سورة القصص 028 - الدرس (18): تفسير الأيات (84 – 88)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (18): تفسير الأيات (84 – 88)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 084 - 088)

30/01/2012 14:28:00

سورة القصص (028)
 
الدرس (18)
 
تفسير الآيات: (84 ـ 88)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثامن عشر والأخير من سورة القصص ، وقد وصلنا في الدرس الماضي إلى التعقيب الكريم الذي جاء بعد قِصَّة قارون ، وهو قوله تعالى :
 
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
(سورة القصص)
 
 فاعلُ الخير سعيد بعمله :
 
قالوا : فاعل الخير خيرٌ من الخير ، أي مهما كان عمل الخير عظيماً فلا بدَّ من أن تطويه الأيام ، ولا بدَّ من أن ينتهي بعد نهاية العالم ، ولكن فاعل الخير سيسعد به إلى الأبد ، لذلك فاعل الخير خيرٌ من الخير، وفاعل الشر شرٌ من الشر ، مهما كان هذا العمل خطيراً ؛ الذي ألقى قنبلةً على مدينة في اليابان فأبادت ثلاثمائة ألف رجل في ثانيةٍ واحدة ، هذا العمل بعد مضي مئة عام نسيه الناس ، ولكن الذي فعله شرٌ هو شر من الشر ، وسيشقى به إلى أبد الآبدين .
الشيء الخطير أنَّك أخطر ما في الكون ، مهما كان عملك طيباً فأنت أطيب منه ، مهما كان عملك خيراً فأنت خيرٌ منه ، ومهما يكن العمل سيِّئاً فالذي فعله أسوأ من الشر ، فاعل الخير خيرٌ من الخير ، وفاعل الشر شرٌ من الشر .
يقول الله سبحانه وتعالى :
 
﴿جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا مَنْ﴾
(سورة القصص : من الآية 84)
 
من المعاني المستنبطة من قوله : مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا
 
أي أنه مهما كانت هذه الحسنة عظيمةً ، مهما كان حجم هذا العمل كبيراً ، فله عند الله عزَّ وجل من السعادة الأبدية ، ومن التقلُّب في جنَّات النعيم ما هو خيرٌ من هذا الخير ، حتى إن بعضهم يقول : " من أطعم لقمةً ابتغاء وجه الله عزَّ وجل جاء يوم القيامة يراها كجبل أحد ".
(( يا عليُّ ، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس )) .
[ الجامع الصغير عن أبي رافع بسند فيه ضعف]
(( فَوَاللَّهِ لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ )) .
[مسند أحمد عن سهل بن سعد]
خيرٌ لك من الدنيا وما فيها لأن الله شكور .
إذاً :
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
أي فعلت صالحاً ، بذلت من وقتك الثمين ، بذلت من خبرتك الغالية ، بذلت جاهك من أجل ضعيف ، بذلت مالك الذي حَصَّلته بعرق جبينك من أجل إطعام بطنٍ جائع :
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
فَوَّتّ على نفسك دُنيا عريضة ، خشية الله عزَّ وجل ، جاءك عرضٌ مُغْرٍ ، لكنك أردت مرضاة الله عزَّ وجل ، ففاتك ربحٌ كبير :
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
من أتعب نفسه في سبيل أهله ، وأولاده ، ومن حوله :
      
﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
 
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
(سورة البقرة : من الآية 245)
       إذا فعلت الصَّالحات فكأنك أقرضت الله عزَّ وجل ، إذا فرَّجت عن مكروب ، إذا واسيت محزوناً ، إذا أعنت فقيراً ، إذا طمأنت خائفاً ، إذا بذلت معروفاً ، إذا أدَّيت نصيحةً ، إذا أمرت بمعروفٍ ، إذا نهيت عن منكرٍ ، إذا أدخلت الفرح على قلوب الصغار ، إذا جَبَرْتَ خاطر زوجتك .
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
يقول هذا الكلام خالق الكون ، يقول هذا الكلام ربُّ العالمين ، إذا قال لك إنسان : أنا أعطيك مبلغاً كبيراً ، وحجمه كله مئة ليرة ، وكل ما يملك مئة ليرة ، فكلمة كبير مما يملك مئة ليرة لها معنى ، إذا قال لك إنسان ، وهو يملك مئة ألف : لك عندي مبلغٌ كبير ، كلمة كبير من الإنسان الثاني لها معنى آخر ، إذا قال لك غنيٌ كبير : لك عندي مبلغٌ كبير ، لها معنى ثالث ، فإذا قال لك ملك الملوك : لك عندي خيرٌ كثير ، فالملك ماذا يعطي ؟ يعطي قلم رصاص ؟ إذا أراد أن يقدِّم الملك هدية فماذا يقدم ؟ ممحاة صغيرة ؟ قلم رصاص ؟ مئة ليرة ؟ كتاباً صغيراً ؟ أم يقدِّم لك بيتاً مثلاً ، أو مركبةً فارهةً ، أو منصباً رفيعاً ؟ فالعطاء يتناسب مع المعطي ، فعندما ربنا عزَّ وجل يقول لك :
         
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
أنت كمؤمن هذا كلام الله عزَّ وجل ، ماذا تفهم من كلمة :
 
﴿فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
دللت إنساناً على الله عزَّ وجل ، أتعبت نفسك من أجله ، بذلت وقتك الثمين ، كم سهرت من ليالٍ من أجله ؟ كم بذلت من مالٍ تأليفاً لقلبه ؟ إلى أن عرف الله ، واستقام على أمره :
 
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا
﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
(سورة السجدة)
أنت تعامل خالق الكون ، ولا تعامل إنساناً عادياً ، شحيحاً ، حريصاً ، لئيماً ، بخيلاً ، ينسى المعروف ، يجحد ، إنك تعامل خالق الكون ..
 
