَا الإِيمَانُ ؟  قَالَ : الصَّبْرُ وَالسَّمَاحَةُ ... )) .
( مسند الإمام أحمد)
        الصبر أنك إذا جاءك شيء خارجي تتلقاه بالرضى ، والسماحة البذل ، فأنت إما أن تأتيك الأشياء من خارجك تقبلها ، وترضى بها ، وإما أن تبذل .
 
﴿ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
 
 لا بد من الحركة :
 
        ويا أيها الإخوة المهاجرون ، يخاطب الله المؤمنين في مكة أن هاجِروا .
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
 
( سورة الأنفال )
     بربكم إذا فكر أحدكم ، وفكر ، وفكر ، وقال : هذا المصباح متألق ، ماذا فعل ؟ وماذا قدم ؟ هو متألق ، إذا قال : هو منطفئ ، ولكنه في الحقيقة هو متألق ، وإذا قال : متألق ، فهو متألق ، هل أضاف شيئاً ؟
     أردت من هذا المثل أن أقول لكم : إذا آمنت بالله ماذا فعلت ؟ أقول لك : لن تفعل شيئاً إلى أن تأخذ موقفاً ، إلى أن تنتهي عما عنه نهى ، إلى أن تأتمر بما به أمر ، إلى أن تعطي ، إلى أن تفكر ، لأن الإيمان مع سكون هذا ليس له جدوى ، لا طعم له ، لا يقدم ولا يؤخر ، أنا  مؤمن أن الله موجود ، إن آمنت أو لم تؤمن الله عز وجل موجود فالأمر سيّان ! أنا مؤمن بالجنة ، وهي في الحقيقة موجودة فعلاً ، المشكلة ماذا فعلت ؟ حتى إن بعض الناس يحب من العلم غرائبه ، وعجائبه ، والقصص المثيرة ، هذه ليس لها قيمة ، الطُرَف ، القراءات ، القصص الرائعة  ، اللقطات ، الشذرات ، كتاب رائع جداً ، ممتع مسلٍّ ، هذا ليس له قيمة ! نقول له : فماذا صنعت في أصل العلم ؟ وأصل العلم أن تعرف الله ، وأن تعمل عملاً من أجله ! ما الشيء الذي بذلته من أجله ؟ ما الشهوة التي ضبطها من أجله ؟ ماذا فعلت ؟
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
 
        إذا ما أخذت موقفاً ، تقول : أنا لدي عواطف إسلامية رائعة ، والبيت متفلّت ، وغير منضبط ! ما قيمة هذه العواطف ؟ أنا لدي ثقافة إسلامية جيدة ، ما قيمة هذه الثقافة ؟ أين التزامك ؟ أن يراك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، فلذلك قال تعالى :
 
﴿ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾
 
لا تتشاغل بما ضمنه الله لك عما افترضه عليك :
 
     وأنا أنصح نفسي وإياكم أن تجيبوا عن هذين السؤالين : هل تعرف الله ؟ قل لي : نعم ، ماذا صنعت في حقه ؟ هل تعرف الموت ؟ تقول : نعم ، ماذا أعددت له ؟ هذان السؤالان لا ينبغي أن يفارقا مخيلتك ، يجب أن يكون هذان السؤالان شغلك الشاغل ! فلذلك ربنا عز وجل يقول :
 
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾
فلا تخش الرزق .
 
﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾
( سورة الذاريات)
        قبل أربعين عاما تقريباً كان هناك ثانوية في دمشق شهيرة جداً ، فيها قسم ليلي ، الآن الثانوية ليس فيها قِسمٌ ليلي ، أما أنا فأعرف أنه كان فيها مهاجع في الطابق الثاني ، وكان فيها مطعم كبير جداً ، وقاعات مطالعات ، وقاعات تدريس ، ويوجد مطبخ وطباخون ، وموظفون ، وموجهون ، وقائمون للمكتبة ، وموجِّهون ليلاً ونهاراً ، هذا الطالب الداخلي ما مهمته الأولى ؟ أن يدرس ، لذلك بعد الدوام هناك قاعة مطالعة ، مكتبة ضخمة جداً ، والطاولات مريحة ، والإضاءة جيدة ، ومطبخ في الساعة السابعة تماماً يقرع الجرس ، ويذهب الطلاب إلى المطعم ليأكلوا ، دققوا ! لو أن هذا الطالب ترك قاعة المطالعة ، وترك القراءة والدراسة ، وذهب إلى المطبخ يتفقد أعمال الطباخين ، ماذا صنعتم ، هل قشرتم البصل ؟ هل فعلتم كذا ؟ هذا عمل تافه .
        أردت من هذا المثل أن أقول لكم : لا تتشاغل بما ضمنه الله لك عما افترضه عليك ، " خلقت لك ما في السماوات والأرض فلا تتعب ، وخلقتك من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك ، عما افترضته عليك " .
        فرضَ الله عليك أن تعرفه ، وأن تذكره ، وأن تستقيم على أمره ، وأن تطيعه ، وأن تعمل الصالحات تقرباً إليه ، وأن تقرأ كتابه ، وأن تحضر مجالس العلم ، وأن تفهم أمره ونهيه ، وضمن لك رزقاً ، فإياك أن تنشغل بطلب الرزق عما افترضه الله عليك !
     الإمام أبو حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ يروى أن حديثاً شريفاً غيَّر مجرى حياته ! قال : (( من طلب العلم تكفل الله له برزقه )) .
[ ورد في الأثر ]
     بمعنى أنك إذا سعيت إلى طلب العلم فالله سبحانه وتعالى يأتيك بالرزق من حيث لا تحتسب ، لا أقول لكم : لا تسعوا ! اسعوا في مناكبها ، ولكن بجهد معقول يأتيك أجر يكفيك ، لذلك :
 
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾
 
 
     ربنا يخاطب أهل مكة من المؤمنين الذين لم يهاجروا بعد ، إن خفتم أن تموتوا فالموت مصير كل إنسان ، كائناً من كان ، وإن خفتم أن يذهب الرزق فرزق الله مضمون ، وهذان الشيئان إذا أيقنت أن حياتك بيد الله وحده ، وأن الرزق بيد الله ، تنتهي كل المشكلات !
 
 
 
والحمد لله رب العالمين
 
***
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب