سورة البقرة 002 - الدرس (94): تفسير الآيات (284 - 284) سنن الله في خلقه

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (94): تفسير الآيات (284 - 284) سنن الله في خلقه

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآية: (284 - 284) - سنن الله في خلقه

20/03/2011 19:14:00

سورة البقرة (002)
الدرس (94)
تفسير الآية: (284)
سنن الله في خلقه
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً
 وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
كلُّ ما في السماوات والأرض مِلكٌ لله عزَّ وجل :
 
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع والتسعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين، ولعل هذا الدرس هو الدرس الأخير من دروس سورة البقرة. قال تعالى:
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
كلُّ ما في السماوات والأرض مِلكٌ لله عزَّ وجل، بل إن السماوات والأرض مصطلحٌ قرآني يعني الكون، والكون ما سوى الله، الله عزَّ وجل واجب الوجوب، وما سواه فممكن الوجود، أي كل ما في
 السماوات والأرض.
تقريبٌ لأذهان الأخوة، العلماء حتى الآن يقدِّرون أن في الكون مئة ألف مليون مجرَّة، وأن في المجرة الواحدة تقريباً مئة ألف مليون نجم، وأن مجرَّتنا ـ درب التبانة ـ مجرةٌ متوسطة، المجموعة الشمسية بأكملها
 لا تزيد عن نقطةٍ مضيئةٍ في جسمٍ مِغْزَلي، فهذه المجرات بعددٍ وحجمٍ كبيرين، أي بيننا وبين القمر ثانية ضوئية، أي أن الضوء يقطع المسافة إلى الأرض بثانيةٍ واحدة، وبيننا وبين الشمس ثمانِ دقائق، يقطعها
 الضوء في ثمان دقائق، وبيننا وبين أقرب نجمٍ ملتهبٍ أربع سنوات ضوئية، لو أن هناك طريقاً نسير فيه لاحتجنا إلى خمسين مليون سنة بمركبةٍ أرضية، هذه أقرب نجم ملتهب، وأن نجم القطب أربعة آلاف سنة
 ضوئية، وأن المرأة المُسَلْسَلةَ وهي مجرةٌ يزيد حجمها عن حجم مجرتنا ثمانٍ وعشرين مرَّة، تُرى من الأرض نجماً واحداً، بعدها عنا مليونا سنة ضوئية، وأن بعض المجرات تبعد عنا عشرين ألف بليون سنة ضوئية.
 
آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تدل على عظمة الله من خلال خَلْقه :
 
قال تعالى:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ﴾
[ سورة الزمر: 67 ]
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُون*وَمَا لَا تُبْصِرُونَ﴾
 [ سورة الحاقة: 38-39]
آياتٌ كثيرةٌ في القرآن الكريم تدل على عظمة الله من خلال خَلْقه:
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾
 [ سورة يونس: 101 ]
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ*وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾
 [ سورة يوسف: 105-106]
 
حقيقة الإيمان ألا ترى مع الله أحداً :
 
أيها الأخوة...
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
هذا الكون العظيم مِلْكٌ لله عزَّ وجل، ملكٌ لله خلقاً؛ هو الذي خلقه، وتصرُّفاً، ومصيراً، أما تصرُّفاً؛ فلا يقع شيءٌ في الكون إلا بمشيئة الله، والإنسان لضعف إيمانه، ولقصر نظره، ولشبهاتٍ تراكمت على قلبه
 يظن أن في الأرض أقوياء، وأن أمرهم نافذ، ولكن الحقيقة أنه ليس في الكون إلا الله:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾
[ سورة التغابن: 13 ]
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
[ سورة الزخرف: 84 ]
﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾
[ سورة النحل: 51 ]
﴿ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
[ سورة الكهف: 26]
﴿ مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾
 [ سورة فاطر: 2]
حقيقة الإيمان ألا ترى مع الله أحداً، أما المشرك يرى مع الله آلهةً لا تعدُّ ولا تحصى، كل إنسان قوي يظنه إلهاً يفعل ما يريد، لذلك حياة المشرك حياةٌ متعبة جداً.
 
الأمن للمؤمن وحده لأنه يرى يد الله تعمل في الخفاء :
 
قال تعالى:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ﴾
 [ سورة الشعراء: 213]
حياة المؤمن حياة مُسْعِدة، لأن علاقته مع جهةٍ واحدة، هذه الجهة هي الله عزَّ وجل، لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما من شيءٍ يتحرَّك إلا بأمره، فالتوحيد يُريح الإنسان، يملأ
 القلب أمناً وطمأنينة، قال تعالى:
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
 [ سورة الأنعام:81-82 ]
أي أن الأمن للمؤمن وحده، لأنه يرى يد الله تعمل في الخفاء، لأنه لا يرى مع الله أحداً، ولأن الله أسماؤه حسنى وصفاته فضلى؛ سميعٌ، قريبٌ، مجيبٌ، رحيمٌ، ودودٌ، غنيٌ، قويٌ، فإذا كان الله معك فمَن عليك،
 وإذا كان عليك فمَن معك، العِبرة أن تؤمن الإيمان الذي يملأك سعادة، يملأك طمأنينة، يملأك قوةً، يملأك اندفاعاً، حينما لا ترى مع الله أحداً لا تخشى أحداً إلا الله، ولا تطيع أحداً إلا الله، ولا ترجو أحداً إلا
 الله، ولا تخاف من أحد إلا الله، هذا هو الدين.
 
أكبر مرضٍ يصيب الناس هو مرض الشرك وهو ضعف التوحيد :
 
من أين يأتي النفاق؟ من ضعف التوحيد، أن تشتكي لإنسان، وأن تنهار أمامه، وأن تبذل ماء وجهك أمامه، فهذا من ضعف التوحيد، لأنك إن آمنت بالله عزَّ وجل، الذي أعطاه يعطيك، والذي أكرمه
 يكرمك، والذي رفعه يرفعك، لذلك قال العلماء: " ما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد ".
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
كل هذا الكون مِلْكٌ لله خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾
[ سورة الغاشية: 25-26]
هذا هو الدين، إن آمنت أنه لا يقع شيء، ولا يتحرَّك شيء، ولا يقف شيء إلا بإذن الله عزَّ وجل، هذا الإيمان ينعكس على سلوكك استقامةً على أمر الله، وجُرْأَةً في الحق، وينعكس عليك عزةً وكرامةً
 ووضوحاً، فأكبر مرضٍ يصيب الناس هو مرض الشرك، وهو ضعف التوحيد، أي أنه يرى أن هناك أقوياء لا بد أن تنصاع لأمرهم وإلا دمَّروك، لا بد أن ترضيهم ولو على حساب دينك، هذا هو مرض
 المسلمين، ضعف توحيدهم أوقعهم في المعاصي والذنوب، وأوقعهم في الشرك والشُبُهة.
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾
لماذا خَلَقَنا؟ خلقنا ليسعدنا في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، خلقنا لمهمةٍ، خلقنا لتأدية رسالة:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
[ سورة هود: 119 ]
 
ضعف التوحيد وضعف الإيمان يملأ القلب شهوةً مُحَرَّمةً :
 
لذلك هو في الدنيا يربيِّنا، فإذا استقمنا على أمره أكرمنا، وإذا انحرفنا عن الصراط المستقيم أدَّبنا، فالإنسان حينما يبتعد عن الله يؤثر شهوته على طاعة ربه، وحينما يؤثر شهوته لا بد من أن يعتدي، لأنك لو
 تحرَّكت وفق منهج الله لا يمكن أن تعتدي على أحد، أما إذا اندفعت بدافع الشهوة من دون منهج الله عزَّ وجل فلا بد أن تعتدي على أموال الآخرين، وعلى نسائهم، وعلى أعراضهم، فلذلك ضعف التوحيد
 وضعف الإيمان يملأ القلب شهوةً مُحَرَّمةً، هذه إذا خرجت وانقلبت إلى واقع انتشر مرض لا بد من معالجة الإنسان منه.
من بعض تفسيرات هذه الآية: أن النفس إذا انطوت على مرض، المرض يعني شهوةً محرمة، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
[ سورة القصص: 50 ]
المعنى المخالف أو المعنى العكسي أن الذي يتبع هوى نفسه وفق منهج الله عزَّ وجل لا شيء عليه، أعطى كل ذي حقٍ حقه، اشتهى المرأة فتزوَّج، اشتهى المال فكسب كسباً مشروعاً، إذاً الإنسان حينما يُعْرِض
 عن الله عزَّ وجل يتبع هواه، ومع إتباع الهوى ظلمٌ وعدوان، فلا بد أن يؤدِّبه الله، قال تعالى:
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
أخواننا الكرام... أمراض الجسم تنتهي عند الموت، ولو كانت عُضالة، لكن أمراض النفس تبدأ بعد الموت، فلذلك الإنسان أولى له ألف مرة أن يعالجه الله ليموت طاهراً نقياً من أن يَدَعَه الله وشأنه، حتى
 يستحق دخول النار، ورد في بعض الأحاديث أن الله عزَّ وجل يقـول:
((وعزتي وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن وأنا أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئةٍ كان عملها سُقماً في جسمه، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبةً في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت
 عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه))
[ ورد في الأثر ]
 
الإنسان حينما ينحرف عن منهج الله تتولَّد عنده الشهوات المُحَرَّمة :
 
معنى ذلك أن الإنسان مخلوق للجنة، والجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، معنى ذلك أن الحياة الكريمة التي خُلِقْتَ من أجلها ليست في هذه الدنيا، هذه " الدنيا دار التواء لا
 دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى، فجعل بلاء الدنيا من عطاء الآخرة سبباً، وجعل عطاء الآخرة من بلوى
 الدنيا عوضاً، فيأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي".
إذاً نحن في مرحلةٍ إعدادية لحياةٍ أبدية، سمَّى الله الحياة هذه حياةً دنيا، وسمى الحياة التي أعدها لنا في الدار الآخرة حياةً عُليا، فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثمن هذه الحياة العليا
 ـ الدار الآخرة، الجنة التي يبقى فيها الإنسان إلى أبد الآبدين ـ ثمنها أن تأتي إلى الدنيا، وأن تضبط شهواتك وفق منهج الله.
أيها الأخوة.. هذا الثمن بمقدور أي إنسان أن يدفعه، فما مِن شهوةٍ أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفةً تسري خلالها، ليس في الإسلام حرمان، فالإنسان خُلِقَ في الدنيا من أجل جنة عرضها
 السماوات والأرض، ثمن هذه الجنة أن يستقيم على أمر الله، أي أن يضبط أهواءه، ونزواته، وشهوته وفق منهج الله، فإذا حاد عن منهج الله قليلاً تولَّد في نفسه أمراض، أمراضٌ نفسيَّة تحتاج إلى معالجة؛ البخل
 مرض، العُجب مرض، الكِبر مرض، حُب الذات مرض، الاستعلاء مرض، الحقد مرض، الرغبة في العلو في الأرض مرض، حينما نبتعد عن الله قليلاً تتولد الأمراض النفسية، الإنسان شهوةٌ مندفعة، فالإنسان
 حينما ينحرف عن منهج الله تتولَّد هذه الشهوات المُحَرَّمة. الآن..
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾
من أمراض..
﴿ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
 
هناك طريقان للشفاء طريقٌ سليم وطريقٌ مُتْعِب :
 
الإنسان يعاني مرضاً نفسيّاً، عنده حب للدنيا ولو على حساب دينه، عنده رغبةٌ أن يأخذ ما ليس له، عنده رغبةٌ أن يغتصب بيتاً ليس له، عنده رغبةٌ أن يعتدي على حقوق الآخرين، هذه كلها أمراض، فإن
 أظهرها الإنسان أو أخفاها فلا بد أن يحاسب عليها، لأن الله رب العالمين..
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
أمام طبيب قد تخفي أعراض مرض خطير، والطبيب لا يعلم، أما لو أن الأب هو الطبيب فيرى أن هناك علامات مرض، فلا يسمح لابنه أن يكذب عليه، لا بد أن يعالجه، لأن الأب الطبيب يتمتَّع برحمةٍ وعلمٍ
 في آن واحد، رحمة الأب وعلم الطبيب..
 وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
أيها الأخوة... هناك طريقان للشفاء: طريقٌ سليم، وطريقٌ مُتْعِب، إنسان اشتهى شيئاً حراماً؛ فأقبل على الله، واتصل بالله، واستغفر الله، حتى غفر الله له هذه الشهوة المحرَّمة شفاه منها، طهَّر قلبه منها عن طريق
 الصلاة، الصلاة تطهر القلب من أدرانه.. الصلاة طَهور، والصلاة نور، والصلاة حَبور، والصلاة ذكر، والصلاة مناجاة، والصلاة علم وعقل.. فإن انتبه إلى نفسه، وشعر أن في نفسه مرضاً خطيراً لا بد من أن
 يشفى، فأقبل على الدين، اتصل بالله عزَّ وجل، دفع الصدقات، تلا كتاب الله، التحق بمسجد يظن أن هذا المسجد على حق، وأقبل على الله، فالله عزَّ وجل شفاه من دون مصيبة.
أو يكابر بالمحسوس، يبقى على خطئه، يبقى مصراً على ذنبه، ما الذي يحصل؟ يحتاج إلى تأديب الآن.
 
سنن الله في خلقه :
 
كلكم يعلم أيها الأخوة أن الله جل جلاله له في خلقه سُنَن:
 
1 ـ الهدى البياني :
 
الله عزَّ وجل يبدأ بالهُدى البياني، يبيِّن؛ من خلال القُرآن، من خلال سنة النبي العدنان، من خلال الدُعاة، من خلال الحوادث يبين، الهدى البياني، الدعوة البيانية، أنت معافى، صحيح، سليم، موفور الكرامة،
 يسمعك الله الحق، أرقى إنسان هو الذي يستجيب لله بدعوته البيانية.
 
2 ـ التأديب التربوي :
 
إن لم يستجب لا بد من مرحلةٍ صعبةٍ وهي التأديب التربوي؛ يؤدِّبه بنقصٍ في ماله، أو نقصٍ في صحته، أو نقصٍ في أهله، أو عدوٍ مخيف، أو شبح مصيبة، الله عزَّ وجل عنده مصائب لا تُعَدًّ ولا تحصى؛ تبدأ من
 الهم، وتنتهي بأصعب الأمر، فالمرحلة الثانية التأديب التربوي.
 
3 ـ الإكرام الاستدراجي :
 
المرحلة الثالثة إن لم يتب، الإكرام الاستدراجي كما هو الحال عند أهل الدنيا الذين شردوا عن الله عزَّ وجل، دنيا عريضة، أموالٌ وفيرة، شهواتٌ مستعرة، يفعلون كل شيء وهم أقوياء، متغطرسون،
 متسلِّطون، هذا اسمه الإكرام الاستدراجي، وبعدها القصم.
 
4 ـ القصم :
 
أنت بين الهدى البياني، والتأديب التربوي، والإكرام الاستدراجي، ثم القصم، هنيئاً لمن استجاب لله بدعوته البيانية، كلام ربنا واضح وضوح الشمس، كلام النبي عليه الصلاة والسلام واضح وضوح الشمس،
 هناك دعاةٌ إلى الله صادقون، أصغِ إلى قولهم، استمع إلى دعوتهم، استجب، طبِّق..
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
لا تستجب..
﴿ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾
 
المصائب أربعة أنواع :
 
قال تعالى:
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
يا رسول الله عظني ولا تطل. قال: قل آمنت بالله ثم استقم. فقال هذا الأعرابي: أريد أخف من ذلك. قال: إذاً فاستعد للبلاء.
إما أن تستقيم على أمر الله، إما أن تستجيب له فتسلم من مصائب الدنيا... طبعاً يبقى هناك مصائب رفع درجات، مصائب امتحان، أما مصائب العقاب نجوت منها، المصائب أربعة أنواع: مصيبة قصمٍ، أو
 مصيبة ردعٍ، وهاتان المصيبتان للكفار، مصيبة دفعٍ، ومصيبة رفعٍ، وهاتان المصيبتان للمؤمنين، ثم هناك مصائب الأنبياء وهي مصائب كشفٍ، أي ينطوي على كمال لا يظهر إلا بحالةٍ صعبة، فبين القصم
 والردع، وبين الدفع والرفع، وبين الكشف، هذه المصائب، فالإنسان إذا استجاب لله عزَّ وجل، وانتبه إلى أمراضه، واستغفر الله منها، وأقبل على الله، وطهر الله قلبه من هذه الأمراض، أي يجب أن نؤمن.
هناك مقولة عند العوام يقول لك: " فالج لا تعالج "، إذا لم يكن ثمة أمل الإنسان يتطور فلا جدوى من بعثة الأنبياء، هذا كلام غير صحيح، قد يكون الإنسان حاقداً، وقد يكون لئيماً، وقد يكون مستعلياً،
 ومتكبراً، ومحباً لذاته، فإذا اصطلح مع الله وأقبل عليه طهرت نفسه فصار كريماً، وصار متواضعاً، وصار حليماً، إن مكارم الأخلاق مخزونة عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خُلقاً حسناً، فالصلاة
 شفاء، الصلاة طهور، كما قال عليه الصلاة والسلام  تطهر النفس من أدرانها، لا يمكن أن يكون المصلي حَقوداً، ولا أن يكون المصلي لئيماً، ولا بخيلاً، ولا شحيحاً، ولا جباناً، ولا منافقاً، الصلاة تطهِّر
 الإنسان، تسمو به، إذاً العبرة أن نسمو إلى الله، أن تصفو نفوسنا من كل درن.
 
الله عزَّ وجل يهدينا طريقاً نسلم في نهايته ونصل إلى الجنة عن طريقه :
 
هناك طريقان، إنسان يقول له الطبيب: والله إذا اعتنيت بنفسك لا تحتاج إلى عملية، كلام واضح، فإذا أهملت تحتاج إلى عملية، إما أن تعالج بالأدوية من دون شَق، وإما أن تعالج بالعملية الجراحية، وقد تكون خطيرة.
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
أيها الأخوة الكرام.. هذه الآية مؤدَّاها أن ننتبه إلى أنفسنا، هناك طريق إلى الشفاء سليم، وهناك طريق مُتْعِب، والطريق المتعب ربما لا ننجح فيه، الطريق السليم أن نتوب، وأن نُقْبِل، وأن نصلي، وأن نذكر،
 حتى يشفي الله قلوبنا من أمراضها، الطريق الثاني ننتظر المصيبة فإذا جاءت التجأنا إلى الله عزَّ وجل، كلام واضح كالشمس، أي إما أن نتوب طائعين، أو أن يحملنا الله على التوبة مُكْرَهين، لأنه يحبنا، ولأنه
 يحب أن يسعدنا، يحب أن يتوب علينا، يحب أن نصل إلى الجنة سالمين وغانمين، فهذا كلامٌ دقيقٌ واضحٌ وضوح الشمس.
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
لأن الله يعلم السر وأخفى، أما قد تقول للطبيب: لا أشعر بألم إطلاقاً، وأنت على خلاف ذلك، فيسكت الطبيب، إذا أخفيت أعراض الأمراض عن الطبيب فالطبيب لا يعلم، أما إن أخفيت أعراض الأمراض
 القلبية عن الله عزَّ وجل فهو يعلم؛ سواءٌ عليك أظهرتها أو أخفيتها، فالله لا بد أن يحاسبك عليها تطهيراً، وترقيةً، ووصولاً إلى طريق السلامة، الله عزَّ وجل يقول:
﴿ يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السَّلاَمِ ﴾
[ سورة المائدة: 16 ]
أي أن الله عزَّ وجل يهدينا طريقاً نسلم في نهايته ونصل إلى الجنة عن طريقه.
 
إما أن تأتي الله طائعاً وإما أن يأتي بك مكرهاً :
 
آيةٌ مهمة جداً ودقيقة جداً..
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
من أراد الطريق السليم بالتوبة الذاتية، والإقبال والاتصال بالله، وذكر الله عزَّ وجل، وطاعة الله يشفى من مرضه، وأنت معافىً سليم موفور الكرامة، والإنسان حينما لا يقبل الطريق السليم، ويركب رأسه،
 ويصر على معصيته، لا بد أن ينتظر التأديب من الله عزَّ وجل. الطريق الثاني صعب ومتعب، وقد يكون فيه ذل وإهانة، وقد يكون فيه فقر مدقِع، وقد يكون فيه إراقة ماء وجه، وقد يكون فيه أسر حرية، قد
 يفقد حريته، أو يفقد أحد مقوِّمات سعادته، على كلٍ في النهاية لا بد من أن يؤدِّبنا الله بإحدى الطريقتين.
مرة سألني شخص: ما ملخَّص هذه الدعوة؟ قلت له كلمتان وبالتعبير الدارج: "إما أن تأتيه ركضاً، أو يأتي بك ركضاً "، انتقِ واحدة منهما، إما أن تأتيه طائعاً برغبةٍ منك، بمبادرةٍ منك، بإقبالٍ منك عليه،
 وإما أن يسوق لك من الشدائد ما يحملك على التوبة، هناك آيتان قال تعالى:
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
[ سورة البقرة: 160 ]
هناك تابوا فتاب عليهم. إذا جاءت توبة الله بعد توبتك فالمعنى قبول توبتك، أما إن جاءت توبة الله قبل توبتك:
﴿ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ﴾
[ سورة التوبة: 118 ]
أي ساق لهم من الشدة ما حملهم على التوبة، فإما أن تأتيه طائعاً، وإما أن يأتي بك مكرهاً، فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
 ((عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ))
[البخاري، وأبو داود واللفظ له عَن أَبِي هُرَيْرَةَ]
أنا مدعوٌ معكم إلى هذه الدعوة، ائتِ الله عزَّ وجل طائعاً بمحض اختيارك، وأنت صحيح معافى، وأنت موفور الصحة والكرامة، انتبه، وإلا رحمة الله تقتضي أن يأتي بك مقهوراً.
 
الله عزَّ وجل يدعونا إلى حياةٍ حقيقية تليق بنا أما الإنسان فيريد الحياة الدنيا :
 
قال تعالى:
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾
[سورة الأنعام:147 ]
الإنسان المريض أي مكانٍ يناسبه؟ المستشفى، والعملية الجراحية، والسيروم، وفتح الصدر أو فتح البطن، والدماء تنزف، والآلام لا تحتمل، والتخدير، المريض هكذا، والصحيح يناسبه نزهةٌ جميلة، وطعام طيِّب،
 فإما أن نأتيه طائعين فيكرمنا، وإما أن يأتي بنا مكرهين ويؤدِّبنا وبعدها يكرمنا، لا بد أن يكرمنا، بعضهم قال ـ طبعاً الكلام متعلق بالمؤمنين ـ: أنت لك عند الله مكان، إما أن تبلغه بعباداتك، وخدمتك
 للخلق، وإقبالك على الله، وذكرك له، وإما أن تبلغه بصبرك على بعض المصائب، لا بد أن تصل إلى هنا إما بطريقٍ سليم، وإما بطريقٍ مُتعب..
﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
أرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يستجيبوا لله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
[سورة الأنفال: 24 ]
الله عزَّ وجل يدعونا إلى حياةٍ حقيقية، حياةٍ تليق بنا، حياة تناسب مكانتنا عنده، حياةٍ أبديةٍ لا نَصَبَ فيها ولا تَعب، أما الإنسان يريد الحياة الدنيا، إن هؤلاء يحبون الحياة الدنيا، يؤثرون عليها كل شيء..
أيها الأخوة الكرام، الحياة الدنيا حياةٌ دنيا مؤقَّتة:
﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً*لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾
 [سورة الإسراء: 21-22]
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب