سورة القصص 028 - الدرس (16): تفسير الأيات (77 – 83)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (16): تفسير الأيات (77 – 83)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 077 - 083)

24/01/2012 16:44:00

سورة القصص (028)
 
الدرس (16)
 
تفسير الآيات: (77 ـ 83)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العلمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 
ملخص الدرس الماضي :
 
1 – قوة السلطة وقوة المال :
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السادس عشر من سورة القصص ، وقد بدأنا في الدرس الماضي قصة قارون ، وبيَّنتُ لكم أن هذا الإنسان يُمَثِّل قوة المال ، فإذا كان فرعون يمثل قوة السلطان فإن قارون يمثلُ قوة المال .
2 – ليس المال والسلطة معيارا لمحبة الله لعبدِه :
وقد ذكرت لكم في الدرس الماضي أن الله سبحانه وتعالى يُعطي المال لمن يحب ولمن لا يحب ، وكذلك يعطي القوة لمن يحب ولمن لا يحب ، إذاً المال والقوة لا علاقة لهما برضوان الله عزَّ وجل ، رضوان الله عزَّ وجل أساسه طاعته ، فإذا كنت على منهج الله عزَّ وجل ومطبقاً لأمره فأنت في رضوانه ، وإذا كنت مخالفاً لأمره ، أو في معصيته فأنت في سَخَطِه ، أما أن تكون غنياً أو فقيراً فهذا لا يُقَدِّم ولا يؤَخِّر ، لأن الله سبحانه وتعالى أعطى المال لمن يحب ، أعطاه لسيدنا ابن عوف ، ولمن لا يحب مثل قارون ، وأعطى القوة لمن يحب ، مثل سيدنا سليمان ، ولمن لا يحب مثل فرعون ، فمادام الشيء يعطى لمن يحب ولمن لا يحب فهو إذاً ليس مؤشراً صحيحاً على حبِّ الله عزَّ وجل ، أما ما يدَّعيه بعض الأغنياء من أن الله يحبهم ، والدليل أنه أعطاهم المال ، هذا كلامٌ لا يقوم على أساس .
3 – فبغى عليهم بماله :
 
إذاً بينت لكم في الدرس الماضي أن هذا الإنسان قارون كان من قوم موسى ] فَبَغَى عَلَيْهِمْ[ ، والبغي هو الخروج عن المنهج ، والخروج عن الصراط المستقيم .
﴿وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾
(سورة القصص : الآية 76)
وإن كانت هذه الواو عاطفة إلا أن بعض العلماء يقول : إن سبب بغيه وانحرافه وطغيانه هو هذا المال الذي جعله الله بين يديه ، إذاً : إذَا نما المال بأسرع مما ينمو الإيمان فهناك خطرٌ كبير ، وهو أن يختلَّ التوازن ، ويصبح هذا المال سبباً ليحمل صاحبه على المعصية ، هذا سمَّاه النبي عليه الصلاة والسلام الغِنى المُطْغِي ، الغنى المُطْغِي أن يَدْفَعُكَ المال إلى معصية الله ..
 
﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ﴾
(سورة القصص : الآية 76)
     أيضاً المال إذا دُفِعَتْ زكاته فليس بكنز ، أما إذا لم تدفع زكاته فهو كنزٌ ، وأصحاب الكنوز لهم حسابٌ خاص عند الله عزَّ وجل .
 
﴿وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
(سورة القصص )
4 – لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ
هذا مقياس دقيق ، قال له قومه العلماء العقلاء : ]لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ [ ، أي بالدنيا .
 
 المؤمن يفرح بطاعة الله :
 
لذلك قل لي ما الذي يفرحك أقل لك من أنت ، المؤمن يفرح بطاعته لله ، يفرح بفهمه لكتاب الله ، يفرح بفهمه لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، يفرح إذا أمر بالمعروف إذا نهى عن المنكر ، إذا وفَّق بين اثنين ، إذا كان شفيعاً في نِكاح ، إذا دعا إلى الله ، يفرح إذا قدَّر الله على يديه عملاً يُسْعِده في الآخرة ، هنا يفرح فرحاً عظيماً ، لذلك إذا فرحت بالدنيا فهذه علامة ، وإذا فرحت بالعمل الصالح فهذه علامة ، لذلك قال بعض العلماء : " إذا فرحت بالعطاء فأنت من أهل الآخرة ، أما إذا فرحت بالأخذ فأنت من أهل الدنيا " ، هذه قاعدة ..
 
﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ﴾
هناك آيات أخرى يصف الله سبحانه وتعالى فيها أهل الجنة ، ويصف أحوال المتَّقين ويقول :
 
﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
(سورة يونس : من الآية 58)
     فكلمة هنيئاً ، تهانينا ، مُبارَك ، هذه الكلمات نقولها اليوم لمن يحوز بيتاً أو مركبةً ، أو متجراً ، أو بستاناً ، أو حديقةً ، أو منصباً رفيعاً ، ولكنَّك إذا أردت أن تكون صادقاً مع أخيك ، كلمة هنيئاً ومباركاً ، وأرجو لك التوفيق ، هذه الكلمات يجب أن تقال لمن اصطلح مع الله عزَّ وجل ، ولمن قدَّر الله على يديه الأعمال الصالحة ، لمن سمح الله له أن يعرفه ، لمن سخره الله في خدمة العباد ، لمن اصطنعه الله لنفسه ، لمن جعله الله داعيةً للحق ، إذا كنت في عملٍ طيِّب تسعد به في الآخرة حقاً فهنيئاً لك ومبارك ، أما البيت الفخم فلا بدَّ من أن تتركه ، والزوجة الجيدة لا بدَّ من أن تتركها ، أو من أن تتركك ، والمال الوفير لا بدَّ من أن تتركه ، إذاً : هذا الكلام لا معنى له .
5 – وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ
وصلنا إلى قوله تعالى :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
(سورة القصص : من الآية 77)
      أي أن الله عزَّ وجل آتاك هذا المال ، وكلمة مال في الفقه لا تعني المال فقط ، تعني كل شيء ، البيت مال ، مال غير منقول ، هكذا يعبِّرون في بعض البلاغات ، أموالهم المنقولة وغير المنقولة ، أمواله غير المنقولة ؛ البستان ، البيت ، المنقولة ؛ هذا النقد الذي بين أيدي الناس ، إذاً : كُلُّ شيءٍ يُنْتَفَعُ به فهو مال ، المركبة مال ، البيت مال ، الثياب مال ، فربنا عزَّ وجل قال :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
 
ماذا فعلت فيما آتاك الله ؟
 
       والله هذه الآية يجب أن تكون شعار كلِّ مسلم ، آتاك الله بيتاً هذا البيت كيف تستخدمه ؟ في سهراتٍ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل ؟ في القيل والقال ؟ في الغيبة والنميمة ؟ في لعب النرد ؟ في سهرةٍ مختلطة لا ترضي الله عزَّ وجل ؟ أم أن هذا البيت الذي اشتريته تستخدمه في تعريف الناس بالله عزَّ وجل .
هذه الغرفة كم شهدت من لقاءاتٍ أثمرت توبةً نصوحاً ، غرفة الجلوس جلست فيها أنت وأهلك وأولادك كيف كان الحديث ؟ هل ابتغيت بها وجه الله ؟ غرفة الطعام كما قُلت ، هذه المركبة ، هذه الشهادة العالية التي نِلتها استخدمتها في العلو ، أم في إقناع الناس بالحق ؟ إذا عرف الناس أنك تحمل شهادة عُليا ، يظنون بك أنَّك عالم ، فإذا وظَّفت هذه الشهادة في تعريف الناس بالله فقد ابتغيت بها الدار الآخرة .
أنجبت أولاداً لماذا أنجبتهم ؟ هل ليكونوا أولاداً صالحين يعبدون الله من بعدك ؟ أم كي تعتز بهم ؟ فلان طبيب ، فلان يحمل شهادة كذا ، بعثته إلى لندن ليتعلم لغة إنكليزية ليكون له لغة جيدة ، ولم تنتبه ماذا فعل في هذه البلدة ، وقع في الزنا ، أو وقع في الحرام ، المهم أن يعود من هذه البلاد الكافرة يحمل شهادة عُليا كي تزهو به أمام الناس هكذا ؟ أأنجبت هذا الولد كي تفتخر به أم من أجل أن يكون ولداً صالحاً يعبد الله من بعدك ؟ ..
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
حتى صِحَّتُكَ ، فهذه الصحة إذا نعمت بها بماذا تستخدمها في الاسترخاء وفي الاستمتاع ؟ أم تستخدم هذه الصحة في طاعة الله ، وفي خدمة الخلق ؟
هذا الذكاء الذي أعطاك الله إياه أتستخدمه في جمع المال أم في التفكّر في الواحد الدَيَّان ؟ كيف تهدي الناس ؟ كيف تُعين الناس ؟ كيف توفِّق بين الناس ؟ هذا الذكاء .
هذه العضلات ، هذه العين ترى بها مباهج الدنيا أم ترى بها آيات الله عزَّ وجل ؟
هذه الأذن تستمع بها إلى الغناء أو إلى الكلام الساقط ، أم تستمع بها إلى الحق وإلى القرآن الكريم ؟
هذا اللسان تستخدمه في الإيقاع بين الناس أم في الفُحش والبذاءة ، أم تستخدمه في نقل الحق للناس ، في الأمر بالمعروف ؟
      ] وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ [ آتَاكَ اللهُ فكراً ، آتاك الله عينين ، أذنين ، لساناً ، يدين ، رجلين ، صحة ، فراغاً ، أمناً .
الأمن من نعم الله عزَّ وجل ، أنت مطمئِنٌ هادئ البال ، هذا الأمن استخدمته في النزهات ، أم في عبادة الله عزَّ وجل ؟ هذه آية  سبحان الله ! تَسَعُ الناس جميعاً ، كنت أقول هذه العبارة دائماً : لو لم يكن في القرآن إلا هذه الآية لكفتنا :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
        أنت نجَّار أعطاك الله عزَّ وجل هذه الصنعة أتستخدمها في تقديم صنعةٍ متقنةٍ فيها نصيحةٌ ، وفيها اعتدال في السعر لمسلمٍ حتى يدعو لك طوال حياته ؟ جزى الله عني فلانا صنع لي هذه الغرفة ، والله جيدة ممتازة سعرها معتدل ، أنت حدَّاد ، أنت بائع ، هل أطعمت الناس طعاماً صيحاً طيباً نظيفاً بسعرٍ معتدل أم غششتهم ؟
أنت بائع أقمشة أي شيءٍ آتاك الله عزَّ وجل :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
        أن تبتغي بما آتاك الله الدار الآخرة ، هذا هو نصيبك من الدنيا ، أي جئت إلى الدنيا ، وخرجت منها من أجل أن يكون لك عملٌ صالحٌ تسعد به إلى الأبد ، نصيبك من الدنيا العمل الصالح فأن تبتغي ..
 
﴿فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
       هو نصيبك من الدنيا ، وقد ضربت لكم مثلاً في الدرس الماضي : أن إنسانا أرسلته حكومته إلى بلد أجنبي كي يحصِّل شهادة عُليا ، مرة إمبراطور اليابان أرسل سبعة طلاب يابانيين في مطلع عصر النهضة ليتعلموا العلوم العصرية في فرنسا ، هؤلاء الطلاب اليابانيون يبدو أن بريق الحضارة ، ومباهج الحياة في فرنسا سَلَبَ لُبَّهُم ، فسقطوا وأمضوا أوقاتهم فيما لا علاقة له بالدراسة ، وبعد سنواتٍ أربع عادوا مخفقين فأعدمهم الإمبراطور ، وأرسل سبعةً آخرين ، السبعة الآخرين كُلَّما حَدَّثتهم نفوسهم أن ينزلقوا ، أو أن يستمتعوا تذكَّروا هؤلاء الذين دفعوا الثمن باهظاً ، فمن أجل ماذا أنَّك جئت إلى الدنيا ؟
النبي عليه الصلاة والسلام حينما دُعِيَ إلى اللهو قال كلمةً لا تُنسى ، تكتب بماء الذهب قال :
(( أنا لم أخلق لهذا )) .
[ورد في الأثر ]
خُلِقَ النبي عليه الصلاة والسلام ، وخلقت أُمَّتُه وجميع الناس لهدفٍ نبيل ، هذا هو النصيب من الدنيا :
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
 
6 – وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا
مدرّس ، طبيب ، مهندس ، بائع ، صانع ، نجَّار ، من أصحاب المهن الرفيعة أو غير الرفيعة ، ماذا فعلت كي تلقى الله عزّ وجل ؟ ما الشيء الذي قَدَّمته ؟ ما الشيء الذي أعددته لساعة اللقاء مع الله عزّ وجل ؟ هذا :
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
وكيف أن معظم الناس يفهمون هذه الآية على نحوٍ آخر ، أي إذا ذهب إلى نزهةٍ ، وأكل ، وشرب ، واستمتع ، وكذا يقول لك : الله عزّ وجل قال :
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَ﴾ا
وإذا جلس مع أهله ، وأمضى سهرةً في كلام فارغ يقول لك : "ساعة لك وساعة لربك " .
 
﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾
لا .. هذه الآية ما أراد الله بها إلا المعنى الذي يفرضه السياق ، سياق الآيات :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾
      أن تبتغي فيما آتاك الله الدار الآخرة هو نصيبك من الدنيا ، إذاً : إذا أرسلنا طالباً إلى بلدٍ أجنبي ليُحَصِّل شهادةً رفيعةً عاليةً قد يبعث له أبوه كل شهرٍ برسالة يقول له : لا تنس الدراسة يا بني ، لا تنس أن ينتهي هذا العام ، وقد نجحت بتفوّق ، لا تنس أنك لم تذهب إلى هذه البلدة إلا كي تدرس ، إيَّاك أن تحيد يميناً أو شمالاً ، وأنت جئت إلى الدنيا من أجل أن تعرف الله ، وأن تستقيم على أمره ، وأن تعمل الصَّالحات تقَرُّباً إليه كي تسعد في الدنيا والآخرة :
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾
(سورة القصص : من الآية 77)
منحك الله نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الإرشاد ، أنت حسنة من صنع الله عزّ وجل ، وجودك حسنة ، إمدادك حسنة ، هدايتك حسنة ، بماذا تقابل هذا العطاء ؟
 
﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ﴾
 
7 – وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْض ِ
فُسِّرت في الدرس الماضي أن الفساد ، إذا بالغت في طعامك وشرابك وزينتك ، والناس من حولك في حرمان ، أوقعت فيهم مشاعر عدة ، عند المؤمنين يشعرون بالحرمان ، وعند غير المؤمنين يشعرون بالحِقد والبغض والكراهية ، فإذا قصَّرت في حَقِّهم فقد أفسدتهم ، فإذا اغتصبت أموالهم فقد أفسدتهم ، إظهار الزينة يضاف إليها التقصير في أداء الحقوق ، يضاف إليها العدوان على حقوق الآخرين ، هذا كله مما تعنيه كلمة :
 
﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
8 – وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْض إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ِ
وكم أتمنى عليكم أن تقرؤوا كتاب الله عزّ وجل ، وتبحثوا ماذا يحبُّ الله عزّ وجل ، وماذا لا يحب ؟ وهذه واحدة منهم :
 
﴿لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ *إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾
(سورة الحج)
لا يحب الكاذبين ، لا يحب الظالمين ، لا يحب الفاسقين ، بل يحب المؤمنين ، يحب الصادقين ، يحب التائبين ، يحب التوابين ، يحب الصابرين ، هكذا ..
إلى هنا وصلنا في الدرس الماضي ، أردت أن ألَخِّص ما قيل في الدرس الماضي حتى تأتي القصة منسجمة .
يبدو أن من حول قارون قالوا له هذا الكلام : يا قارون :
﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾
 
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي
 
أنفق هذا المال في طاعة الله ، ابحث عن الحقيقة ، هكذا .. فكان جوابه :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
(سورة القصص : من الآية 78)
دققوا في الصياغة :
 
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ﴾
(سورة القصص : من الآية 77)
هذا المال الوفير ، هذه الكنوز التي ينوء بحمل مفاتيحها أولو العصبة من أقوياء الرجال ، هذا المال آتاك الله إيَّاه ، هو من فضل الله، هو محض فضلٍ ، ماذا قال قارون ؟ قال :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾
أغفل الله عزّ وجل ، لم يقل : إنما آتانيه الله ، بل قال :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ﴾
فعل أوتي مبني للمجهول ، أي أغفل الفاعل ، ما أراد أن يعترف أن الله أعطاه هذا المال :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾
      أنا عليم بطرق كسب المال ، بأسرار التجارة ، بأصول الصناعة ، بفنِّ التسويق ، بفن البيع ، بالأساليب الذكية في تحصيل المال وفي استثماره ، فهؤلاء الذين يستثمرون أموالهم في بلاد أجنبية وبنسب عالية جداً ، وينقلون هذا المال من عملةٍ إلى عملةٍ على حسب الأسعار ، هم في أعلى درجة من الذكاء ، ويوزِّعون أموالهم مع شركات متعددة ومع دول متعددة ، فهؤلاء كما يدّعي قارون :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
أي أنا متمَرِّس ، أعرف كيف أكسب المال ، وكيف أستثمره ، وكيف أُنَمِّيه بوتيرة عالية ، وكيف أوزِّعه في مشاريع متعددة ، وفي بلاد متعددة ضماناً للأخطار ، وكيف أجمع الفائدة المركبة ، وكيف أُحَصِّل هذا المال ، هذا علم :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
 
 أربع كلمات محظورة على المؤمن : أنا ، ونحن ، ولي ، وعندي :
 
حينما تقول : عندي ، فأنت كقارون ، حينما تقول : لي فأنت كفرعون ، حينما تقول : أنا ، فأنت كإبليس ، حينما تقول : نحن ، فأنت كجماعة بلقيس ، أربع كلمات محظورٌ على المؤمن أن يذكرها هي : أنا، ونحن ، ولي ، وعندي ، قال إبليس :
 
﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾
(سورة الأعراف : من الآية 12)
فأهلكه الله .
وقال أصحاب بلقيس :
 
﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ﴾
(سورة النمل)
وقالها فرعون :
﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾
(سورة الزخرف : من الآية 51)
فأغرقه الله .
وقال قارون :
 
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
(سورة القصص : من الآية 78)
       القضية أعمق من كلمات تقولها ، القضية مشاعر ، أي إذا شعرت أن هذا البيت من تَعبك وعرق جبينك ، أنت عصاميّ ، صاحب إرادة حديدية ، تملك وسائل ناجحة في كسب المال حتَّى حصَّلت هذا البيت ، هذه مشاعر قارون :
 
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
 
 انظر وتأمَّل أين أنت مما تقول :
 
       ليست القضية قضية أدب مع الله فحسب ، قضية الحقيقة ، إنسان بأوج نشاطه التجاري ، لو أن نقطة دمٍ لا يزيد حجمها على حجم رأس دَبّوس تجمدت في بعض شرايين الدماغ لاختل عقل الإنسان ، ولساقه أهله المحبّون إلى مستشفى الأمراض العقلية ، فأين :
 
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
      أحيناً وهو يسير على يمين الطريق تأتي سيارة طائشة تصطدم به ، ينقطع عموده الفقري ، أين :
 
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِعَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
 (سورة آل عمران : من الآية 26)
       مالك قوَّتك ، وعضلاتك ، وعظامك ، وشرايينك ، وأوردتك ، وأعصابك ، وقلبك ، ورئتاك ، والكبد ، والمعدة ، والأمعاء ، والدماغ ، والجمجمة ، والكليتان ، والكَظَر ، والدرقية ، والنُخامية ، والطحال ، والبنكرياس ، إذا تعطل أصبح معه مرض السكر ، وإذا الطحال تعطَّل أصبح معه فقر دم ، إذا تعطلت الكليتان يجب غسيلهما أسبوعياً ، أين أنت :
 
﴿عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
أيُّ علمٍ عندي ؟
 
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
(سورة آل عمران : من الآية 26)
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
 
لستَ حراً في إنفاقك للمال ولو كان ملكاً لك :
 
       الحقيقة كلامه أعمق من ذلك ، أراد قارون أن يقول : أنا هذا المال حصَّلته بجهدي وبعلمٍ أمتلكه ، إذاً : أنا حرٌ في إنفاق المال ، والمؤمنون كانوا يدعونه إلى أن ينفق من ماله في الخير ، قال : لا هذا المال حصَّلته بجهدي ، وبتعبي ، وبعرق جبيني ، وأنا أملك خبرات ، ومعلومات ، وعلوم شتَّى في كسب المال وتثميره وجمعه ، إلخ .. إذاً : هو ملكي ، وأنا حرٌ في إنفاقه ، ودعوتكم للإحسان مرفوضة ، هذا كلام قارون :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
        الحقيقة الكلام يسوقنا إلى موقف الإسلام من هذه الموضوعات ، الإسلام يُقِرُّ التَمَلُّك لأن حب التملك شيء فطري بالإنسان ، ويبدو أن هذا التملك له وظائف مهمة جداً ، وحينما تلغى الملكية ربما هناك مضاعفات خطيرة جداً ، لذلك الذين نادوا بإلغائها عادوا إليها الآن ، إذاً : الإسلام يُقِرُّ التملك ، ولكن الإسلام يضع حدوداً صارمةً لكسب المال ، الإسلام يُحَرِّم أن يلد المالُ المالَ ، عن طريق الربا يلد المالُ المال ، الإسلام يضبط كسب المال ، ويضبط إنفاق المال ، ولا يَحْرِم المسلم من ثمرة جهوده ، لكنَّه يحول بينه وبين أن يسرف حتى يصبح مفسداً ، ويحول بينه وبين أن يقبض حتى يصبح مُقَتِّراً ، لا يسمح الإسلام لأتباعه أن يكونوا مسرفين ، ولا أن يكونوا مقترين ، ولا أن يكسبوا المال كيفما يشاءون ، ولا أن ينفقونه كيفما يشاءون ، الإسلام وسطي ، والحقُّ وسطٌ بين طرفين ، والفضيلة مَكْرُمَةٌ بين رذيلتين ، والتطرف فيه خطأ كبير ، لذلك العالَم يشهد الآن أن المتطرفين يتجهون إلى الوسط ، أي إلى الإسلام ، لا عن قناعةٍ بالإسلام ، ولكنهم مُرْغَمون من أجل أن يعيشوا ، من أجل أن يستمروا ، إذاً :
 
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾
(سورة البقرة : من الآية 143 )
فأن تلغي حق الإنسان في التمَلُّك مشكلة ، وأن تطلق يده مشكلة ، لابدّ من قواعد لابد من حدود ، الإسلام أَقَرَّ شيئاً ومنع شيئاً ، أقرَّ شيئاً وقنن شيئاً ، لذلك حينما قال قارون :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
يقصد من هذا الكلام أن هذا المال بما أنني كسِبته بعلمي وبجهدي ، وبتعبي وعرق جبيني ، أنا حرٌ في إنفاقه ، الجواب : لا إن هذا المال من اسمه : ما .. لك .. أي ليس لك ، ماله ، أي ليس له :
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ* كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ﴾
﴿ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ﴾
(سورة الحاقة)
كيف ردَّ الله عليه ؟ هو أوتي هذا المال ، وأغْفَلَ الله الواحد الديَّان لم يقل : إن الله قد آتاني إياه ، بل قال :
 
﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
 
أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً
 
       كيف ردَّ الله عليه ؟ هذا الذي كسب المال بقوته وعلمه وذكائه ، وعنده خبراتٌ كبيرةٌ في الحفاظ عليه ، وفي تنميته واستثماره ، كيف يفقد مالَه كُلَّه ، إذاً : هو مُدَّعٍ ، وليس صادقاً :
 
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾
(سورة القصص : من الآية 78)
       إذا كان هذا المال قد جاء بقوَّتِك فحافظ عليه ، أليس هناك أمثلة كثيرة جداً قديماً وحديثاً عن إنسان يملك ثروات طائلة فَقَدها في ساعاتٍ ثلاث ؟
 
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾
        أحياناً يقول أحدنا : فلان معه كذا مليون ، رقم كبير ، يوجد أغنياء في العالم معهم كذا ألف مليون بالعملات الصعبة ، ومع ذلك فإن الله عزّ وجل قادر أن يمحق هذا المال ، لأن إيتاء المال بأمره ، ومحقه بأمره :
 
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ﴾
        لو أن هؤلاء أصحاب الأموال صادقون فيما يقولون ، واقعيّون لمنعوا مالهم أن يُهْلَكَ ، ولمنعوا أن يُدَمَّر ، لامتنعوا من فقد مالهم ، قال :
 
﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ﴾
لا من مستواه ..
 
﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً﴾
قوة المال ، وقوة السلطان :
 
﴿مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
معنى : وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ
 
       هذه الآية دقيقة جداً ولها معاني كثيرة .
المعنى الأول :
أنه عندما يرتكب الإنسان خطأ ، أو ذنباً ، أو جريمة ، الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه إلا بالتحقيق ، لعلَّه مظلوم ، لعله لم يفعل هذا هو ، ولكن فعله غيره ، لعله ما أراد هذا ، جُرْم غير مقصود ، لا يوجد تصميم ، لا يوجد كذا ، فكل إنسان يرتكب ذنباً في عالمنا لابدّ من قاضي تحقيق يسأله ، ويستجوبه ، ويأخذ إقراره ، ويعرض عليه ، ويُحْرِجُه أحياناً ، من أجل ماذا ؟ من أجل أن يظهر الحق ، وأن يأتي الحكم عادلاً وصحيحاً.
فالله سبحانه وتعالى إذا ارتكب العبد ذنباً أو جريمةً هل الله بحاجةٍ أن يسأله ؟ هو العليم ، عليم بمكنونات نفسه ، بما تنطوي عليه نفسه ، بنواياه الحقيقية ، بحجم عمله ، بحجم مخالفته ، فربنا عزّ وجل ليس كمثله شيء ، الإنسان يَسْأَل ليعلم لأنه لا يعلم ، يُحَقِق ، يحب أن يتأَكَّد ، يحب أن يكون معه الدليل على جُرْمِيَّة هذا المجرم ، يحب الاعتراف .
       أما إذا وقع الإنسان في معصيةٍ ، هذه المعصية بنواياها ، بمطامحها ، بحجمها الحقيقي ، بآثارها كله في علم الله عزّ وجل ، فلذلك ليس من شأن الله عزّ وجل إذا أراد إيقاع العقاب بعبدٍ مجرمٍ أن يسأله ، لماذا السؤال ؟ فالسؤال ليس له معنى ، أما حينما قال الله عزّ وجل في آيةٍ أخرى :
 
﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
( سورة الحجر )
      قالوا : هذا سؤال التقريع والتوبيخ لا سؤال العلم ، سؤال التقريع والتوبيخ ، أما سؤال العلمٍ فالله عزّ وجل مُنَزَّهٌ عنه ، لذلك هؤلاء المجرمون يوم القيامة يُقْذفون إلى النار مباشرةً من دون سؤال ، لأن الله يعلم أعمالهم ، نواياهم ، خبث نفوسهم ، دناءتهم ، حجم أعمالهم ، حجم معاصيهم ، فليس هناك حاجة أن يُسألوا ، هذا المعنى الأول :
 
﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾
( سورة القصص )
لأن هذه الذنوب في علم الله عزّ وجل ، والله عزّ وجل ليس بحاجةٍ أن يَسْأل .
المعنى الثاني :
       قد يبدو هذا المعنى أيضاً من خلال هذه الآية ، فإذا ارتكب الإنسان جريمة ، وحُكِمَ عليه بالإعدام ، وهو في طريقه إلى المشنقة تَذَكَّر القُضاة أن عليه مخالفة سير ، فهل يحاسَبُ عليها ؟ لا .. لا يحاسبونه ، لأنه فقد حياته كلها ، أي أن الجريمة أن تكْفُر بالله عزّ وجل ، فليس بعد الكفر ذنب ، الجريمة الكبرى أن تكفر بالله ، أن تأتي إلى الدنيا ، وأن تذهب منها وأنت في غفلةٍ عن الله عزّ وجل ، لذلك هذه الذنوب التي تقترفُها هي تحصيل حاصل ، هي نتائج طبيعية ، أعراض طبيعية لانحراف الإنسان :
 
﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
       هذا المعنى الثاني .
المعنى الثالث :
أن ربنا عزّ وجل إذا أَخَذَ ] أََخَذَ أَخْذَ عزيزٍ مُقْتَدِر [ ، أي حينما يقع الذنب يأتي العقاب ، لأن الإنسان إذا سُئِل : لماذا فعلت كذا ؟ يحتال ، ويفكر بالدفاع عن نفسه دفاعاً غير صحيح ، هذا ما يقع عند الناس ، الإنسان يرتكب ذنباً كبيراً جداً ، فإذا استدعي للتحقيق يقول : أنا ما قصدت هذا ، قطعاً يبادر الكذب والاحتيال ، والمراوغة ، يعاقب فوراً ، أما حينما يُسأل سوف يزوّر الحقائق ، سوف يَدَّعي ، سوف يتَنَصَّل ، سوف يكذب :
 
﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
       لذلك ورد في بعض الأحاديث الصحيحة حديث يحتاج إلى تأويل ، وهو عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ )) .
[صحيح مسلم]
         هذا الحديث لا يمكن أن نأْخُذَهُ على ظاهره ، هذا الحديث يحتاج إلى تأويل ، أي أن الإنسان علامة حياته أنَّه يحسُّ بذنبه ، وعلامة موته أنه لا يحسُّ بذنبه ، فمثلاً إنسان في سهرة، والسهرة فيها غيبة ، واحد اغتاب كثيراً ، وذهب فصلى العشاء ونام ، هذا ميت القلب ، هذا ما حسَّ بذنبه ، لا يوجد عنده نبض إطلاقاً ، ملكاته كلَّها  معطلة ، لكن المؤمن الصادق إذا نطق لسانه بكلمة غيبة واحدة يَخْتَلُّ توازنه ، ولا ينام الليل ويدفع الصدقة مباشرةً ، علامة صحة إيمانك إحساسك بذنبك ، وكلما ارتقى الإيمان ازدادت حساسية المؤمن بذنبه ، هناك ذنوب خواطر أحياناً، هناك كلمة ، هناك حركة حاجب ، هناك ابتسامة في غير موضعها ، هناك نظرةٌ قاسية ، هناك دفعٌ للباب بقوة ، هذا ذنب كبير في حضرة الأم أو الأب ، كلما ارتقى مستوى الإنسان امتلك شعوراً حسَّاساً بالذنب في إدراك ذنبه ، وكلَّما هبط مستواه تَبَلَّد حسّه ، وصار يقول : ماذا أفعل أنا ، أنا جيد ، إذاً كلما ارتقيت في سُلَّم الإيمان ارتقى معك شعورك بالذنب ، لو لم تذنبوا أي لو لم تشعروا بذنوبكم لذهب الله بكم ، أنتم موتى ، هكذا يقصد الحديث ، وأتى بقومٍ يذنبون يعني إذا أذنبوا شعروا بذنوبهم فاستغفروا ، فيستغفرون فيغفر الله لهم :
 
﴿وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾
الملاحظ أن إخواننا الكرام الذين لهم صلة بالله عزّ وجل ، وقناعات صحيحة ، وإدراك لأوامر الله عزّ وجل ، لو أن شخصاً أخطأ أو اغتاب ، أو نظر نظرة في غير موضعها ، أو أشار بشيء فيه مخالفة ، أو كان سبباً في أذى ، يأتي ، ويسأل في لهفة كبيرة ، ما هذه اللهفة ؟ هي لهفة إحساسه بذنبه ، وهناك من يفعل الموبقات كلها ، ويرتكب كل الحماقات ، ويخرج عن الشرع كله ومع ذلك يقول لك : أنا جيد ، أنا ممتاز ، هكذا بقولون ، إذاً اعرف أنه كلما ارتقيت عند الله عزّ وجل ازدادت مشاعرك المُرْهَفة في إحساسك بالذنب ، وكلَّما هبط المستوى تلَبَّد الحس .
 
 هذا سيدنا عمر ، ومع ذلك ...
 
سيدنا عمر قال : << ليت أم عمر لم تلد عمر >> .
عمر عملاق الإسلام الذي قال عنه النبي الكريم :
(( لَقَدْ كَانَ فِيمَا قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ ، فَإِنْ يَكُ فِي أُمَّتِي أَحَدٌ فَإِنَّهُ عُمَرُ )) .
[ البخاري عن أبي هريرة ]
(( فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ)) .
[صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر]
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِيهٍ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ )) .
[ البخاري عن سعد بن أبي وقاص ]
هذا عمر ماذا يقول ؟ يقول : << ليت أم عمر لم تلد عمر ، ليتها كانت عقيمة >> .
عمر عملاق الإسلام يقول : <<  لو أن بغلةً في العراق تَعَثَّرت في الطريق لحاسبني الله عنها ، لمَ لمْ تُصْلِح لها الطريق يا عمر ؟>> .
انتبهوا إلى هذه الفكرة المهمة جداً ، كلما ارتقى مستواك في إيمانك ارتقى إحساسك بالذنب ..
        سيدنا عمر كان مع سيدنا عبد الرحمن بن عوففي إحدى الليالي ، فرأوا قافلةً قد استراحت في مكانٍ ما من طرق المدينة ، فقال له : تعال نحرس هذه القافلة لوجه الله،وهما في حراسة هذه القافلة بكى طفلٌ صغير ، فتوجَّه عمر إليه ، وقال لأمه :أرضعيه ، فأرضعته ، ثم بكى ، فقال: أرضعيه ، ثم بكى ، فغضب ، وكان عصبي المزاج رضي الله عنه ، فذهب إلى أمه وقال : يا أَمَة السوء أرضعيه ، فقالت : أيها الرجل ، ما شأنك بنا ، إنني أفْطِمه ؟ قال : ولمَ تفطمينه ؟ قالت : لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام ، أي التعويض العائلي لا يصرف إلا بعد الفطام .. تَروي كتب السيرة أنَّه صُعِقْ ، وقال مخاطباً نفسه : ويحك يا ابن الخطاب ، كم قتلت من أطفال المسلمين ؟ هكذا تروي السيرة ، وذهب إلى المسجد ، وصلَّى بأصحابه صلاة الفجر ، ويقول أصحابه : إنهم ما سمعوا صوت قراءته من شدة بكائه ، وأصدر للتَوِّ قراراً بمنح التعويض العائلي للأطفال من ساعة ولادتهم ،       إنه إحساس بالذنب .
قال لأحد ولاته : << ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ قال : أقطع يده ، قال : إذاً ؛ فإن جاءني من رعيتك من هو سارق لأنه عاطل فسأقطع يدك ، إن الله قد استخلفنا عن خلقه لنَسُدَّ جوعتهم ، ونستر عورتهم ، ونوفِّر لهم حرفتهم ، فإذا وفَّينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها ، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل ، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً ، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية >> .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ :
(( أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ ، قَالَ : فَدَخَلَ
 
 حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَإِذَا جَمَلٌ ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ ، فَسَكَتَ ، فَقَالَ : مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟
 
 فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ : لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا ، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ )) .
[ أبو داود]
       قد يكون عند الشخص حيوان أحيانا ، أو عنده إنسان تحت ولايته ، فهل يا ترى أكل ، ما أكل ، كيف وضعه ؟ كلما ارتقى مستواك يرتقي إحساسك بالذنب ، لذلك : " رأس الحكمة مخافة الله " ، وكلَّما هبط المستوى تلبد الإحساس بالذنب ، يقول لك : ماذا فعلنا ؟ وقد خرب الدنيا ، ويقول لك : لم أفعل شيئًا ، هذه علامة تلبُّد الحِس :
 
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾
(سورة القصص : من الآية 79)
 
من مقاييس أهل الدنيا :
 
1 – َخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ
كل عصر له زينة ، أي في كل عصر ووسائل للظهور أمام الناس في الاحتفالات ، يقول لك : عقد القِران تم في الفندق الفلاني ، وكلّف ثمانمائة ألف ليرة ، قَدَّموا مع كل كتاب ، أو مع كل شيء من الحلوى
 
 قطعة بكذا وكذا ، فهناك أوصاف لعقود القران لا تصدَّق ، هذه الزينة ، في البيوت أحياناً ، أي تزيين البيت إلى درجة متناهية ، في الثياب وأنواعها ، فيفتخر بنوع ثيابه ، ومكان شرائها ، وسَنَة صنعها ، هذا
 
 كله كما قال سيدنا علي قال : << يأتي على الناس زمان قيمة المرءُ متاعه >> ، أي قيمة الإنسان فقط تستمَدُّ من متاعه ، من مساحة بيته ، من موقع بيته ، من ثمن بيته ، من مركبته ، من ثيابه ، يا ترى أجنبي
 
 أم وطني ؟ تستمد من نوع ثيابه ، وهكذا ..
 
﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
هذا مقياس .
2 – قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا
الحقيقة أن هذه القصة فيها مقاييس كثيرة ، هذا مقياس آخر ، أي إذا رأيت شيئاً من متاع الدنيا ؛ قصراً منيفاً ، سيارةً فارهةً ، بستاناً جميلاً ، مزرعةً أنيقةً ، إذا رأيت شيئاً فخماً من متاع الدنيا ، وذابت نفسك حباً له ، وتمنيتَ أن تكون مكان صاحبه ، فهذه علامةٌ خطيرةٌ جداً :
 
﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
أحياناً تسمع من الناس أن فلاناً مبسوط ، يكون له خمسين معصية ، وهو تارك صلاة ، وشارب خمر ، ولكن معه أموال طائلة ، ويتمتع فيها كما يشاء ، فيأتي إنسان ضعيف الإيمان يقول : مبسوط ، لا ينقصه شيء ، حظه طيب ، دَبَّر نفسه ، رَكَّز وضعه ، هذا هو كلام الشرك بعينه ، هكذا قال :
 
﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
 
3 – يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ
أي حينما تُثْني على أهل الدنيا ، وتمدحهم ، وتشرئبُّ عنقك تعظيماً لهم ، ويسيل لعابك تمنياً أن تكون مثلهم فهذه علامة أنَّك من أهل الدنيا ، هكذا :
 
﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾
 
فضلُ العلم : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
 
علامة المؤمن أنه لا يتمنَّى إلا رضوان الله عزّ وجل ، لا يتمنَّى إلا أن يحبه الله ، يرضى عنه :
 
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾
(سورة القصص : من الآية 80)
أوتوا العلم ، فإذا أحب الله عبداً آتاه العلم :
 
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً﴾
(سورة القصص : من الآية 14)
 انظر إلى نفسك ؟ ماذا نلت من الله ؟ نِلْتَ كما نال قارون ؟ أو كما نال فرعون ؟ أو كما نال بعض الأنبياء ؟ حظك من الله مالٌ ، أو قوةٌ ، أو علمٌ ؟ إذا كان حظك من الله العلم فأنت من المحبوبين :
 
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
سعةٌ أفقِ العلماء : وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ
 
الكافر أُفُقُهُ ضَيِّق ، نظرته قاصرة ، يعيش لحظته ، هذا شيء موَقَّت سيمضي ، هناك حياةٌ أبدية ، البطولة هناك .. " الغنى والفقر بعد العرض على الله " .
في القبر إن كان لك أعمال صالحة في الدنيا فأنت الغني ، وإن لم تكن لك أعمال صالحة فأنت أفقر الفقراء ، ولو كنت في الدنيا أغنى الأغنياء .
لماذا نطلب العلم ؟ كي تصحَّ رؤيتنا ، كي نرى الحق حقاً والباطل باطلاً ، كي لا نؤْخَذ بالمظاهر الفارغة والقشور ، كي نعرف حقائق الأشياء ، هذه الدنيا جوهرها أربعة أشياء : أن تعرف الله ، وأن تطيعه ، وأن تدعو إليه ، وأن تصبر .
 
﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
(سورة العصر)
أربعة أشياء هي لبُّ الدنيا ، فهؤلاء الأولون :
 
﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ﴾
(سورة القصص : من الآية 79)
أيْ هنيئاً لك على هذا البيت ، على هذا المتجر ، على هذا الدخل الكبير ، على هذا البستان ، الله يزيدك من فضله ، هو ذابت نفسه معه ، أما المؤمن :
 
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾
(سورة القصص)
الصابر ما استجاب إلى نزواته الطارئة ، استجاب إلى عقله الراجح .
قد كنت قديماً أضرب لطلاَّبي مثلاً : رجل ركب دَرَّاجة ، وهو يسير على طريق مستوٍ ، وصل إلى طريقين ، طريقٍ نازلة محفوفة بالرياحين والبساتين والأزهار ، وتنتهي بحفرةٍ سحيقةٍ ما لها من قرار ، فيها وحوشٌ مفترسة ، وطريقٍ صاعدة مملوءةٍ بالغبار والأكدار والصخور ، لكنها تنتهي بقصرٍ منيف ، هو مٌلكٌ لمن يصل إليه ، وضِعَ قبل هذا المفرق إن صح التعبير لوحةٌ تفصيلية تشير إلى أن هذا الطريق ينتهي بحفرة ، وهذا الطريق ينتهي بقصر ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلاثًا ، أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ، وَالسَّعِيدُ مَنْ وُقِيَ الْفِتَنَ ، وَمَا مِنْ جَرْعَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ مَا كَظَمَهَا عَبْدٌ لِلَّهِ إِلا مَلأَ اللَّهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا )) .  
[مسند أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاس]
      (( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلاثًا ، أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )) ، طريق النار سهل ، مع الشهوات ، مع الانحراف الأخلاقي ، مع إطلاق البصر ، مع كسب المال الحرام ، مع إنفاقه ، مع السياحات المختلطة ، مع الرفاه ، مع الطعام والشراب ، مع الاستمتاع بالنساء الأجنبيات ، هكذا هذا طريق جهنم ، سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ ، لا يحتاج إلى جهد ، لا يحتاج إلى مجاهدة فالقضية سهلة ، لكن طريق الجنة يحتاج إلى كُلْفَة ، إلى تفَكُّر ، إلى استقامة ، إلى صلاة في أوقاتها ، إلى بذل المال ..(( أَلا إِنَّ عَمَلَ الْجَنَّةِ حَزْنٌ بِرَبْوَةٍ ، ثَلاثًا ، أَلا إِنَّ عَمَلَ النَّارِ سَهْلٌ بِسَهْوَةٍ )) .
 
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾
 
 عاقبة قارون : فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ
 
أربع كلمات ، خسفنا به ، كلمتان ، وبداره الأرض ، كلمتان ، فانتهى قارون ، أربع كلمات ، كما ينتهي غيره في ساعات :
 
﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ﴾
(سورة القصص)
 
فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ
 
لم يكن مستقيماً على أمر الله عزّ وجل كي يحميه ربنا عزّ وجل وينقذه ، لم تكن له جماعة نصحوه حتى يمنعوه ، على كلٍ لقي نتيجة عمله ، لذلك المشكلة أن الإنسان يجمع الدنيا ليرة فوق ليرة ، وحجراً فوق حجر ، والله سبحانه وتعالى يأخذها منه في ثانية واحدة ، فالبطولة كما قال النبي الكريم :
" إذا أردت إنفاذ أمرٍ تدَبَّر عاقبته ".
     هذا الطريق ما نهايته ؟ طريق جمع المال ما نهايته ؟ كقارون ، طريق القوة والظلم ما نهايته ؟ كفرعون ، طريق معرفة الله وطاعته وخدمة العباد نهايته سعادة في الدنيا والآخرة :
 
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا﴾
(سورة فصلت : من الآية 30)
 
﴿وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ﴾
(سورة القصص : من الآية 82)
 
موقف الذين تمنوا مكان فرعون :
 
هذه من ألفاظ التعجُّب ..
 
﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا﴾
إذاً : لم يصح قوله :
 
﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾
( سورة القصص : من الآية 78)
      الجواب : أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، الرزق رزق الله عزّ وجل ، يبسط ويقدر ، يُعْطي ويمنع ، يرفع ويخفض ، يعزُّ ويذل ، هكذا الله عزّ وجل :
 
﴿وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾
 
(سورة القصص)
هناك آية قرآنية أشعر معها بمشاعر خاصة :
 
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة الأعراف)
       الأمور تدور ، وتدور ، وتستقر على فلاح المؤمن ، وعلى نجاحه ، وعلى سعادته ، قد يعيش المؤمن في ضيق ، وقد يكون مستضعفاً ، وقد يكون مريضاً ، ولكن العاقبة له ، وقد يَقْوى الكافر ، ويجولُ ويصول ، ولابدّ من أن يُهْلكه الله عزّ وجل :
 
﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة الأعراف)
 
 تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
 
آخر آية :
 
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة القصص)
تلك الدار الآخرة هذه آية أيضاً من الآيات المحكمة ، تلك ، هذا الشيء العظيم الممتد إلى الأبد ، هذه الدار الآخرة ..
 
﴿نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً﴾
      بعيد عن الكبر ، والاستكبار ، والغطرسة ، والعنجهية ، والاستعلاء ، والفخر ، يعيش في وادٍ آخر ، عاش في وادي طاعة الله ، في وادي العبودية لله عزّ وجل ، يعرف حجمه الحقيقي ، يعرف مهمته بالحياة ، يعرف لماذا خلق ؟ يعرف الوسيلة الفعالة لسعادته ، غائب عن الناس في معرفة الله ، في خدمة الناس ، غائب عن مظاهر الدنيا ، عن زخرفها ، عن بهرجها ، عن مباهجها :
 
 
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ﴾
       أحياناً ترى طالباً مُهْتَماً بدراسته اهتماماً بالغاً ، وطالباً يُمْضي وقته في الطرقات ، هذا في وادٍ وهذا في وادٍ ، هذا في مستوى وهذا في مستوى ، هذا في عالم ، وهذا في عالم ، المؤمن في عالم آخر ، في عالم الرُقِيّ ، عالم السمو النفسي ، عالم المعرفة ، عالم التطبيق ، عالم العبودية ، عالم العطاء ، عالم فعل الخير ، عالم فهم الكتاب ، فكما قال ابن عطاء الله السكندري صاحب الحكم العطائية : " لا يعرف ما نقول إلا من اقتفى أثر الرسول " .
إذا أنت كنت في مكان جميل جداً ، ودعوت إنساناً لهذا المكان ، وذهب ، وعاد ، وقال : والله معك حق ، والله صدقت ، شيء جميل ، فإذا دعوت الناس إلى الله ، والناس ذاقوا طعم القرب ، طعم النظافة الروحية ، طعم الطُهْر ، طعم اللقاء مع الله عزّ وجل ، طعم العمل الصالح ، طعم خدمة الخلق ، طعم فهم كتاب الله ، فأنت في وادٍ آخر، في عالم آخر ، لك اهتمامات نبيلة جداً ؛ أما الإنسان الغارق في شهواته في وحول المال ، في كَسْبه للمال ، في جمعه للمال ، في صراعاته مع الناس ، في خصوماته ، في أحقاده ، في متاهاته ، هذا مسكين وهالك ، أمواتٌ غير أحياء ، هكذا قال الله عنهم :
 
﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ﴾
(سورة النحل : من الآية 21)
 
﴿وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾
(سورة فاطر)
فلذلك :
 
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ﴾
تلك ، هذه الدار العظيمة ، الأبدية ، السرمدية ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْهم قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ :
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : ] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [))
[صحيح البخاري]
 
 
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ﴾
إن المؤمن إذا توفاه الله عزّ وجل يرى مقامه في الجنة فيقول : لم أر شراً قط ، في كل حياته ، ينسى كل متاعب الدنيا ، والكافر يرى مكانه في النار فيقول : لم أر خيراً قط ، فكل الولائم ، وكل السهرات الرائعة ، وكل النُزَهات الجميلة ، وكل المباهج التي عاشها ، وعاش ثمانين سنة ، لا يفوِّت سفر ، ولا سياحة ، ولا سهرات ، كلُّها يقول : لم أر خيراً قط ، إذا نظر إلى مكانه في النار :
 
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾
(سورة القصص)
الحمد لله رب العالمين
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب