سورة البقرة 002 - الدرس (71): تفسير الآيات (208 - 212) أهمية العبادات التعاملية في الدعوة إلى الله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (71): تفسير الآيات (208 - 212) أهمية العبادات التعاملية في الدعوة إلى الله

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآية: (208 - 212) - أهمية العبادات التعاملية في الدعوة إلى الله

20/03/2011 18:50:00

سورة البقرة (002)
الدرس (71)
تفسير الآيات: (208-212)
أهمية العبادات التعاملية في الدعوة إلى الله
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب النابلسي
 

 
بسم الله الرحيم الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
الإسلام منهج كامل في كلّ مناحي الحياة :
 
أيها الأخوة المؤمنون مع الدرس الواحد والسبعين من دروس سورة البقرة، ومع الآية التاسعة بعد المئتين، وهي قوله تعالى:
 
﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
والتي قبلها:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾
ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الدخول ﴿ في السلم ﴾  يعني الدخول في الإسلام، لأن الإسلام وحي الله إلى الأرض، وهو منهج الله عز وجل، فلو طبقناه لكنا في سلام، في سلام مع أنفسنا، ومع أهلنا، وأولادنا، ومن حولنا، ومن فوقنا، ومن دوننا، وفي دنيانا وآخرتنا، فتطبيق منهج الله يعني السلامة، وقد سمى الله الإسلام سلاماً لأن الإنسان فطر على معرفة الله وطاعته، فإذا عرف طاعته استقرت نفسه، واطمأن قلبه، وارتاحت جوارحه، وسعد في الدنيا والآخرة، أما كلمة ﴿ كافةً ﴾؛ الإسلام منهج كامل، لا تقطف ثماره إلا إذا أخذته كله، أما أن تنتقي منه ما يعجبك، وتدع ما لا تقدر عليه، فهذا ليس من الإسلام في شيء، فأنت لا تأخذ ثماره إطلاقاً. الإسلام منهج كامل، كامل في كل مناحي الحياة، والذين فهموا الإسلام عبادات شعائرية فقط انحرفوا انحرافاً خطيراً في فهم الدين، والإسلام هو الحياة، والفطرة، والعقل، والواقع، والحاضر، والمستقبل، وهو النفس، والجسد، والروح، إنه منهج كامل ينظم علاقتك بمن حولك، وينظمها بربك جل جلاله، فأنت في سلم وسلام، ولذلك في قلب المؤمن من السعادة والطمأنينة ما لو وزعت على أهل بلدٍ لكفتهم.
وهذا الملك الذي كان ملكاً ثم ترك الملك وصار عارفاً بالله واسمه إبراهيم بن الأدهم، قال: لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف.
 
ثمار الإسلام لا تقطف إلا في مجتمع مسلم :
 
إذاً: ادخلوا جميعاً في السلم من أجل أن تقطفوا ثمار هذا الدين،  تصور مسجداً متواضعاً فيه أناس طيبون، صادقون، أمناء، مخلصون، متقنون، فإذا عشتَ مع هؤلاء فكأنك في جنة، لا يوجد مشكلة، تنام مطمئناً، مرتاح البال، لا أحد يكذب عليك، ولا أحد يطعنك من الظهر، لا يحتال عليك، لا ينافق لك، إذا عشت في مجتمع مؤمن فأنت في جنة، ولا نقطف ثمار هذا الدين إلا إذا دخلنا جميعاً في هذا الإسلام، أما إنسان صادق بين الكاذبين، ينتفعون بصدقه، ويؤذيه كذبهم، أو إنسان أمين بين الخونة، ينتفعون بأمانته، ويؤذيه خيانتهم، وإنسان عفيف بين المنحرفين، ولا يمكن قطف ثمار الإسلام إلا في مجتمع مسلم، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ ﴾.
[ سورة النور: 31 ]
غض البصر: إذا كنت في مجتمع ملتزم، كامل، ونساؤه كلهن محجبات، تعيش مرتاحاً، فالطالب في دراسته، والعامل في معمله، والتاجر في متجره، أما حينما تعرض المرأة كل مفاتنها في الطريق على من يعرفها، ومن لا يعرفها، ومن تحل له، ومن لا تحل له، فإنّ الحياة تفسد. فإذاً المعنى الدقيق في هذه الآية، وأنا أود أن أركز عليه، نحن مكلفون أن نطبق الإسلام شئنا أم أبينا، فهذا تكليف الله عز وجل، ولكننا لا نستطيع أن نقطف ثماره اليانعة إلا إذا طبقناه جميعاً، وكلنا صادقون، وأمناء، وأعفاء، ومتقنون، وجادون، وأصحاب همة عالية، وعندئذٍ يكون هذا الإسلام المطبق أبلغ من كل قول يقوله الدعاة، وأذكركم بمقالة مهمة؛ هي أن العالم الغربي الذي نحرص على هدايته، لا يمكن أن يهتدي بالكلام، ولا بالمؤلفات، ولا بالأشرطة، ولا بالمحاضرات، ولا بالمؤتمرات، هذا العالم لا يقيم الإسلام تقييماً صحيحاً إلا إذا رأى مجتمعاً مسلماً حقاً، فيه كل ثمار هذا الدين، أما إذا رأى فكراً، أو كلاماً، أو خطابةً، أو كتاباً، أو شيئاً لا يتصل بالواقع، يبقى الإسلام محاصراً، ويبقى ضعيفاً، والذي أتمنى أن يكون واضحاً لديكم، العبرة ألاّ ينفرد الباطل بالساحة، وأن يكون هناك حيز للمؤمنين في ساحة الحياة الدنيا، ولو كان صغيراً، تدخل إلى المسجد فكلهم يصدقون، ولا يخونون، ولا يحتالون، ولا ينافقون، إنّ مسجداً صغيراً طبق فيه الدين خيرٌ من ألف محاضرة تلقى على الناس، لأن الناس يتعلمون بعيونهم، ولا يتعلمون بآذانهم، ولغة العمل أبلغ من لغة القول، فأنت حينما تطبق الدين تكون أكبر داعية وأنت صامت، وهذا معنى قول النبي الكريم استقيموا يستقم بكم.
 
على كلّ واحد منا أن يكون داعية إلى الله وهذا فرض عين :
 
الذي أقرأه من حين إلى آخر عن أناس عظماء دخلوا في الدين لا لأنهم قرؤوا كتاباً فأقنعهم، ولا لأنهم استمعوا إلى محاضرة فتأثروا بها، بل دخلوا في الدين لأنهم رأوا مسلماً أمامهم يتمثل كل قيم الإسلام، فرأوا مسلماً صادقاً، ومسلماً أميناً، ومسلماً واضحاً صريحاً، فأنت حينما تطبق تعاليم الدين تصبح أكبر داعية وأنت ساكت، غض البصر مثلاً دعوة إلى الله.
كنا في الحج فرأينا رجلاً من ألمانيا يطوف حول الكعبة، سألنا عنه، فكان الجواب أن سبب إسلامه طالب من سورية، سكن عنده في البيت، وكان عنده فتاة جميلة، فتمنى صاحب البيت أن يضبط هذا الشاب وهو ينظر إلى ابنته، إنّ غض بصر الشاب الحازم جعل هذا الإنسان صاحب البيت يتساءل: ما هذا الدين الذي يعتنقه؟ وما هذه الإرادة القوية الحديدية التي يملكها؟ كيف انتصر على نفسه؟ وعلى شهوته؟
أيها الأخوة: أقول لكم مرات ومرات، استقيموا يستقم بكم، ينبغي أن يكون كل واحد منكم داعية إلى الله، وهذا فرض عين.
 
﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ﴾.
[ سورة يوسف: 108 ]
فإن لم تكن داعية إلى الله فلست متبعاً لرسول الله.
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾.
 [ سورة العصر: 1 ـ 3 ]
التواصي بالحق، والدعوة إلى الله على بصيرة هو الحد الأدنى من صفات المؤمن، وهو فرض عيني في حدود ما تعلم، ومع من تعرف، وصدق أن أعظم شيء تفعله أن تكون مطبقاً للدين، ووقافاً عند كتاب الله، ومتبعاً لسنة رسول الله، إنك حينها تدعو إلى الله عز وجل دون أن تشعر.
 
العبادات التعاملية هي التي ترسخ معالم هذا الدين :
 
الذي ينجذب الناس إليه ليست العبادات الشعائرية ولكن الناس ينجذبون إلى العبادات التعاملية، فلذلك: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾، فالتأكيد على كلمة كافة، ثمار هذا الدين عظيمة جداً، فأناس ضعاف فقراء بعيدون عن الثقافة، جاءهم هذا الوحي من السماء، فكانوا يأكلون التمر، ويركبون ظهور الخيل، فحياتهم خشنة جداً، صحراء قاحلة، وعادات جاهلية، وانحراف خطير في الأخلاق، وانغماس في الخمور والربا، هؤلاء حينما اتبعوا النبي الأمي دانت لهم الأرض من شرقها إلى غربها، لقد كانوا رعاة للغنم فصاروا قادة للأمم، لا لأنهم فهموا الدين فهماً مثالياً، بل لأنهم طبقوا الدين، والله الذي لا إله إلا هو لو فَهِمَ أصحاب النبي عليهم رضوان الله الإسلام كما نفهمه نحن، والله ما خرج من مكة المكرمة، ولكن لأنهم فهموا الدين عدلاً، وفهموه رحمةً، وحكمةً، وإنصافاً، وصدقاً، وأمانةً، ولذلك انتشر الإسلام في الخافقين.
 لمّا أرسل النبي عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه وهو عبد الله بن رواحة ليقيِّم تمر خيبر، أراد اليهود إغراءه ببعض حلي نساءهم، فلعله يقلل قيمة تقدير تمورهم، فقال هذا الصحابي الجليل: واللهِ لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم عندي أبغض إلي من القردة والخنازير، ومع ذلك لن أحيف عليكم، فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض، وبهذا غلبتمونا، فإذا أردنا أن نكون قادةً للأمم يجب أن نكون مع الحق، والعدل، والصدق، وإنّ الذي نفعله من عبادات شعائرية لا يجذب الناس إلينا، أما العبادات التعاملية فهي التي ترسخ معالم هذا الدين: ﴿ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ﴾، كلمة كافة تعني: أنه يجب أن ندخل جميعاً في الدين، من أجل أن نقطف ثماره، وعلينا أن نأخذ بفقرات الدين كلها واحدةً واحدة،  كافةً تعني: مجموع الداخلين في الدين، وتعني مجوع بنود الدين: ﴿ ادخلوا في السلم ﴾ (في) تعني شيئاً ضمن شيء، أي إنك دخلت كلك في الدين، لم تدخل أعضاؤك وبقي قلبك، وما دخلت أعضاؤك وبقيت عيونك تخالف فيها منهج الله، ودخلت تجارتك في الدين وبقي بيتك، ودخل بيتك وبقيت تجارتك، فيجب أن تدخل جميعاً، بقضِّك وقضيضك، جسماً، وروحاً، ونفساً، وفكراً، وعقلاً، ووقتاً، وحرفةً، ولهواً، وفرحاً، وحزناً، أن تدخل في الدين جميعاً: ﴿ ادخلوا في ﴾، وسُمّي هذا الدين سلماً، لأنك إن دخلت فيه فأنت في السلم أبداً.
 
ربنا عز وجل بدأ الخلق بتجربة وضعها بين أيدينا :
 
قال تعالى:
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً ﴾
[ سورة النساء: 147]
يا معاذ ما حق العباد على الله إذا هم عبدوه، قال: ألاّ يعذبهم، ﴿ادخلوا في السلم﴾، لا يوجد أحد من بني البشر على الإطلاق إلا ويتمنى السلامة والسعادة، والسلامة والسعادة لا تكونان إلا في تطبيق تعاليم هذا الدين، وتطبيق تعليمات الصانع ﴿ ادخلوا في السلم كافة ﴾، ادخلوا جميعاً، وطبقوا جميع بنود الدين، هذا إن كنتم مؤمنين ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ يا من آمنتم بالله خالقاً، ورباً، ومسيراً، يا من آمنتم بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، يا من آمنتم به موجوداً، وواحداً، وكاملاً، هو الكامل، وهو الواحد، وهو الأحد، وهو الفرد، وهو الصمد، وهو العليم، وهو القدير، وهو الحكيم، وهو الغني، وهو الودود، إن آمنت بأسمائه الحسنى فهذا منهجه ﴿ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين﴾. بدأ ربنا عز وجل الخلق بتجربة وضعها بين أيدينا، أن إبليس لعنه الله أراد أن يُخرج آدم وزوجته من الجنة: ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾.
﴿ ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ﴾.
[ سورة يس: 60 ]
 حينما يتحرك الإنسان وفق وسوسة الشيطان فهو مع الشيطان، والشيطان بريء منه يوم القيامة.
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾.
[ سورة إبراهيم: 22 ]
﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾
[ سورة البقرة: 208]
 
حينما يطيع الإنسان الشيطان لا يرضى إلا أن يضعه في الحضيض :
 
قال العلماء: الشيطان ذكي جدّاً فلا يأمرك بالكفر، ولكنه يأمرك بمخالفة بسيطة، فإن أطعته فيها أمرك بأكبر منها من وقت إلى آخر، حتى تجد نفسك أخيراً في الكبائر، ذكر لي أحدهم في سفرتي الأخيرة أن شاباً مسلماً يساكن فتاة دون عقد زواج مدني ولا ديني، أبداً، سئل ما تفعل؟ قال: إنّ الإسلام لم يحلّ لي مشكلتي هنا، وأنا بحاجة، إذاً تزوجها!! أجاب: هي لا تصلح لي زوجة، لقد نامت مع عشرات الرجال قبلي، وصل به الشيطان إلى أن يرتكب الزنى كل ليلة، دون أن يحسب حسباناً للحرام، فحينما يطيع الإنسان الشيطان لا يرضى إلا أن يضعه في الحضيض، فالشهوات كأنها صخرة مستقرة على رأس جبل، إن زحزحتها من مكانها لن تستقر إلى في قعر الوادي ﴿ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾، الزناة بدؤوا بنظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء، والذين شربوا الخمر بدؤوا بشربه بالمناسبات، ثم أصبحوا مدمنين على الخمر، فقضية الإنسان قضية ديناميكية بالتعبير الحديث، أي أنّ كل طاعة تنقلك إلى طاعة أكبر، وكل معصية تنقلك إلى معصية أكبر، فالشيطان لو فرضنا بدأ بأكبر شيء، فدعا الإنسان إلى الكفر فوجد إيمانه قوياً، ثم دعاه إلى الشرك فوجده موحِّداً، ثم دعاه إلى البدع فوجده مطبقاً للسنة، فدعاه إلى الكبائر فوجده ورعاً، فإلى الصغائر فوجده متمسكاً، فدعاه إلى المباحات حتى يغرق فيها، فوجده زاهداً، فإلى التحريش بين المؤمنين، فهناك نقطة مهمة جداً، هناك معاصٍ لها وهج، ولها جذب، فمثل هذه المعاصي لستَ مكلَّفاً بالامتناع عنها فحسب، بل أن تمتنع عن أسبابها أيضاً، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾.
[ سورة البقرة: 187 ]
اجعل بينك وبين الحد هامش أمان، غض البصر هامش الأمان فيه عدمُ صحبة الأراذل، وعدمُ الاختلاط، والانغماسُ في متع رخيصة، أما إذا تجاوزت هذا الحد فقد وقعت في المعصية، كمثلِ نهر عميق له شاطئ مائل زلق، وله شاطئ مستوٍ جاف، أنت إن وقفت على الشاطئ المائل الزلق وقعت في النهر، وإن وقفت على الشاطئ المستوي الجاف فأنت في أمنٍ وبحبوحة.
 
الشيطان يعدنا الفقر وخالق الكون يعدنا بمضاعفة الأجر :
 
﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾ ولو سألت العصاة والمذنبين والذين انغمسوا إلى قمة رؤوسهم في المعاصي والآثام: كيف وصلتم إلى هنا؟ لقالوا: واللهِ بدأنا بكلمة، ونظرة، وفيلم، وصحبة،  ورحلة، ولقاء، وانتهى اللقاء إلى زنى، وإلى شرب خمر، وإلى أكل المال الحرام، فحينما يراك الشيطان قد تهاونت في السنة طمع أن تترك الفرض، إن رآك تهاونت في غض البصر طمع أن تفعل بعد غض البصر شيئاً، كلما أطعته في معصية أمرك بأكبر منها، وهذا توجيه رب العالمين: ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكل عدو مبين ﴾، خالق الكون ينصحنا، الشيطان عدو مبين فانظر إلى الخواطر، الشيطان مثلاً يخوفك مما سوى الله، مع أن الذي تعبده يحميك، ولو أن الذي تعبده لا يحميك لمَ تعبده، لا تستمع إلى تخويف الشيطان، فإنّ الشيطان يعدك الفقر، وخالق الكون يعدك بمضاعفة الأجر.
﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ﴾
[ سورة البقرة: 276 ]
(( أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً )).
[السيوطي في الجامع الصغير]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
(( يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. وَقَالَ: يَمِينُ اللَّهِ مَلْأَى. وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: مَلْآنُ سَحَّاءُ لَا يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )).
[رواه مسلم عن أبي هريرة]
إنَّ الشيطان يعدك الفقر، ويزين لك المعصية، ويزهدك في الحلال، كم من إنسان منحرف يكره زوجته ويحب امرأة بالحرام، هذا من فعل الشيطان، الشيء الحلال المباح يكرهه، وهو زاهد فيه، والتي دون مستوى زوجته بكثير يطرب لها، ولكلامها، ولحركتها، ويزيِّن الشيطان له المعصية، ويزهده في الطاعة، احذر الشيطان في كسب المال، وفي العلاقة بالنساء، وفي كل شيء، وكلما رأيت إنساناً مثلاً مدمراً فقل: هذا من عمل الشيطان، وإنساناً غارقاً في المعاصي والآثام، وإنساناً دمر حياته الزوجية، وآخر أدمن القمار، والشرب، وكسب الحرام، فقل: هذا من عمل الشيطان ﴿ إنه لكم عدو مبين ﴾.
 
الورع ملاك الدين :
 
قال تعالى:
﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ*َفإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ ﴾.
قال العلماء: زل بمعنى زال، فهناك منهج، وهناك خط مستقيم أنت عليه فإذا خرجت عن هذا الخط بدأت المتاعب، ومادمت في طاعة الله فأنت في أمن، وبحبوحة، ورعاية الله، وحفظه، أما إذا انحرف الإنسان ﴿ فإن زللتم ﴾  يعني الآن الكواكب تدور بمسارات حول بعضها بعضاً.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ﴾.
[ سورة فاطر: 41 ]
لو أن الأرض زالت عن مسارها لزالت وانتهت، لأن الأرض حينما تزول عن مسارها تصل إلى درجة الصفر المطلق، وفي هذه الدرجة تنعدم الحركة الذرية في الكواكب، ويموت كل ما عليها، فإذا زالت زال كل ما عليها، وهذا المثل الكوني مطبق على الإنسان، أنت إن انحرفت ذهب عنك كل الخير، ولذلك الورع ملاك الدين.
(( ركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط )).
[أبو نعيم عن أنس]
الورع ملاك الدين، ﴿فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات﴾، لا يوجد عذر.
﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.
[ سورة الأنعام: 54]
﴿ ثم تاب من بعده وأصلح ﴾ أما إذا كان الإنسان يعلم كل شيء، فإنّ توبته تكون عسيرة جداً.
 
معنى كلمة (عزيز) :
 
قال تعالى:
﴿ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾
بعد البينات وبعد التوضيح وبعد البيان لا يوجد عذر، فالجاهل معذور، أما الذي طلب العلم، وعرف الحلال والحرام، فكيف يعذر عند الله عز وجل؟ ومع ذلك فالإنسان حينما يخطئ من له غير الله، وحينما تزل قدمه من له غير الله، أي يجب ألاَّ تفكر إلا في التوبة، ومهما تكن الشروط والظروف فإنّ الله عز وجل عزيز حكيم، عزيز لا ينال جانبه، وليس من السهل أن تصل إليه، وقال العلماء: عزيز أي تشتد الحاجة إليه، ويندر مثله، ومن الصعب أن تصل إليه، فالله عزيز، عزيز أي ليس مثله شيء، إذا قلنا: شيء عزيز أي قليل، بضاعة نادرة، وإذا قلنا: هذه البضاعة عزيزة أي هي نادرة، وقليلة جداً، قد تبحث عنها طويلاً حتى تجدها، فإذا قلنا: الله عزيز أي ليس كمثله شيء، وتشتد الحاجة إليه، إذْ يحتاجه كل شيء في كل شيء.
الشيء الثالث: ليس من السهل الوصول إليه، فالله عز وجل عزيز، وسلعته غالية، حتى يقبل عليك، وحتى يتجلى عليك، وحتى يملأ قلبك نوراً وإيماناً، وحتى يدافع عنك، وحتى يؤيدك بنصره، فأنت تحتاج إلى طاعته، وإلى أن تجاهد نفسك وهواك في سبيله، كلمة دكتوراه عزيزة، ويمكن لأيِّ إنسان مثلاً أنْ يشرب كأساً من الشراب في الطريق ثمنه خمس ليرات، أو عشر ليرات، أو خمسون ليرة، فهو مبذول لكل الناس، أما شهادة الدكتوراه فهي ليست مبذولة لكل الناس، تحتاج إلى ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، وفرع بالجامعة، وتقدير جيد جداً، ودبلوم عامة، ودبلوم خاصة، وماجستير، ودكتوراه، وتأليف كتاب، وأخيراً مناقشة الأطروحة، يقول لك: أربعون سنة حتى نلت هذه الشهادة، هي شيء عزيز: ﴿ فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾، عزيز ليس كمثله شيء، واحد، إذا كان الشيء عزيزاً أي قليلاً، لكنه متعدد، أما الله فعزيز واحد، تشتد الحاجة إليه، يحتاجه كل شيء في كل شيء، يصعب الوصول إليه إلا بالصدق.
 
من عاهد الله عز وجل يجب أن يكون عند حدود هذا العهد :
 
قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾.
[ سورة العنكبوت: 69 ]
عندما تزل قدمك وتقول: غداً أتوب، وتزل، وتتوب بهذه البساطة!!! لا، الله عز وجل عزيز، أول توبة سهلة جداً، لمجرد أن تقول: يا رب، تبت إليك، يقول لك: عبدي، وأنا قد قبلت، ويزيح عنك هموماً كالجبال، أما كلما تبت إليه نقضت التوبة!! فالله عز وجل عزيز، فقد تجد الطريق مغلقاً، والباب مسدوداً، والإقبال عسيراً، ﴿ فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾، يعني إن زللتم قبل أن تأتيكم البينات فالقضية سهلة جداً، وأما إن زللتم بعد أن جاءتكم البينات، فتوبة الذي يعلم أصعب من الذي لا يعلم، قال العلماء:  لو أن الإنسان دخل في الدين في رمضان، ولم يعلم أن مقاربة الزوجة تنقض الصيام، فلا شيء عليه، ما دام هناك جهل فالقضية سهلة جداً، ولكن ترتكب المعصية بعد العلم، عندئذٍ صار الطريق إلى الله صعباً  فالتوبة مع الجهل سهلة جداً، أما العائد إلى ذنبه كالمستهزئ بربه باستمرار، عندئذٍ فالله عزيز، وقد لا تجد إليه الطريق سالكاً، قد تجد عقبات وعقبات، هذا معنى كلمة: ﴿فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم﴾، وإذا تعامل الإنسان مع الله ينبغي له أن يعامله بإخلاص، وبصدق، وافتقار، ووفاء، قال تعالى:
﴿ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ﴾.
[ سورة الأعراف: 102]
أنت حينما تعاهد الله عز وجل فالشيء الرائع أن تكون عند حدود هذا العهد، أما حينما تعاهد وتنقض، وتعاهد وتنقض، ﴿ فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾، ربما لا يسمح لك أن تقبل عليه، وقد يصرفك عن أهل الحق.
 
التوبة الثانية تحتاج لعمل صالح حتى يقبلها الله :
 
مثلاً: إنسان يحضر ويغيب، ويحضر ويغيب، ويؤثر أتفه سبب على درس العلم، إذا زاره إنسان ترك الدرس، وإذا كان جالساً مع زوجته ترك الدرس، يأتيه وقت ما لا يحضر الدرس، ويكون الله قد طرده، ﴿ فاعلموا أن الله عزيز حكيم ﴾، أتاك ضيف فاحضر وإياه، ما معنى قوله تعالى:
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾.
[ سورة السجدة: 16 ]
لا يركن للدنيا، وقاف عند كلام الله، مطبق للسنة، يلتزم دروس العلم، ويضبط شهوته،  ويعرف أنه بعد المعرفة لو زلَّت قدمه لكانت المشكلة كبيرة، فعد للمليون قبل أن تقترف معصية وأنت تعلم، إن كنت لا تعلم فالقضية سهلة جداً، أما حينما تعلم فقد وقعت في مشكلة كبيرة، ومع ذلك لو زلت القدم ـ مع العلم أنْ ليس لنا غير الله عز وجل ـ فإني أقترح على الإنسان إذا كان يعلم وزلَّت قدمه أنه يحتاج إلى عمل صالح ليمحو السيئة، لقول الله عز وجل:
﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ .
[ سورة هود: 114]
إذاً إذا تاب الإنسان ثم عاد إلى ذنبه فإنّ التوبة الثانية أصبحت صعبة، فيحتاج أن يدعمها بعمل صالح، بإنفاق المال، وبصيام طويل، حتى تُرَمَّم نفسه، والإنسان حكيم نفسه، أجمل حالة يعيشها المؤمن أن يكون مع الله، وأن تكون العلاقة بالله عامرة.
 
الإنسان يمر في حياته بأربع مراحل :
 
يقول الله عز وجل:
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.
يقول الله عز وجل: يريدون أن يروا آيات صارخة بأم أعينهم، مع أن الكون كله آيات دالة على الله عز وجل، فهذا الذي لا يهتدي إلى الله بوضع الكون الراهن وما فيه من آيات عظيمة دالة على وجوده، وكماله، ووحدانيته، لن يستفيد بخرق قوانين الكون، والإنسان حينما يطلب معجزة، وتأتيه معجزة ولا ينتفع بها فقد قضي الأمر، أهلكه الله عز وجل لأنه آخر شيء، ذكرت مرة في خطبة أن الإنسان يمر في حياته بأربع مراحل:
 
1 ـ الدعوة البيانية :
 
أول مرحلة الدعوة البيانية، عن طريق الأنبياء، والمرسلين، والدعاة الصادقين، فأنت أمام كلام لطيف، كلام عميق وواضح ومعه أدلة، وهذا الكلام بيَّن لك سر وجودك، وغاية وجودك، فإذا لم يستجب الإنسان، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[سورة الأنفال: 24]
 
2 ـ التأديب التربوي :
 
إذا لم يستجب، فقد دخل في مرحلة ثانية، دخل في التأديب التربوي، قال تعالى:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
[ سورة السجدة: 21 ]
 
3 ـ الإكرام الاستدراجي :
 
إن لم يرجع، فقد دخل في تربية ثالثة، دخل في الإكرام الاستدراجي، أي دعاك فلم تستجِب، وشدَّد عليك فلم تتب، أكرمك فلم تشكر.
 
4 ـ القصم :
 
ماذا بقي؟ هذا الإنسان الذي لم يستفد لا بالدعوة البيانية، ولا بالتأديب التربوي، ولا بالإكرام الاستدراجي، يحسم أمره، فيُقصَم ظهرُه قصماً، القرآن واضح، وكل إنسان يسأل نفسه: أين أنا من هذه المراحل، إذا كنت في الدعوة البيانية فأنت رائع، والدعوة البيانية سهلة، كلام بكلام، تأديب ما فيه شيء مقنع استجيب، كلام الله واضح وضوح الشمس  فطبِّقه، وسنة النبي واضحة وضوح الشمس فطبِّقها، لم تكن هناك استجابة إذ ضيق الله عليك الآن تب من هذا الذنب، لم تتب فبدلك الله مكان السيئة حسنة فاشكره، لا يستجيب بدعوة بيانية، ولا يتوب بتأديب تربوي، ولا يستحي من الله بإكرام استدراجي، بقي القصم، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ﴾
[ سورة الأنعام: 44 ]
لا تنتظر أن يأتيك الله عز وجل بالمعجزات لأنّ الكون كله معجزة، وإذا جاءت هذه المعجزات كما جاءت لعاد وثمود وقوم موسى فقد جاءت المعجزات كما أرادوا فلم يؤمنوا فقصمهم الله عز وجل، عندئذ قضي الأمر ﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾.
 
معنى تبديل النعمة :
 
أيها الأخوة، يقول الله عز وجل:
﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
الآيات من رحمة الله بنا، هناك آيات كونية، وآيات قرآنية وتكوينية، وهذه الآيات سبب معرفة الله عز وجل، ومعرفته سبب السعادة في الدنيا والآخرة، فإذا لم يعبأ الإنسان بهذه الآيات، ولم يفكر فيها، ولم يأخذ بها، فقد شقي في الدنيا والآخرة ﴿ ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته ﴾، لقد كانت نعمة كي يعرف الله بها فيطيعه، فيسعد في الدنيا والآخرة، ولكنه لم يعبأ بها، بل جعلها معطلة فشقي في الدنيا والآخرة، والآن أي نعمة، أعطاك الله نعمة البصر، فإن لم تستخدم هذه النعمة فيما أراد الله عز وجل فقد كفرتها، وأعطاك نعمة العقل، فإن لم تعمل العقل فيما أراد الله عز وجل فقد كفرت بنعمة العقل، ونعمة السمع فإن لم تصغِ إلى الحق فقد كفرت بهذه النعمة، ونعمة الصحة فإن لم تستغلها في طاعة الله فقد كفرت بهذه النعمة، ونعمة الفراغ فإن لم تملأ الفراغ بما يرضي الله عز وجل فقد كفرت بهذه النعمة، ونعمة الأمن فإن لم تستخدم هذه النعمة في طاعة الله عز وجل فقد كفرت بهذه النعمة، وهذا معنى تبديل النعمة، أي أن تستخدمها لغير ما أراد الله عز وجل، وأعطاك طلاقة اللسان فهذه النعمة إن لم تستخدمها في ذكر الله فقد كفرت هذه النعمة.
 
كل نعمة من نعم الله إن لم تستخدمها وفق ما أراد الله فقد كفرت به :
 
أيمكن لإنسان أنْ يشتري جهازاً معقداً جداً، كمبيوتر مثلاً ثمنه ثلاثون مليوناً، ثم يستخدمه منضدة؟ يكون حينئذ قد كفر به، فمثل هذا الجهاز لا يستخدم كمنضدة ثمنها ألفا ليرة أمام خمسة وثلاثين مليون ليرة!! أنت كفرت بهذه النعمة، أيستخدم إنسان أداة منزلية للتنظيف مصنوعة من الذهب الخالص؟ كفرت بنعمة الذهب الخالص، وكل نعمة من نعم الله عز وجل إن لم تستخدمها وفق ما أراد الله فقد كفرت بها، بل كفرت بالمنعم الذي أنعم الله عليك بهذه النعمة، والله عز وجل هدانا بالكون فلم نعبأ به، هدانا بالقرآن فلم نعبأ ولم نتدبر آياته، هدانا بأفعاله فلم نعتبر بها، بل أردناها أرضيةً، وهذا من الكفر بالنعمة.
  مثلاً النبي الكريم قال: "أصبح مؤمن بي وكافر"، ينقل عن ربه هذا الحديث، ذكرته في خطبة، فحينما أصابهم المطر من قال: أمطرنا بفضل الله ورحمته فهو مؤمن، ومن قال: أمطرنا بنوء كذا ونوء كذا فهو كافر، وإذا نسي رحمة الله عز وجل وعَدَّ المطر قضية أرضية تتحرك بقوانين عادية من دون مشيئة الله عز وجل، فهذا الذي يعزو هذه الأمطار التي أكرمنا الله بها إلى أشياء أرضية لا صلة لها بالخالق فقد كفر، وهذا معنى تبديل النعمة، أعطاك نعماً يجب أن تتحرك من خلالها وفق منهج الله عز وجل، ويجب أن تشكر الله عليها، إن استخدمت العقل لدحض الحق فقد كفرت بالله، وكفرت بنعمة العقل، وأعطاك طلاقة لسان، فإن استخدمت هذه الطلاقة لترويج الباطل والرد على أهل الحق فقد كفرت بهذه النعمة، وأعطاك فكراً دقيقاً، فإن استخدمته بالإيقاع بين الناس، وفي جمع الدرهم والدينار في طريق غير مشروع فقد كفرت بهذه النعمة، وأعطاك نعمة البصر، فإن تأملت بها عورات المسلمين كفرت بهذه النعمة، وأعطاك نعمة السمع، فإن لم تستمع إلى الحق واستمعت إلى الباطل فقد كفرت بهذه النعمة، وهذا معنى تبديل النعمة: ﴿ سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ﴾، وقد أعطاك نعمة الآيات الكونية الدالة على عظمته، ونعمة الآيات القرآنية الدالة على كلامه، ونعمة النظر في أفعاله، فلم تفعل ذلك، بل بدلت هذه النعم إلى نقم فإن الله شديد العقاب. ثم يقول الله عز وجل:
﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾
الدنيا تملأ أعينهم وهي منتهى آمالهم، ومحط رحالهم، وهي كل شيء في حياتهم.
     
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾
[ سورة الروم: 7 ]
لذلك فالكفار زينت لهم الحياة الدنيا.
 
كن مع من يجانسك لا مع من يجالسك :
 
قال تعالى:
 
﴿ وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾.
ولذلك قال الله تعالى:
﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾ .
[ سورة القلم: 2]
أنت من أعقل العقلاء والمجنون من عصى الله عز وجل، فدَعْك مع الكتاب، ومع سنة رسول الله، ولا تعبأ بقول الآخرين، والأصح من ذلك ألَّا تصاحب إلا مؤمناً، صاحب مؤمناً فقط، لأنك تحبه ويحبك، وتقدره ويقدرك، وتكبره ويكبرك، أما إن صاحبت شارداً عن الله عز وجل فأنت تحتفل به وهو يحتقرك.
﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
[ سورة الكهف: 28]
﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾
[ سورة لقمان: 15 ]
كن مع من يجانسك لا مع من يجالسك، جالس من تجانس ولا تجالس من لا تجانس، لا تصاحب رجلاً لا يرى لك من الفضل مثلما ترى له، وكلما كنت مع المؤمنين كنت في سعادة وفي طيب.
﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾
[ سورة الإنسان: 27]
وفي درس آخر نتابع هذه الآيات.
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب