سورة البقرة 002 - الدرس (76): تفسير الآيات (220 - 221) قضية الزواج

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (76): تفسير الآيات (220 - 221) قضية الزواج

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآية: (220 - 221) - قضية الزواج

20/03/2011 18:55:00

سورة البقرة (002)
الدرس (76)
تفسير الآيات: (220-221)
قضية الزواج
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً
 وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
ثمار طاعة الله نقطفها في الدنيا والآخرة :
 
أيها الأخوة الكرام... مع الدرس السادس والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية العشرين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
 
﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
أيها الأخوة... حينما قال الله عز وجل:
 
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾
هذه الآيات يبينها لكم في الدنيا والآخرة، أي أن ثمار طاعته تقطفونها في الدنيا والآخرة، قال تعالى:
 
﴿ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾
[ سورة الجاثية: 21 ]
حياتهم، وصحَّتهم، وزواجهم، وعملهم، وكَسْبُهم، وأولادهم، وسمعتهم، ومكانَتهم، وراحة بالهم، وتألّقهم، وطمأنينتهم، وسلامتهم في الدنيا والآخرة، أي أن ثمار الإيمان تقطف في الدنيا قبل الآخرة.
 
كل مؤمنٍ في جنة هي جنة القُرْب :
 
يتوهَّم الناس أن ثمار الإيمان تُقْطَفُ في الآخرة فقط، لا.. نحن في جنَّة وكل مؤمنٍ في جنة؛ إنها جنة القُرْب قال تعالى:
 
﴿ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُم ﴾
[ سورة محمد: 6]
إنهم في الدنيا ذاقوا طعمها، إذ ذاقوا نموذجاً منها، فإنها جنَّة القرب، ففي الدنيا جنةٌ مَن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، فهذه الطمأنينة التي يحياها المؤمن، وهذا الأمن الذي يعيشه المؤمن:
 
﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾
[ سورة الأنعام: 81-82 ]
 
من لوازم الكفر الفسق ومن لوازم الإيمان الطاعة :
 
المؤمن مرتبط بالله عز وجل، والله بيده كل شيء، والشعور الذي يُخالط المؤمن من أنه مع الله، وأن الله معه، فهذا شعور لا يقدَّر بثمن، فأن تشعر أن الله معك، وأنك مع الله، وأن الله يحفظك، وأن الله
 يصونك، وأن الله يدافع عنك، وأن الله يوفِّقك، وأن أمرك بيد الله لا بيد سواه، فهذا الشعور وحده لا يقدَّر بثمن في الدنيا والآخرة. وآيات الله ظاهرةٌ في الدنيا قبل الآخرة. وكلمة في الدنيا والآخرة أول
 آية، في الدنيا والآخرة، أي ثمار الإيمان، وثمار طاعة الله، وثمار معرفة الله تقطفونها في الدنيا والآخرة، والدليل:
 
﴿ أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ﴾
[ سورة الجاثية: 21 ]
محياك أي حياتك، وقوامك، وحواسك الخمس، وأعضاؤك، وصحتك، وسمعتك، وبيتك، وأولادك، ودخلك، وإنفاقك، فأنت مع قيَم ثابتة، وهذه القيم الثابتة يدعمها الله عز وجل، أنت مع الله، وإذا كنت
 مع الله فمَن الذي يجرؤ أن يكون ضدك؟ وإذا كان الله معك فمَن عليك، وإذا كان عليك فمَن معك؟ يقول الله عز وجل:
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
 [ سورة السجدة: 18 ]
يقابل كلمة المؤمن الكافر، لمَ لمْ يقل الله عز وجل: أفمن كان مؤمناً كمن كان كافراً؟ لا، ولكنه قال:
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
 [ سورة السجدة: 18  ]
أي من لوازم الكفر الفسق، ومن لوازم الإيمان الطاعة، فهل يوازى مستقيمٌ مع منحرف، أم صادقٌ مع كاذب، أم مخلصٌ مع خائن، أم نظيفٌ مع قذر، أم منصفٌ مع جاحد، أم محسنٌ مع مسيء؟!
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
 [ سورة السجدة: 18  ]
 
الفرق بين السعادة واللذة :
 
سمعة المؤمن في الدنيا متألِّقة، فالمؤمن مَلِك، ومعنى مَلِك أنه لن يستطيع أحد أن يتحدَّث عن سمعته ولا بكلمة واحدة، فقد مَتَّعَهُ الله بعزِّ الطاعة، ومتعه الله بطيب الذِكْر، أينما تحرًَّك يثني عليه الناس:
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
 [ سورة السجدة: 18  ]
 
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾
[ سورة القلم: 35-36 ]
لِمَ لم يقل: أفنجعل المسلمين كالكافرين؟ ولكنه قال: كالمجرمين، ومعنى ذلك أنه من لوازم الكفر أن يكون مجرماً، ومن لوازم الإيمان أن يكون مصلحاً، وشتانَ بين المصلح والمفسد، والمؤمن والكافر، فهذه بعض
 الموازنات، فالمؤمن يبحث عن سعادةٍ تنبُع من داخله، بينما الكافر يبحث عن لذةٍ تأتيه من خارجه، والمؤمن يملك أسباب السعادة التي تنبُع من داخله، بينما الكافر لا يملك ذلك، فاللذة تحتاج إلى أموال، وإلى
 نساء، وإلى بيوت، وإلى مَرْكَبات، فاللذة تنبع من الخارج، بينما السعادة تنبع من الداخل، والسعادة تملك كل أسبابها، بينما اللذة لا تملك كل أسبابها، والسعادة متعاظمة في تأثيرها، بينما اللذة متناقصة في
 تأثيرها، السعادة تتصل بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، ولكن اللذة تنتهي إلى قبرٍ موحش، ثم إلى جهنَّم وبئس المصير..
 
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ ﴾
 [ سورة السجدة: 18  ]
 
الله تعالى يبين لنا الآيات في الدنيا وفي الآخرة :
 
يقول الله عز وجل:
 
﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾
يبين لكم الآيات في الدنيا وفي الآخرة، وهذه الحياة بين يديك فانظر إلى شابٍ مستقيم طائعٍ لله عز وجل كيف أن الله يحفظه، وكيف يوفِّقه، وكيف أنه معه، وأنه مغموسٌ في سعادةٍ لو وزِّعت على أهل بلدٍ
 لكفتهم، ثم انظر إلى حياة الكفَّار:
 
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾
[ سورة طه: 124 ]
هذا معنى قوله تعالى:
 
﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ ﴾
 
قلب الأم أحد الآيات الدالة على عظمة الله :
 
ثم يقول الله عز وجل:
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى ﴾
اليتيم مَن فَقَدَ والده، أو والدته، أو فقد أبويه معاً، وقد يكون غنياً، ولكن ما الذي فقده هذا اليتيم؟ فقد الأب ففقد الرعاية، وفقد الحُب، ففي قلب الأب والأم من الرعاية والرحمة والحب لأولادهما ما لا
 يوجد في إنسانٍ ما كائنٍ مَن كان، فأت بأم، وأت بألف مربيةٍ، فألف مربيةٍ لا ترقى إلى مستوى أمٍ ولدت هذا الطفل، والشواهد كثيرة، فقد تتمنى البنت أن تكون مع أمها في كوخٍ ولا أن تكون مع سيدتها
 في قصر، لأن في قلب الأم من الحُب ومن الرحمة ما لا يوصف، بل إن قلب الأم أحد الآيات الدالة على عظمة الله، إن أردت أن تعرف رحمة الله فانظر إلى قلب الأم، فهذه الأم تتمنى أن يعيش ابنها على
 أنقاضها، وتتمنى أن ينام وتسهر، وأن يشبع وتجوع، وأن ينعم بالصحة وتمرض، فقلب الأم من آيات الله الدالة على عظمته.
هذا اليتيم فقد أثمن شيءٍ في حياته، لأنه فقد قلب الأم أو قلب الأب وفقد الرعاية، وفقد الحب، والحنان، والاهتمام، أتيح لي أن ألتقي بأيتام فشعرت أننا لو أغرقناهم بسعادةٍ أو بنعيمٍ لا يوصف، ولو
 أطعمناهم أطيب الطعام، وأسكناهم في أجمل البيوت، ولو فرزنا لهم أعظم المدرسين، فكل هذا لا يعوِّضهم عن آبائهم مهما فعلوا، ولا شيء يعوِّض عن الأب والأم، فاليتيم فقد أمه وأباه، أو فقد أحدهما،
 فهذا اليتيم لئلا يحقد على المجتمع، ولئلا يرى طفلاً في سنه له أبٌ يكرمه، وله أمه تحنو عليه، فقد أُمِرنا برعاية الأيتام، وتكريماً لأيتام المسلمين كان النبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الأيتام، نشأ يتيماً لا يعرف
 أمه ولا أباه.
 
قضية اليتيم قضيةٌ خطيرة جداً :
 
لذلك أيها الأخوة، فقضية اليتيم قضيةٌ خطيرة جداً، إما أن نرعاه أشد الرعاية، وإما أن يكون خارجاً على أنظمة المجتمع وقيَمِهِ، لأنه عندئذٍ يحقد، فلا شيء يعدِل الأب، ولا شيء يعدل الأم مهما فعلنا، نحن
 نخفف، فلذلك ربنا عز وجل خص اليتامى بآيةٍ دقيقةٍ جداً:
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ ﴾
والمُطْلَق في القرآن يجري على إطلاقه " إصلاحٌ لهم "، إصلاحٌ لهم في حاجاتهم، أمِّنوا لليتيم حاجاته، أمِّن له طعامه وشرابه، ومسكنه ومأواه، ووسائل صحته، ووسائل تعليمه، ومالاً يعيش من رَيْعِه..
 
﴿ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾
فعلاقتك مع اليتيم ليست علاقة تجارةٍ، وليست علاقة ابتزاز، ولا علاقة أخذٍ، ولا نفعٍ، بل هي علاقة إصلاحٍ له فقط..
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾.
أحد الصحابة سأل النبي صلى الله عليه وسلم: عندي يتيمٌ أفأضربه؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
(( مما تضرب منه ولدك ))
[ أخرجه أبو يعلى عن بلال ]
اضربه إذا كنت في مثل هذا الذنب تضرب ولدك، فيجب أن تربيه وأن تقوِّم اعوجاجه، وأن تصلح أخلاقه، وأن تهتم بصحته، وبطعامه، وشرابه، وبأخلاقه، وبجسمه، ومستقبله، ودخله..
 
﴿ إِصْلَاحٌ لَهُمْ ﴾
القرآن الكريم إعجازه في إطلاقه..
 
﴿ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾
علاقتك مع اليتيم أن تصلحه.
 
الفرق بين الخلط والمزج :
 
لكن أيها الأخوة، لو أن الله منعنا أن نُخالطهم لكان في هذا عنتٌ كبير، قال:
 
﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ ﴾
أي لك أن تخلط ماله بمالك، ولكن الخلط شيء والمزجَ شيءٌ آخر، ولأضرب على ذلك مثلاً: إذ يمكن أن تخلط الحمّص مع العَدَس، وفي أي وقتٍ تشاء تفصلهما عن بعضهما، أما إذا خلطت الماء المُحَلَّى
 بالسكر مع الماء الذي يشوبه الحَمْض فمستحيل أن تفرق بينهما بعد حين فالعلماء فرقوا بين الخلط وبين المزج، المزج للسوائل والخلط للأجسام الصلبة.
 
﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾
فيمكن أن تستثمر مال اليتيم عندك، وأن تدخل ماله في تجارتك، وأن تجعله شريكاً في الجرد، معه مئة ألف أدخلتها في رأس المال، ولكن العلماء قالوا: لك أن تخلط ماله بمالك، ولكن يجب أن تعامله
 بالإحسان، إن كنت غنياً ينبغي أن تستعف، أي إن أردت أن تستثمر له مئة ألفٍ يجب أن تعطيه ربحها كاملاً إن كنت غنياً، فينبغي لك أن تستعف عن أكل ماله، وإن كنت فقيراً فيجب أن تأكل بالمعروف، ما
 هو المعروف؟
قال: المعروف أجر المثل أو حاجتك أيهما أقل، فهذه المئة ألف ريعها مثلاً عشرون ألفاً، إن تفرَّغت لها مثلاً، وأنت بحاجة إلى أربعين ألفاً، فنصيبك من ريعها عشرون، ويجب أن تكتفي بالعشرين، أجر المثل أو
 حاجتك أيهما أقل، وريع المليون مئة ألف، وأنت حاجتك خمسون ألفاً، فينبغي لك أن تكتفي بالخمسين، لو أنك استثمرت لليتيم مالاً، نصيبك من الربح إذا كان يساوي أجر المثل، وهو أقل من حاجتك،
 فينبغي لك أن تكتفي بأجر المثل، ولو كان أقل من حاجتك، وإن كانت حاجتك أقل من أجر المثل، فيجب أن تكتفي بحاجتك دون أن تأخذ أجر المثل، وهذا معنى..
 
﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ ﴾
 
الله مطلع على قلبك وعملك فيعلم ما إذا كنت مصلحاً لمال اليتيم أو مفسداً له :
 
ومعنى قوله تعالى:
 
﴿ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ﴾
 [ سورة النساء: 6 ]
هناك ضوابط، فلو أن له مالاً وأردت أن تستثمره له بصفقةٍ من بضاعةٍ أنت تديرها، فهل لك أن تشتري له من نفسك؟ العلماء قالوا: يجوز، ولكن بأفضل سعر في السوق لصالحه.
 
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾
فالعلاقة مع الله سهلة جداً، والله مطلع إلى قلبك، وعملك، وحركتك في الحياة، فيعلم ما إذا كنت مصلحاً لماله أو مفسداً له، وهناك مَن يتَّجر بمال اليتيم فيجعل ماله في صفقةٍ ليست واضحةً، فيمتحن بماله
 السوق، ويجعل ماله دريئةً لماله، قال عليه الصلاة والسلام: "ولا تجعل ماله دون مالك "، هناك صفقة لها ربحٌ ثابت، صفقة إن صح التعبير مضمونة النتائج، وهناك صفقة فيها مغامرة، قد لا تربح، هذا مَن
 يكشفه؟ لا يكشفه إلا الله، فقد يأتي هذا الذي يدير مال يتيم فيجعل ماله في صفقةٍ لا يعلم خيرها من شرها، فإن نجحت أدخل ماله في مثل هذه الصفقات، وإن لم تنجح جعل مال اليتيم تجربةً للسوق، ودريئة
 لماله، فجعل مال اليتيم دون ماله، هذا شيءٌ لا يعلمه إلا الله..
 
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾
يعلم ما إذا كنت قد جعلت من مال اليتيم تجربةً واختباراً للسوق، أو أنك وضعت مال اليتيم في أفضل صفقةٍ مضمونة النتائج.
 
الأصل في التعامل مع اليتيم :
 
إذاً الله عز وجل قال: الأصل في التعامل مع اليتيم..
 
﴿ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾
ولكن لئلا يرهقنا، ويحمِّلنا ما لا نطيق، ونكون في عنتٍ ومشقة، قال:
 
﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ ﴾
لك أن تسكنه معك، ولك أن تقتطع من ماله جزءاً لمصروف البيت، صار هناك اختلاط، ولكن دائماً للحد الأدنى، ودائماً لصالح اليتيم، فقد يأكل في الشهر بألفي ليرة، فتقتطع من ماله ألف ليرة فقط، أي
 الحد الأدنى، والحد الأسلم والأحوط، فلك أن يسكن معك في البيت، وأن يأكل من طعامك، وأن تقتطع من ماله جزءاً للمصروف، ولك أن تتاجر بماله قال عليه الصلاة والسلام:
(( اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ ))
[موطَّأ مالك عَنْ مَالِك ]
وقد قال الله عز وجل:
 
﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ﴾
 [ سورة النساء:5  ]
أي ارزقوهم لا من أصل المال بل من ريع المال.
 
الإنسان مخيَّر ولكن مع أنه مخير مراقَب مراقبة شديدة جداً :
 
إذاً:
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإخوانكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ﴾
الله يعلم فافعل ما تشاء، ولكن الله يعلم خبايا الأمر، ماذا تنوي وتريد؟ وماذا تفعل؟ ولماذا لم تفعل؟ ولو شاء الله لمنعكم من أن تخلطوا أموالهم بأموالكم، لمنعكم من أن تستثمروا أموال اليتيم..
 
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
معنى ذلك أن الإنسان مخيَّر ولكن مع أنه مخير مراقَب مراقبة شديدة جداً، وإن أفضل شيء بالإدارة أن تثق بمَن حولك، وأن تعطي الصلاحيات، وأن تراقب مراقبةً شديدة، فلو لم تثق بمَن حولك لتعطل الأمر،
 وأصبحت الإدارة مركزية، والمركزية فيها أخطاء كثيرة جداً، ثق بمَن حولك، وامنحهم صلاحيات، وراقبهم مراقبةً شديدة، وهكذا سنة الله في خلقه. أنت موثوق يا أيها الوصي فاخلط ماله بمالك، واقتطع
 من ماله جزءاً لمصروفه، واتجر بماله، ولكن الله يعلم ما إذا كنت تفعل في حركتك لصالحه أو لغير صالحه..
 
﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ﴾
لحمَّلكم ما لا تطيقون..
 
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
 
موضوع الزواج :
 
ثم تنتقل الآيات إلى موضوعٍ من أخطر موضوعات الحياة؛ موضوع الزواج..
 
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾
هذه المرأة التي تخطبها، قد يدعوك إلى خطبتها شكلها وجمالها، ولكن هناك مهمةً خطيرةً جداً، فهذه المهمة منوطة بهذه المرأة، هذه المرأة فضلاً عن أنها زوجتك، سوف تغدو مربِّية أولادك، وهي التي ستربِّيهم،
 لأنك مشغولٌ في كسب المعاش.
"يا رسول الله إن زوجي تزوجني وأنا شابة، ذات أهل، ومال، وجمال، فلما كبرت سني، ونثر بطني، وتفرَّق أهلي وذهب مالي، قال: أنت علي كظهر أمي، ولي منه أولاد، إن تركتهم إليه ضاعوا، وإن
 ضممتهم إلي جاعوا".. أي أنه ينفق عليهم وأنا أربيهم، فمهمة المرأة تربية الأولاد، لأن الرجل في الحقيقة مشغولٌ في كسب المعاش، وهذا شيء واقع، يخرج الإنسان من بيته صباحاً ويعود مساءً، مَن هذه التي
 ترعى أولادها، وتهتم بسلوكهم، وتدقق في أخطائهم، وتنظر في أخلاقهم؟ إنها أمهم، ولذلك فللأم مهمة خطيرة جداً وهي تربية أولادك.
لذلك قد تعجب بشكل امرأة مشركة، فيجب ألا تؤخذ بجمالها وينبغي لك أن تبحث عن أخلاقها، وعن دينها، وعن أصالتها، وعن تربيتها، وعن عفافها، وعن صدقها، لذلك يقول الله عز وجل:
 
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾
أخطر شيء في الأم أن تكون مؤمنةً، وأن تُلَقِّن أولادها مع حليب ثديها الصدق والأمانة. حدثني أخ عن امرأةٌ كانت تمشي مع ابنها أعطته سكرةً، بعد ثلاثمئة متر سألته: أين قشر السكرة؟ قال: رميتها في
 الأرض. فرجعت معه ثلاثمئة متر وقالت له: خذها وضعها في السلَّة. هذا السلوك دخل في دمه، وهو المحافظة على النظافة، فالأم المربية بأعلى مستويات التربية تعوِّد أبناءها الصدق، والأمانة، والعفة،
 والاستقامة، والصلاح، والنشاط، والعادات الطيبة..
الأم مدرسة إذا أعددتها    أعددت شعباً طيب الأعراق
*  *  *
 
من يختار امرأةً صالحةً فهو الرابح الأكبر :
 
مَن علَّم رجلاً علَّم واحداً، ومَن عَلَّمَ امرأةً علم أسرة، فَصِّدقْ أنك لو بحثت عن أحد أسباب الشباب المنضبط، أو عن أحد أهم الأسباب لوجدت وراءهم أمّاً واعية مثقفة ثقافة إسلامية، ووراءهم أم طلبت
 العلم الشرعي وعرفت ما لها وما عليها، فأنا أتمنَّى أن ينتبه المؤمنون إلى اختيار زوجاتهم من المؤمنات الصالحات، لأنهن عماد هذا المجتمع..
 
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾
دقق..
 
﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾
فلو أعجبكم شكلها، وقوامها، ولونها، وصفات جمالها..
 
﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾
لأن هذا الجمال يزوي بعد حين، وتبقى علاقتها في التربية والانحراف، بينما المؤمنة تقطف ثمار إيمانها في أولادك، وسوف ترى أن أولادك قد رُبوا تربية رائعة، بسبب أمهم المؤمنة..
 
﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾
كأن الله عز وجل أرادنا أن نضحي أحياناً، وأن نبحث عن المؤمنة ولو كان مستوى جمالها أقل من غيرها المتفلِّتة، أما الذي يبحث عن الجمال فقط فيدفع الثمن باهظاً، ورد في الأثر: " أنه من تزوج المرأة لجمالها
 أذله الله، ومن تزوجها لمالها أفقره الله، ومن تزوجها لحسبها زاده الله دناءةً، فعليك بذات الدين تربت يداك "، فالذي يختار امرأةً صالحةً فهو الرابح الأكبر، والذي يختار امرأةً بارعة في شكلها ضعيفةً في خُلُقها
 فهو الخاسر الأكبر، لا مانع إذا اجتمعا.
ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا     وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
*  *  *
 
عدم توجيه الخطاب للمؤمنات لأن أمر المرأة بيد وليها فاختلف الخطاب :
 
قال تعالى:
 
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾
المشركة غير موحدة، إنها تحب المظاهر والبذخ، وتحب أن تمشي في الطريق مُظْهِرَةً كل مفاتنها، هذه أليست مشركة بالمعنى الواسع؟ طبعاً، لأنها أشركت ذاتها مع الله عز وجل، فتريد أن تعرض مفاتنها ولا تعبأ
 بمنهج ربّها، وتريد أن تكيد لأخواتها، وأن تفتخر عليهن في بيتها، وفي أثاث بيتها، وفي الحليّ التي قُدِّمَت لها، فالمرأة التي تبحث عن المظاهر، وعن سمعتها في المجتمع، وعن استعلائها على زميلاتها أو على بنات
 جنسها هي امرأةٌ بالمعنى الواسع مشركة، وبالمعنى الضيِّق قد تكون مسلمة ولكنها مقصرة.
 
﴿ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ﴾
طبعاً الآن اختلف الخطاب، لم يوجَّه الخطاب للمؤمنات كأن يقول: أيتها المؤمنات لا تقبلن الزواج من المشركين. لا، لأن أمر المرأة بيد وليها، فاختلف الخطاب، ففي أول قسم بالآية توجه الخطاب إلى الرجال:
 
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ﴾
أما بالمقابل فلم يوجَّه الخطاب للمؤمنات ألا ينكحن المشركين قال:
 
﴿ وَلَا تَنْكِحُوا ﴾
 
أي لا تتزوجوا..
 
﴿ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا ﴾
أي لا تُزوجوا..
 
﴿ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾
 
أكبر مهمة للأب أن يهتم بتزويج بناته من شابٍ مؤمنٍ :
 
ذات مرة كنت أمشي في أحد أسواق دمشق، فاستوقفني أخٌ له محلٌ في هذا السوق، عرض علي هذه المشكلة، قال لي: خطب ابنتي شابٌ ثري جداً، له معمل، وبيت في أوجه أحياء دمشق، ومركبة فارهة،
 وكل شيء على أفضل ما يكون، إلا أن في دينه رِقَّة، فماذا أفعل؟ قلت له: ألا تقرأ القرآن الكريم؟ قال: بلى، قلت: إذا قرأت القرآن الكريم وانتهيت من قراءته، ماذا تقول بعد أن تقرأه؟ قال لي: أقول
 صدق الله العظيم، قلت له يقول الله عز وجل:
 
﴿ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾
أعجبتك وسامته، وأعجبك ماله وبيته ومركبته، ولكن في دينه رِقَّة  قد لا يصلي، وقد يشرب، وقد يسافر فيقع في الفاحشة، فقال لي: شكراً، ويبدو أن ضغطاً داخلياً ضغط عليه فزوج ابنته من هذا الشاب
 المتفلِّت، ولم يدم الزواج أشهراً حتى طلقها، فأنت يجب أن تختار مؤمناً لابنتك، إن أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها، فالمؤمن مقيَّد، لأن الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن، ولذلك أكبر مهمة منوطة
 بالأب أن يهتم بتزويج بناته من شابٍ مؤمنٍ يحفظ لها دينها، ويحفظ لها أخلاقها، ويضمن لها آخرتها..
 
﴿ وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ﴾
كم من أسرٍ مسلمةٍ طمعت بمال خاطبٍ فذهب المال وبقيت أخلاقه الشرسة، وللعوام أمثلة في هذا المجال كثيرة جداً، قال:
 
﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ ﴾
 
إن بحثت عن مؤمنٍ ضمنت لابنتك سعادة الدنيا والآخرة :
 
تروى قصة عن سعيد بن المسيب، رحمه الله تعالى، وكان من كبار التابعين، وكانت عنده فتاة يندر مثيلها؛ علماً، وفقهاً، وجمالاً، خطبها الوليد بن عبد الملك لابنه، فامتنع، وعنده تلميذٌ في المسجد فقير جداً،
 توفيت زوجته، فتفقَّده، فعلم أنه قد فقد زوجته، قال له: ألا أزوجك ابنتي؟ قال له: أتمنى، قال له: ماذا عندك؟ قال: درهمان، والقصة ممتعة وطريفة ونادرة، ويبدو أنه زوجه إياها، وصار هناك إيجاب وقبول
 ومهر على درهمين، وفي المساء طُرِق باب هذا الفقير، فقال: مَن؟ قال: سعيد، فقال هذا التلميذ: تصورت كل مَن أعرفه اسمه سعيد لعله جاءني في هذا الوقت، إلا واحداً استبعد أن يكون هو الطارق، إنه
 سعيد بن المسيب، لأنه كان قاضياً، أمضى بين بيته ومجلس قضائه أربعين عاماً ما خرج عن هذا الخط، مِن بيته إلى مجلس القضاء، فلما فتح الباب رأى سعيد بن المسيِّب، دفع له ابنته، وكان العقد قد تم
 صباحاً، قال له: كرهت أن تنام الليلة وحدك، خذها، هذه التي خطبها الوليد بن عبد الملك لابنه فأبى، فلما سئل قال: ضمنت لها الجنة بهذا الزوج.
قد يزوج إنسان ابنته لشخص غني، فاسق، فيقول لها: انزعي الحجاب، واسهري معي، ويأتي أصدقاؤه والسهرة مختلطة، وقد يشربون، وقد يرقصون، ومعنى ذلك أنه أدخلها النار، أما إن زوجت ابنتك للمؤمن
 ففي الأعم الأغلب ضمنت لها الجنة، وأنا لا أقول لك هكذا أن زوج ابنتك لإنسان مُعْدَم، ما قصدي هذا من هذه القصة، ولكن حينما تبحث عن مؤمن فإنك تبحث عن الموقف الصحيح، وإنك إن بحثت
 عن مؤمنٍ ضمنت لابنتك سعادة الدنيا والآخرة، وإن بحثت عن المال فربما شَقِيَت بهذا المال.
 
﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾
فالأثرياء من المشركين يدعون إلى النار، وهناك تفلُّت، ونمط حياتهم نمط غير شرعي، وهناك اختلاط، وكم من أسرةٍ اختلطت بأسرةٍ أخرى فانتهت إلى الطلاق، وهناك كسب مال حرام، وانحرافات خطيرة
 جداً، وهذه كلها تعود بالشقاء على الزوجين ولو بقيا مع بعضهما طوال الحياة، ولكن قد تنتهي بهما الدنيا إلى النار، يدعون إلى النار..
 
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ ﴾
فالعبد المؤمن هو عبدٌ آمن بالله، ومصيره الجنة، ومَن معه من زوجته وأولاده في الأعم الأغلب مصيرهم إلى الجنة، لأنه حملهم على طاعة الله، فإن أردت لابنتك مصيراً ينتهي بها إلى الجنة فابحث عن المؤمن، إن
 أحبها أكرمها، وإن لم يحبها لم يظلمها.
 
الآيات التالية تبين أن أخطر حدث بحياة الإنسان زواجه :
 
قال تعالى:
 
﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ﴾
أجمل شيء في الإيمان إذا كان هناك ماضِ سيِّئ فهناك مغفرة، وبعده الجنة، والله يدعو إلى الجنة، وإذا كانت هناك جاهلية فالمغفرة بإذنه..
 
﴿ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
أيها الأخوة... تبيِّن هذه الآيات أن أخطر حدث بحياة الإنسان زواجه، فالبيت قد يغيره، وقد يغير حرفته، أما زواجه فمن الصعب جداً أن يغيره لأنه قرار مصيري، فإذا كانت هذه الزوجة مؤمنةً، سعدت
 بها وسعد أولادك بها، ولذلك فأول واجبات الأب تجاه أولاده قبل أن يتزوَّج أن يحسن اختيار أمِّهم، وأول واجب على الأب تجاه أولاده قبل أن ينجبهم أن يحسن اختيار أمهم، فإن اختارها من بيت علمٍ،
 وبيت أدبٍ، وبيتٍ عريق، واختارها مؤمنةً، صالحةً، مستقيمة، عفيفة، سعد بها في الدنيا وكانت سبب سعادته في الآخرة، وإن اختارها بارعةً دون أن تكون فاضلةً قد يتمتَّع بجمالها إلى حين، ثم يشقى بها
 وينتهي إلى أسفل سافلين، أعيد عليكم ما جاء في الأثر:
((من تزوج امرأة لعزها لم يزده الله إلا ذلا، ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة ))
[ الطبراني عن أنس ]
 
﴿ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
 
إذا بني الزواج على طاعة الله تولى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين :
 
سمعت خبراً طريفاً: أن بعض الفنادق الكبرى في دمشق أرادت أن تشجع على عقد القران فيها، وبالطبع أرباحها من عقود القران عاليةً جداً، فالعرس يكلف عشرين أو ثلاثين مليوناً.. فاستعرضت عقود القران
 التي تمت في هذا الفندق من ستة أشهر، ودعت أصحاب هذه العقود إلى حفل تكريمي كي يشجعوا غيرهم على عقودٍ في هذا الفندق، فقال لي الرجل صاحب الخبر، وهو يعمل بهذا الفندق: الإدارة المالية
 بحثت عن هؤلاء الذين عقدوا عقدهم في هذا الفندق فكانوا ستة عشر عقداً، فدعوهم لحفل تكريمي، فكان الإحصاء ثلاثة عشر عقداً آلت إلى الطلاق قبل مضي ستة أشهر، إنه إحصاء دقيق جداً، ثلاثة عشر
 عقداً آلت إلى الطلاق قبل مضي ستة أشهر، فإذا بني الزواج على طاعة الله تولى الله في عليائه التوفيق بين الزوجين، أما إذا بني على معصية الله فإن الشيطان يتولى التفريق بينهما، هذا معنى قول الله عز وجل:
 
﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
سمعت قصة: أن عقداً جرى في أحد فنادق دمشق، ونفقاته عالية جداً، ببضع الملايين، المرأة في مكان جلوسها على المنصة وزوجها إلى جانبها، جاء المصوِّر يصورهما، ويبدو أنها أشارت إلى زوجها أن يكون أقل
 منها، بأن ينخفض قليلاً، فقال لها: طالقٌ طَالقٌ طالق!!! وهي على منصة العرس طلقها، زواج أساسه شيطاني، أو أساسه عنف، فيه انحراف وتفلُّت، والمؤمن له ترتيبٌ آخر، وله بركة في زواجه.
لي صديقٌ توفيت أمه، وكان أبوه قد جاوز التسعين، وأمه أقل من هذا بقليل، فذهبنا لتعزيته، فكان الأب يبكي بكاءً مراً، عمرها ثمانون سنة، فسألته بعد أن انتهت التعزية: ما هذا البكاء، اصبر يا رجل؟ قال
 لي: والله اقترنت بها خمسين عاماً، ما نمت ليلة وأنا غاضبٌ عليها، ولا ليلة واحدة، والآن يقول لك ثلاثين سنة ما أراحتني يوماً.
 
﴿ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾
هذه الآيات أيها الأخوة، قضية الزواج قضية خطيرة ومصيرية، فقبل أن تختار زوجة عُد للمليون، وابحث عن دينها، وعن علمها، وأدبها، وأهلها، وتربيتها، وخصائصها، لأنها أم أولادك، وسوف تقطف ثماراً
 يانعةً إن كانت صالحة، وسوف تدفع ثمناً باهظاً إن كانت سيئة.
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب