سورة البقرة 002 - الدرس (73): تفسير الآيات (215 - 215) أهمية السؤال وقيمة الإنفاق

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (73): تفسير الآيات (215 - 215) أهمية السؤال وقيمة الإنفاق

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج مع الحدث: مع الحدث - 46- حلقة خاصة في يوم الاسير الفلسطيني- محمود مطر -17 - 04 - 2024           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم - بيت المقدس أرض الأنبياء - د. رائد فتحي           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - وجوب العمل على فك الأسرى - د. جمال خطاب           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 10 - ولئن متم أو قتلتم - الشيخ ادهم العاسمي           برنامج خواطر إيمانية: خواطر إيمانية -436- واجبنا تجاه الأسرى - الشيخ أمجد الأشقر           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 391 - سورة المائدة 008 - 010         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآية: (215 - 215) - أهمية السؤال وقيمة الإنفاق

20/03/2011 18:52:00

سورة البقرة (002)
الدرس (73)
تفسير الآية: (215)
أهمية السؤال وقيمة الإنفاق
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
السؤال علامة المؤمن الصادق :
 
أيها الأخوة الكرام... مع الدرس الثالث والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الخامسة عشرة بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
أيها الأخوة... حينما تهتم بموضوعٍ ما تسأل عن تفاصيله، هذه قاعدة، وحينما تقتني آلةً غاليةً، معقَّدةً، عظيمة النفع، تعكف على كُتيِّبها فتقرؤه كلمةً كلمة، أو تترجمه كلمةً كَلمةً، وقد تُرسل إلى الشركة رسالة: ماذا تعنون بهذه العبارة؟ لم أفهمها، وكيف ينبغي لي أن أصون هذه الآلة؟ وكيف أعتني بها؟ وكيف أرفع من مردودها؟ هذا شيء طبيعي في الإنسان، حينما يهتمُّ بشيء يسأل عنه، علامة المؤمن الصادق يسأل؛ هل هذا العمل حرام أم حلال؟ هل يرضي الله أم لا يرضي الله؟ هل أكون عند الله مسؤولاً؟ وهل يقبلني الله بهذا العمل أم يرفضني؟ علامة الصدق السؤال، وعلامة السَيْر في طريق الحق أن تستوْضح، وأن تسأل، والله عزَّ وجل يقول:
﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾.
[ سورة النحل: 43].
في شؤون الدنيا اسألوا أهل الذكر، وفي الشؤون المتعلقة بالله عزَّ وجل فاسأل به خبيراً، لا بد لك من جهتين هما مرجعان لك، جهةٌ ترجع إليها في أمور الدنيا ـ وهذا الذي علَّمنا إياه النبي عليه الصلاة والسلام ـ علَّمنا الاستخارة، وعلَّمنا الاستشارة، وينبغي لك أن تسأل أهل الخبرة من المؤمنين في شؤون الدنيا، وأن تسأل العلماء الصادقين، المخلصين، العاملين في شؤون الآخرة.
 
السؤال دليل الصدق :
 
إنك بمجرَّد أن تهتم بشيء تسأل عن دقائقه، وتفاصيله، ومَداخله، ومخارجه، وأخطاره، وأبعاده، وملابساته، ولذلك فعلامة صدق أصحاب رسول الله أنهم سألوا النبي عليه الصلاة والسلام .
﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾.
فالسؤال دليل الصدق، وحينما لا يسأل الإنسان هناك احتمال جيِّد لصالحه، قد يكون الأمر واضحاً جداً له فلا يسأل، وقد يلقي أستاذٌ درساً، ويسأل الطلاب: هل هناك من سؤال؟ فإذا كان الدرس واضحاً جداً، والطلاب استوعبوا دقائقه فلا أحد يسأل، فهذه حالة، أما الطالب البعيد عن موضوع الدرس، والشارد، الذي يعيش بجسمه في قاعة الدرس، وقلبه خارج الدرس، فهذا إذا قيل له: أتسأل؟ يقول: لا يوجد سؤال، لا يسأل، فالذي لا يسأل إما لوضوحٍ شديدٍ عنده، أو لعدم اهتمامٍ بأصل الموضوع.
فعلى كلٍ العلم مِفتاحُه السؤال، ولئن تسأل فتكون في نظر الآخرين جاهلاً أفضل ألف مرة من أن تخطئ ولا تسأل، وليس العارُ أن تكون جاهلاً، ولكن العار أن تبقى جاهلاً، وليس العار أن تخطئ، ولكن العار أن تبقى مُخطئاً، والمؤمن الصادق يسأل، ولا يعبأ كثيراً بمكانته، لأن هناك رجلين لا يسألان؛ المُستحيي والمُتَكَبِّر، والحياء في العلم جهل، والكبر في العلم جهل.
لكن بقي موضوع دقيق في موضوع السؤال، هذا الإنسان الذي يُسأل، إذا علَّق تعليقاً قاسياً على سائلٍ منع السؤال، فينبغي له أن يتقبَّل السؤال بصدرٍ رحبٍ واسعٍ، وأن يحترم السائل، وأن يُثني عليه، حتى يشجِّع غيره أن يسأل.
 
مفتاح العلم السؤال :
 
أحياناً يسأل الابن أباه سؤالاً، قد يكون سخيفاً، فيصب الأب جام غضبه على ابنه، ولم يدر الأب أنه أجرم في حق ابنه، لن يسأله بعد ذلك سؤالاً، لا، مهما بدا لك السؤال سخيفاً تافهاً يجب أن تحتفل بالسائل، وأن تثني عليه، وأن تقول له: بارك الله بك، هذا دليل اهتمامك، وهذه النقطة التي أثرتها جوابها: كذا وكذا وكذا، فموقف المسؤول سوف يُسأل عند الله يوم القيامة، مفتاح العلم السؤال، كم من إنسان كره مادةً في التعليم من أستاذٍ قاسٍ في ملاحظته! فاسأل ما بدا لك، ورد في الأثر أن: تواضعوا لمن تعلِّمون، وتواضعوا لمن تعلَّمون منه.
يجب أن تتواضع لمن تُعَلِّم، طبعاً هناك قصص تُروى، وهي للتَنَدُّر ولا يؤخذ منها حكمٌ شرعي؛ تروي الكُتب مثلاً أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان يعاني من ألمٍ في مفاصله، وكان يلقي درساً أمام تلامذته المقرَّبين، وكان ماداً رجله، فدخل رجلٌ قويم الهيئة، طويل الجثّة، عريض المَنكبين، يرتدي عمامةً، يبدو أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى استحيا منه فرفع رجله، فجلس في مجلسه، وبعد أن انتهى المجلس سأل ـ الموضوع كان حول صلاة الصبح ـ قال له: يا إمام كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال له: عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رجله.
طبعاً هذه قصة للتنَدُّر، أما أن يؤخذ منها حكمٌ شرعي! الحكم الشرعي نأخذه من موقف رسول الله عليه الصلاة والسلام، الحكم الشرعي نأخذه من الكِتاب والسُنَّة، هذا هو الحق، فالنبي مشرِّعٌ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، كان يُسأل بغلظة ـ أعطني من هذا المال يا محمد، فهو ليس مالَك ولا مال أبيك ـ وكان بإمكان النبي أن يلغي وجود هذا السائل الفظ، ولكنه قال: "صدق إنه مال الله.
المؤمن متواضع لمن يسأله، مهما بدا لك السؤال سخيفاً، تواضع لمن تتعلَّم منه، وتواضع لمن تعلِّم، فهذا التعليق على كلمة:
 
﴿ يَسْأَلُونَكَ ﴾.
أنت حينما تسأل تستعير خبرة المسؤول، وقد تزيد عن خمسين سنة، خبرات متراكمة خلال عمر طويل، تأخذها مجَّاناً بسؤال مؤدَّب، اسأل ما بدا لك..
 
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾.
 
الذين سخَّرهم الله لنشر دينه يعملون لحساب الله ويرجون رحمته :
 
أيها الأخوة الكرام... حينما يصحُّ الإيمان ويتحرَّك الإنسان، إذ لا يوجد إنسان مؤمن سكوني، وحينما ينعقد الإيمان في قلب المؤمن، أو حينما تستقر حقيقة الإيمان في قلب المؤمن، تعبِّر عن ذاتها بحركة نحو الخَلْق، ماذا أفعل؟ وماذا أُنْفق؟ وماذا أقول؟ ومع مَن أجلس؟ ومَن أصاحب؟ وكيف أمضي وقتي في البيت؟ الصادق يسأل، أنت إنسان محدود الإقامة في الدنيا، وخُلقت لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، وحُمِّلْتَ أمانة التَكْليف، فوقتك ثمين جداً، إنه وعاء عملك، فكل شيء تفعله محاسبٌ عليه، وكل شيءٍ مسجلٌ عليك، وإنك تحت المُراقبة..
﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾.
[ سورة النساء: 1 ].
فحينما تستقرُّ حقيقة الإيمان، وهي أن الله خلق الكون وخلق الإنسان ليجعله في أعلى مقامٍ في الجنة، وإن هذه الدنيا دار ابتلاء لا دار استواء، وإنها دار تكليف لا دار تشريف، ودار عمل لا دار جزاء، فحينما توقن؛ تؤمن بالله، وتؤمن بسرِّ وجودك، وغاية وجودك، وتؤمن بمنهج ربك، وتسأل إذاً.
هناك بعد ذلك نقطة دقيقة، إنك لن تستطيع أن تدخل إلى أيّ مكتبٍ في البلد إلا وفي جيبك مال، ولن تستطيع أن تدخل إلى عيادة طبيبٍ إلا ومعك أجرة المُعاينة، ولن تستطيع أن تُقابل محامياً إلا وأجور الأتعاب في جيبك، سأل أحدهم محامياً: أأدخل بهذه القضية في القضاء؟ أهي رابحة أم خاسرة؟ قال له: خاسرة. قال له: شكراً لك. فقال له: أين الأجرة؟ قال له: خاسرة. قال له: هذه نصيحة قدَّمتها لك، فضجر وذهب إلى محامٍ آخر، قال له: هكذا فعل معي. قال له: معه حق، فانصرف فقال له: أين الأجرة؟
لن تستطيع أن تدخل إلى مكانٍ إلا وفي جيبك أتعاب هذه الاستشارة إلا في المسجد، فاسأل ما بدا لك، هؤلاء الذين سخَّرهم الله لنشر دينه يعملون لحساب الله عزَّ وجل، ويرجون رحمة الله..
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً ﴾.
[ سورة الإنسان: 9 ].
لن تجد هذا إلا في الحقل الديني.
 
الحق ميسَّر ليكون واضحاً بين الناس :
 
لن تجد إنساناً يخطب، ويصلي، ويؤم الناس حِسبةً لوجه الله تعالى إلا في المسجد، هو لا يريد شيئاً، فهذا الشيء ميسَّر..
﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾.
[ سورة القمر: 17 ]
يسَّرنا هذا الدين للنشر، ويسرنا الحق ليكون واضحاً بين الناس..
﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾.
 [ سورة النحل: 43 ]
﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً﴾.
[ سورة الفرقان: 59].
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾.
 
بالأعمال السلبية تسلم ولكنك بالإيجابيَّة ترقى :
 
الحقيقة في الإسلام حركة سلبيَّة، وحركة إيجابيَّة، الامتناع هو الاستقامة، امتنع عن الكذب أمر جيد، صادق، امتنع عن الغيبة، وعن أكل المال الحرام، وعن الإيقاع بين الناس، وعن محاكاة الآخرين ـ تقليدهم ـ فالذي يقول: أنا لم أغتب، ولم أزنِ، ولم أسرق، ولم أقتل، ولم ولم، هناك مئة ألف بند تسبقها لَم، ومعنى هذا أنت مستقيم، الاستقامة تؤدي إلى السلامة، ولكن الأعمال الأخرى أعمال إيجابيَّة؛ إنفاق، وطلب علم وتعليمه، والإصلاح بين الناس، ورعاية الأيتام والأرامل، وطُلاَّب العلم، فهذه أعمال إيجابيَّة، فبالأعمال السلبية تسلم، ولكنك بالإيجابيَّة ترقى، وتحتل عند الله مقعد صدقٍ عظيم، بالأعمال السلبية تسلم، وبالإيجابيَّة تسعد، والسلامة والسعادة مَطْلَبَان أساسيان عند كل إنسانٍ كائناً من كان. لدينا الإنفاق..
﴿ مَاذَا يُنْفِقُونَ ﴾.
الإنفاق عندنا ـ هنا في الآية ـ بديهي، سألوا النبي: ننفق أو لا ننفق؟ قال: ماذا نُنْفِق؟ كم ننفق؟ ولمَن ننفق؟ وما نوع الذي ننفق؟ أما الإنفاق كإنفاق أمرٌ فمقطوعٌ به، هذا المعنى أحياناً يستشف من آية أخرى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾.
[ سورة الملك: 2 ].
لا ليبلوكم أتنجحون أم تسقطون؟ لا ليبلوكم أتحسنون أم تسيئون؟ لا، ينبغي لك أن تكون محسناً، وهذا مفروغٌ منه، أما الامتحان: ﴿ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾، الجامعات الراقية جداً، والتي اختارت طُلاَّبها بعنايةٍ فائقة، وبمجموعٍ عالٍ جداً، هذه الجامعات تعطي امتحاناً لا ليفرز الناجحون مِن الراسبين، لا، لأنهم ناجحون كلهم، ولكن ليصنَّف الناجحون في مراتب، امتحانات الجامعات الراقية يكون لتصنيف الناجحين في مراتب، لا لفرزهم إلى ناجحين وراسبين، الرسوب ليس وارد إطلاقاً.
في هذه الآية عدم الإنفاق ليس وارداً إطلاقاً، أما الذي يجب أن يكون فهو الإنفاق، لم يُسأل النبي عن الإنفاق، ولكن سئل: ماذا ننفق؟ ولمَن ننفق؟
 
معنى الإنفاق :
 
الحقيقة للإنفاق معنىً موسَّع جداً؛ أن تنفق مما رزقك الله، لا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يوجد عنده شيء، إنسان عنده عِلْم، وإنسان عنده خِبْرَة، وثالث عنده قُدْرَة، ورابع عنده مهارة، وخامس عنده مال، وسادس عنده مكانة وجاه، وسابع عنده قدرة على الإقناع، فماذا تنفق؟ أنفق مبدئياً مما رزقك الله:
 
﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾
[ سورة البقرة: 3]
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾.
[ سورة البقرة: 3]
أيْ إنَّ شطر الدين الأكبر وهو الإنفاق شطره أن تعرف الله، وأن تستقيم على أمره، وأن تُنْفِق، فإنسان لا ينفق هذا إنسان لا يؤكِّد صِدْقَهُ، لماذا سمَّى الله الصدقة صدقةً؟ لأنها تؤكد صدق المؤمن، فهناك أشياء لا تكلِّفك شيئاً، فأن تأتي إلى بيت من بيوت الله شيء لطيف، فالإنسان قد يستمع إلى درس، وقد يلتقي مع أخوانه، وأن تتوضأ، وتصلي في الصيف، الصلاة نشاط، وأن تذهب إلى العمرة شيء لطيف، وسفر مريح، وتسكن في فندق، تأكل وتشرب، وتطلع، وتطوف حول البيت وتأتي، وعملنا عمرة، أما حينما تؤمر أن تنفق من مالك ـ المال محبَّب ـ وطبعك يقتضي أن تأخذه لا أن تنفقه، فحينما تنفق المال هذا يؤكِّد صدق المؤمن، فالحقيقة الصدق يظهر في الأعمال المُتْعِبَة، ولذلك سمىَّ الله عزَّ وجل التكليف تكليفاً لأنه ذو كُلْفَة.
 
إن أردت أن تنفق من مالك فيجب أن يكون هذا المال مالاً حلالاً:
 
إذاً الإنفاق مفروغٌ منه، لم يُسأل عنه النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن سُئل: ماذا ننفق؟ فجاء الجواب إجابةً للسؤال وزيادةً عليه، ما هي الزيادة؟ فقال الله عزَّ وجل:
﴿ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ ﴾.
[ خير ] يجب أن تنفق خيراً، أي تنفق مالاً حلالاً، وأن تعطي علماً نافعاً، لا أن تُعَلِّم السحر، وأن تنفق من مالٍ حلال، وأن تطعم طعاماً طيِّباً تأكله أنت وتقبل عليه، لا أنك إذا كرهت الطعام أنفقته، فهذه كلمة [ خير] واسعة جداً، إن كانت بالجاه يجب أن تعين مظلوماً بجاهك، لا أن تعين ظالماً على أكل مال الناس بالباطل، تقول: إنني وضعت مركزي كله، لا، وضعت مركزك كله لنصرة الظالم لا المظلوم، [ خير ]، إن أردت أن تنفق من جاهك فيجب أن يكون هذا الإنفاق خيراً لنصرة المظلوم، وإن أردت أن تنفق من مالك فيجب أن يكون هذا المال مالاً حلالاً، جمَّعته مِن كَدِّ يمينك وعرق جبينك، إن أردت أن تنفق علماً فيجب أن تنفق علماً نافعاً ينتفع به المتعلم في الآخرة، لا أن تنفق علماً يفسد حياة المسلمين.
هناك مِهَنٌ كثيرة أساسها إفساد أخلاق المسلمين، وإفساد البيوت؛ أنا أعلِّمك تصليح هذه الأجهزة، أنت ما فعلت شيئاً، أنت ما أنفقت، هذا العلم الذي تعلَّمته والذي تعلِّمه للآخرين أساسه إفساد البيوت المُسلمة، الإنفاق يجب أن يكون إنفاقاً خيراً؛ إنْ في المال، أو في العلم، أو في الجاه، أو في أيّ شيء آخر. فهذه الزيادة، أجابهم الله عزَّ وجل عن سؤالهم، وزاد عن إجابتهم بشرطية أن يكون الإنفاق من خيرٍ..
﴿ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ ﴾.
أقرب الناس إليك.
 
ربنا عزَّ وجل رفع برَّ الوالدين إلى مستوى عبادته :
 
أقرب إنسانين في الدنيا هما والداك، اللذان هما سبب وجودك، فالله عزَّ وجل جعل وجودك في الدنيا بسببهما، لذلك ربنا عزَّ وجل رفع برَّ الوالدين إلى مستوى عبادته، قال تعالى:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾.
[ سورة الإسراء: 23 ].
أعظم مظهر صارخ في حياة المسلمين بِرُّ الوالدين، بينما في بلاد الغَرْب يقيمون يوم الأم، لأن الأم مهجورةٌ سنةً بأكملها، فينبغي لها أن يذكرها ابنها في السنة كلها يوماً واحداً، أما عندنا ـ والحمد لله ـ إذا لم يرَ الأب والأم ولدهما كل يوم تكون هذه مشكلة، فليس من المعقول، ولا المقبول، ولا اللائق بإنسان كان أبوه وأمّه سبب وجوده أن يهملهما، " ليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يُغْفَر له "، ولا تشارك عاقاً لوالديه، لو كان فيه خيرٌ لكان لوالِديه..
﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ ﴾.
الحقيقة في الحياة دروس بليغة، البارُّ بوالديه موفقٌ في الدنيا، فهو قدَّم شيئاً لوالديه اللذين كانا سبب وجوده، وكانا يتمنيان أن يجوعا ليشبع، وأن يعريا ليكتسي، كم من أب يُهْمِل شراء حاجاته الشخصيَّة من أجل أولاده، وكم من أب يخرج من دمشق ـ البلدة ـ إلى ريفها ليزوِّج أولاده، بفرق سعر البيوت بين الشام وبين ريفها، هؤلاء الآباء أبطال، فهذا الأب الذي عاش من أجل أولاده، ألا يقتضي أن يكون أولاده طَوْع بنانه، وفي خدمته؟
 
صلة الرَحِم مِن أعظم الأعمال في الإسلام :
 
قال تعالى:
﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾.
أيها الأخوة؛ يوجد شيء في الإسلام دقيق جداً، إذا اهتم كل إنسان بوالديه، واهتم بإخوته الذكور والإناث، واهتم بأعمامه وأخواله، وعمَّاته وخالاته وأولادهم جميعاً، صار هناك دائرة ضمان اجتماعي، وإذا اهتم كل واحد بوالديه، وإخوته الذكور والإناث، وأخواله وأعمامه، وخالاته وعماته وأولادهن، يكون المجتمع بأكمله دون أن نشعر في ضمانٍ اجتماعيٍ موحَّد، فهذه الدوائر تتصل وتشكِّل المجتمع بأكمله، وهذا نظام الإسلام، الأقربون أولى بالمعروف، لا تُقبَل زكاة إنسانٍ وفي أقربائه محاويج، لأن الناس أنت لهم وغيرك لهم، أما أقرباؤك المُقَرَّبون إليك، لأنك تعلم سرَّهم ونجواهم، وتعلم أوضاعهم، ومعيشتهم، وحاجتهم، وكل ظروف حياتهم، مَن لهم غيرك؟ فهذا الذي يُهْمِل أهله، يهمل والديه، ويهمل أقرباءه، وذَوي قرابته ويهتم بالغرباء، هذا إنسان توازنه مختل..
﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾.
لذلك صلة الرَحِم مِن أعظم الأعمال في الإسلام، إن صلة الرحم مغطَّاة بأربعين حديثاً صحيحاً، لعلَّها تزيد في الرِزق ـ كما قال عليه الصلاة والسلام ـ وتنْسأ في الأجل، أي يمتلئ عمرك بالأعمال الصالحة فكأنه زاد، بهذا المعنى تقريباً.
 
هناك دعوةٌ إلى الله خاصةٌ لأقربائك :
 
صلة الرحم أيها الأخوة تبدأ بزيارة، وتتابع هذه الصلة بتفقُّد أحوال من حولك، ثم بالمُساعدة، ثم بالدعوة إلى الله. فهناك دعوةٌ إلى الله خاصةٌ لأقربائك، قال تعالى:
﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
[ سورة الشعراء: 214-215].
إذا اهتم كل واحد بأخواته، وأصهاره، وأولاد عمِّه وعماته، وأولاد خاله وخالاته، وزارهم، ودعاهم إلى الله، قدَّم لهم شريطاً، وقدَّم لهم هدية، وأعانهم، وعمل لقاء أسبوعياً شرح لهم فيه آية أو حديثاً، وإذا اهتم كل واحد بأقربائه، بدعوة إلى الله، فهذه أعلى درجة من الدعوة. ولا تنسَ أيها الأخ الكريم أن الدعوة إلى الله فرض عين، لا تُعفى من الدعوة إلى الله إطلاقاً لأن الله عزَّ وجل يقول:
 
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾.
[ سورة يوسف: 108 ].
كلام الله عزَّ وجل، علامة اتباعك لرسول الله أنك تدعو إلى الله، إما أن تتكلَّم، وإما أن تقدِّم للناس شريطاً، أو تدعوهم إلى مسجد، لا بد من أن تقدِّم شيئاً لهؤلاء، فهذه دعوة إلى الله في حدود ما تعلم، ومع من تعرف هذه فرض العين، وأساساً الدعوة إلى الله رُبْع النجاة:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾.
[ سورة العصر: 1-3 ].
﴿ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾.
أما اليتيم، وهو الذي فَقَد والده، أو فَقَد أمه، أو فَقَدهما معاً، فحينما يهمله المجتمع، ويرى رفاقه في بحبوحة، وفي بِشْر، وفي سعادة، آباؤهم معهم، يغدق آباؤهم عليهم كل خير، تجده يحقد على المجتمع، وقد يحقد على القدر الذي أفقده والده، وقد يكفر بالله، أما إذا وجد اليتيم رعاية كافية مِن عمِّه، ومِن خاله، ومِن جده، ومِن صديق والده، ووجد رعاية كاملة، وصلة، وإكراماً، حُلَّت المشكلة، فاليتيم أي يتيمٍ يحتاج إلى أن تنفق عليه؛ إما من وقتك، وإما مِن اهتمامك، وإما من مالِك، من أجل أن تنسيه فقده لوالده.
 
المسكين وابن السبيل من أولى الناس الذين ينبغوا أن يأخذوا من مالك :
 
قال تعالى:
﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾.
المسكين هو الذي لا يستطيع أن يكسب رزقه، هذا أولى الناس بأن يأخذ من مالك الذي تنفقه في سبيل الله.
﴿ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾.
المنقطع، فعظمة هذا الدين إذا كنت مسافراً وسُرقت محفظتك، فأنت الآن فقير فقراً طارئاً، لك بلد، ولك محل تجاري، ولك شركة، وتملك ما تملك، أما هنا فأنت لا تملك شيئاً، جعل الله لهذا نصيباً من الزكاة، أرأيت إلى هذا التضامن؟ لو كنت مسافراً في أيّ بلدٍ إسلاميّ، وفقدت مالك فجأةً بعملٍ عدواني، فأنت مَعْنِيٌّ بهذه الآية الكريمة:
﴿ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ﴾.
حينما يُنْفِق الإنسان، دققوا؛ حينما تنفقون فيما بينكم، وحينما يشتري أحدٌ منَّا هديةً ليقدِّمها لصديق، فأهم شيءٍ يحرص عليه أن يعلم هذا الصديق أن هذه الهدية منه، خطأ كبير جداً أنني إذا قررت أن أهدي فلاناً هذه الهدية، ألقيها في البيت أو أرسلها مع ابني، يدفعها وينتهي، فهذا الذي قُدِّمت له الهدية ينبغي له أن يشكرك عليها، ولكنه لا يعرف مَن أنت، فيسأل: من جاء بهذه اللوحة؟ والله لا نعرف، طفل دفعها وراء الباب وذهب، ولم يقل لنا أية كلمة، هذا خطأ كبير. لأن النبي علَّمنا أن نرُد على الهدية بهديةٍ مثلها فقال:
(( تهادوا تحابوا )).
[ مالك في الموطأ عن مالك بن عطاء الخراساني ]
وعلَّمنا إن لم نرد عليها بمثلها أن نشكره عليها، هكذا الأصول:
((من صنع إليكم معروفاً ، فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه ، فادعوا له )) .
[رواه أبو داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما]
يا أخي، جزاك الله خيراً على هذه الهدية، أما لا تعرف من أين جاءت؟! والله هذه مشكلة، فدائماً المُنْفِق يحب أن يُعلِم الذي أنفق له أن هذه منه، وهذه المشكلة عند الله محلولة.
 
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح فقط :
 
قال تعالى:
﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
حجم عملك بالضبط، مقدار التضحية، وثمن الشيء، الوقت الذي بُذِلَ من أجله، والعقبات التي زُلِّلت، والصوارف التي تجاهلتها، كله عند الله معلوم..
﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
لذلك سبب سعادة المؤمن أن علاقته مع الله، والله يعلم، الله عزَّ وجل لا يحتاج إلى بطاقة، ولا إيصال، ولا قَسَم، ولا شهود، بل يعلم السر وأخفى..
﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ ﴾.
(من) لاستغراق أفراد النَوْع، أيْ أنك إذا قدَّمت كأس ماء لإنسان عطشان فهذا خير، وأجلست امرأة متقدِّمةً في السن مكانك في السيّارة العامَّة، فهذا العمل عند الله محفوظ، أو سقيت قطةً، وأصغيت الإناء لهرَّة، وأطعمت كلباً، وتلافيت أن تقتل نملةً..
﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾.
كل أعمالك سوف تُعْرَض عليك يوم القيامة عملاً عملاً، هذا العمل هو الذي يرقى بك عند الله عزَّ وجل، والعمل الصالح يرفعه، بل إن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح فقط:
    ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾.
[ سورة الأنعام: 132 ].
 
الإنفاق هو السِمَة البارزة للمؤمن :
 
أيها الأخوة... السِمَة البارزة للمؤمن الإنفاق، هو مخلوقٌ لينفق لأن الإنفاق ثمن الجنَّة، وحجمك عند الله عزَّ وجل بحجم عملك الصالح، لكل إنسان مكانة عند الله بحسب عمله الصالح، والعمل يُقبل بشرطين: إذا كان صواباً وخالصاً؛ صواباً ما وافق السُنَّة، وخالصاً ما ابتغي به وجه الله عزَّ وجل. ونحن في الدنيا من أجل العمل الصالح لأن الإنسان عند الموت يقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
[سورة المؤمنون: 99-100].
العمل الصالح إيجابي، والإسلام إيجابي، ولا يوجد إسلام سَلْبي، وليس هناك مؤمن متقَوْقِع، ولا مؤمن مُنْسَحِب مِن الحياة، ولا مؤمن يعيش وحده، فالإسلام إيجابي ومتحرِّك، والإيمان حركة نحو الله عزَّ وجل ونحو الخلق، نحو الله عبادة ونحو الخلق إحسان:
﴿ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾
[ سورة مريم: 31 ]
أيها الأخوة آيات الدرس القادم متعلقةٌ بالقتال:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾.
 
الدليل على أن الإسلام دين الله :
 
توجد بعض الأسئلة وردتني:
ـ س1: مـا الدليل على أن الإسلام دين الله؟
الشيء الثابت في الكون هو الكون، هذا الكون أكبر دليل على وجود الله، سنبدأ بالتسلسل، الشيء الثابت عند أهل الأرض كلهم؛ وعند الكافر، والمؤمن، والمسلم، وغير المسلم أن الشمس والقمر، والليل والنهار، والنبات والحيوان، والبحار والجبال، والأطيار والأسماك هذا كلُّه دليل على وجود الله، وجود الله الخالق، المُرَبِّي، المسيِّر، العليم، الرحيم، الحكيم، هذا أكبر دليل يقرؤه كل إنسان، فالكون قرآنٌ صامت يقرؤه العربي، وغير العربي، والمسلم، وغير المسلم..
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾.
[ سورة البلد: 8].
هذا الابن الذي هو بضعةٌ مِنْك، ألا تعلم كيف تخلَّق، نقطة ماء؛ صار له جهاز عظمي يتحمل وزن خمسمئة كيلو، عظم عنق الفخذ، هذا الابن الذي أصله ماء أكيد، وأنت تعلم هذا علم اليقين صار له أسنان، ثاني أقسى عنصر في الأرض بعد الماس، فأولاً الكون أكبر ثابت يدل على الله.
وفي كل شيءٍ له آيةٌ    تدل عـلى أنه واحـدُ
*  *  *
هذا الإله العظيم من لوازم كماله ألا يهمل خلقه، أن ينبههم، تصور أباً قاعداً بالشتاء، اقترب ابنه من المدفأة وهو صغير، هل يظل الأب ساكتاً؟ ألا يتحرَّك؟ مستحيل لما في قلبه من الرحمة، قد يقوم من مقعده ليمنع ابنه من أن تمسَّ يده المدفأة، فلا بد مِن أن يرسل الله لعباده بياناً..
أنا ذكرت في مؤتمر قبل أيام أن الله خلق السماوات والأرض بالحق، وهو نور السماوات والأرض، خلقهما بالحق، ونورَّهما بالوحي، والوحي رحمةٌ كله، وعدلٌ كله، ومصلحةٌ كله، وحكمةٌ كله، وقلت: أية قضية خرجت من العَدل إلى الجَوْر، ومن الرحمة إلى القسوة، ومن المصلحة إلى المَفْسَدَة، ومن الحكمة إلى خلافها فليست من الوحي، ولو أُدخلت عليه بألف تأويلٍ وتأويل. فالله عزَّ وجل لا بد من أن يوحي لعباده، وينوِّر لهم السَبيل وأن يعرفهم بذاته، فهنا كتب سماوية، هذا الكتاب الذي لنا نحن، هذا دليل على أنه كلام الله وإعجازه، فمن جاء بهذا القرآن؟ الذي جاء به رسول الله لأنه معجز، الذي يستطيع مثلاً أن يجعل البحر طريقاً يبساً حتماً فهذا فوق طاقة البَشَر، ومعنى هذا رسول الله، فعندما يرسل ربنا إنسان يقول: أنا رسول الله. يقال له: أنت كاذب، ائتنا بشيء يدل على ذلك. فيكون معه معجزة، والمعجزة لا يستطيعها إلا خالق الكون، وهذا الكتاب معجزة مستمرة، والعلم تقدم تقدُّماً مذهلاً، ولم تظهر أية حقيقةٍ علميةٍ متناقضةٍ مع هذا الكتاب أبداً، هذا معجزة مستمرَّة.
 
القرآن كله آيات كونية دالَّة على عظمة الله :
 
ذكرت مرة: أن الله عزَّ وجل قال:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
 [ سورة الواقعة: 75]
الآن عرفوا أبعد مجرَّة حتى الآن تبعد عشرين مليار سنة ضوئية، فهذه المجرة كانت في هذا الموقع قبل عشرين مليار سنة ضوئية، وانطلق ضوؤها إلينا، وبقي هذا الضوء الذي يمشي بسرعة ثلاثمئة ألف كيلو متر في الثانية، يمشي عشرين مليار سنة حتى وصل إلينا، لكن النجم الذي أطلق هذا الضوء أين هو الآن؟ هو يسير بسرعة مئتين وأربعين ألف كيلو متر بالثانية، فإذا قال الله: مسافة بين النجوم، فهذا كلام غير مقبول، فقال:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ﴾
 [ سورة الواقعة: 75]
كلمة (موقع) لا يعرفها إلا عالِم فلَك، النجم سار، النجم أرسل الضوء وسار، ولا يعلم إلا الله موقعه الآن، من كلمة (موقع). القرآن كله آيات كونية دالَّة على عظمة الله.
فنحن التسلسل: هذا الكون يدل على خالق عظيم، ومن كمال الخالق أن ينوِّر الأرض والكون بوحيٍ، والوحي دليل أنه كلام الله وإعجازه، والذي جاء بهذا الكلام هو رسوله، وانتهى دور العقل، والعقل أوصلك أن الكون له خالق، وهذا الخالق له كتاب، والكتاب دليل إعجازه، والذي جاء بهذا الكتاب رسول الله.
الآن جاء دور النقل؛ افعل ولا تفعل، فهذا القرآن كلام الله من إعجازه، وهذا القرآن متطابقٌ مع الكون لأن المصدر واحد، والذي خلق الكون هو أنزل هذا القرآن، والذي جاء بهذا الكتاب رسوله لأن معه معجزة، وهذا النبي بيَّن هذا الكتاب.
وهذا الجواب على قولك: ما الدليل على أن الإسلام دين الله عزَّ وجل.
*  *  *
 
قيمة الشباب في الإسلام :
 
ـ س 2: إنسان سمع حديثاً: " إن أحب الخلائق إلى الله عز وجل شاب حدث السن في صورة حسنة ـ إذا لم تكن صورته حسنة، فماذا يفعل الشاب بنفسه؟ الكلام النبوي صعب أن يكون له مأخذ ـ جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته يقول: هذا عبدي ".
قال: سمعت هذا الحديث من أحد العلماء فهل هو وارد عن رسول الله؟
أنا والله لم أقرأه في الصحاح، ولعلَّه حديث ضعيف، وعلى كلٍ الشاب المؤمن الطائع لله عزَّ وجل، هذا بأحاديث كثيرة جداً صحيحة، فالنبي صلى الله عليه و سلم أثنى عليه.
((إن الله تعالى يباهي بالشاب العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي ترك شهوته من أجلي )) .
[الديلمي عن طلحة]
بل ما من شيءٍ أكرم على الله من شابٍ تائب، إنسان بالثمانين التحق بالمساجد، والله على العين والرأس، أهلاً وسهلاً، ولكن هذا هرم خالص، تحتاج إلى شاب أول حياته، كله شهوات، منضبط، غض بصره، وضبط لسانه، وضبط دخله، والآخر مقبول وعلى العين والرأس، ولكن شتَّانَ بين شابٍ مُتَّقدٍ شهوةً، ومتقدٍ نشاطاً وقد ضبط نفسه في طاعة الله.
فهناك أحاديث كثيرة جداً تثني على الشاب المؤمن. النبي الكريم عيَّن شاباً قائد جيش هو سيدنا أسامة ومن جنود الجيش سيدنا عمر بن الخطَّاب، قال له سيدنا الصديق: أتأذن لي بعمر! لأنه قائد جيش، عمره سبعة عشر عاماً، مشى الصديق في ركابه، قال له: والله يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأمشين، قال له: " والله لا ركبت ولا نزلت، وما عليَّ أن تغبرَّ قدماي ساعةً في سبيل الله "  لا يوجد دين بالأرض اعتنى بالشباب واعتنى بالصغار كعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم.
ولدينا مئات الأحاديث التي تجعل من الشباب شُعْلَة الأمة، وريح الجنة في الشباب، والآن بأي مشروع تريد أن ينجح عيِّن فيه شباب، الشاب طاقة هائلة جداً، والكبير يمل، فلذلك الشباب مُحترمون في النصوص أيما احترام، ونحن غير مضطرين لحديث ضعيف، شكله حسن، ولكن ماذا لو كان شكله غير حسن، سيدنا بلال ما كان أبيض اللون مثلاً، لكن سيدنا عمر خرج إلى ظاهر المدينة لاستقباله، خليفة المسلمين يخرج إلى ظاهر المدينة لاستقبال سيدنا بلال، وكان أصحاب النبي إذا ذكروا بلالاً قالوا: هو سيدنا ـ عن سيدنا الصديق ـ وأعتق سيدنا ـ يعنون بلالاً ـ هذا هو الإسلام:
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾.
[ سورة الحجرات: 13 ]
في الإسلام: الشيخ حدثٌ إذا كان جاهلاً، والعالم شيخٌ ولو كان حدثاً، ومراتب الدين مراتب دقيقة جداً، يتسنَّمها الطائعون، والعلماء، والمخلصون، علم وطاعة وإخلاص، أما مراتب السِن، ومراتب الجِنْس، واللون، والعرق فهذه لا قيمة لها إطلاقاً.
*  *  *
 
الحكم الشرعي لا يؤخذ إلا من الكتاب والسُّنة فقط :
 
 ـ س 3:  ذكرتم أن الحكم الشرعي يؤخذ فقط من الكتاب والسُنَّة، هل يمكن إلزام إنسان أن يأخذ أحكاماً من أفعال الصحابة الكرام؟
سيدنا عمر كيف هاجر؟ سيدنا عمر هاجر متحدياً، قال: " من أراد أن تثكله أمه فليتبعني إلى هذا الوادي "، والنبي كيف هاجر؟ هاجر خفيةً، وسار مُساحلاً، وهيَّأ كل الأسباب، وعيَّن من يمحو الآثار، ومن يأتيه بالأخبار، وعيَّن دليلاً مشركاً، غَلَّب الخبرة على الولاء، وفعل كل أسباب الهجرة، وسيدنا عمر ما هابه شيء، مشى في الطريق هكذا أمام الناس.
من هو الذي يؤخذ منه الحكم الشرعي؟ النبي الكريم، لو أخذنا حكماً شرعياً من عمر في الهجرة؛ لعُدَّ اقتحام الأخطار واجباً، ولعدَّ أخذ الحيطة حراماً، هلكت الأمة من بعد رسول الله. أما إذا أقرَّ النبي عمر على شيء فيجب أن نأخذ من عمر.
النبي له سنة، سنته أٌقواله وأفعاله وإقراره، فقد يفعل عمر شيئاً أمام النبي، فالنبي يقرُّه عليه، فأصبح سنةً، لأن النبي مستحيلٌ أن يقر على خطأ، أما إذا فعل صحابي شيئاً فهذا موقف شخصي، وهذا الموقف مسجَّل له عند الله ويرقى به، لكنه ليس حكماً شرعياً.
سيدنا الصديق شرب لبناً حراماً فاستقاءه، فإذا أكلت أكلة فتبين لك أن ثمنها مال حرام، فهل أنت مكلَّف أن تخرجها بعملية إفراغ معدة؟ لا لست مكلَّفاً، بل تتوب إلى الله وتستغفره. 
فعندنا موقف شخصي، وهناك حكم شرعي، الحكم الشرعي يسع كل المسلمين، ويؤخذ من الكتاب والسُنَّة، والسنة فيها سنة تقريرية، وهي أفعال الصحابة، ولكن لست أنت الذي تستنبط من أفعال الصحابة، فالذي يستنبط العلماء والفقهاء من أفعالهم شيئاً.
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب