سورة البقرة 002 - الدرس (57): تفسير الآيات (174 - 176) الأحكام الشرعية ضمان لسلامتنا

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات"> سورة البقرة 002 - الدرس (57): تفسير الآيات (174 - 176) الأحكام الشرعية ضمان لسلامتنا

لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي. الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات">


          مقال: من دلائل النُّبُوَّة .. خاتم النُّبوَّة           مقال: غزوة ذي قرد .. أسد الغابة           مقال: الرَّدُّ عَلَى شُبْهَاتِ تَعَدُّدِ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           مقال: حَيَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم           برنامج أنت تسأل والمفتي يجيب 2: انت تسأل - 287- الشيخ ابراهيم عوض الله - 28 - 03 - 2024           برنامج مع الغروب 2024: مع الغروب - 19 - رمضان - 1445هـ           برنامج اخترنا لكم من أرشيف الإذاعة: اخترنا لكم-غزة-فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله-د. زيد إبراهيم الكيلاني           برنامج خطبة الجمعة: خطبة الجمعة - منزلة الشهداء - السيد عبد البارئ           برنامج رمضان عبادة ورباط: رمضان عبادة ورباط - 19 - مقام اليقين - د. عبدالكريم علوة           برنامج تفسير القرآن الكريم 2024: تفسير مصطفى حسين - 371 - سورة النساء 135 - 140         

الشيخ/

New Page 1

     سورة البقرة

New Page 1

تفسير القرآن الكريم ـ سورة البقرة - تفسيرالآيات: (174 - 176) - الأحكام الشرعية ضمان لسلامتنا

20/03/2011 18:36:00

سورة البقرة (002)
الدرس (57)
تفسير الآيات: (174-176)
الأحكام الشرعية ضمان لسلامتنا
 
لفضيلة الدكتور
محمد راتب  النابلسي
 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 
الله جل جلاله أنزل تشريعاً ومنهجاً على رُسُله ليضبط حركة الناس في الحياة :
 
أيها الأخوة المؤمنون... مع الدرس السابع والخمسين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الرابعة والسبعين بعد المئة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
أيها الأخوة الكرام.. الله جل جلاله أنزل تشريعاً ومنهجاً على رُسُله ليضبط حركة الناس في الحياة، لأن الناس كائناتٌ أودعت فيهم الشهوات، بمقتضى هذه الشهوات يتحركون، الدافع إلى الطعام والشراب يدفع الإنسان إلى العمل، ليشتري بأجرته طعاماً يأكله هو وأولاده، وهذا من أجل الحفاظ على بقاء الفرد، والدافع إلى الجنس يقتضي أن يحافظ الإنسان به على النوع، وهذا يقتضي شراء بيت، وتأثيث البيت، وخطبة فتاة، والاقتران بها، وإنجاب الأولاد، هذه الدوافع الأصيلة في الإنسان تدفع الإنسان إلى الحركة، حركة الناس في الحياة.
انظر إلى طريقٍ مزدحمٍ بالمارَّة والسيارات، كل إنسانٍ يسعى إلى هدف، هذه حركة، لولا هذه الدوافع التي أودعها الله في الإنسان لما رأيت حركةً في الحياة، حركة الناس في الحياة، هذه الحركة جاء منهج الله ليضبطها، ليجعلها في صالح الإنسان في دنياه وفي أخراه.
 
الأحكام الشرعية ضمان لسلامة الناس :
 
أيها الأخوة... الإنسان محكوم في هذه الدنيا بأحكام شرعية، كل شيء له حكم شرعي؛ هذا حلال، هذا مباح، هذا حرام، هذا مكروه، هذا مكروه تنزيهاً، هذا مكروه تحريماً، هذه سنة، هذه سنة مؤكدة، هذا واجب، هذا فرض، أي شيءٍ يمكن أن تتحرك من خلاله، له حكمٌ شرعي، لماذا جاء الشرع؟ جاء ليضبط حركة الإنسان في الحياة، ليأمره أن يفعل وألا يفعل، إن أمره ألا يفعل ينبغي ألا يتوهم الإنسان أن هذا النهي قيدٌ لحريته، إنما هو ضمانٌ لسلامته.
فإذا حرم الله على الإنسان أن يسرق، قد يتصور أن هذا قيد، أنت محرمٌ عليك أن تسرق، ومحرمٌ على ألف مليون أن يسرقوامنك، لصالح من؟ محرمٌ عليك أن تفعل الفاحشة، ومحرمٌ على ألف مليون أن يفعلوا مع من يلوذوا بك الفاحشة، هذا الشرع لكل المؤمنين، بالأصل لكل الناس كافةً لضبط حركتهم في الحياة، حينما تتوهم أن هذا الشرع قيدٌ لحريتك فأنت لا تعرف شيئاً، إنما هو ضمانٌ لسلامتك،وإذا منعك من شيء منع كل الناس من هذا الشيء ضماناً لمصالحك، وضماناً لحريتك، وضماناً لكرامتك.
إذاً هذا المنهج هو الذي يسعد الناس في الدنيا ويسعدهم في الآخرة، منهج الله، الأمر والنهي، ويسبقه معرفة الله، هذا الذي يكتم هذا المنهج عن الناس، أو يشوِّهه، أو يزوِّره، أو يختلق منهجاً ويعزوه إلى منهج السماء، ماذا فعل؟ هذا أفسد على الناس طريق سلامتهم وسعادتهم، فأن تكتم الحق هذه جريمة كبيرة، لأنك إن كتمت الحق أشقيت الناس، الإنسان لا يسعد إلا إذا طبق منهج الله. لا يسعد، والأدق من ذلك لا يسلم ولا يسعد إلا إذا طبق منهج الله، فإذا أغفلت هذا المنهج، أو كتمته، أو عتَّمت عليه، أو شوَّهته، أو زوَّرته، أو أدخلت فيه ما ليس منه، أو حذفت منه، ماذا فعلت؟ هذه جريمة.
لذلك هذا المنهج من يقيِّم ثمنه الحقيقي؟ واضعه، الذي أنزل هذا المنهج هو الذي يقيِّم ثمنه، ثمنه الجنة، هذا الثمن أبدي، هذا الثمن مستمر، هذا الثمن تصاعدي، أما هذا الذي يكتم المنهج ليأخذ بهذا الكتمان ثمناً قليلاً، بخساً، آنياً، منقطعاً، هو أكبر خاسر.
 
تطبيق منهج الله ثمنه الجنة وهذا هو الثمنالذي وضعه الله لمن يطبِّقه :
 
لو فرضنا أن معملاً فيه ألف عامل، وفيه تعليمات دقيقة، قد يكون معملاً كيميائياً، أو معملاً إلكترونياً فيه طاقة عالية جداً، وفيه تعليمات دقيقة جداً لسلامة العمال، ولنجاحهم في عملهم، فلو أن أحد الموظفين كتم هذه التعليمات، فحصل انفجار أودى بثلثي عمال هذا المعمل، هذه أكبر جريمة. هذا المثل يمكن أن يوسَّع:
هذاالذي يكتم ما أنزل الله، يعتِّم، يزوِّر، يدخل ما ليس فيه، يحذف منه ما هو أساسي، شوَّه هذا المنهج، لم يعُد صالحاً لسلامة الناس ولا لسعادتهم، كفر الناس به، ابتعدوا عنه، أجرم بحق هؤلاء جميعاً. فلذلك تطبيق هذا المنهج ثمنه الجنة، وهذا هو الثمنالذي وضعه الله لمن يطبِّقه.
الآن قد يخطر في بال إنسان أن يفتي فتوى يرضي بها بعض الأغنياء، سيعطونه مبلغاً كبيراً، أو مكانةً عاليةً، أو يهدونه شيئاً ثميناُ، هو بقصور عقله توهَّم أن هذه المرتبة تساوي هذه الفتوى بثمن، ماذا فعل هذا الإنسان؟ اشترى بآيات الله ثمناً قليلاً، لذلك قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾.
لماذا هم يكتمون؟ من أجل عرضٍ من الدنيا قليل:
((الدنيا تغر وتضر وتمر))
[الجامع الصغير عن عمرو بن مُرَّة]
الدنيا زائلة، الدنيا منقطعة، الدنيا فانية، فهذا الذي أخذ ثمناً بخساً؛ مالاً، أو مكانةً، أو هديةً، وكتم ما أنزل الله، أي أفتى بخلاف ما يعلم، لا أقول أفتى بلا علم، هذا الآخر له حساب آخر، ولكنه أفتى بخلاف ما يعلم، هو يعلم الحقيقة، ويعلم الحكم الشرعي، ويعلم المنهج الصحيح، لكنه كتم هذا المنهج مقابل ثمنٍ بخسٍ في الدنيا، وهذا المنهج ثمنه الجنة، ثمنه جنةٌ عرضها السماوات والأرض خالدين فيها أبداً، ثمنه سعادةٌ أبديةٌ مستمرةٌ متناهية، فهو قبض ثمناً بخساً مقابل كتمان هذا المنهج.
 
الآية التالية تنطبق على من سكت عن الحق حفاظاً على مكاسبه الدنيوية :
 
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ ﴾.
اليهود كتموا صفات النبي التي في توراتهم عن مشركي مكة وعن مشركي العرب:
﴿ حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ﴾.
[سورة البقرة الآية : 109]
بغياً وحسداً، من أجل أن تبقى لهم زعامتهم، ومكانتهم، ورئاستهم فكتموا هذا المنهج، وأي إنسان حفاظاً على مكاسبه الدنيوية سكت عن الحق، هذا تنطبق عليه هذه الآية، حفاظاً على مكانته، حفاظاً على مكاسبه، حفاظاً على ميزاتٍ حصَّلها بجهدٍ جهيد، فكتم الحق ونطق بالباطل إرضاءً لقويّ، هذا تنطبق عليه هذه الآية:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ ﴾.
بهذا الكتمان..
﴿ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾.
خالق السماوات والأرض قال: هذا ثمن قليل، فمثلاً لو كان عندك قطعة ألماس، أنا شاهدت قطعة في متحف باسطنبول قطعة ألماس ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، هي أضخم قطعة ألماس في العالم فيما كُتِبَ عنها، لكن لو أن إنسانًا باعها بمئة ليرة، ألم يبعها بثمنٍ بخس؟! والأمر أبلغ من ذلك، سعادة أبدية باعها ببيت، باعها بمنصب، باعها بسيارة.
 
المكسب الذي يربحه الإنسان من كتمان العلم مآله النار :
 
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.
الإنسان حاجته للثمن في الدرجة الأولى ليشتري به الطعام والشراب، الحاجة الأولى هي الطعام والشراب ـ الجنس تأتي بعدها ـ ليشتري به طعاماً، هذا الطعام الذي اشتراه به، الذي دفع ثمنه، هذا المكسب الذي جاءه من كتمان العلم، قال: هذا الطعام كأنه نارٌ تحرقه، فهو في الحال طعام أما في المآل نار.
لو أن إنساناً غشَّ المسلمين ببضاعةٍ، عنده معمل أغذية وغشَّهم في هذه الأغذية، وغشَّهم بشكلٍ مؤذٍ، وحقق أرباحاً طائلة، واشترى مثلاً مزرعة، ومسبحاً، وبيتاً جميلاً، هذا الذي اشتراه هو في الحال مزرعة، أما في المآل فجهنم ـ كلام دقيق ـ في الحال طعام أكله، إذا كان لشخص دخل حرام قد يشتري أطيب الطعام، وقد يسكن أجمل بيت، وقد يركب أجمل مركبة، لكن هذا الشيء حالياً طعام، وبيت، ومركبة، أما مآلاً فنارٌ تحرقه..
﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.
هذا والله كلامٌ مخيف، فقبل أن تقف موقفاً، قبل أن توافق،قبل أن ترفض، قبل أن تداهن، قبل أن تبتسم، قبل أن تنافق، قبل أن تقول كلاماً لست مقتنعًا به إطلاقاً، عد للمليون، لأن هذا الموقف سُجِّل عليك، وأنت محسوبٌ على المؤمنين.
 
الآية التالية وإن نزلت في اليهود لا يمنع أن تكون عامةً شاملةً :
 
قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾.
طبعاً أنزلت هذه الآية في اليهود، الذين كتموا صفات النبي عليه الصلاة والسلام،حفاظاً على زعامتهم ومكانتهم ومكاسبهم، أو بغياً وحسداً منهم للنبي عليه الصلاة والسلام.
لكن هذه الآية وإن نزلت في هؤلاء الذين كتموا صفات النبي، لا يمنع أن تكون عامةً شاملةً تشمل كل إنسانٍ سكت عن الحق إرضاءً لجهة ما، وقد حقق من هذا السكوت مكاسب كبيرة، هذه المكاسب بكل أنواعها إنما هي نارٌ سوف تحرقه.
أحياناً إنسان يكون كالمنديل، تُمسَح به أقذر عملية ثم يلقى في المهملات، أنت لله، أنت أخطر من ذلك، فهؤلاء الذين..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.
أيها الأخوة... ربُنا عز وجل يقول :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾.
 [سورة الأحزاب الآية : 39]
إن لهؤلاء الدعاة آلاف الصفات، الله عز وجل أغفلها كلها إلا صفةً واحدة، هذه الصفة أنهم لا يخافون في الله لومة لائم، ينطقون بالحق ولا يخافون في الله لومةلائم، لو أنهم نطقوا بالباطل خوفاً من جهةٍ ما، أو نطقوا أو سكتوا عن الحق خوفاً من جهةٍ ما، لسقطت دعوتهم، ماذا بقي من دعوتهم؟
 
كل إنسان يبتز أموال الناس على حساب قِيَمه ومبادئه يأكل النار :
 
يا أيها الأخوة الكرام...
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ﴾.
أي أن كل المكاسب التي حصَّلوها إنما هي نارٌ سوف تحرقهم، والله قال لي مرة أحدهم: إنسان له مهنة أساسها فيها ثقة، كطبيب يقول لك: حلل، تُحلل، اشترِ هذا الدواء، تشتريه، لا بد من إجراء عملية، فالمهنة أصحابها موثوقون، وفي الأعم الأغلب هؤلاء كذلك، أما إذا كان في حالات شاذة، كإنسان مثلاً من أجل تجميع أكبر ثروة ممكنة، غش الناس في صحتهم، اقترح عليهم إجراء عمليات ليسوا بحاجة إليها، وحقق أرباحاً كبيرة منها، واشترى بيتاً فخماً، واشترى مزرعة فخمة، الإنسان البصير الذي أوتي فراسةً يرى أن هذا البيت كأنه يشتعل بهم، وأن هذه المزرعة كأنها تشتعل بهم، حينما تحصِّل مالاً حراماً على حساب صحة الناس، أو على حساب سلامتهم، أو على حساب أمنهم، أو على حساب استقرارهم، أو على حساب عواطفهم النبيلة.
في أوروبا هناك من يخطف الأطفال، يطلب مليون دولار، والأب يدفع، لكن هذا استغل العواطف المقدسة التي بين الآباء والأبناء، وابتز بها أموال الناس،فكل إنسان يبتز أموال الناس وعلى حساب قِيَمه ومبادئه هذا يأكل النار..
﴿ أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ ﴾.
طبعاً العلماء قالوا: لا يكلمهم كلاماً مؤنساً، الله عز وجل يلعنهم، رب العالمين قد يرسل الملائكة لتلقي السلام على المؤمنين:
﴿ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ﴾.
[سورة الأحزاب الآية : 44 ]
 
رب العالمين آنس سيدنا موسى :
 
رب العالمين آنس سيدنا موسى، إنسان يجلس في بيت، جاء طفل ابن صاحب البيت ومعه لعبة، إذا أحب هذا الضيف أن يؤنس هذا الطفل الصغير، ماذا يقول له؟ ما هذه التي بيدك؟ الضيف بالغ، عاقل راشد، ألا يعلم ما هي؟ لعبة، يقول لهذا الطفل الصغير: ما هذه التي بيدك؟ هذا كلام إيناس، كلام تحبب، كلام فيه مودة، فربُنا عز وجل قال:
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾.
[سورة طه الآية : 17]
هذا كلام إيناس، سيدنا موسى كان يُجزئه أن يقول: عصا، لكنها فرصة لا تعوّض أن رب العالمين يكلمه، قال:
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾.
[سورة طه الآية : 18]
مفهوم:
 ﴿ وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾.
[سورة طه الآية : 18]
أيضاً مفهوم، يريد أن يطيل الحديث، أن يطيل الكلام مع الله عز وجل قال:
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾.
[سورة طه الآية : 18]
وأراد أن يسمح الله له أن يطيل أكثر وأكثر فقال:
﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾.
[سورة طه الآية : 18]
أي كأنه يتمنى أن يقول الله له: وما هذه المآرب يا موسى؟ يريده حديثاً طويلاً جداً، هذا كلام إيناس أيها الأخوة، كلام تحبب، كلام ود.
 
وصف الجنة :
 
في الجنة كما تعلمون أنهار من عسلٍ مصفَّى، فيها أنهارٌ من خمرٍ:
﴿وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ﴾
[سورة محمد الآية : 15]
وفيها:
 ﴿ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ﴾.
[سورة محمد الآية : 15]
وقال:
﴿ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ﴾.
[سورة محمد الآية : 15]
فيها جنَّات، بساتين تجري من تحتها الأنهار، فيها حور عين، فيها ولدان مخلدون، فيها فواكه مما يشتهون:
﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾.
[سورة الحاقة الآية23 :]
﴿ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَة ﴾.
[سورة الواقعة الآية : 33]
هذه كلها أشياء حسية، لكن فيها أعظم من ذلك، فيها النظر إلى وجه الله الكريم.
((إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر)).
[من رياض الصالحين عن جرير بن عبد الله].
 
أكبر عقاب يعاقب به الإنسان يوم القيامة أن لا يكلمه الله :
 
قال تعالى:
﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾.
[سورة القيامة الآيات : 22-23]
أنت لو دخلت بيتاً، ودعيت إلى طعام نفيس جداً، الطعام، والشراب، والمُقبلات، والفواكه، والحلويات، وبعدها تمتَّعت بمنظر صاحب هذا البيت له وجهٌ كالبدر، أهذا أعلى شيء؟ لا هناك أعلى، الأعلى من ذلك أن يقول لك صاحب البيت: أهلاً وسهلاً، أكرمتنا بهذه الزيارة، أنِسنا بك يا أخي، نوَّرت هذا السكن، ترحيب صاحب البيت فوق التمتُّع برؤية وجهه، وفوق التمتع بطعامه وشرابه، لذلك قال تعالى:
﴿ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾.
[ سورة التوبة الآية : 72 ].
هناك جنةٌ فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وفيها نظرٌ إلى وجه الله الكريم، وفيها إيناسٌ من الله، وترحيبٌ منه لعباده المؤمنين، لعل هذا كما قال الله عز وجل أعظم ما في الجنة ﴿ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾. فلذلك أكبر عقاب يعاقب به الإنسان يوم القيامة أن لا يكلمه الله، هو الآن ميِّت، الآن غائب عن الوعي، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، أعظم عقاب..
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.
 
العقاب الثاني يوم القيامة عقاب الحجاب:
 
هناك عقاب ثانٍ:
﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾.
[سورة المطففين الآية : 15 ]
عقاب الحجاب وعقاب عدم التكليم، الإنسان الآن مخدَّر بالشهوات، أما إذا  مات انقطعت عنه هذه الشهوات وعاد إلى فطرته. لذلك ورد في الجامع الصغير:
((إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أيسر علي مما ألقى)).
[من الجامع الصغير عن جابر ].
وذلك من عذاب الخزي والندم، الله منحه نعمة الوجود، منحه نعمة الإمداد، منحه زوجة، منحه أولاداً، منحه عقلاً، منحه شكلاً وسيماً، منحه بيتاً، منحه كل شيء، فكان همه إيذاء الخلق، كان همه الاحتيال عليهم، ابتزاز أموالهم، الإيقاع بينهم، كان همه أن يبني مجده على أنقاضهم، أن يبني غناه على فقرهم، أن يبني أمنهم على خوفهم، أن يبني حياته على موتهم، ماذا يفعل؟
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾.
                                                                                               [سورة  الإسراء الآية : 14].
 
السعادة العظمى يوم القيامة أن يكلمنا الله وأن ننظر إلى وجهه الكريم :
 
والله أيها الأخوة لعل الله جل جلاله يعجب من هؤلاء الذين يقعون في الكبائر، يقول اللهعز وجل:
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.
 [سورة البقرة]
شيء عجيب، أن يفعل إنسان شيئاً سيدمِّره إلى أبد الآبدين من أجل لقمةٍ من حرام، من أجل دراهم معدودات يبيع دينه وآخرته، يحلف البائع مئة يمين أنها ليست رابحة، ولا يوجد منها، وأوقفوا استيرادها، وهي أحسن نوع، ولم يربح منها شيئاً، وكل هذه الأيْمان كاذبة، ليبيع سلعةٍ فقط، باع دينه، وأشهد ربه كذباً على شيءٍ خسيس، لذلك هذا الذي يبيع النفيس بالخسيس إنسانٌ أحمق.
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾.
والله أيها الأخوة إذا سمح الله لنا أن ننظر إلى وجهه الكريم، وأن يكلمنا يوم القيامة، لهي السعادة العظمى، لأنه هو أصل الجمال، أصل الكمال، أصل النوال، هو أصل كل شيء.ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء، ونضرب مثلاً للتوضيح: ابن رُبَّيَ تربية عالية، وله أبٌ حنون، عطوف، وقور، كريم، حليم، هذا الابن المربى تربية عالية إذا أعرض عنه أبوه يكاد يحترق، إعراضاً فقط، لم يضربه، إعراض، ما نظر إليه..
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾.
 
إذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً :
 
الإنسان حينما يؤمن، وحينما يستقيم على أمر الله، وحينما يتَّصل بالله يزكيه الله، مستحيل أن ترى مؤمناً حاقداً، مؤمناً جباناً، مؤمناً بخيلاً، مؤمناً حقوداً، مستحيل أن ترى مؤمناً مخادعاً، مؤمناً ذا وجهين، هذا ليس مؤمناً، فالله يزكي المؤمن، يزكيه في الصلاة، إن مكارم الأخلاق مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحب الله عبداً منحه خلقاً حسناً، ما هذا الأدب يا رسول الله؟ قال:
((أدبني ربي فأحسن تأديبي)).
[الجامع الصغير عن ابن مسعود ].
يقولون: الماس أغلى شيء في الأرض، بالقراريط، وثمنها آلاف مؤلفة، أساسه فحمفقط، جاءه ضغط شديد وحرارة شديدة، فالمؤمن أحياناً يُضغط ضغوطاً متواصلة، لكن كل ضغط ينمي فيه صفة راقية، تجده حليماً، أديباً، حيياً، عفواً، صفوحاً، ودوداً، كريماً، شجاعاً، وفياً، هذه الصفات كلها نتائج تربية إلهية، ما هذا الأدب يا رسول الله؟ قال:
((أدبني ربي فأحسن تأديبي )).
[الجامع الصغير عن ابن مسعود ].
أيها الأخوة... المؤمن له أدب عالٍ جداً، تجده يغض نظره دائماً عن عورات الناس، لسانه منضبط بالحق، يذكر الله كثيراً، حركته للإصلاح دائماً، لا ينطلق بفاحشة، ولا لإيذاء الناس، يتحرك للإصلاح فيما بينهم.
 
﴿ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾.
ليت العذاب ينتهي عند قوله: أن الله لا يكلمهم، ولم يزكهم في الدنيا، قال:
﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
بربكم هل كان هؤلاء عقلاء حينما كتموا الحق؟ والله هناك من يكتم الحق دائماً، بكل عصر هناك من يكتم الحق.
 
من أشد أنواع المعاصي تلك التي توعَّد الله بها مرتكبيها بأن يحاربهم :
 
حدثني أحد علماء دمشق الأجلاء كان في مصر، قال لي: من غرائب الصُدف أنني حضرت موتَ أحد كبار علماء مصر، وهو على فراش الموت، رفع يديه هكذا إلى السماء ومد إصبعيه، وقال: " يا رب، أنا بريء من كل فتوى أفتيتها في المصارف "، فيبدو أنه حينما كان في منصبٍ دينيٍ رفيع أفتى إرضاءٍ لزيد أو عبيد، وأصدر فتوى، وعقب هذه الفتوى أُودع في بنوك مصر ثلاثة وثمانين مليار جنيه، فهذه فتوى خطيرة جداً، فهذا يعلم علم اليقين أن هذا حرام، وهذا رباً، ومن أشد أنواع المعاصي تلك التي توعَّد الله بها مرتكبيها بأن يحاربهم:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾.
[ سورة البقرة الآية : 279 ].
مع ذلك هناك فتاوى بأكثر المعاصي، لمَ تصدر هذه الفتاوى؟ من أجل ثمنٍ من الدنيا بخسٍ، فلثمن بخس قليل باع دينه وآخرته. قال:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ﴾.
حينما أفتى هذه الفتوى، أو حينما كتم هذا العلم استبدل الضلالة بالهدى.
 
الله عز وجل بيّن للناس كل شيء :
 
بالمناسبة هناك قاعدة لغوية بعكس اللغة العامية، لو قلت لكم مثلاً: فلان استبدل التجارة بالوظيفة، ماذا نفهم منها الآن؟ استبدل التجارة بالوظيفة، الآن تاجر أم موظف؟ يحدث التباس، الباء تأتي مع الشيء المتروك، باللغة الفصحى الباء تأتي متأخرةً مع الشيء المتروك:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾.
أي باعوا الهدى وأخذوا الضلالة..
﴿ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.
ما الذي يصَبِّرهم؟ يقول الله عز وجل:
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.
الحجة قائمة، فعندما تنصح إنساناً مرة، ومرتين، وثلاثاً، تبين له، تعطيه الدليل، ويركب رأسه، يتحامق، ويدفع الثمن باهظاً، فلا يستطيع أن يتكلم ولا كلمة، ولا حرفًا، أما إذا لم تنصحه يضع اللوم عليك، (ذلك)، الله عز وجل بيّن كل شيء، لأنه يقول:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾.
[ سورة الليل الآية : 12]
الهدى على الله، وحيثما جاءت (على) مع لفظ الجلالة معنى ذلك أن الله ألزم بها نفسه..
﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾.
[ سورة البقرة الآية : 5 ].
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾.
[ سورة الليل الآية : 12]
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾.
 
الكتاب الذي جاء الله به يُسكت الكفار يوم القيامة عن العذاب الذي لا يُحتمل :
 
الأب حينما ينصح ابنه مراتٍ ومرات، ويوضِّح، ويبين، ويفصِّل، ويأتي بالأدلة والشواهد، ومع ذلك يركب الابن رأسه، ويمشي في طريقٍ غير صحيح، حينما يدفع الثمن باهظاً؛ يسجن، أو يعاقب، أو يبقى في مؤخرة الصف، ويلتقي بأبيه، لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة، ولا كلمة أبداً، لو أن شريكين أصر أحدهما على عمل غير شرعي، الثاني رفض وفكَّ الشركة، الأول سُجِن، ذهب إليه شريكه ليزوره، لا يستطيع أن ينظر إليه، ما الذي يسكت هؤلاء؟ هذا العذاب الذي لا يحتمله أحد..
﴿ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.
ما الذي يسكتهم؟
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.
الكتاب فيه كل شيء..
﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾.
[ سورة الإسراء الآية : 15 ].
﴿ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمْ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾.
[سورة  القصص الآية : 51].
وصَّل الله القول إليهم، والآن لا توجد حجة أبداً.
 
بُعث النبي إلى الأمم قاطبة لأن الحق واضح :
 
أي مكان في العالم، في أقاصي الدنيا، علماء المسلمين جميعاً تأتي محاضراتهم إلى أقاصي الدنيا، هذا التواصل الإعلامي شيء مخيف، أي دعوةٍ في الأرض يمكن أن تنتشرفي القارات الخمس، القول يصل، والوسائل منوعة جداً، ولعل من حِكمةِ أنّ النبي عليه الصلاة والسلام هو خاتم الأنبياء، ذلك أن الله علم أنه سيكون هناك هذا التواصل، فيما مضى كان لكل قومٍ هاد، أما الآن بعثة النبي لكل الأمم قاطبةً إلى نهاية العالم، فالحق واضح، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((قد تركتكم على البيضاء: ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)).
[الجامع الصغير عن العرباض ].
بل إن النبي عليه الصلاة والسلام، ما من شيءٍ ولو كان صغيراً يقربنا إلى الله إلا أمرنا به، وما من شيءٍ يبعدنا عنه إلا نهانا عنه، من أراد الهدى فالهدى بين يديه:
﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ﴾.
[ سورة الليل الآية : 12]
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾.
الذي يجعلهم يصبرون، ويسكتون:
 
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾.
 
الله يعلمنا بخلقه و بأفعاله :
 
أي أن الله عز وجل يعلّمنا بخلقه، هذا الكـون، ويعلمنا بأفعاله، كل أمة طغت وبغت يقصمها الله، هناك أمم قوية جداً؛ بل أقوى أمةٍ في العالم لا يوجد رأي فوق رأيها ولا إرادة تقهرها، لكن الله فوق الجميع، مليون إنسان أُخرج من بيته خوفاً من إعصارٍ لم يُرَ له مثيل من أربعين عاماً، هذا الإعصار سرعته مئتان وثمانون كيلو متر، لا يُبقي ولا يذر، لا يدع بيتاً، ولا بناءً، ولا معملاً، ولا مركبةً إلا حطَّمها، الله عنده أدوية كثيرة.
الزلازل.. الزلزال في أربعين ثانية لم يبقِ شيئاً، خمسون ألفًا مدفونون تحت الأنقاض، ويحتاجون من أجل أن يعاد كل شيء إلى ميزانية كاملة، أي ما تنفقه هذه البلاد التي أصابها الزلزال في عام، هذا المبلغ يمكن أن يغطي إعادة إعمار هذه المنطقة التي تهدمت:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾.
[سورة البروج الآية : 12 ].
الله يعلمنا بخلقه:
﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾.
[سورة يونس الآية : 101 ].
ويعلمنا بأفعاله:
﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾
( سورة الأنعام الآية : 11)
 
الله تعالى يربينا بالتربية النفسية التي يفعلها في قلوبنا :
 
قال تعالى :
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾.
[سورة النحل الآية : 112 ].
أحد أخواننا كان في رحلة إلى تركيا قبل الزلزال بأيام، قال لي: بلاد جميلة، خضراء، فنادق، محلاَّت تجارية، محطَّات وقود، وسائل رفاه، وسائل تسلية، سواحل للسباحة، فنادق من ذوات النجوم الخمس، جمال ساحر، قال لي: العين لا تصدق أن هذا الجمال أصبح أنقاضاً، في أربعين ثانية!! هكذا فعل الله عز وجل.
يوجد عند الله زلازل، ويوجد عنده أعاصير، وعنده فيضانات، وعنده مثل ما عندنا جفاف لا يوجد ماء، فعنده أدوية كثيرة، الله يعلمنا بخلقه، ويعلمنا بأفعاله، ويعلمنا بكلامه، ويربينا تربية نفسية، أحياناً ينقبض الإنسان، أحياناً ينشرح، يأخذ موقفاً جيِّداً، يلقي الله في قلبه الانشراح والسرور والسعادة، أحياناً يغلط فيلقي في قلبه الضيق والانقباض والخوف والقلق، يربينا بأفعاله، ويربينا بأقواله، ويربينا بخلقه، ويربينا بالتربية النفسية التي يفعلها في قلوبنا، فالله عز وجل..
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ﴾.
لاحظ إنساناً أخطأ مع الله، الله حليم، يرخي له الحبل، أول مرة لم يعرف، ثاني مرة نادم، إذا استمر يأتي البطش الإلهي، فالواحد يعرف بالضبط أنه استنفذ كل الفرص، هناك تربية لكل إنسان، لكل واحد، والبطل الذي يفهم على الله عز وجل، كل شيء بحساب:
((ما من عثرة ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر)).
[الجامع الصغير عن البراء].
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾.
 
والحمد لله رب العالمين



جميع الحقوق محفوظة لإذاعة القرآن الكريم 2011
تطوير: ماسترويب