﴿هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ﴾
(سورة المدثر)
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
هذا الصحابي الذي عَيَّنه النبي عليه الصلاة والسلام القائد الثالث في معركة مؤتة ، والذي مات أخوان له فيها ، سيدنا زيد ، وسيدنا جعفر ، فلما جاء دوره في رفع الراية ، ورأى نفسه على وشك الموت المحقق ، يبدو أنه تردد فقال :
يا نفـس إلا تـقتلي تموتي    هذا حمام الموت قد صليت
إن تفعـلي فعلهما رضيت      و إن توليت فقد شـقـيت
***
قِسْتُ زمن هذين البيتين ، فإذا هما ثلاثون ثانية ، أي أنه تردد ثلاثين ثانية ، أَحْجَم ثلاثين ثانية .
النبي عليه الصلاة والسلام وهو في المدينة المنورة مع أصحابه قال : " أخذ الراية أخوكم زيد ، فقاتل بها حتى قُتِل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم أخذ الراية أخوكم جعفر ، فقاتل بها حتى قتل ، وإني لأرى مقامه في الجنة ، ثم سكت ، فلما سكت خاف أصحاب النبي على صاحبهم عبد الله بن رواحة فقالوا : يا رسول الله ، ما فعل عبد الله " ؟ قال : ثم أخذها عبد الله ، وقاتل بها حتى قُتِل ، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه " ، هبط درجة .
لو أن إنساناً أعطاك محلاً ، وكنت صانعاً ، فأصبحت تاجراً ، زوجك ابنته ، أعطاك بيتاً كبيراً ، أعطاك مركبةً ، خلال أعوام قليلة صرت إنساناً شهيراً غنياً وجيهاً ، رأيته في الطريق يمشي وأنت معك سيَّارة ، قال لك : يا فلان أوصلني إلى البيت ، أنت ماذا فعلت ؟ سكت ثلاثين ثانية ، ثم قلت له : تفضَّل ، هذا السكوت في حقك جريمة مع هذا الإنسان ، فربنا عزَّ وجل إذا دعاك لفعل الخيرات تتردد ؟! هل يوجد تردد هنا ؟ من علامة المؤمن أنه إذا دُعي إلى الخير ألقى بنفسه عليه ، طُرِقَ بابك ، هذا السائل ساقه الله إليك لينظر ماذا تفعل ؟.
       عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
(( يَا ابْنَ آدَمَ ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ  قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ ، يَا ابْنَ آدَمَ ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي ،
 
 قَالَ : يَا رَبِّ ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي ؟ يَا ابْنَ آدَمَ ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي ، قَالَ : يَا رَبِّ
 
 كَيْفَ أَسْقِيكَ ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ قَالَ : اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ ، فَلَمْ تَسْقِهِ ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي )) .
[ مسلم ]
الحديث معروف عندكم ، فأنا أرى أن المؤمن الصادق أكبر همِّه في الحياة الدنيا أن يعمل عملاً صالحاً يُرضي الله عزَّ وجل ، يا رب ، هل أنت راضٍ عني ؟ هل خدمت عبادك كما تريد ؟ هل أنا في موضع رضاك يا رب ؟
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
له خيرٌ منها في الدنيا .
(( ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه خيراً منه في دينه ودنياه)) .
[ ورد في الأثر]
        إذا أنفقت ، عبدي أَنفق أُنفق عليك ، إذا أعنت فستجد من يُعينك ، إذا نصرت فهناك من يَنْصُرك ، إذا واسيت فهناك من يواسيك ، إذا ذكرت الله عزَّ وجل في ملأٍ من الناس ذكرك الله في ملأٍ خيرٌ منهم ، يأتي اسمك عطراً جداً في ملأٍ خيرٍ من هؤلاء ، أنت تحدَّثت أمام شخصين أو ثلاثة عن الله عزَّ وجل ، وأثنيت عليه ، وعلى أسمائه الحسنى ، وصفاته الفُضْلى ، فجاء اسمك في مجمعٍ كبير ، وجاء من يذكرك بخير .
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
أنت تعامل خالق الكون ، تعامل أكرم الأكرمين ، تعامل من بيده ملكوت السماوات والأرض ، إنَّه من يقول للشيء : كن فيكون ، الأمراض كلها بيده ، الجراثيم كلها بيده ، عضلة القلب ، وصمام القلب ، والشريان التاجي ، والضغط العام ، وعمل الكُليتين ، وعمل الكبد ، وعمل الرئتين ، والأعصاب ، كلها بيده ، وأهلك بيده ، وأولادك بيده ، خصومك بيده ، وأعداؤك بيده ، والعالم كله بيده ، يقول لك :
 
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾
(سورة البقرة : من الآية 245)
        فأنت الآن إذا رأيت بيتاً ، وأنت ساكن في بيت ، تقول : أنا أشتريه ، وأبيعه فأربح مئة ألف ، هذا أرخص من سعره بمئة ألف ، فكيف إذا قيل لك ، ادفع ليرةً ، وخذ مليوناً ، ومعك هذه الليرة وتبخل فيها ؟! هذا رقم قليل ، نسبة قليلة ، ادفع صدقةً ، وخذ جنةً عرضها السماوات إلى الأبد ، أتبخل ؟ قال تعالى :
 
﴿مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾
(سورة محمد : من الآية 38)
لذلك :
 
﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾
(سورة الكهف : من الآية 29)
 
﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾
(سورة الروم)
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ﴾
هذا كرم الله عزَّ وجل وهذه عدالته ..
 
﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
( سورة القصص )
هنا سؤال :
 
﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾
من جاء بالحسنة .. مُفْرَد .. فله خيرٌ منها عشرة أمثال ، عشرون مثلاً ، سبعون مثلاً ، سبعمئة .
 
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾
(سورة البقرة)
 
 وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
 
لكن :
 
﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾
       جاءت السيِّئات جمع وهنا مفرد ، فلمَ لم يقل الله عزَّ وجل : من جاء بالحسنة فله خيرٌ منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بها ..
مثلاً :
 
﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾
ربنا عَدَلَ عن الضمير إلى الاسم الظاهر ، تأكيداً على أن هذا الذي يعمل السيِّئات عَمِلَها عن قصدٍ وتصميم وبنيَّة الاستمرار ، عملها قاصداً مريداً ، ونوى الاستمرار عليها :
 
﴿فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ﴾
       جاءت متكررة ، عملها مرةً بعد مرة ، أَكَّد عليها ، أرادها ، صمم عليها ، لم يَتُبِ منها ، أعادها .
 
﴿إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
       الآن انتهت قصة قارون مع التعقيبين الذين جعلاها قواعد ثابتة لكل من يقرأ القرآن .
 
في نهاية السورة ملخصاتٌ هامةٌ :
 
 معنى : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ
 
الآن جاءت نهاية السورة ، ويجب أن تعلموا أيها الإخوة ، أن السورة الكريمة تأتي في نهايتها مُلَخَّصاتٌ مكثفةٌ جداً ، قال تعالى :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ﴾
أي يا محمَّد ..
 
﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
(القصص : من الآية 85 )
المعنى الأول :
          إن الذي فرض عليك هذا القرآن أن تقرأه ، وهذا القرآن أن تتدبره ، وهذا القرآن أن تتلوه ، وهذا القرآن أن تُبَلّغه ، لرادُّك إلى مقامٍ عظيم لا يعلمه إلا الله ..
عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْوَسِيلَةُ ؟ قَالَ : أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ )) .
[ الترمذي]
إذا دعوت إلى الله ، أمرت بالمعروف ، نهيت عن المنكر ، دَلَلت الناس إلى الله عزَّ وجل ، حببتهم إلى الله ، بيَّنت لهم ، فصَّلت لهم ، أقنعتهم ، ضربت لهم الأمثال ، أخذت بيدهم ، تَحَمَّلت أسئلتهم ، تحمَّلت أحياناً تجاوزهم ، إلى أن وَصَلْتَهم بربهم فاستقاموا على أمره ، وسعدوا بقربه ، إن الذي فرض عليك القرآن أمرك أن تدعو إلى الله ، أن تتلو عليهم القرآن ، أن تبينه لهم لرَادُّك إلى معاد .
أحياناً نرسل إنساناً إلى مهمة صعبة ، لكن حينما يعود يكون له استقبالٌ عظيم ، وجائزةٌ عظيمة ، ومرتبةٌ عظيمة ، ومقامٌ كريم ، واحتفالٌ كبير ، وأوسمةٌ ، وما إلى ذلك ، الإنسان أحياناً يرسل إنساناً إلى مهمة صعبة خطرة ، فإذا عاد من مهمته ناجحاً كان له التكريم الذي لا حدود له .
المعنى الأول لهذه الآية : إن الذي فرض عليك القرآن أمرك أن تتلوه ، أمرك أن تُبَلِّغه، أمرك أن تُبَيِّنه ، أمرك أن تدعو إلى خالق الكون :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
إلى معادٍ كريم ، إلى مقامٍ كريم ، إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض ، هذا هو المعنى الأول .
إذاً : نحن كمؤمنين قياساً على هذا المعنى ، إذا دعوت إلى الله هل تعرف مكانك عند الله عزَّ وجل ؟ هل تعلم ماذا ينتظرك من خيرٍ عظيم ؟ ماذا يعد الله لك من مقامٍ كريم ، ماذا يُخَبَّأ لك من سعادةٍ أبدية ،  أنت مؤمن جاء في آخر الزمان ، في الثمانينات ، في السبعينات ،  أردت بإخلاصٍ شديد أن تهدي الناس إلى الله ، أن تُرْشِدَهم إلى ربِّهم ، أن تقرِّبهم من خالقهم ، أن تَصِلَهُم بمن خلقهم ، هل تعلم ماذا أُخْفِيَ لك ؟ ماذا خُبِّئ لك ؟ ماذا ينتظرك من إكرامٍ وسعادةٍ ؟ لأن القرآن الكريم إذا خوطب به النبي عليه الصلاة والسلام ، فالمؤمنون مخاطبون بالآيات نفسها على قدر إيمانهم ، فإذا قال الله عزَّ وجل للنبي عليه الصلاة والسلام :
 
﴿فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾
(سورة الطور : من الآية 48 )
معنى ذلك أن كل مؤمنٍ له من هذه الآية نصيبٌ على قدر إيمانه ، إذا قال الله عزَّ وجل :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ﴾
يا محمَّد ..
 
﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
أي وأنت أيها الأخ الكريم ، أيها المؤمن ، إذا حضرت مجلس علم ، واستوعبت الآيات ، وتأثَّرت بها ، فأردت أن تنقلها إلى لآخرين ؛ إلى جيرانك ، إلى إخوانك ، إلى أصدقائك ، إلى أهلك ، إلى أولادك ، إلى زملائك ، إلى من تُحِبُّه ، بينت لهم بجهدٍ جهيد ، وفَصَّلت لهم ، ودعوتهم إلى هذا المجلس ، ودعوتهم إلى معرفة الله :
 
﴿لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
لك عند الله عودةٌ مشرفة ، هناك عودة مُبَجَّلة ، عودة موَقَّرة ،  عودة مُسْعدة ، هذا المعنى الأول .
المعنى الثاني :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
أي سيسألك عن أمانة التبليغ ، هل بَلَّغت ؟ إنك إذا ذهبت إلى قبر النبي عليه الصلاة والسلام تقول : يا رسول الله ، يا نبي الله ، يا حبيب الله أشهد أنَّك أدَّيت الرسالة ، وبلَّغت الأمانة ، ونصحت الأمَّة ، وكشفت الغُمَّة ، ومحوت الظُلمة ، وجاهدت في الله حقَّ الجهاد ، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد .
      أنك إذا دعوت إلى الله فقد صرت مسؤولاً ، كلما فعلت شيئاً : يا عبدي ، هكذا تقول للناس ؟ هل أنت في مستوى كلامك ؟ دعوتهم إلى الصدق ، هل أنت صادق ؟ دعوتهم إلى غضِّ البصر ، هل أنت غاضٌ لبصرك ؟ دعوتهم إلى الأمانة ، هل أنت أمين ؟ دعوتهم إلى النُصْح ، هل تنصح زبائنك ؟ ألا تستحي مني أن تدعو الناس إلى شيء وتخالفهم أنت ؟! فهذه مبدأ المسؤولية .
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
سيحاسبك ، سيرى ماذا فعلت ؟ هل كان سلوكك بمستوى دعوتك ؟ هل انفصلت دعوتك عن سلوكك ؟ هل كانت دعوتك في وادٍ وأنت في وادٍ ؟ هل طَبَّقت في بيتك ما أمرت به إخوانك ؟ هل كنت قدوةً صالحةً لهم ؟ هل سبقتهم إلى طريق الخَيْرات أم قَصَّرت عنهم ؟ أم جعلت الدعوة مهنةً وحرفةً تسترزق منها ؟ :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
سيحاسبك ، سيكشف عملك ، فإذا قال الإنسان للناس : قال الله تعالى ، فالقضية سهلة ، لا تحتاج إلى قراءة وكتابة ، لكن هناك المسؤولية ، هل أنت في مستوى هذه الدعوة ؟ هل فعلت شيئاً خلاف ما تقول ؟ هل في شخصِيَّتك ازدواج ؟ هل لك مظهر ومخبأ ؟ هل لك ظاهر وباطن ؟ هل لك جلوةٌ وخلوة ؟ هل أنت في مستوى ما تقول ؟ :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
انتبه قبل أن تقول ، قبل أن تقول لابنك : يا بني كن صادقاً ، فهل أنت صادقاً مع الناس ؟ تقول : والله اشتريتها بأغلى مما أبيعك إيَّاها، هل أنت في هذا الكلام صادق ؟ حينما تنصح ابنك أن يكون صادقاً ، هل أنت صادقٌ مع الناس ؟ القضية خطيرة جداً ، لذلك ألفٌ كَأُف ، وواحدٌ كألف ، لماذا صنع الأنبياء المعجزات ؟ لأنه ليس عندهم ازدواجية ، فعلوا ما قالوا ، الله عزَّ وجل لم يقل : لقد كان لكم في رسول الله عالمٌ شهير ، ولا خطيبٌ بارع ، قال أسوةٌ حسنة :
 
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 21)
ربنا اختار الأسوة الحسنة ، لم يقل : مؤلِّف ، بَحَّاثة ، علاَّمة ، خطيب ، لا ، بل قال :
 
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾
        ما أمر الناس بشيء إلا كان سبَّاقاً له ، وأنت إذا أردت أن تدعو إلى الله عزَّ وجل لا تفكر أن الناس أغبياء ، الناس أذكى مما تظن ، هم يراقبونَك ، يضعونك تحت المِجْهَر ، يُسَلِّطون عليك أشدَّ الأضواء ، فإذا أردت أن تقول كلمةً فكن في مستواها ، وإلا فالله عزَّ وجل سيحاسبك ..
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
هذا هو المعنى الثاني .
المعنى الثالث :
تَروي كتب التفسير أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة ، الله عزَّ وجل جعل في فطرة الإنسان أن يحب بلده ، ووطنه :
 
﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾
(سورة النساء : من الآية 66)
     المعنى الثالث ، أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما غادر مكة مهاجراً ، ووصل الجحفة ، تروي بعض كتب التفسير أن هذه الآية نزلت في هذا الموضع ، أي يا محمد ، لا تحزن ، سوف تعود فاتحاً لمكة ، أُخرجت منها في سبيل الله ، وسوف تعود فاتحاً لها .
وأنتم أيها الإخوة الأكارم يقابل هذه الآية قول النبي الكريم ..
((ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عَوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه)) .
[ ورد في الأثر]
إيَّاك أن تظن أنك إذا تركت شيئاً لله ضاع عليك ، لا والله لا بدَّ من أن يؤتيك الله خيراً منه في الدنيا والآخرة .
       إن الذي فرض عليك القرآن ، دعوت يا محمد إلى الله ، فعاداك الناس ، وتآمروا على إخراجك ، وأخرجوك ، لا بدَّ من أن تعود إليهم فاتحاً وظافراً ، لا بدَّ من أن يُعِزَّك الله عزَّ وجل ، لا بدَّ من أن يرفع قدرك ، لا بدَّ من أن يذل أعدائك :
 
﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
(سورة الشرح)
أحياناً يكون الشاب ناشئًا في تدين ، فيعاديه إخوته ، وأهله ، وأبوه ، والجيران ، وبيت عمَّته ، وبيت خالته ، يقولون : انجذب ، وتَمَشْيَخ ، وصار عقله صغيرًا ، وهم عندهم اختلاط ، وسهرات ، وحفلات ، وانطلاقات ، وهو جالس في غرفته وحيداً ، خائف من أن يعصي الله ، وصار منكمشًا على نفسه ، لا بدَّ من أن يرفعه الله فوقهم ، لكن :
 
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة القصص)
الحبل الآن مرخى ، لا بدَّ من أن يرفعه الله فوقهم ، لا بدَّ من أن يعزَّه ، لا بدَّ من أن يُغْنِيه ، لأنه آثر مرضاة الله عزَّ وجل ، إن الله ليباهي الملائكة بالشاب المؤمن ، يقول : انظروا عبدي ترك شهوته من أجلي ، طبعاً لأنك تخشى الله عزَّ وجل رفضت هذه النزهة المختلطة مع أهلك ، ذهبوا إلى المكان الفلاني ، وتناولوا أطيب الطعام ، وشربوا أطيب الشراب ، وضحكوا ، ولعبوا ، وتراشقوا بالثلج ، وأنت جالس بالبيت تخشى أن تكون معهم ، لا بدَّ من أن يرفعك الله عزَّ وجل ، دُعيت إلى حفلةٍ إلى سهرةٍ ، إلى دعوةٍ فيها ما لا يرضي الله فقلت : معاذ الله ، إني أخاف الله رب العالمين ، بدوت وكأنك جاهل ، خائف ، هم منطلقون ، لا يهابون شيئاً .
﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
 
((ما ترك عبدٌ شيئاً لله إلا عوَّضه الله خيراً منه في دينه ودنياه )) .
[ ورد في الأثر]
الله عزَّ وجل يحب المؤمن الواثق :
 
﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾
( سورة آل عمران )
لا تكن ضعيف النفس ، أنت وليُّ الله عزَّ وجل :
 
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
(سورة يونس)
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
(سورة فصلت)
يحبك الله عزَّ وجل أن تَعْتَزَّ به ، وأن تَثِقَ بنصره ، وأن تثق بتوفيقه ، وأن تثق بدفاعه عنك .
 
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا﴾
(سورة الحج : من الآية 38)
لذلك :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ﴾
دعوت إلى القرآن ، إلى رب القرآن ، إلى ربِّ السماوات ، والأرض ، دعوت إليه فتآمر عليك قومك فأخرجوك ، لا بدَّ من أن تعود إلى مكة ، وهم مُطَأْطِئو الرؤوس .
لما استعرض أبو سفيان جيش رسول الله قال : يا ابن أخي ، ما أعقلك ! وما أحكمك ! وما أرحمك ! وما أوصلك ! قال : ما تظنون أني فاعلٌ بكم ؟ والله الذي لا إله إلا هو أرواحهم جميعاً مُعَلَّقَةٌ بين شفتيه ، عشرة آلاف سيفٍ متوهجٍ في ضوء الشمس ، تنتظر هذه السيوف كلمةً من رسول الله ، ما تظنون أني فاعلٌ بكم ؟ هؤلاء الذين عذَّبوه ، هؤلاء الذي عذَّبوا أصحابه ، هؤلاء الذي أخرجوه ، ائتمروا على قتله ، قاطعوه ، حاربوه ، فعلوا به كل ما فعلوا..
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
        إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ، ويضعُ به آخرين ، اقْرأهُ ، أتْقِن تجويده ، احْفظه ، تَفَهَّم تفسيره ، اعْمل به ، هذه المعاني كلُّها مستفاده من قوله تعالى :
 
﴿يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾
كتاب الله كتابك المُقَرر ، اجعله كتاب الحياة ، اجعله كتاب العُمر ، احرص على فهم آياته آيةً آية :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
المعنى الرابع :
جاء به ابن عبَّاس رضي الله عنه ، قال : حينما قال الله :
 
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾
( سورة النصر )
فهذا الصحابي الجليل فهم من هذه السورة نعي النبي عليه الصلاة والسلام ، لماذا ؟ لأن الأنبياء أهدافهم الكبيرة تجعلهم إذا حققوا أهدافهم فلا شأن لهم بالحياة بعدها ، أما عامَّة الناس ، يعيش أحدُهم ليأكُل ، أو يأكل ليعيش ، ما دام الأكل موجوداً ، والبيت موجوداً ، وزوجة موجودة ، فهذا هو المطلوبُ عنده ، أما العظماء فأهدافهم كبيرةٌ جداً ، فإذا حققوها فلا معنى لحياتهم بعدها ، لذلك :
 
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ﴾
انتهت حياتك يا محَمَّد ..
 
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ﴾
 
هكذا فهم الصحابي الجليل ابن عبَّاس هذه السورة ، وفَهِمَ هذه الآية أيضاً :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
       فإذا رَدَّك إلى مكَّة ، فتحت مكَّة ، ودانت لك الجزيرة ، انتهت مُهِمَّتُك ، وهذا الذي حصل ، بعد الفتح بزمنٍ يسير جاءت وفاة النبي عليه الصلاة والسلام .
وبعضُهم قال :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
       أي إلى الموت ، أو إلى الحشر ، أو إلى القيامة ، أو إلى الجنة ، وبعضُهم يَفْهم هذه الآية فهماً عملياً ، أي إذا أراد أن يسافر ، وتمنى على الله أن يرجع ، لا أن يرجع في نعش ، بل يرجع على قدميه يتلو هذه الآية :
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾
الإنسان يسافر فيرجع ، أو لا يرجع ..
على كلٍ المعاني كلها :
المعنى الأول : إذا دعوت إلى الله عن طريق هذا القرآن كما قال الله عزّ وجل :
 
﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً ﴾
 
(سورة الفرقان)
       إذا جاهدت الناس في تعليم القرآن فإن الله عزّ وجل رادُّك إلى معاد لك مقامٌ كبير .
المعنى الثاني :
لك حسابٌ عسير ، سيسألك هل كنت في مستوى هذا القرآن ؟ النبي عليه الصلاة والسلام كان قُرآناً يمشي ، السيدة عائشة سُئِلَت عن خلقه فقالت :
(( كان خلقه القرآن )) .
[ مسلم ]
فهل أنت في مستوى القرآن ؟ أنت مُطَبِّقٌ للقرآن ؟ وهذا المعنى الثاني .
المعنى الثالث :
إذا تركت شيئاً لله عّوَّضك الله خيراً منه في دينك ودنياك .
المعنى الرابع :
أن الإنسان إذا حقق أهدافه الكبرى انتهت مهمته في الحياة ، أي أنت لك مهمة في الحياة ، قبل أيام خطر في بالي مثل :
      الجامعات المتقدِّمة جداً التي فيها أموال طائلة تُبْذَل من أجلها إمكانيات هائلة ، فيها حدائق غَنَّاء ، فيها ملاعب ، فيها مسابح ، فيها مطاعم من الدرجة الأولى الخدمة فيها ذاتية ، وفيها أماكن للنوم راقية جداً ، طبعاً وفيها قاعات تدريس ، وفيها مكتبات ، ومخابر ، إذا انتسب طالب لهذه الجامعة أعجبه مسبحها ، وأعجبه ملعبها ، وأعجبته حديقتها ، وأعجبه الطعام فيها ، وأعجبته غرفته ، فصار يمضي وقته بين النوم في غرفته ، وبين اللعب في الملعب ، والسباحة في المسبح ، والتنَزُّه في الحديقة ، وهكذا ، من ملعبها ، إلى مسبحها ، إلى حديقتها ، إلى الطعام ، إلى النوم ، يومٌ إِثْرَ يوم ، وأسبوع إثر أسبوع ، وشهر إثر شهر ، ثم ماذا ؟ نسي أخطر ما في الجامعة ، نسي الدراسة ، نسي قاعات التدريس ، نسي المُطالعة ، نسي التهيئة للامتحان ، نسي نيل الشهادة ، والله الذي لا إله إلا هو مع أن هذا مثلٌ غريب لكنه أيضاً غير بعيد عن الحقيقة .
       أي أن هذا الذي يلهو في الدنيا ؛ يأكل ، ويشرب ، وينام ، ويعمل ، ويحَصِّل الأموال ، ويسافر ، ويعود ، وينسى لماذا هو في الدنيا ؟ لماذا خلقه الله عزّ وجل ؟ إنه في خسارةٍ كبيرة ، إذاً : أنت لك مهمة هل عرفتها ؟
 
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
(سورة القصص)
 
قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ
 
أجمل دعاء سمعته مرة من رجل قال لي : الحمد لله على وجود الله ، الله يعرف المهتدي من الضال ، والمُحِق من المُبطل ، والصادق من الكاذب ، والمخلص من المنافق ، الله يعرف ، أي إذا توهَّم الناس أنك غير صادق ، وأنت عند الله صادق فلا تثريب عليك ، إذا اتهمك الناس بأنك غير عالم ، وأنت عند الله عالم فلا تثريب عليك ، إذا اتهمك الناس بأنك غيرُ مخلص ، وأنت مخلص فلا يهُمُّك الأمر ، لأن علاقتك مع الله عزّ وجل .
لكن لو كان معك كيلو معدن ، وقد استطعت بذكاءٍ كبير أن توهم الناس بأنه ذهب فصدَّقوك ، فأنت الخاسر ، هذا الذي معك حديد ، وإذا كان معك كيلو ذهب ، وظنّوا أنه حديد أو معدن رخيص فأنت الرابح ، علاقتك مع الله فقط ..
ـ من عرف نفسه ما ضَرَّتْهُ مقالة الناس به.
ـ كُن مع الله ولا تُبالِ.
ـ  كن مع الله ترَ الله معك.
قال سيدنا عمر لرسول قائد الجيش الذي جاء يبشِّره بالنصر : " من الذين قتلوا في القادسية يا فلان ؟ قال : مات خلقٌ كثير ، قال له : من هم ؟ قال : إنك لا تعرفهم ، فبكى سيدنا عمر ، وقال : << وما ضَرَّهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم >> .
من أنا ؟ فإذا عرف الله انتهى الأمر ، إذا عرف نيتك وإخلاصك ، وصدقك واستقامتك ، وتَحَرِّيك للحق ، لِيَقُل الناس عنك ما شاؤوا ، وكلامهم لا وزن ، له لا قيمة له ، كما قال النبي الكريم :
(( ابتغوا الرفعة عند الله)) .
[ الجامع الصغير عن ابن عمر بسند ضعيف ]
       العبرة أن تكون في رضوان الله ، أن تكون صادقاً مع الله ، أن تكون مُخْلِصاً مع الله ، أن تكون عند الأمر والنهي ، أن تكون في طاعة الله ..
ليس من يقطع طرقاً بطلاً    إنما من يتـقي الله البـطل
***
        قال أحد العلماء الكبار في العصور السابقة ، ويبدو أنه لسببٍ من غيرةٍ ، أو عداوةٍ ، أو حسدٍ ، رَوَّج عنه بعض خصومه ما رَوَّجوا ، فقال له واحد ذات مرة : والله يا سيدي ، إني أُشْفِقُ عليك مما يُقال عنك ، فقال : هل قلتُ أنا عنهم شيئاً ؟ قال : لا والله ، قال : إذاً عليهم فأشفق .
      عليهم وليس عليّ ، أنا لم أخالف أمر الله إطلاقاً ، هل قلت عنهم شيئاً ؟ قال : لا ، قال : إذاً عليهم فأشفق ، فإذا كنت مع الله فلا تُبالِ ، إن الله لا يتخلَّى عنك ، ولا يُسْلِمُك لأحد ، ولا يفضحك ، لأنه هو الولي الحميد :
 
﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾
       أحياناً يكون الضال طليق اللسان ، قوي الحجة ، عنده قوة تأثير ، وهيمنة على الناس ، والمُحِق أحياناً يكون قاصراً ، فيتوهَّم الناس أن الحق مع فلان ، النبي قال هذا ، قال :
((لعل أحدكم ألْحَنُ بحُجَّتِهِ من الآخر)) .
[ البخاري ]
جاء خصمان إلى النبي ، واحد طليق اللسان قوي الحجة ، حلف ، وجاء بأدلة أن الحق معه ، قال : " فإذا قضيت له بشيء ، فإنما أقضي له بقطعةٍ من نار ".
انظر إلى هذا الحديث ، أي إذا نجوت من النبي فإنك لا تنجوَ من الله عزّ وجل .
      مثلاً : يقول لك : أنا تزوجت زواجاً شرعياً ، بإيجاب ، وقبول ، وشاهدي عدل ، ومهر ، ولا يوجد أي مخالفة شرعية ، ولكن في نيَّتي أن أطلقها بعد أن أنتهي من الدراسة في هذا البلد ، قد تنجوَ من القضاء الإسلامي ، لأن العقد شرعي فعلاً ، الزواج شرعي ، إيجاب ، قبول ، هناك ولي ، شاهدا عدل ، مهر ، لا توجد أي مشكلة ، لكن لست على التأبيد ، في نيَّتك أن تطلقها ، هل تنجوَ من الله عزّ وجل ؟ لا تنجو ، الله عزّ وجل له أمر تكليفي ، وله أمر تكويني .
      مثلاً : أمرنا بقطع يدِ السارق ، هذا أمر تكليفي ، وربنا أحياناً يقطع يدَ السارق بأمر تكويني ، أي بحادث ، فإذا لم تقطع اليد بأمرٍ تكليفي ، فإذا عُطِّل هذا الأمر أو لم يُطبق ، قد تُقْطَع هذه اليد بأمرٍ تكويني ، إذا نجوت من تدمير المال ، أو من إتلاف المال بأمرٍ تكليفي ، فإنك لا تنجو من أمرٍ تكويني  .
إذا امتنعت عن دفع الزكاة قد يأتي أمرٌ تكويني فيأكل الأخضر واليابس ، ودليل إخلاص النبي عليه الصلاة والسلام :
 
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ﴾
(سورة القصص : من الآية 86)
 
 وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ
 
 
أي أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم أنه سيكون نبياً ، دليل إخلاصه أنه لم يكن يعلم ، لو أنه يعلم لكان مُفْتَرياً ، لم يطلبها ، ولا فكر بها ، ولا خطرت في باله :
 
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ﴾
 
       لو أن هذه الدعوة النبوية ليست من عند الله عزّ وجل لعرف النبي ما يفعل ، لكن لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يعلم إطلاقاً أنه نبي ، وأنه رسول ، وأن كتاباً سَيَتَنَزَّلَ عليه ، هذا يؤكِّد إخلاصه لله عزّ وجل ، ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾
حتى إن قوله تعالى :
 
﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى ﴾
(سورة الضحى)
       ما هو الضلال في حَقِّ النبي ؟ النبي رأى قومه منحرفين ، ضائعين ، شاردين ، تائهين ، جاهلين ، وليس عنده الوسيلة كي يهديهم ، كان في حيرةٍ شديدة من أمره ، ماذا يفعل ؟ فلما جاءه الوحي :
 
﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾
(سورة الحجر : من الآية 94)
هذا هو معنى الضلال ، أي أنه لم يكن يعرف ما الطريق إلا هدايتهم ، فالله سبحانه وتعالى يقول :
 
﴿وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ﴾
 
معنى : فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِّلْكَافِرِينَ
 
الآن ما معنى إلا رحمةً من ربك ؟ أي حينما ألقي إليك هذا الكتاب كان إلقاؤه برحمةٍ من ربك ، أراد أن يرحمك ويرحم أمتك :
 
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ﴾
(سورة القصص)
المعنى الأول :
       أي لا تكونن معيناً لهم ، أي أنَّك لا تفعل هذا ، وهذا نهيٌّ المقصود منه أُمَّته بالتبعية ، لذلك ، من أعان ظالماً سَلَّطه الله عليه ، ومن أعان ظالماً ولو بشطر كلمة ، فإذا كان لك صديقٌ موظف ، وسوف يوقِّع عقوبة بحق موظف صغير ، وأنت شعرت أن هذا الموظف مظلوم ، قال لك : ما هو قولك ؟ لم تقل له شيئاً ، ولكن هززت له برأسك ، فأنت قد أعنته على هذا الظلم ، من أعان ظالماً ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبٌ على جبينه آيسٌ من رحمة الله ، إذاً :
 
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ﴾
المعنى الثاني :
       لا تكونن ظهيراً لهم ، أي لا تكونن بين ظَهْرَانِيِهِم ، من أقام في بلد المشركين فقد برئت منه ذمة الله .
أنت ساكن في بلدك الإسلامي ، توجد مجالس علم ، وتوجد مساجد ، لك أهل ، لك دخل مقبول ويكفيك ، ولكن أنت طموح ، فذهبت إلى بلدٍ ترتكب فيه فاحشة الزنا على قارعة الطريق ، أينما تحوَّلت فالمعاصي من كل جانب ، من أقام مع المشركين فقد برئت منه ذمة الله ، وأغلب الظن أن هذا الذي يعتَدّ بنفسه ، ويقيم في بلد الكفر أغلب الظن أنه بعد مدةٍ ليست بالقليلة يصبح منهم ، يقول لك : يا أخي ، والله انجرفت والتيار قوي ، أربعون محطة تعمل أربعا وعشرين ساعة باستمرار ، شيء مغرٍ ، طبعاً من أقام مع المشركين برئت منه ذمَّة الله ، قال العلماء :
 
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ ﴾
بمعنى لا تُقِمْ معهم .
المعنى الثالث :
قال بعضهم : هذه أمرٌ بالهجرة ، لماذا هاجر النبي ؟ من هذه الآية :
 
﴿فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ * وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾
(سورة القصص : من الآية 87)
 
 وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
 
اُدعُ إلى معرفة ربك ، وادعُ إلى طاعة ربك ، وادعُ إلى عبادة ربك :
 
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾
(سورة القصص)
كن خالصَ الطاعة ، وخالص الوجهة ، وخالص النية .
أحياناً الإنسان يكون مطيعاً لله ، لكن الوجهة لغير الله عزّ وجل ، كأن يلهو بعمله ، وبشغله ، أحياناً يكون مطيعاً لله ، وله وجهة إلى الله ، مطيع وله وجهة ، وخالص النية :
 
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ﴾
(سورة القصص : من الآية 88)
 
وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
 
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلٌ ، أيُّ جهةٍ تدعوها مع الله فهي باطلة :
 
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾
( سورة القصص : آية " 88 " )
       لماذا لا تدعُ مع الله إلهاً آخر ؟ لأنه لا إله إلا هو ، هذه دعوة باطلة ، هذا تزييف للحقيقة ، هذا وهم ، هذا جهل ، هذا تصوُّر كاذب :
 
﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ﴾
لأنَّه :
 
﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾
(سورة القصص)
 
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ
 
المعنى الأول :
      من معاني هذه الآية : أي أن أي عمل في الدنيا مهما بدا عظيماً ، أخي هذه البناية فيها مئة واثنا عشر طابقًا ، بُنِيت من الحديد الصرف ، فيها ثلاثون مصعداً ، هذا المعمل يغطي العالم بإنتاجه ، أُقيم نفقٌ تحت البحر بين فرنسا وإنكلترا ، شيء جميل ، بني أطول جسرٍ في العالم ، هذه أجمل ، وصلنا إلى القمر ، قال : كل شيء هالك إلا ما ابتغي به وجه الله ، هذا معنى من معانِ هذه الآية :
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ﴾
تأتي يوم القيامة :
 
﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾
(سورة التكوير)
 
﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ *وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾
(سورة الانفطار)
مهما كان العمل عظيماً ، والبناء شامخا ، والجسر طويلا ، والتقنيات عظيمة ، وإنجازات ، اكتشفنا الفيروس الفلاني ، عملنا كذا ، وصلنا إلى أعماق البحار ، وصلنا إلى الفضاء ، أرسلنا مركبة إلى المشتري ، بقيت ست سنوات تسير بسرعة ثلاثين ألف كيلو  في الساعة ، قال :
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾
     أي ما ابتُغي به وجه الله ، الأنبياء أعمالهم خالدة ، وغيرهم أعمالهم بائدة ، خالدة وبائدة ، هذا المعنى الأول :
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾
المعنى الثاني :
كل شيءٌ هالكٌ مستقبلاً :
 
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ﴾
(سورة يونس : من الآية 24)
في كل منظر للمدن الغربية ؛ الحدائق ، وناطحات السحاب ، والشوارع ، والنظافة ، والترتيب ، والجسور ، والحدائق العامة ، وحدائق الحيوان ، والمتاحف ، والأبنية ، والأدراج المتحركة :
 
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾
ما هذه الخراب ؟ كان هنا مدينة اسمها باريس :
 
﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً﴾
هذه قيام الساعة ..
 
﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾
 
(سورة يونس : من الآية 24)
إذاً :
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ﴾
      مستقبلاً .
المعنى الثالث :
الإنسان وجوده غير ذاتي ، فهو في حكم الهالك ، إذا كان عندك آلة متحرِّكة كهرباؤها من عندك ، أنت في أي لحظة تضغط على الزر فتوقفها ، هل لها أن تفتخر بحركتها ؟
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ﴾
        هالك لأن وجوده غير ذاتي ، لولا أن الله تجلَّى عليه لما كان ، كن فيكون ، زُل فيزول، فإما أنه هالكٌ مستقبلاً ، أو أنه الآن هالك .
الإنسان استيقظ الصبح ، ولا علة فيه ، الله شاء لك ذلك ، إذا كانت زوجته نائمة بجواره ، فجسَّته فرأته شديد البرودة ، فاستيقظت فرأته ميتاً ، مَسَّت يدها يده في أثناء الليل فشعرت ببرودة في يده ، فاستيقظت فإذا هو ميت ، فإذا استيقظ أحدنا صباحاً يرى ، ويسمع ، حركته صحيحة ، أجهزته وأعضاؤه ، معنى هذا أن الله سمح له أن يستيقظ ، أنت في الأساس هالك ، والنائم ميت :
 
﴿ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ﴾
(سورة الأنعام : من الآية 60)
إذاً :
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ﴾
ما معنى شيء ؟ كل شيء أي كل موجود مهما بدا تافهاً ، الشيء تعني الموجود :
 
 
﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾
 
 لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
 
لم يقل : الحُكْمُ له ، بل قال :
 
﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾
      لو قال : الحكم له ، ولغيره ، أما له فقصراً وحصراً ، هو الحاكم ، الأمر أمره ، القرار قراره ، الفعل فعله ، التنفيذ تنفيذه :
 
﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾
وأما أنتم فأنتم مُخَيَّرون :
 
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
(سورة القصص)
 وسوف يحاسبكم :
 
﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ﴾
وحده .
ما هو الشرك ؟ أن ترى الحكم بيدِ غير الله ، أن ترى أن فلاناً ينفعك ، بإمكانه أن ينفعك ، بإمكانه أن يَضُرَّك :
﴿لَهُ الْحُكْمُ﴾
حصراً ، وقصراً :
 
﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾
لتحاسبوا عن أعمالكم صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها .
 
والحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب