سورة القصص 028 - الدرس (12): تفسير الأيات (60 – 67)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ..."> سورة القصص 028 - الدرس (12): تفسير الأيات (60 – 67)

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات ...">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة القصص

New Page 1

تفســير القرآن الكريم ـ ســورة القصص - (الآيات: 060 - 067)

19/01/2012 17:05:00

سورة القصص (028)
 
الدرس (12)
 
تفسير الآيات: (60 ـ 67)
 
 
لفضيلة الأستاذ
 
محمد راتب النابلسي
 
 

 
  
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ،  واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 
 تذكير بحقائق مهمة :
 
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني عشر من سورة القصص ، في الدرس الماضي كانت الآيات المتتالية رداً من الله تعالى على هؤلاء المشركين الذين قالوا :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
( سورة القصص : آية " 57 " )
1 – توهُّ ضرر الطاعة جهلٌ مركَّبٌ :
لقد ردَّ عليهم الله عزَّ وجل ، هم توَهَّموا أن الهُدى يؤذيهم ، ويضرُّهم ويخرجهم من ديارهم ، ويجعلهم يخسرون مكتسباتهم ، وبكلمةٍ مختصرة : هم رأوا أن الطاعة لله عزَّ وجل تضرهم ، وأن المعصية تنفعهم ، ومن توَّهم هذا فهو خِلْوٌ من الإيمان لا يفقه شيئاً .
وفي الدرس الماضي خشيت أن يُظَنَّ أن اعتقادك أن الطاعة تضر ، والمعصية تنفع ، أي أن الطاعة مريحة ، والمعصية متعبة ، الحقيقة أن طاعة الله عزَّ وجل مُكْلِفَة ، ومعصيته تتمشى مع الشهوات ، هذه حقيقة .
2 – الإنسان بين الطاعة التكليفية والطباع الشهوانية :
قلت لكم سابقاً : غضُّ البصر فيه كلفة ، إطلاق البصر طبعٌ ، يتمشى مع حب الإنسان لشهواته ، إنفاق المال كلفةٌ ، قبضه طبعٌ ، حبس اللسان عن الغيبة كلفةٌ ، إطلاقه في الغيبة طبعٌ ، فإذا اعتقدنا اعتقاداً جازماً أن الطاعة تنفعنا ، وأن المعصية تضرنا ، ليس معنى هذا أن الطاعة سهلة ، والمعصية صعبة ، لا ، الطاعة مُكْلِفة ، والمعصية تتمشى مع طبيعة النفس ، ولن ترقى إلى الله عزَّ وجل ، ولن تستحق الجنة إلا إذا دفعت الثمن :
فأحبابنا اختاروا المحبة مذهباً    وما خالفوا في مذهب الحب شرعاً
***
يقول أحد العارفين بالله :
فما حبنا سهلٌ وكل من ادعى   .. سهولته قلنا له قد جهلتنا
أي أنْ تحب الله عزَّ وجل لا بدَّ من أن تدفع ثمن الحب ، أن ترجو الجنة لا بدَّ من أن تدفع ثمنها .
 
الطاعة هي المربِحة :
 
ملخَّص الدرس الماضي : من توهم أن الطاعة تضره ، والمعصية تنفعه فهو جاهلٌ جهلاً مطبقاً  ، وليس معنى هذا أن الطاعة سهلة والمعصية صعبة ، المعصية تتوافق مع رغبات النفس الأرضية ، مع شهوات الإنسان ، والطاعة تحتاج إلى جهدٍ ، وإلى كلفةٍ ، لكنها تتوافق مع العقل ، وفي المدى البعيد ، المعصية للحْظَتك مريحة ، أما لمستقبلك في الدنيا والآخرة فالطاعة هي المريحة ، هذه هي الحقيقة ، فربنا عزَّ وجل ردَّ على هؤلاء الذين قالوا :
 
 شبهات جاهليّة والردُّ الإلأهي عليها :
 
 الشبهة الجاهلية :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
 
 الردُّ الإلهي :
 
ردَّ عليهم :
الردُّ الأولُ :
 
 
﴿أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً
( سورة القصص : الآية 57)
حينما كنتم في المعصية كنتم في حرمٍ آمن ، فإذا آمنتم ، واهتديتم فهل يعقل أن تفقدوا أمْنَكُم ؟ وأن تفقدوا بلدكم وأرضكم ؟ هذا هو الرد الأول .
الردُّ الثاني :
أنتم إذا آثرتم مكتسباتكم ، ومكانتكم ، وأموالكم ، وأرضكم ، وأوطانكم ، وأعرضتم عن الله عزَّ وجل ، ثم ماذا ؟
 
 
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
( سورة القصص )
الردُّ الثالث :
دققوا في هذه الآية :
 
 
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
( سورة القصص )
        مِن أشد أنواع الظلم أن يظلم الإنسان نفسه ، أن ينغمس في الشهوات حتى قِمَّة رأسه ، ألا يبالي بالناس ولا بالفقراء ، أن يهتم بذاته ،  بشهواته ، برغباته ، هذا ظلم ، وإذا استخدم الإنسان نِعَمِ الله في معصيته ، إذا استخدم نعم الله في الاستعلاء على خلق الله ، إذا استخدم نعم الله في الضلال ، هذا أشد أنواع الظلم :
 
 
﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾
(سورة القصص)
       فلا ينبغي للإنسان أن يمر دائماً بالأحداث مرًّا سريعاً ، ولا ينبغي أن يفهمها فهماً ساذجاً ، ولا فهماً بسيطاً ، يجب أن يفهمها فهماً عميقاً ، يجب أن يضع الميزان الإلهي في تفسير هذه الأحداث .
الردُّ الرابع :
شيءٌ آخر ، وهو ردٌ رابعٌ ، هو أن الإنسان إذا اهتدى إلى الله عزَّ وجل ، ولأنه اهتدى إلى الله فقد حياته ، كما قال سحرة فرعون :
 
 
﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾
(سورة طه)
       أي لو أنكم في سبيل هدايتكم وإيمانكم بالله عزَّ وجل خسرتم شيئاً من أموالكم أو حياتكم ، فأنتم الرابحون ، لأن الدنيا عرضٌ حاضر ، والآخرة وعدٌ صادق ، لأن الدنيا قصيرةٌ منقطعة ، والآخرة خيرٌ وأبقى ..
 
﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(سورة القصص)
وربنا عزَّ وجل يقول :
 
 
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ
(سورة النساء : من الآية 77)
الدنيا ساعة اجعلها طاعة .
 
 
﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
(سورة القصص)
هذان لا يستويان : ]أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًاً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً [ ؟!
فرقٌ كبير بين المؤمن والكافر ، بين مَن وعده الله وعداً حسناً ، وبين مَن أعطاه الدنيا ، ثم هو يوم القيامة من المحضرين ، إلى هنا وصلنا في الدرس الماضي ، ردَّ الله على هؤلاء رداً أوَّلياً ، وثانياً ، وثالثاً ، ورابعاً .
الردُّ الخامس :
إنكم أيها المشركون إذا امتنعتم عن الهدى ، امتنعتم عن أن تؤمنوا بهذا النبي العظيم ، إذا آثرتم الدنيا على الآخرة ، إذا آثرتم زعماءكم ، وكُبَراءكم ، إذا آثرتم صناديد الكفر في مكة ، أن ترضوهم ، وأن تخضعوا لهم ، وأن تكفروا مثلهم ، إذا آثرتم كلَّ ذلك فانظروا ما مصيركم يوم القيامة .
        لو فرضنا أنّ إنسانًا خضع لإنسان وقع في مخالفة كبيرة للقوانين النافذة ، ثم استحقَّ العقاب الأليم ، وأن يودع في السجن سنواتٍ طويلة ، فلما قيل لهذا الذي أرغمه وأجبره : انظر ماذا فعل فلان ؟ قال : ما شأني وشأنه ، فليذهبْ إلى الجحيم ، لو أن هذا المنظر ، أو هذا الموقف الصعب اللئيم الذي فيه تخلٍ ، لو أن هذا التابع عرف ما تبع سَيِّدَهُ ، فربنا عزَّ وجل يردُّ على هؤلاء الذين قالوا :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
      يردُّ رداً خامساً : إنكم إذا آثرتم الضلال ، وآثرتم أن تعبدوا الأصنام ، وآثرتم الكفر والشرك ، وآثرتم شهواتكم ، وأبيتم الهدى اتباعاً لكبرائكم وزعمائكم وقادتكم المشركين في مكة ، إنَّكم إن فعلتم هذا فإليكم ما سوف تكون عليه حالكم وحالهم يوم القيامة ، هذا الرد الخامس .
 
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ 
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ
(سورة القصص : من الآية 62)
من كلمة ( يناديهم ) يُفهَم أنهم بعيدون ، وأنهم محجوبون ، وأنهم صاغرون .
 
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ
(سورة القصص : من الآية 62)
هؤلاء الذين جعلتموهم آلهة أين هم ؟ هؤلاء الذين عَبَدتموهم مِن دوني أين هم ؟ هؤلاء الذين أطعتموهم ؟ هؤلاء الذين ابتغيتم رضاهم ، هؤلاء الذين ظننتم أنهم يفعلون كل شيء ، هؤلاء الذي ظننتم أن بيدهم كل شيء ، هؤلاء الذين أسبغتم عليهم صفات الإله ، الإله هو الفَعَّال هو المعبود ، ولا معبود سواه ، بيده الخير ، بيده الشر ، بيده العطاء ، بيده المنع ، بيده الرفع ، بيده الخفض ، بيده القبض ، بيده البسط ، بيده العِزّ ، بيده الذُل ، هذا هو شأن الإله ، أنتم خلعتم على أشخاصٍ مثلكم صفات الإله ، أولاً اعتقدتم أنهم يفعلون ما يشاؤون ، وأن نفعكم وضركم بيدهم ، لذلك انطلاقاً من هذا الاعتقاد عبدتموهم من دون الله ، خضعتم لهم ، أرضيتموهم وأغضبتم ربكم ، أطعتموهم وعصيتم ربكم ، رأيتم أنهم يفعلون كلَّ شيء ، ربنا عزَّ وجل يوم القيامة :
 
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾
( سورة القصص)
هذا زعمكم هذا ، وهمكم ، هذا ادِّعاءكم ، هذا ظَنُّكم ، هؤلاء ليسوا شركاء .
 
 
﴿فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾
 
 جواب الشركاء :
 
1 – البراءةُ من المتَّبِّعين :
       الجواب لهؤلاء الشركاء ، هؤلاء الذين عبدوا من دون الله ، هؤلاء الكبراء ، هؤلاء الزعماء الذين خضع الناس لهم في الدنيا ، وعصوا ربهم .
 
 
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ
(سورة القصص : من الآية 63)
       أيْ حقّ عليهم قولُ الله عزَّ وجل ، هؤلاء الذين ظهروا بحجمهم الحقيقي عبيدٌ لله لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً .
 
 
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا
(سورة القصص : من الآية 63)
هؤلاء أتباعُنا الذين أضللناهم بزعمهم .
 
﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا
(سورة القصص : من الآية 63 )
2 – الإنسان مخيَّرٌ :
       نحن كنا ضالين فضلّوا معنا ، نحن ما عرفنا الحق ولَقَّناهم شيئاً آخر ، نحن كنا ضالين ، ودعوناهم إلى الضلال فضلوا معنا ، هم مخيَّرون ، وليسوا مجبرين ، يا رب نحن ما فعلنا معهم شيئاً ، وافقت رغباتهم رغباتنا ، وافقت مصالحهم مصالحنا ، ضلوا كما ضللنا ، ضللنا كما ضلوا ، تواُفق ، لذلك يفهم من هذا الكلام أنه ليس إنسانٌ على وجه الأرض يستطيع أن يُضِلَّ إنسانًا ، لأن الإنسان مخير .
      كنت أضرب هذا المثل المضحك دائماً : لو أن إنسانًا ذهب إلى قسم الشرطة ، وكان يرتدي ثياباً بيضاء جميلة جداً ، وقد وقع في حفرةٍ فيها ماءٌ آسن ، ذهب إلى هذا المخفر ، وادَّعى أن فلانًا هو السبب ، فجيء بفلان ، قال له المحقق : هذا الذي تدعي عليه دفعك إلى هذه الحفرة ؟ قال له : لا والله ، لم يدفعني ، قال له : شَهَر عليك سلاحاً ، وأجبرك أن تقع فيها ؟ قال له : لا والله ، الرجل لم يفعل هذا ، قال له : أمْسَكَ بكلتا يديه ، ورماك فيها ؟ قال : لا والله ، قال : لماذا تدَّعي عليه ؟ قال : لأنه أمرني أن أنزل فنزلت بها ، أين اختيارك ؟ أين إرادتك ؟ أين حريَّتك ؟ أين عقلك ؟ أين فكرك ؟ أين محاكمتك ؟ فاعتقدوا اعتقاداً جازماً أنْ ليس إنسان لا يستطيع أن يضلَّ إنسانًا ، والدليل أن الشيطان يوم القيامة يقول :
 
 
﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي
(سورة إبراهيم : آية 22)
     ]مَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [ ، لا يمكن أن يجعل الله لأحدٍ على أحدٍ سلطانًا ، حتى الشيطان :
 
 
﴿وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ
(سورة إبراهيم : الآية 22)
      لذلك إذا توَهَّمت أن فلانًا أضل فلانًا ، هذا الذي أضلَّه عنده رغبةٌ في الضلال ، توافقت رغبة الضَالِّ مع المُضِل ، توافقت الرغبتان ، لذلك هؤلاء الكبراء ، هؤلاء عِلْية القوم ، السادة ، مَن بيدهم الحل والربط ، هؤلاء إذا أمروا أتباعهم أن يعصوا ربهم ، إذا عصى أتباعهم ربَّهم ، وأطاعوا كبراءهم لا يستطيعون أن يعتذروا يوم القيامة ، لأن الله عزَّ وجل أعطى كل إنسانٍ حرية الإرادة ، وأعطاه حرية الكسب ، وأعطاه عقلاً ، وأعطاه فطرةً .
      مثلاً : لو أننا أعطيناك جهازًا إلكترونيًا ، إذا وضعت فيه ورق النقد يكشف لك ما إذا كان مزوراً أو صحيحاً ، هذا الجهاز صغير موضوع في جيبك ، فإذا قبضت دراهم مزوَّرة ، وانطلَتْ عليك ، ومعك الجهاز لفحصها ، ولم تفحصها ، ألست مسؤولاً ؟ أين هذا الجهاز ؟ لمَ لمْ تستعمله ؟ يكفي أن تضع هذه الورقة النقدية عليه حتى يظهرُ على الشاشة ما إذا كانت هذه العملة مزوَّرة أو صحيحة ، القضية سهلة جداً ، والجهاز في جيبك ، فهذا الذي يقول : أنا انطلى علي ذلك ، هذا نقد مزور ، ما كنت أعرف ذلك ، نقول له : لا .. لا عذر لك ، الجهاز معك ، هذا مَثل ، وكذلك العقل ، الله عزَّ وجل أعطاك مفتيًا صغيرًا ، وهو قلبك .
عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ :
(( جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ ، فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ ، وَقَالَ : اسْتَفْتِ نَفْسَكَ ، اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ، ثَلَاثًا ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ
 
 مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ )) .
[ أحمد ، الدارمي ٍ]
أعطاك عقلاً دقيقًا ، معك ميزان عقلي ، وميزان فطري ، فإذا لم تستجب لهذا الميزان العقلي ، ولا لهذا الميزان الفطري فأنت المسؤول ، يقول أحدُهم : فلان أضلّني ، لا .. وهذا الذي يقول : لَعَن الله الشيطان ، هو الذي أغواني ، هذا كلام فارغ ، كلام غير مقبول إطلاقاً ، لذلك هؤلاء الذين حقَّ عليهم القول :
 
 
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا
(سورة القصص : الآية 63)
] هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا [ ، بزعمهم ، هؤلاء الذين أضللنا بزعمهم ، ]أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا [، نحن كنا ضالين ، كنا غاوين فأضللناهم معنا ، والدليل :
 
 
﴿تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾
(سورة القصص)
هم عبدونا في الظاهر ، ولكن رغبتهم وافقت دعوتنا .
 
 
﴿مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾
 
مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ
 
       أي ما كانوا مجبَرين يا رب ، ما كانوا مقهورين ، هم ضلوا باختيارهم ، وافقت شهواتهم دعوتنا ، فضلوا على أيدينا ، ولكنهم هم المسؤولون ، لو فرضنا إنسانًا يرغب أن يسرق ، وجاءه صديق له ، وقال له : أتسرق معي ؟ قال له : نعم ، فإذا وقعا في قبضة العدالة فلا حجة لأحدهما ، هذا لماذا قبلت ؟ أنتَ مخيَّر ، بملءِ اختيارك قبلت أن تسرقَ معه ، هل يقول : أنا لا علاقة به ، هو الذي أمرني ؟ أيُقبل هذا ؟ لا يقبل هذا ، لا يقبل لإنسان وقع في مخالفةٍ للقانون أن يقول : فلان أمرني ، نقول له : أين عقلك ؟ أين اختيارك ؟ أين مُفتيك الصغير ؟ أين الميزان الذي أعطاك الله إياه ؟
 
 
﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ *وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴾
( سورة الرحمن )
    
 عامل الناس كما تحب منهم أن يعاملوك :
 
سوف أعطيك ميزانًا صغيرًا ، حديثٌ صغير جداً قاله النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا الحديث أنت لا تحتاج إلى شيءٍ كبير في تطبيقه ، آخر قال عليه الصلاة والسلام :
(( عامل الناس كما تحب منهم أن يعاملوك )) .
[ ورد في الأثر ]
       أنت بائع ، يقول لك الله عزَّ وجل : لِمَ غششت فلاناً ؟ فبماذا تجيب ؟ لو أن الله عزَّ وجل قال لك : لو أنك أنت المشتري ، وهو البائع ، أترضى منه أن يغُشَّك ؟ تقول له : لا والله لا أرضى ، لِمَ قلت هذه الكلمة لفلانة في الطريق ؟ لو أنها أختك ، وإنسان قال لها هذه الكلمة أترضى منه هذا ؟ تقول : لا والله لا أرضى ، هذا مقياس دقيق جداً ، لِمَ تعامل زوجة ابنك هذه المعاملة ؟ لو أن ابنتك في بيتٍ أترضى أن تعامل هذه المعاملة ؟ تقول له : لا والله ، هذا مقياس ، (( عامل الناس كما تحب منهم أن يعاملوك )) .
إذاً :
 
 
﴿قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ
 
      مِن مسؤولية غواياتهم ، أي نحن يا رب لسنا مسؤولين ، لأنهم ما كانوا إيَّانا يعبدون ، هم أحرار في كسبهم ، هم أحرار في اختيار سلوكهم ، وعقيدتهم ، ومواقفهم ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :
 
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ
(سورة القصص : الآية 64)
 
موقف عصيب بين الأتباع والمتبوعين : وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ
 
       الآن توجَّه الله عزَّ وجل إلى هؤلاء الأتباع الضالِّين قال لهم : ادعوا شركاءكم ليُنقذوكم من النار ، ادعوهم ليدافعوا عنكم ، موقف عصيب بين الأتباع والمتبوعين ، بين الكبراء والصغار ، بين عَلِيَّة القوم وبين الدهْماء ، الإنسان يقول : الناس كلهم هكذا ، هذا كلام باطل ، ما أفعل ؟ " ضع رأسك مع الرؤوس " !!! هذا كلام الشيطان ، كلام الجاهل ، كلام الغبي ، كلام التافه ، كلام ضعيف الشَخْصِيَّة ، أخي هكذا البيئة ، هكذا التقاليد ، هكذا العادات ، أنا ابن بيئتي ، ابن مجتمعي ، ابن معطيات المجتمع ، كله كلام مزخرف فارغ ، الله عزَّ وجل قال :
 
 
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا
(سورة البقرة : من الآية 286)
       انظر إلى هذا الموقف ، أنتم يا أهل مكة إذا رفضتم أن تؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، إرضاءً لكبرائكم ، وزعمائكم ، وقادة الشرك فيكم ، إذا رفضتم الهدى إرضاء لهؤلاء الكُبَرَاء ، فانظروا ماذا سيكون بينكم وبينهم الموقف يوم القيامة ، سوف يتبرءون منكم ، وسوف يكفرون باتِّباعكم لهم ، وسوف لا يعتذرون عنكم .
 
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ﴾
(سورة القصص)
الإنسان حرٌ في كسبه ، وربنا عزَّ وجل تَوَجَّه ثانيةً إلى هؤلاء الأتباع ..
 
 
﴿وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾
(سورة القصص)
 
 إنه مشهدٌ عظيمٌ : فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ
 
      تصوَّر جماعة من اللصوص لهم كبير ، وكان يدَّعي ويَتَبَجَّح بقوله : لا تخافوا ، أنا أحميكم ، أنا أمنعكم ، أنا ، أنا ، فإذا وقعوا في قبضة العدالة ، وصُوِّروا أذِلاَّء حُقَرَاء ، وجاء التحقيق الشديد ، ماذا يقول هذا اللص ؟ يقولون له : أين وعودك لنا ؟ أين حمايتك ؟ أين هذه الحركة ، دعوها لي ؟ إنه موقف مُخْزٍ ، فالإنسان ليس معذوراً يوم القيامة ، أخي والله استحييت ، ما هذا استحييت ؟ أتستحي من الناس ، ولا تستحي من الله عزَّ وجل ، خجلت يا أخي ، الناس كلهم هكذا ، كل شيء تقوله بناءً على ضغط الناس ، وعلى توجيههم ، وعلى تقاليد بالية ، وعادات مزيَّفة ، وعلى ضغط اجتماعي ، هذا كله باطل يوم القيامة ، لذلك اسعَ لرضاء الله عزَّ وجل ، ولا يهُمَّك شيء :
 
 
﴿وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ
(سورة الأحزاب : الآية 37)
       أنا أعتقد أن هناك آلاف المعاصي يفعلها الناس حفاظاً على سمعتهم في المجتمع ، لكي لا يتكلم أحد عليهم ، آلاف المعاصي تقترف حفاظاً على مكانتهم ، هذا الذي يعصي الله ، ويُرْضي إنساناً ليكن هذا موقفه يوم القيامة ، ربنا عزَّ وجل رحمةً بنا أعطانا مشهداً من مشاهد يوم القيامة ، قبل أن يحْصُل ، هذا موقفكم من كبرائكم إذا اتبعتموهم وعصيتم ربَّكم .
 
 
﴿وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ﴾
(سورة القصص)
ولكن لا ينفع الندم عند ساعة الندم .
 
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
(سورة القصص)
 
 احذروا هذا السؤال : مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ
 
        فالإنسان جاءه من الله خطاب ، جاءه قرآن ، جاءته سنة ، استمع إلى خطبة الجمعة ، إلى توجيه الله عزَّ وجل ، وإلى توجيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ماذا كانت إجابتك ؟ ماذا كان موقفك ؟ ماذا كان رد فعلك ؟ ماذا فعلت ؟ ماذا أعطيت ؟ ماذا منعت ؟ من وصلت ؟ من قطعت ؟ هل غضبت لله ؟ هل رضيت لله ؟ ما الموقف الذي وقفته في سبيل مبدئك ؟ ماذا أجبتم المرسلين ؟ الله عزَّ وجل يقول في كتابه العزيز :
 
 
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
(سورة النور : من الآية 30)
      هذا القرآن اعتقده قرآنا أو غير قرآن ، إن كان قرآنا فماذا فعلت ؟ إذا كان غير قرآن فهل بحثت في هذا الكتاب ، وتأكَّدت أنه كلام الله ؟ هل معك حجةٌ قوية على أنه ليس كلام الله ؟ خُذْ موقفًا واضحًا ، هذا الموقف المائع الضبابي الزئبقي ، تبرُّك فارغ ، تعصيه ، وتتبَرَّك به ، تمسك المصحف تقبله من ستة وجوه ، لأنه كتاب الله ، وفي التعامل اليومي لا تأخذ بأحكامه ، في التعامل المادِّي لا ترعى له حقاً ، في التعامل الأخلاقي لا تقيم له وزناً ، في كسب المال لا تهْتَم بأوامره ، في إنفاق المال لا تنضبط بنواهيه ، في علاقتك بأهلك وأولادك تفعل الذي يحلو لك ، ومع ذلك تتبَرَّك به ، هذا موقف مائع ، موقف ضبابي ، موقف غير واضح ، فإما أن تؤمن به على أنه كلام الله بالحجة القاطعة والدليل القاطع ، وعندئذٍ أنت أمام موقف حرج ، إما أن تعصي الله عزَّ وجل ، وإما أن تطيعه ، أما أن يكون إيمانك به إيماناً شكلياً ، وأنت تخالف مضمونه فليس هذا من خلق المسلم :
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
فلان دعاك إلى الله ، قل له : إما أنك كاذب أو صادق ، صادق افعل ما يقول لك ، طالبه بالدليل ، هذا الذي ينقل العلم ليس عنده شيء ، << إنما أنا متَّبع ولستُ بمبتدع >> ، هكذا قال سيدنا الصديق ، << أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم >> .
     لا يستطيع العالِم أن يفعل شيئاً إلا أن ينقل لك كلام الله وسنة رسول الله ، وتنتهي وظيفته ، ليس عنده شيء ، ماذا أجبته ؟ ما الموقف الذي وقفته ؟ ما المعصية التي تركتها بناءً على توجيهه ؟
        مرة ركبت مع أخ في سيارته ، سألته عن هذه السيارة : متى اشتراها ؟ سؤال عابر ، لكن الله ألهمني هذا السؤال ، قال لي : أنا ليس عندي مركبة ، وضاقت نفسي كثيراً ، بيتي بعيد ، وعملي بعيد وأولادي كُثُر، وليس عندي ذكور ، وكنت لا أعرف أوامر الشرع اشتريت ورقة ( يا نصيب ) لعلّي أربح الجائزة الكبرى ، أو أقلّ من الكبرى ، فأقتني مركبة ، بعد أن اشتراها بيومين دخل إلى مسجد ليصلي صلاة الجمعة ، فإذا موضوع الخطبة عن اليانصيب ، قال : والله حينما أيقنت أنها حرام سحبت الورقة من جيبي ومزَّقتها ، يقول هذا الأخ : أنه بعد أيام وأسابيع جاءته صفقةٌ كبيرةٌ جداً ما كان يعهدُها من قبل ، واستطاع أن يوفِّر ثمن هذه المركبة التي يركبها الآن ، فأنا تأثَّرت ، ودمعت عيني ، قلت : كأن الله عزّ وجل يقول له : أنت يا عبدي ، مزَّقت هذه الورقة خوفاً مني ، وأنا أبقيك بلا مركبة ؟ أنت لماذا مزَّقتها ؟ خوفاً مني ، ذكرت هذه القصة ، هو حينما قال الخطيب : هذا حرام سحب  الورقة ومزَّقها ، هذا الجواب :
 
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
      مزَّق الورقة ، قيل لك : لا ينبغي أن تجلس مع نساء أجنبِيَّات ، ماذا أجبت المرسلين بهذا الحكم ؟ يجب أن تمتنع عن كل سهرةٍ مختلطة ، قيل لك : هذا الكسب فيه شبهة الرِبا ، ماذا أجبت المرسلين ؟ الإجابة أن تمتنع عن هذه الصفقة ، أو عن هذه الطريقة في التعامل ، هذه الإجابة قيل لك : إن هذا العمل حرام ، ماذا أجبت المرسلين ؟ قيل لك : يجب أن تؤدِّي زكاة مالك ، ماذا أجبت المرسلين ؟ قيل لك : ينبغي أن تحرص على أن تكون زوجتك في مظهرٍ إسلامي ، ماذا أجبت المرسلين ؟ الإجابة تعني رد فعلك ، ما ردُّ فعلك ؟ ما موقفك ؟ ما العمل الذي فعلته تطبيقاً لهذا التوجيه الإلهي ؟ ما الشيء الذي تركته في سبيل الله ؟ ما الذي فعلته ؟ ما الذي أنفقته ، ما الذي منعته ؟ لماذا رضيت ؟ لماذا غضبت ؟ لماذا وصلت ؟ لماذا قطعت ؟ أي :
 
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
      أي ما المواقف التي وقفتموها بناءً على توجيه الله لكم ؟ ماذا وقفت ؟ كيف اخترت زوجتك بعد أن قال الله لك :
 
﴿وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ
(سورة البقرة : من الآية 221)
      هذا كلام الله عزّ وجل ، وإذا بحثت عن امرأةٍ كي تكون لك زوجة كيف تختارها في ضوء هذه الآية ؟ يجب أن تختارها مؤمنةً قبل كل شيء ، لأنها أمُّ أولادك ، ربنا عزّ وجل قال :
 
﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾
(سورة النساء : من الآية 77 )
     أنت ماذا أجبت المرسلين بهذه الآية ؟ انهمكت إلى الدنيا ؟ غصت فيها ؟ أم بقيت فيها في حدود الشرع ؟
 
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾
(القصص)
 
 هذا هو حالُهم : فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءلُونَ
 
 
 من التصوير البلاغي في القرآن : فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاء
 
      هذه صورة من أروع الصور ، العمى يجب أن يصيبهم هم ، قال : لا .. الأنباء عَمِيَت عليهم ، أي جاءتهم الأنباء ، ولكنها لم تصل إليهم ، كانوا في عُزْلةٍ شديدة ، أي أن شقاءهم ، وخجلهم ، ودناءتهم ، وصغارهم كأنَّهم في معزلٍ عن الأخبار ، لم تعمَ قلوبهم ، بل عميت عنهم الأخبار .
إنّ الإنسان أحياناً يكون في هم كبير جداً ، وأخبار مثيرة جداً لا يسمعها ، لا يفهم منها شيئاً ، ألم نقل لك : أن فلانًا توفي ؟ يقول لك : والله لم أنتبه ، معنى ذلك أنه داخل في عزلة شديدة ، داخل في همّ كبير ، داخل في قضية أنستْه كل شيء ، هذه معنى قول الله عزّ وجل :
 
﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ
الإنسان أحياناً يأتيه خبر ينسيه كل خبر ، تأتيه قضية تنسيه كل قضية ، تأتيه مشكلة تنسيه كلَّ مشكلة ، حينما عرف أنَّه في شقاءٍ أبدي ، وأن هذه الجنة التي وعد الله بها المؤمنين خسرها خسارةً أبدية ، وأن كل خسارةٍ في الآخرة لا تعوَّض ، في الدنيا التاجر يفلِّس ، ومع ذلك بعد سنوات فإنه يعود كما كان ، الطالب يرسب في صفه ، ولكنه يعيد السنة فينجح ، فكلما جاءت مشكلة في الدنيا فإن هناك تعويضا ، وهناك تصحيحًا ، أما يوم القيامة فإن هذه الخسارة خسارةٌ أبدية ، فلما أيقن أنه خسر الآخرة ، وخسر الجنة ، وأنه في جهنم ، وبئس المصير إلى أبد الآبدين ، دخل في عزلةٍ شديدة ، ودخل في ألمٍ شديد ، لذلك إضافةً إلى العذاب المادِّي إلى عذاب النار الذي أَلْمَحْ به القرآن :
 
﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾
(سورة المؤمنون )
 
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾
( سورة النساء : من الآية 56)
      إضافةً إلى هذا العذاب المادي هناك عذابٌ نفسيٌ لا يحتمل ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام :
((إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول : يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى ، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب )) .
[ الجامع الصغير عن جابر بسند فيه ]
 
      إذا فاتَ الإنسانَ شيء ثمين جداً في الدنيا خسر خسارة كبيرة جداً ، ضيَّع فرصة ثمينة جداً لا تعوَّض ، يقول لك : أحسست أن قلبي سيقف ، شعرت بضيق لا يحتمل ، ضاقت عليَّ الأرض بما رحُبَت ، هذا عذاب الدنيا فيكف بعذاب الآخرة ؟ فلذلك ربنا عزّ وجل سرَّب لنا هذا السؤال ، في الآخرة توجد أسئلة ، يوجد امتحان صعب ، لكن رحمةً بنا فإن ربنا عزّ وجل هذه الأسئلة أسرَّبها لنا في الدنيا من خلال هذه الآيات ، السؤال الخطير هو :
 
﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾
 
ماذا قدّمتَ ؟
 
     أي ماذا فعلت ؟ قال له : يا عبدي ماذا فعلت من أجلي ؟ يا ربِ تركت الدنيا زهداً بها وحباً بك ، وفعلت كذا ، فقال له : أما زهدك فقد تعجَّلت فيه الراحة لقلبك ، وأما كذا فلك ، وكذا فلك ، ولكن ماذا فعلت من أجلي ؟ تقول : أنا أغض بصري ، هذا شيء جميل ، بارك الله بك ، ولكن أرَحْتَ نفسك ، ودخلت في الصفاء والروحانية ، أو تقول : أنا دخلي حلال ، بارك الله بك ، فأنت ضمنت أن يكون مالك محفوظًا ، أو تقول : أنا ليس عندي اختلاط ، بارك الله بك ، كذلك ضمنت حياة مستقرة ليس فيها فتن ومشكلات ، ولكن ماذا قدَّمت ؟ بماذا ضَحَّيت ؟ ماذا فعلت من أجلي ؟ ما الشيء الثمين الذي قدَّمته ؟ هذا هو السؤال : ماذا أفعل من أجلك ؟ يقول لك : هل واليت فيّ ولياً ؟ هل عاديت فيّ عدواً ؟ هل قدَّمت خدمة لمسجد ؟ ساهمت ببناء مجتمع مسلم ؟ قدمت لبنة في بناء خيريّ ؟ علَّمت الناس العلم ؟ عاونت على نشر الحق ؟ كنت دعمًا للحق ؟ وهَّنت الباطل وقويت الحق ؟ نصرت المؤمنين ؟ عاونتهم وساهمت بفعل خير ؟ ماذا فعلت من أجلي ؟ السلبيات جيدة جداً ، ولكنها غير كافية .
      إذا كان الطالب في المدرسة طالبا ملائكيًّا ، لا يؤذي أحدًا ، ولا يضرب زميله ، نظيف ، ساكت ، هادئ ، ولكنه لا يدرس ، في آخر السنة السلوك جيد جداً ، والنتيجة رسوب ، في الرياضيات ضعيف ، في الفيزياء ضعيف ، في العربي ضعيف ، السلوك جيد ، والنتيجة رسوب ، ولكن ماذا فعلت من أجلي ، ماذا قدَّمت ؟ السؤال دقيق ، بماذا تلقى الله غداً ؟ قال له : يا فلان لا صدقة ، ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً ؟ هذا السؤال أخطر سؤال بالنسبة لنا ، بماذا تلقى الله يوم القيامة ؟ ما العمل الذي تقدمه لله عزّ وجل ؟ يا ربٍ اشتريت بيتًا ، آويت نفسك ، ويا ربٍ زينته ، عملت هكذا ، ورتبت أموري ، نظَّمت أموري ، أنا أنيق بلباسي ، مرتَّب ، عندي أذواق في الطعام والشراب ، لي أذواق بالرحلات والسياحة ، هذا الكلام لا يُحكى كله ، ولكن ماذا فعلت من أجلي ؟
       يقولون : إن أحد الصحابة جاء النبي عليه الصلاة والسلام ليجاهد معه ، ولكن هذا الصحابي كان فقيراً لا يملك دابةً يركبها ، فالنبي ردَّه لأنه لا يوجد دواب ، حينما ردَّه انهمرت عيناه بالدموع ، فربنا عزّ وجل إكراماً له ذكره في القرآن الكريم :
 
﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ﴾
(سورة التوبة : آية " 92)
       عاد إلى البيت ، فناجى ربه وقال : يا ربِ ، أنا لا أملك شيئاً ، لكنني تصدَّقت بعرضي على المؤمنين ، فأي مؤمنٍ شتمني ، أو نال مني أُشْهدك أني سامحته ، يقال : إن النبي قال في اليوم الثاني : من تصدَّق الليلة ؟ هذا شخص لم يدفع شيئًا ، ليس معه شيء ، لأنه فقير جداً ، النبي أُخبر من قِبل الله عزّ وجل أن الله قَبِل صدقته ، الله عدَّها صدقة ، تصدَّق بعرضه على المؤمنين ، أي أن أي مؤمن شتمه أو نال منه قال : يا ربِ أنا أسامحه ، وهذا الذي أملكه .
القصد من القصة أنه يجب أن تقدم شيئاً ، دعوة ، عملاً صالحًا ، خدمة ، صدقة ، معونة ، مساهمة في بناء مسجد ، مساهمة في خدمة الناس ، رعاية لأولادك ، خدمة لإنسان لا تعرفه، لابدّ من أن تقدِّم شيئاً، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح ، والعمل الصالح يرفعه : لا صدقة ولا جهاد ، فبمَ تلقى الله إذاً ؟ .
      أحياناً أب مثالي ربىَ أولاده حتى كبروا ، زوَّجهم وأرشدهم ، علَّمهم ، ربَّاهم ، حتى جعلهم عناصر طيبِّة في المجتمع ، ربىَ بنات على طاعة الله ، على حفظ القرآن ، على طاعة الزوج ، حجَّبهم ، إلى أن زوَّجهم ، أي أن هذا حد أدنى ، أولادك شهادتك ، حد أدنى ، بيت مسلم ، بيت منضبط ، اشتغل ، عمل ، قدَّم للمسلمين سلعة نظيفة ، متقنة ، سعرها معتدل ، لم يكذب عليهم ، ولا غشهم ، ولا استعلى عليهم ، ولا استغل حاجتهم لهذه السلعة ، كان منصفًا ، هذا عمل تَلْقى الله به ، إنسان له والدان أكرمهما ، النبي الكريم يقول :
(( رغم أنف عبد أدرك والديه فلم يدخلاه الجنة)) .
[ مسلم عن أبي هريرة ]
       أي أنك إذا أكرمت والديك ، وكنت باراً بهما فهذا العمل يكفي أن تلقى الله به .
عندك بر الوالدين ، هداية الزوجة والأولاد ، إتقان العمل في صنعتك ومهنتك ، عدم غش المسلمين ، قلنا لك سابقا : إن حرفةَ الإنسان ومهنته إذا كانت مشروعة في الأصل ، ومارسها بطريقةٍ مشروعة ، لم يكذب ، لم يغش ، لم يدلِّس ، وابتغى بها أن يكفي نفسه وأهله ، وأن ينفق من المال الذي كسبه منها في طاعة الله ، وابتغى منها نفع المسلمين ، ولم تشغله هذه الحرفة عن طاعة الله ؛ لا عن صلاةٍ ، ولا عن مجلس علمٍ ، هذه الحرفة نفسها هي عبادة لله عزّ وجل ، أي يجب أن تنقلب أعمالك من عادات إلى عبادات ، قمنا الصبح وأكلنا ، وذهبنا إلى الشغل ، وفتحنا المحل ، الظهر تغذينا ونمنا ، وعشية عندنا سهرة ، هذه عادات ، يجب أن يكون الطريقُ واضحاً ، إذا فتحت باب محلك التجاري لماذا أنا أعمل هذا العمل ؟ يجب أن أبتغي بهذا العمل وجه الله ، يجب أن أخدم المسلمين ، يجب أن أكسب مالاً أنفقه في طاعة الله ، يجب أن أكفي أهلي وأولادي ، يجب أن يكون عملك خالصاً لله ، حتى مهنتك ، حتى حرفتك ، حتى تربية أولادك ، حتى لو أخذت أهلك نزهةً ، إنك بهدف أن تُدخل على قلبهم السرور ، من لهم غيرك ؟ حتى إذا جلست مع أهلك مساءً هذه الجلسة من العبادة ، حتى إذا اشتريت ثياباً لبستها إنَّك تمثل المسلمين ، تمثِّل هذا الدين العظيم ، لا ينبغي أن يكون في مظهرك نقدٌ ، أو شيءٌ تنتقد فيه ، لذلك المؤمن كل أعماله خالصة لوجه الله ، حتى لو أخذت قسطاً من الراحة ، النوم يُكتب لك عبادة ، لأنك تنام لتقوى على طاعة الله عزّ وجل ، إذا دخلت في هذه المعرفة انقلبت أعمالك كلُّها عبادة ، إذاَ :
 
﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ * فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ * فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
(سورة القصص)
 
 آهٍ لولا رحمة ربي : فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ
 
        تاب وآمن وعمل صالحاً ، تاب عن كل ذنبٍ سبق منه ، وآمن بالله ، ومن مقتضيات الإيمان بالله أن يكون عمله صالحاً فعسى إن كان مخلصاً ..
 
فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ
 
﴿أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
وكلمة ( عسى ) جاءت تحفظاً من أجل الإخلاص ، فعسى إن كان مخلصاً ..
 
﴿أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ﴾
الردُّ السادس :
الرد السادس على قول هؤلاء المشركين :
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا﴾
( سورة القصص  : من الآية 57)
 
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
(  سورة القصص)
       ربنا عزّ وجل يخلق ما يشاء ، هو الخلاَّق ، هو الخالق لأفعال عباده ، هؤلاء الذين خافوا أن يخطفوا إذا اهتدوا ، من هو الفعال ؟ هو الله عزّ وجل ، هل هناك فاعل إلا الله عزّ وجل ؟ هل يقع فيه ملكه شيءٌ ليس من إرادته ؟ أنتم إذا خِفْتُم من بني البشر فإن هذا الخوف فيه شرك ، لمجرَّد أن تخاف من إنسان ، ولا تخاف من الواحد الديَّان فهذا أحد أنواع الشرك ، لأنك اعتقدت أن هذا الإنسان فيه قوة ، بيده أن يفعل شيئاً ، بيده أن ينفع ، بيده أن يضُر ، هذا الاعتقاد شرك ، فإذا خفت أن تتخطف من أرضك ، وأن تفقد حياتك على يدِ هؤلاء الذين تخاف منهم فهذا نوعٌ من أنواع الشرك :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
 
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ
 
هو الخالق ، هو خالقٌ لأفعال عباده ، ماذا قال سيدنا هود ؟ قال :
 
﴿فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾
(سورة هود)
       أي وحوش كاسرة كلها مربوطة بأزِمَّة محكمة بيدِ عليمٍ ، حكيمٍ ، قديرٍ ، عادلٍ ، منصفٍ ، لطيفٍ ، خبيرٍ ، غنيٍ ، قويٍ ، فإذا خفت من هذه الوحوش ، ولم تر تلك الأَزِمَّة التي تربطها بهذه اليدٍ العليمة الحكيمة فأنت لا تعرف شيئاً ، لمجرد أن تخاف من إنسان فهذا الخوف فيه معنىً من معاني الشرك ، يجب أن تعتقد أن هذا الإنسان ليس بيده شيء ، الأمر بيدِ الله عزّ وجل ، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ ، وَجَفَّتْ الصُّحُفُ )) .
[ الترمذي عن ابن عباس [ٍ
إذاً علاقتك مع الله عزّ وجل :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
        لمجرَّد أن تخاف من إنسان فهذا نوعٌ من الشرك ، أما هذا الإنسان إذا سمح الله له أن يصل إليك يصل إليك ، أنت تخاف من الله قال له :
(( موسى خفني ، وخف نفسك ، وخف  من لا يخافُني )) .
[ ورد في الأثر ]
 
 لا خيار لأحدٍ أمام أمر الله : مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ
 
أن أسمح له أن يصل إليك طبعاً . ويختار من الشرع الحكيم ، والتوجيه الصحيح ، والأمر النافع ، والنهي عن كل شيء ضار ، يختار :
 
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾
(القصص : آية " 68)
     فأمام أمر الله ليس لك اختيار ، لا تقل : أنا رأيي كذا ، أنا أرى كذا ، لا أعتقد أن هذا الشيء لهذا الزمان صالح ، أن تُدْلي برأيٍ مع أمر الله عزَّ وجل ، ومع نهيه هذا بعيدٌ عن أن تؤمن بالله عزّ وجل :
 
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
(سورة الأحزاب : من الآية 36)
        الله عزّ وجل أمرك بغضِّ البصر ، والله أنا رأيي أنه لا أغض بصري غضًّا كاملاً ، أنا لا أنظر بشهوة ، بل أنظر بلا شهوة ، أنت عندك حل وسط ، عندك رأي ثانٍ ، فالآية لستَ مقتنعاً بها ، فاتخذت حلاًّ آخر ، هذا خلاف الإيمان كله :
 
﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾
(سورة الأحزاب : آية 36 )
      مع أمر الله ليس هناك اختيار ، هو الخالق ، هو الصانع ، هو الخبير ، هو العليم ، أنت لا شيء هو العالم ، هو العليم ، هو الحكيم ، إذاً :
 
﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ﴾
ويختار لهم من الشرائع :
 
﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾
(سورة القصص)
         إن شاء الله نعود لهذه الآية مرة ثانية في الدرس القادم لأهميتها الكبيرة ولما تنطوي عليه من معانٍ دقيقة ، ونتابع ردود الله عزّ وجل على مقولة هؤلاء الكفَّار :
 
 
﴿وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا
الحمد لله رب العالمين
 
 
 
 



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب