سورة البقرة 002 - الدرس (62): تفسير الآيات (183 - 186) الصيام وفوائده

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (62): تفسير الآيات (183 - 186) الصيام وفوائده

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج منارات مقدسية: منارات مقدسية - 272 - مقبرة باب الرحمة           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 07 - بشرى لمن قصف بيته - الشيخ محمد نور           برنامج الكلمة الطيبة 2024: الكلمة الطيبة - غزوة أحد           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 388 - سورة المائدة 006 - 006           برنامج بريد الأسرى: بريد الأسرى - 15 - 04 - 2024           برنامج موعظة ورباط: موعظة ورباط - 06- غزة وخزة ايقاظ- د. عبدالوهاب الطريري         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - استكمال تفسيرالآية: (183 - 186) - الصيام وفوائده

20/03/2011 18:41:00

سورة البقرة (002)
الدرس (62)
تفسير الآيات: (183-186)
الصيام وفوائده
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب  النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً
 وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
العبادات معلَّلةٌ بمصالح الخلق :
 
أيها الأخوة المؤمنون... مع الدرس الثاني والستين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة والثمانين بعد المائة، وهي قوله تعالى:
        
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
الإمام الشافعي رحمه الله تعالى له مقولةٌ رائعة، يقول: "العبادات معلَّلةٌ بمصالح الخلق"، ففرقٌ بين العبادة والطَقْس، الطقس حركات، وسكنات، وتمتمات، وإيماءات لا معنى لها، وضعها رجال الأديان الوضعيَّة
 كي يجذبوا عقول الناس وقلوبهم، إلا أن العبادات من عند خالق الأرض والسماوات معللةٌ بمصالح الخلق.
فلأن الإنسان خُلق ليعرف الله، وليحْمل نفسه على طاعة الله، وليتقرّب إلى الله، فالله سبحانه وتعالى جعل من هذه العبادات وسائل للتقرب إلى الله عزَّ وجل، فلا خيرَ في دينٍ لا صلاة فيه، ولا خيرَ في دينٍ لا
 صيام فيه، أو في دينٍ لا حجَّ فيه، أو لا زكاة فيه. حينما يقول الله عزَّ وجل:
﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ  ﴾.
معنى ذلك أن الإنسان هو الإنسان، وأن الله واحدٌ لا شريك له مهما تعددت الاتجاهات، أو اختلف أهل الأديان، ومهما تقاتلوا فالإنسان واحدٌ، هو الإنسان، والله واحد، أيْ أنَّ خصائص الإنسان واحدة،
 وقوانينه واحدة، بُنَى نفسه واحدة، وسِماته واحدة، لذلك: ما كان حلالاً عندنا ينبغي أن يكون حلالاً عند غيرنا في الشرائع السابقة لأن الدين واحد.
 
الدين واحد أما الشرائع فمختلفة :
 
بالمناسبة: قد تستغربون أن الله سبحانه وتعالى وصف أنبياءه واحداً وَاحداً بأنه مُسْلِم، فالدين هو أن تستسلم لله، وأن تخضع له، والدين هو غاية الخضوع وغاية الحب، والدين معرفة وطاعة وسعادة ـ هذا هو
 الدين ـ فالدين واحد، والشرائع مختلفة، وكل أمَّة لها ظروفها، أما أنه على مستوى الأصول فالأصول واحدة، والدليل:
     
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
إلا أن الله سبحانه وتعالى شرَّفنا وكرَّمنا بنبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلَّم، فهو آخر الأنبياء وخاتَمهم، وشريعته آخر الشرائع، لذلك تولَّى الله بذاته حفظَ دينه..
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾
[ سورة الحجر: 9 ].
من لوازم حفظ دينه حفظ قُرآنه، ومن لوازم حفظ قرآنه حفظ سُنَّة نبيِّه، والصيام عندنا كما أنزله الله هو إلى الآن كذلك، أما هناك أديان أخرى، أو شرائع أخرى أصابه تعديلٌ، وتبديلٌ، وإطالةٌ، وحسمٌ،
 وقصرٌ إلى أن أصبح صياماً غير الذي كلَّف الله به هؤلاء الأقوام السابقة.
على كلٍ ما دام الإنسان هو الإنسان، وما دام خالق الأكوان واحد لا بد أن تتحد الشرائِع، ووحدة المصدر دليل وحدة الفروع، فإذا كانت هذه الأديان، أو هذه الشرائع من عند الله عزَّ وجل فينبغي أن
 يكون فيها توافقٌ وانسجام، وهذه الآية تؤكّد هذه الناحية:
      
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
 
من فوائد رمضان أنَّه يقوي الإرادة :
 
لعلَّ موضوع الصيام موضوعٌ طويل، لكنه ـ بشكلٍ مختصر ـ قد يعرفُ الإنسان الحقيقة وقد تضعف نفسه عن تطبيقِها، وقد يعرفُ الخير، وربما لا يتَّجه إليه، وقد يعرف الشر، وينجذب إليه، قد يعرف ما
 ينفعه فلا يُقبل عليه، وقد يعرف ما يضره فينسحبُ إليه، فماذا نسمي هذه الحالة؟ حالة ضعف إرادة، بالضبط كما لو رأيت طبيباً يدخِّن، يمكن أعلم إنسان بمضار التدخين هو الطبيب، ومع ذلك قد يدخن
 لأنه ضعفت إرادته عن التعامل مع معقولاته، ومع مسلَّماته، فلعلَّ الصيام جعله الله تقويةً لإرادتنا.
الله عزَّ وجل أحلَّ لنا الطيبات وحرَّم علينا الخبائث، أحلَّ لك أن تأكل، وأن تشرب، وأن تنام، وأن تقترن بزوجتك، لكنه في نهار رمضان حرَّم عليك ما أباحه لك في غير رمضان؛ حرَّم عليك الطعام
 والشراب، وسائر المُفطرات، من أجل ماذا؟ قال بعض العلماء: من أجل أن تقوى إرادتك، فأنت في رمضان تركت المُباحات، فلأن تدع المحرمات من باب أولَى.
هل تصدقون أن إنساناً في رمضان يطلق عينيه في الحرام؟ وإنْ فعل هذا فلا معنى لصيامه، وترى الناس في رمضان يغضّون أبصارهم، ويضبطون ألسنتهم، ويرتادون المساجد، وتراهم في رمضان يصلّون الفجر في
 مَسجد، فلعلَّ الله عزَّ وجل حينما فرض علينا الصيام فلكي نألف ترك المُباحات، فلأن نقوى في رمضان على ترك المحرَّمات من باب أوْلَى، وحملك على ترك المباحات في رمضان، فقد حرَّم عليك أن تشرب
 كأس الماء في رمضان، وليس في الأرض شريعةٌ تحرِّمه، فأنت ممنوع أن تشرب، وأن تأكل، وأن تقترِن بمن سمح الله لك بالاقتراب منها في رمضان، وأنت في هذا الوقت تركت المباحات، وتركت الذي أحلَّه
 الله لك، فتجد نفسك قوياً على ترك ما حرَّمه الله عليك، فهذه واحدة من فوائد رمضان، إنَّه يقوي الإرادة.
 
شهر رمضان يحجِّم الإنسان ويقوي به معاني العبوديَّة لله عزَّ وجل :
 
الإنسان أيها الأخوة قد يعيش في وَهْم، وقد يكون قوي البُنية، كثير المال، فهو واهمٌ أنه إنسان قوي يفعل ما يريد، ويأتي رمضان ـ فهذا الإنسان الكبير الذي له شأنٌ خطير، والذي يهابه الناس، وينصاعون
 لأمره ـ تجده هو نفسه مفتقراً لكأس ماء، وإذا صام الإنسان في أشهر الصيف الحارة والطويلة، بدءاً من الظهر كل خواطره كأس ماء، أو  كأس عصير، وقد تكون شخصاً مهماً جداً، ولك مكانة كبيرة
 أشعرك بعبوديَّتك لله عزَّ وجل، وأشعرك أنك مفتقرٌ إليه، وأن وجودك متوقفٌ على إمداده، فلولا هذه الّلقيمات التي تأكلها، وهذا الماء الذي تشربه لانعدمت الحياة.
إذاً تعريفٌ آخر لهذا الشهر الكريم: إنه يُحَجِّم الإنسان، يضعه في حجمه الحقيقي، ويقوي به معاني العبوديَّة لله عزَّ وجل، ويعرِّفه بضعفه، فأنت ضعيف، ومفتقر لكأس ماء، وللُقيمات. والقصة التي نرويها كثيراً
 أن بعض الخلفاء سأله وزيره فقال: يا سيدي بِكَمْ تشتري هذا الكأس من الماء إذا مُنِعَ منك؟ قال: بنصف مُلْكِي. قال: فإذا مُنِعَ إخراجه؟ قال: بنصف مُلكي الآخر. إنه إنسان مفتقر لشربة ماء، فأنت في
 رمضان تقوى إرادتك على طاعة الله، لأن الله حَمَلَك على تركِ المُباحات، المألوفات التي لا تحرِّمها شريعة، فلأن تَدَعَ المحرَّمات فهذا من باب أولى.
النقطة الثانية: أنك في رمضان تشـعر بقيمة إمداد الله لك وأنت عبدٌ، فالإنسان توجد في جسمه أجهزة دقيقة جداً، وأدق قناةٍ في الجسم قناة الدمع، وهذه لوسُدَّت ـ مع أنها ليست خطيرة ـ فالدمع يفيض
 دائماً على وجنتيك، وأنت مضطر إلى منديل لتمسح الدمع دائماً، هذا الدمع قلوي ربما أثَّر على خديك فأصاب الجلد بالالتهاب، لو أن قناة الدمع سُدَّت لأصبحت حياة الإنسان لا تطاق، وأحياناً الإنسان
 يجور في قصّ ظفره قليلاً، فإذا وضع يده في شيءٍ حامض شعر بحُرقة، لأن الأعصاب معيَّرة تعييراً دقيقاً جداً، أعصابك معيَّرة. وأجهزة الهضم، والإفراز، والدوران، والأعصاب، والجهاز الحركي، فالإنسان
 يدقق في أجهزته، في عظامه، وعضلاته، وفي جهازه الهضمي، وعمل الكبد، وعمل البنكرياس، شيء لا يصدَّق، فهذا كله يعمل بانتظام وأنت في غفلةٍ عن هذا النظام الدقيق.
 
الإنسان حينما يفتقرُ إلى الله يتولاَّه الله وحينما يستغني عن الله يتخلَّى الله عنه:
 
إذاً أنت في رمضان تشعر أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ على عباده بهذا الطعام والشراب، ولذلك قال تعالى واصفاً الأنبياء أنهم:
﴿ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ﴾.
[ سورة  الفرقان: 20].
كلامٌ دقيق، أيْ هم مفتقرون في وجودهم إلى شيءٍ يُضاف إليهم، أما ربنا عزَّ وجل:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ ﴾.
[ سورة الإخلاص: 1ـ2].
وجوده لا يستمدُّ من شيءٍ آخر، وجوده صمديّ، وذاتيّ، أما أنت فمفتقر إلى الطعام، والهواء، والماء، واللباس، والمأْوَى، وإلى زوجة، ووَلَد، وإذا أردنا أن نعدِّد ما أنت مفتقرٌ إليه سنجد ملايين مملينة،مفتقر إلى
 من يقصُّ لك شعرك، وإلى أداةٍ تقصُّ أظافرك، وإلى من يخيط لك ثيابك، وهكذا. إذاً كأنك فـي رمضان تـعرف حجمك الحقيقي، وتعرف ضعفك.
لا تنسوا أيها الأخوة أن الإنسان حينما يفتقرُ إلى الله يتولاَّه الله، وحينما يستغني عن الله يتخلَّى الله عنه..، "ومن اتكل على نفسه أوكله الله إليها ". والدرسان الشهيران درس بدر، ودرس حُنين، ففي بدر
 أعلن المؤمنون افتقارهم إلى الله فنصرهم. وفي حنين قال أحدهم: " لن نُغْلَبَ من قِلَّة "، فتخلَّى الله عنهم:
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾.
[ سورة التوبة: 25].
 
عندما قَبِل الإنسان حمل الأمانة أصبح في خطر :
 
قال تعالى:
       
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
أيْ: تتقون غضبَ الله، ومعصيته، وشقاء الدُنيا، وعذاب الآخرة، وأنك أمام خطر، فكلمة اتقى أي يوجد خطر، اتقى من وقى، والوقاية من الخطر، ولأنك قبلت حمل الأمانة فأنت في خطر:
 
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾.
[ سورة الأحزاب: 72 ].
لأنَّك قبلت حمل الأمانة فأنت في خطَر، وعندما يركب الإنسان طائرة وهناك احتمال أن تسقط، الأصل في خطر، هو بين السماء والأرض، وهذا الإنسان الذي قَبِلَ حمل الأمانة إنه إن سما عقله على شهوته
 أصبح فوق الملائكة، وإن سمَت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان، لأنك إنسان ومعنى ذلك أنك قبِلت حَمل الأمانة، ولأنك قبلت حمل الأمانة إما أن ترقى إلى أن تكون فوق الملائكة، وإما أن يسقط
 الإنسان ـ لا سمح الله ولا قدَّر ـ فيكون دون الحيوان، هذه هي، فنحن في خطر.
 
الشهوة قوة دافعة :
 
الإنسان بالأساس فيه شهوات:
 
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾.
[ سورة آل عمران: 14 ].
فيه شهوات، ومعنى شهوة أي قوة دافعة؛ إنسان بلا طعام ولا شراب يصبر يوماً أو يومين، وبعد ذلك إن رأى طعاماً اندفع إليه ليأكله، ليحافظ على وجوده، فالشهوة قوة دافعة، وهذه القوة الدافعة يمكن أن
 تُلبَّى بزاوية مفتوحة جداً، فهناك منهج إلهي أعطاك زاوية محدودة، أنت تلبِّي حاجة الجوع بطعامٍ تشتريه من مالٍ اكتسبته بطريقٍ مشروع.
وأنت فيك شهوات، وهذه الشهوات لولا العلم لأصبحت قوى مدمِّرة، ولصارت قوى عدوانيَّة، وهذا الكأس ربما لا تشتهيه لو أبقيتَه سنواتٍ وسنواتٍ على المنضدة، فهو لا يتحرَّك، أما أنت فحركي، كائن
 من لحم ودم فيك شهوات، لا بد أن تتحرك كي تأْكُل، وهذه الحركة من يضبطها؟ إنه منهج الله عزَّ وجل، ولذلك جاء في الشرائع افعل ولا تفعل، الآن العالَم كله يتحرَّك ليأكل، ولكن كيف يتحرَّك؟ قد
 يعتدي، وقد يسرق، قد يحتكِر، قد يُقيم تجمُّعات اقتصادية فيعيش هؤلاء في ترفٍ ما بعده ترف، وتعيش الشعوب في فقرٍ ما بعده فقر، حركة لأخذ كل شيء.
النقطة الدقيقة هي: أن الإنسان أودِعَت فيه الشهوات، صار إنساناً متحركاً، وهذه الحركة من يضبطها؟ تصوَّر لو أن مركبة تنطلق بسرعة عالية، لو لم يوجد فيها سائق، أو لا يوجد فيها مقود فالحادث حتمي،
 بل الحادث محقَّق وحتمي..
يا أيها الأخوة... كلمة " لعلَّكم تتقون " أيْ أنك في خطر، وكلكم يرى ويسمع عن إنسان قد يسرق، أو يزني، أو يقتل، أو يغتصب، أو إنسان يحتال، أو يدلِّس، في حركة واسعة جداً كلها على أساس
 المعاصي والآثام لأن الإنسان يريد أن يأكل أَطيب الطعام، وأن يسكن أجمل بيت، وأن يركب أجمل مركبة، وأن يقترن بأجمل زوجة، إذا لا يوجد منهج، أو لا توجد قناة نظيفة لهذه الحركة صار هناك عدوان.
 
طرق الوقاية من السقوط :
 
يا أيها الأخوة... إنه شهر رمضان من أجل أن تُرَشَّد هذه الحركة بمنهجٍ قوي. وكيف تُرشَّد هذه الحركة؟
 
1 ـ أول وقاية من السقوط عن طريق البيان :
 
إما بمنهجٍ بياني افعل ولا تفعل، أو بذوقٍ رفيع، أو بمشاهدةٍ لحقائق الأشياء، فالإنسان أحياناً يملك قدرة رؤية صحيحة، وهذه الرؤية تمنعه من أن يسقط، تماماً كما لو أنك تركب مركبة والطريق وعر جداً، فيه
 حُفر كبيرة، ووديان سحيقة، وأكمات، والليل مظلم، والآن منهج الله هو المصباح الذي يُريك الأكمة، والعقبة، والحفرة، وكل الأخطار، فما دمت حريصاً على سلامتك ـ بحسب فطرتك ـ ومعك
 مصباحٌ كشَّاف كشف لك أبعاد الطريق، فأنت في سلام، ولذلك أول وقاية من السقوط عن طريق البيان.
 
2 ـ الوقاية الثانية عن طريق الذوق :
 
هناك وقاية ثانية عن طريق الذوق، وكلَّما اتصلت بالله عزَّ وجل نَمَت أحاسيسك الأخلاقيَّة، فتأبى الموقف اللا أخلاقي؛ وتأبى العدوان، أما حينما تنمو مشاعرك الإيمانية إلى درجة أعلى فتشاهد الحقيقة، ولذلك الأنبياء الكرام:
﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ ﴾.
[ سورة يوسف: 24 ].
المؤمن في عنده رؤية صحيحة، المؤمن يرى الحقيقة؛ ويرى ما وراء الكسب الحرام، وما وراء الزنى، وما وراء العدوان، ويرى أن هناك إلهاً عظيماً، سوف يحاسب، وسوف يُعاقب. وهذه الرؤية تجعله ينضبط بمنهج الله عزَّ وجل.
لذلك لعلَّكم تتقون، أيْ تتقون الخَطَر؛ خطر الشقاء في الدنيا، وخطر الشقاء في الآخرة، وأن يكون الإنسان معرَّضاً لسخط الله، ومعرَّضاً لعدل الله.. " لا يخافن العبد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربَّه "..
ولأنك من بني البشر فأنت في خطر، ولأنك قبلت حمل الأمانة، والأمانة نفسك التي بين جَنْبَيْك:
 
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾.
[ سورة الشمس: 9ـ10 ].
فإذا انتبهت إلى هذه الناحية، جعلت من الشرع موجِّهاً لك، وشعرت من اتصالك بالله عزَّ وجل نوراً يهديك سواء السبيل.
 
التقوى تكون بالنور أو بالبيان :
 
يا أيها الأخوة الكرام... لأنك إنسان أنت في خطر؛ خطر هذه الشهوات التي أودعت فيك، والخطر أن تدفع الإنسان إلى السقوط، فصار الصيام من أجل أن تتصل بالله، ومـن أجل أن تقوى على طاعته، وأن تستنير بنوره..
 
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ﴾.
[ سورة الحديد: 28 ].
إذاً التقوى تكون بالنور، أو بالبيان، فإما أن يقال لك: هنا يوجد منعطف خطر، بياناً، أو أن ترى هذا المُنعطف، لا بد من أن تتقي الوقوع في هذا المنعطف..
 
﴿ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ﴾.
لحكمةٍ إلهيةٍ بالغة جُعِلَ هذا الصيام أياماً معدودات في شهر رمضان..
    
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾.
والله عزَّ وجل جلَّ في علاه قال:
 
﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا ﴾.
[ سورة البقرة: 286 ].
هو وحده يعرف وسْع النفسِ، فلذلك ربنا عزَ وجل هو وحده يعطي الرُخَص، أما أن تعتقد أنك وحدك تعرف وسعة نفسك فهذا خطأٌ خطير جداً.
 
علَّة الإفطار في رمضان السفرُ أو المرض :
 
الله عزَّ وجل هو وحده يعلم وسْعَ النفس، لذلك هنا:
      
﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ ﴾.
أيْ أنَّ علَّة الإفطار في رمضان السفرُ أو المرض، مُطلق السفر ومطلق المرض، أما لو قلنا: العلة هي المشقة. فكل إنسان له طاقة، وهناك من يسافر ثماني ساعات دون أن يَشُقَّ عليه ذلك، وهناك من يسافر ساعة
 فيحرَج، فلكي لا يكون هناك فوضى في الشرع؛ فمطلق السفر ومطلق المرض يجيز الإفطار في رمضان..
     
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾.
هذه النقطة الدقيقة: وهذا الذي يُطيق الصيام مع السفر وأفطر، أو يُطيق الصيام مع المرض وأفطر، هذا يجب عليه أن يدفعَ فديةً عن إفطاره، أو هذا الذي بلغ سناً متقدمةً جداً وشَقَّ عليه الصيام، إنه يصوم
 ولكن مع مشقةٍ بالغة.
هناك نقطة دقيقة: الإنسان أحياناً يفعل الشيء وعنده احتياط، وأحياناً يمشي الإنسان ساعة، وهذه الساعة تستنفذ كل قُواه، نقول: هذا أطاق المشي، لكن هذا المشي استنفذَ كل طاقته، أحياناً يمشي الإنسان
 ساعة، وفي قدرته أن يمشي عشر ساعات، النقطة الدقيقة: أنك إما أن تصوم والصيام يستنفذ كل طاقتك، وإما أن تصوم والصيام يستنفذ بعض طاقتك، فإن كان الصيام قد استنفذ كلّ طاقتك فهذا مما ينطبق
 عليه قوله تعالى:
      
﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ﴾.
كأن يعمل إنسان بفرن في أيام الصيف، وجهاً لوجهٍ مع النار، في حالات كثيرة جداً يشقّ على الإنسان الصيام، قال: هذا يدفع فديةً عن إفطاره، أو الذي سافر وأفطر، وكان يطيق الصيام في السفر. أو مرض
 فأفطر وكان يطيق الصيام مع المرض، هاتان الحالتان إما من يجهَد في الصيام، أو الذي يطيق الصيام مع السفر فأفطر، على هذين النموذجين..
      
﴿ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾.
لا بأس إذا أطعمت أكثر من مسكين، فأقله إطعام مسكين، ولا حدَّ لأكثره.
 
حينما يودي بك الصيام إلى الخطر فالإفطار واجب :
 
قال تعالى:
     
﴿ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ﴾.
لكن..
 
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
أيْ إذا أفطر الإنسان بعذر ضعيف، أو من غير عذر فلا يجزئه صيام الدهر، فربنا عزَّ وجل مع أنه أعطانا بعض الرُخَص، لكنه ينصحنا أنك إذا أطقت الصيام عليك أن تصوم..
 
﴿ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
لكنَّ الفقهاء قالوا: حينما يودي بك الصيام إلى الخطر فالإفطار واجب.
قد يقول أحد المؤمنين الأتقياء: أنا أُفَضِّل الصيام، لكنه مصاب بقرحة، أو مصاب بأمراض تحتاج إلى أدوية أساسية في حياته، فإذا صام، وتفاقم مرضه، أو تأخَّر شفاؤه، أو شعر بمشقةٍ لا تحتمل فهذا الأولى أن
 يُفطر، وأحياناً في سفر يستمر اثنين وعشرين ساعة، يسير مع الشمس، فقد تخرج من دمشق فجراً، والنهار يستمر أكثر من أربعة وعشرين ساعة، لأنك تسير مع الشمس، فقد يشق عليك أن تبقى بلا طعامٍ،
 وأنت في سفر هذه المدة الطويلة..
 
الله عزَّ وجل خلق الكون ونوَّره بمنهجه وهو القرآن :
 
على كلٍ الذي يُطيق الصيام مع السفر وأفطر فعليه فدية، ويطيق الصيام مع المرض وأفطر فعليه فدية، أو أنَّ الذي يستنفذُ الصيام كل طاقته.. بعض العلماء قالوا: " وعلى الذين لا يطيقونه "، لو أنك قلت:
 يطيقونه أي: أخذ كل طاقتك، أو أنت قد تصوم ومعك بقية طاقة، فقد تجد إنساناً بعمر معين يشتغل ساعة فيتعب، إذ مع التقدم بالسِن الطاقة تقل فقد تستنفذها في ساعة، أما الشاب فقد يعمل أربع ساعات،
 ولديه إمكانية أن يعمل عشر ساعات أُخَر، فهذا الموضوع متعلِّق بوضع كل إنسان، يقول الله عزَّ وجل:
     
﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾.
قال بعض العلماء: في هذا الشهر أُنْزِلَ القرآن، أي بدأ نزوله في رمضان، أو في هذا الشهر نزل هذا القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، لأن القرآن نزل على ثلاثٍة وعشرين عاماً، فكيف نوفِّق بين هذه
 الآية وبين أن القرآن نزل منجَّماً؟ قال العلماء: القرآن الكريم بدأ نزوله في رمضان، أو أنه نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في رمضان..
      
﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾.
والله عزَّ وجل خلق الكون ونوَّره بمنهجه، نوَّره بهذا القرآن.
 
الله عزَّ وجل خَلَق الإنسان وأعطاه شهوات وأقام له منهجاً :
 
قد تصلك آلة معقدة، ومعها نشرة، وهي مهمة جداً، وبهذه النشرة بإمكانك أن تستعمل الآلة، فكما أن الله عزَّ وجل خلق، نَوَّر. ولذلك هناك آية ثانية:
 
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾.
[ سورة الأنعام: 1].
هذه واضحة:
 
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾
[ سورة الكهف: 1 ].
ومعنى ذلك أن الكون كلُّه في كفَّة، والقرآن في كفَّة، مثل تركيبي: آلة معقدة جداً ـ كمبيوتر للتحليل ـ ثمنه ثلاثون مليوناً، كل تحليل بألفي ليرة، تضع نقطة دم على هذا الجهاز تأخذ سبعة وعشرين تحليلاً
 بضغطة واحدة على الزر، وكل تحليل بألفي ليرة، وهناك من يحتاجه بالمئات، ومن الممكن أن تحصل في اليوم على مئة ألف ليرة من هذا الجهاز، لكن الشركة التي أرسلت لك هذا الجهاز نسيت أن ترسل لك
 كُتيِّب الاستعمال. الآن دقِّق: إن استعملته بلا توجيهات الصانع أتلفته، وإن خفت عليه جمَّدت ثمنه، أليس هذا الكُتيِّب الصغير بأخطر من الجهاز؟
هناك من يركب الطائرة، ويذهب ليأتي بهذا الكتيِّب، فهناك حالات دقيقة جداً، قد يكون هذا الكتيب الذي فيه تعليمات الصانع، تعليمات التجريب والقيادة أخطر من الجهاز، جهاز إلكتروني من الممكن أن
 يصاب بالعطب لأتفه خطأ، فحرصك على سلامة هذا الجهاز، وعلى حسن مردوده تستعمله وَفق التعليمات. فلذلك الله عزَّ وجل خَلَق الإنسان، وأعطاه شهوات، وأقام له منهجاً: افعل، ولا تفعل. ذكرت
 في الخطبة الآن كيف أن المسـلمين ـ والله شيء مؤلم جداً ـ أن هذا الدين العظيم أصبح عندهم خمس عبـادات شعائريِّة؛ صوماً، وصلاة، وحجاً، وزكاة، وإعلان الشهادة، وانتهى الأمر، أما الدين فيه
 أكثر من مئة ألف بند، والله عزَّ وجل ذكر عن الموازين فقال:
 
﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾
[ سورة المؤمنون: 102 ].
هناك ميزان لحرفتك، وميزان لزواجك، ولعملك، ولأفراحك، ولأتراحك، وهناك ميزان لإقامتك، وميزان لكسب مالك، فهذه كلها موازين، فهل عرفت هذه الموازين؟!
 
الله عز وجل أمر الناس بالعبادات الشعائرية وبيَّن لهم التعليل :
 
أيها الأخوة الكرام... هذا الشهر الكريم الذي:
     
﴿ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى ﴾.
الهدى افعل، وهناك تعليل، الله عزَّ وجل علَّل، فمثلاً قال لك:
 
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ﴾.
[ سورة التوبة: 103 ].
أمرك بالزكاة، وأعطاك التعليل فقال لك: ﴿ تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾ تطهِّر الغني من البُخل، والفقير من الحقد، وتزكّي نفس الغني فيشعر بعمله العظيم في تلبية حاجات الفقراء والمساكين، وتزكي نفس الفقير
 فيشعر بقيمته في المجتمع، فهناك تشريعٌ إلهي وجَّه الناس إلى معاونته..
 
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾.
[ سورة العنكبوت: 45 ].
أمرك بالصلاة التي هي هُدى وبيَّن لك التعليل..
      
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.
بيَّن لك التعليل. فأكثر العبادات، كالحج:
 
﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ﴾
[سورة المائدة: 97]
يجب أن تعلم أن الله يعلم، هذا في الحج، وفي الصيام كي تتقي، وفي الزكاة كي تطهر وتنمو، وفي الصلاة كي تبتعد عن الفحشاء والمنكر، هذا الذي وقع.
 
الشهر هو الهلال وهو ثلاثون يوماً :
 
إذاً..
﴿ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾.
طبعاً الشهر هو القمر، وهذا في اللغة اسمه استخدام، أيْ أنني حينما أرى القمر ينبغي أن أصوم، ولكن هناك تفصيلات دقيقة جداً في كُتب الفقه عن أنك يجب أن تصوم مع المجموع، وأن تفطر مع المجموع، فقد ورد أن:
((الصوم يوم تصومون، والفطر يـوم تفطرون، والأضحى يومتضحون)).
[الجامع الصغير عن أبي هريرة ].
عندنا مشكلة تصادفنا كل سنة في أول يوم في رمضان، وهي: يا أخي صيامنا صحيح، لا ليس صحيحاً، نحن صمنا على القمر، أم على الدول المجاورة؟ أنت مهمتك أن تصوم مع المجموع، وانتهى الأمر، حتى
 إن العلماء أجازوا لك لو أنك رأيت القمر وأنت في مجتمع، ولم تثبت هذه الرؤية، فعليك أن تبقى مع المجموع..
      
﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾.
هذا الشهر هو القمر، فكيف يصام القمر؟ هذا باللغة، قال: هذا أسلوب اسمه الاستخدام، تأتي بكلمة، وتعيد عليها ضميراً على معنىً آخر من معانيها، فطبعاً الشهر هو الهلال، وهو ثلاثون يوماً، فأول معنى:
 
﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ ﴾.
رأى الهلال..
     
﴿ فَلْيَصُمْهُ ﴾.
أي الشهر، ثلاثين يوماً.
 
رمضان من أجل الهدى والتكبيرات في العيد هي تكبيرات الهداية :
 
قال تعالى:
     
﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾
الله عزَّ وجل رفع الحرج عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلَّم.الدين يسر:
(( لن يغلب عسر يسرين فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً ))
[عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن ].
والأمر إذا ضاق اتسـع، فأحياناً تجد إنساناً يصلي قاعداً، أو يصلي مستلقياً، وقد يصلي بحركة أجفانه، أو بهزِّ رأسه، ولكن بالطبع كل صلاة يوجد لها مبرِّر، فالضرورة تقدَّر بقَدَرِها..
     
﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾.
في رمضان..
 
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾.
الآن هنا موضع الشاهد: معنى هذا أن رمضان من أجل الهدى، أن تهتدي إلى الله عزَّ وجل، وأن تقوى إرادتك، وأن تعرف عبوديتك لله عزَّ وجل، أيْ أن تعرِّف نفسك بضعفك أمام الله عزَّ وجل، وأن تقوى
 إرادتك، معنى ذلك أنك اهتديت إلى الله عزَّ وجل، وما هذه التكبيرات في العيد إلا تكبيرات الهداية..
      
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
 
أعيادنا تأتي عقِب عبادات كُبرى :
 
أخواننا الكرام... من قال: الله أكبر في أول أيام العيد، وأطاع مخلوقاً، وعصى خالقاً ما قالها ولا مرة ولو ردَّدها بلسانه ألف مرَّة، ففي الواقع أنك أطعت القوي في نظرك، فلو أنك تعرف أن الله عزَّ وجل بيده
 كل شيء ما عصيته، لذلك:
    
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾.
دائماً الأعياد عندنا ـ نحن المسلمين ـ تأتي عقِب عبادات كُبرى، عقِب عبادة الصيام يأتي عيد الفطر السعيد، وعقِب الحَج، وهو العبادة التي فُرِضَت في العمر مرة واحدة يأتي عيد الأضحى المُبارك، العيد أي
 عدت إلى الله، واصطلحت معه..
     
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
إن رمضان كله من أجل القُرب، ولذلك ملخَّص هذا الشهر..
     
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾.
أي أنك تصوم من أجل أن تقترب إلى الله، وأنت تصلي كي تقترب، وتحج كي تقترب، وتدفع زكاة مالك كي تقترب.
 
ليس بين الله وبين عباده حجاب في الدعاء :
 
قال تعالى:
    
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾.
أكثر من عشر آيات:
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ﴾.
[ سورة البقرة: 222 ].
 
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾.
[ سورة البقرة: 219 ].
 
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾
[ سورة البقرة: 219]
 
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾
[ سورة البقرة: 217]
أكثر من عشر آيات فيها: يسألونك.. قل ثم الجواب إلا هذه الآية الوحيدة..
     
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾.
لا توجد " قل "،قال بعض علماء التفسير: استنبط العلماء من هذا أنه ليس بين الله وبين عباده حجاب في الدعاء، فهناك أناس يقولون: قم باستخارة، هذه لم ترد في السنة أبداً، اعمل لنفسك استخارة،
 فليس بينك وبين الله حجاب.
 
الله تعالى يعلم سرنا وعلانيتنا :
 
قال تعالى:
 
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾.
 
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
[ سورة الأنفال: 24]
وهو:
﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾
[ سورة ق: 16]
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، لا تخفى عليه خافية، فهو:
 
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾.
[ سورة طه: 7].
يعلم سرّك ويعلم ما خفيَ عنك.
 
الآية التالية تبين شروط الدعاء المستجاب :
 
قال تعالى:
     
﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾.
استنبط علماء التفسير من هذه الآية شروط الدعاء المُستجاب وهي: أن تؤمن بالله، وأن تستجيب له طائعاً، وأن تدعوه مخلصاً. إيمان استجابة، ودُعاء بإخلاص، إلا أن العلماء استثنوا رجلين من هذه الشروط،
 من هما؟ المُضَّطر والمظلوم، فقالوا: المضطر لا يستجيب الله له بحال الداعي، وقد يكون غير مسـتجيب لله، بل يستجيبُ الله بحال المَدعو، وهو الرحمة، والمظلوم يستجيب الله له لا بحال الداعي، وقد يكون
 غير ملتزمٍ، بل يستجيب الله له باسم العَدْلِ، الله عزَّ وجل يستجيب للمضطر والمظلوم..
 
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ  ﴾
[ سورة النمل: 62]
هذه حالة:
 
﴿ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾.
[ سورة النمل: 62].
والحالة الثانية:
(( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها و بين الله حجاب )).
[ أخرجه البخاري عن ابن عباس ] 
وهناك رواية أخرى:
(( اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً )).
[رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والضياء عن أنس]
 
عبد الشكر وعبد القهر :
 
أخواننا الكرام... الدعاء هو العبادة..
     
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾.
هذه الياء ياء النَسَب، ياء النسب أي نُسِبَ العباد إلى الله نِسبة تشريف، كأن تقول: هذا ابني، هذا المحل لي، توجد ياء النسب، الله عزَّ وجل نسب عباده إلى ذاته العليّة نسبة تشريف..
      
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾.
بالمناسبة: العِباد جمع عبد الشكر، بينما العبيد جمع عبد القَهر، وكل واحد منا عبد لله مقهور بوجوده، واستمرار وجوده، وعمل أجهزته إلى الله، أما إذا عرف الإنسان الله طواعيةً، وأقبل عليه، واستجاب
 لأمره، وأحبَّه، وعاش في كنفه فهذا عبد الشكر، فلذلك عبد الشكر يجمع على عباد..
 
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ﴾.
[ سورة الفرقان: 63].
أما عبد القهر يُجمع على عبيد:
 
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾.
[ سورة فصلت: 64].
     
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي ﴾.
هؤلاء الذين عرفوني، وأحبوني، وأطاعوني..
 
﴿ فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾.
أي الدعاء الصحيح.
 
شهر رمضان فرصة للتعرف إلى الله سبحانه والتقرب منه :
 
أيها الأخوة... قضية الصيام ونحن على مشارف رمضان، فقد اقترب رمضان، وهي فرصةٌ سنويةٌ كي ينتقل الإنسان نقلةً نوعيةً إلى الله عزَّ وجل، فإذا حرص على صيام هذا الشهر، يقول عليه الصلاة
 والسـلام:
((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِ )).
[البخاري عن أبي هريرة]
أي ما كان بينك وبين الله يُغْفَر في رمضان، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهذه فرصة، وينبغي لنا أن نستعِدَّ لها قبل رمضان، والسبب إن أردت أن تكون في هذه النقطة بسرعة مئة، فليس بإمكانك أن تقف
 عندها على الصفر وفجأةً ترفعها للمئة، إذاً ينبغي أن تنطلق قبل مسافة بحيث يؤدي التسارع إلى سرعة مئة في هذه النقطة، فإذا أراد إنسان الاصطلاح مع الله في أول يوم برمضان فيمكن أن يمضي أياماً
 وأسابيع قبل أن تصح صلاته مع الله عزَّ وجل، فالأولى أن يبدأ استعداده لرمضان في وقتٍ مُبَكِّر حتى يأتي هذا الشهر عبادة كاملة يقفز فيها الإنسان قفزتين، قفزةً في معرفته بالله عزَّ وجل، وقفزةً في القرب
 منه:
 
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾.
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب